فنجان شاي

دقَّ جرس المنبه. تقلَّب الرجل في فِراشه، تثاءب بصوتٍ مرتفع كالتوجُّع، أزاح الغطاء وجلس، تزحزح إلى الوراء حتى استند إلى ظهر السرير، تثاءب مرةً أخرى، مدَّ يده إلى زر جرس معلَّقٍ فوق الفراش فضغَطه. جاءت امرأةٌ حاملةً صينية عليها إبريقُ شاي وجريدة الصباح، فوضَعَتها على ترابيزة لِصْق السرير. ملأ القدحَ بنفسه وتناول الجريدة. لاحظَ أنَّ المرأة لم تبرح مكانها، فحدَجَها بعينٍ متسائلة، فقالت: الأولاد …

ولكنه قاطعها بحدة: يا فتَّاح يا عليم، صبركِ حتى أُغادر الفراش.

وتردَّدَت المرأة فعاد يقول: هذا وقت الشاي والجريدة، فلا تُفسدي عليَّ أطيبَ أوقات اليوم.

تنهَّدَت المرأة وغادرت الحجرة وهو يُتابعها بعينَيه حتى أغلقَت الباب وراءها. رشف من الفنجان رشفةً، ثم عكف على القراءة.

•••

تحرَّكَت ستارة مُسدَلة فوق نافذة، خرج من ورائها رجلٌ مرتديًا بدلة سوداء. تقدَّم بخطوات متمهلة حتى وقف في وسط الحجرة. نظر فيما حوله ثم قال بلهجةٍ خطابية: الحمد لله.

فتمتمَ رجلُ الفراش ورأسه لا يتحول عن الجريدة: الذي لا يُحْمد على مكروهٍ سواه.

– لو قلت إنَّ كل شيء حسن فربما وقع القولُ من الآذان موقعَ الغرابة.

فتمتم رجل الفراش: ربما.

– وقد يتوهَّم البعض أننا لا نتحرك.

– قد.

تضايق ذو البدلة السوداء من تمتمات الآخر، فمضى إلى الفراش وراح ينقر على رأسه محذرًا، ثم رجع إلى موقفه. انكمش رجل الفراش ولكنه لم يتحول عن الجريدة وواصل قراءته الصامتة في هدوءٍ. وقال ذو البدلة السوداء: نظرة عادلة إلى الوراء كفيلةٌ بإبراز المدى الذي قطعناه.

فهزَّ رجلُ الفراش رأسه دون أن ينبس.

– في كل شيء بغير استثناء.

فهزَّ رجلُ الفراش رأسه مرة أخرى دون أن ينبس.

– ليعلم ذلك عدوُّنا الخارجي، وليعلمه عدونا الداخلي.

ونظر ذو البدلة السوداء صوب رجل الفراش مستطلعًا، فتمتم هذا دون أن يتحول عن جريدته: كلام طيب.

عند ذاك أخلى ذو البدلة السوداء مكانه، فاتخذ موقعًا جديدًا في ناحية الحجرة المقابلة للفراش، ووقف صامتًا كتمثال.

•••

تحركَت الستارة مرةً ثانية فبرزَت من ورائها فتاةٌ جميلة في لباس البحر. تقدمت مزهوَّةً بجمالها الفتَّان حتى وقفَت في وسط الحجرة، وجعلت ترسم في الهواء حركات سباحة كشفت بعمقٍ أكثرَ عن مفاتنها، ثم قالت بصوتٍ عذب: سأظهر هكذا في دور جديد تمامًا في الفيلم الجديد «الأبواب الخلفية».

فقال رجل الفراش: يُسعدني أن أراكِ هكذا في أي دور!

– ولكنه دورٌ عجيب يجمع بين المرح والمأساة.

فقاطعَها بحماسٍ وهو لا يرفع رأسَه عن الجريدة: المهم هو أنت!

– يقتلك بالضحك ويُثقِّفك بالهدف!

– لا قيمة لشيء سوى قامتِك السحرية.

– فهو فيلم ترفيهيٌّ وهادف معًا.

– ماذا؟ سمعي ثقيل، هَلَّا حدَّثتِني في أُذني؟

دَنَتِ الفتاةُ من الفراش ومالت نحوه، فطوَّق وسَطها بذراعه وجذبها نحوه حتى التصقَت به.

– قلتُ: إنه فيلم ترفيهي وهادف معًا.

– ماذا؟ قَرِّبي أكثر وأكثر.

فصاح ذو البدلة السوداء بصوت راعد: فيلم ترفيهي وهادف معًا، أسمعت؟!

سحبَ ذراعه بسرعة. واصلَ انكِبابه على الجريدة، رجَعَت الممثلة إلى وسط الحجرة، دارت حول نفسِها في حركة استعراضية، ثم مضت ناحية البدلة السوداء واتخذت موقفًا.

وقال ذو البدلة السوداء: الفنَّانة تريد أن توقظ ذوقك؛ ولكنك تأبى إلا أن تراها بشهوتك.

– رأيتُ جسدًا جميلًا عاريًا.

– أتريد أن نُقدم لك الحكمة في برميل؟

– ما أكثرَ الأشياءَ التي تُعذب الإنسان!

– سنعرض عليك أجسادًا عارية.

– شكرًا!

– والويل لك إذا عابثَتْك شهوةٌ من شهوات الجسد.

وُجِم الرجل فوق جريدته، فسأله الآخر بحدة: ماذا قلت؟

– الويل لي.

•••

انزاحت الستارة بعنفٍ. دوَّت في الجو طلقاتُ رصاص وانفجارُ قنابل وأزيزُ طيارات. خرج من وراء الستارة جنديٌّ أمريكي وفيتنامي وهما يتَبادلان إطلاق النار. تساقطت فوارغ الرصاص فوق الرجل في فراشه، فاضطرب في مجلسه ولكنه لم يرفع رأسه عن الجريدة. رشف رشفةً في عصبية واستمر في القراءة.

وصاح الجندي الأمريكي: أيها الشيوعي المنحط.

فصاح به الفيتنامي: أيها الإمبريالي المتوحش.

– ماذا جاء بك من الشمال؟

– ماذا جاء بك أنت من وراء المحيط؟

– الأرض كلها أمريكية … وغدًا سيكون القمر أمريكيًّا.

فقال الفيتنامي وهو يُطلق النار: وستكون المقابرُ أمريكية، سأقتلك ثم أقطف وردًا وأرقص.

وكثُر تساقطُ فوارغ الرصاص فوق رجل الفراش، فقال متذمرًا: ابتعدْ.

فصاح الأمريكيُّ بالفيتنامي: انظر كم أنك مزعجٌ للناس.

فصاح به الفيتنامي: إنه يوجِّه الخطاب لك أنت.

– ما كان ليجرُؤَ أن يُخاطبني بتلك اللهجة.

– إني أُطلق النار عليك؛ أمَّا أنت فتُطلق النار في جميع الجهات.

وعاد رجل الفراش يقول متأوهًا: اللعنة على كل معتدٍ أثيم!

فصاح الأمريكي في وجه الفيتنامي: أرأيتَ أنه يقصدك أنت؟!

– يا لجنون العظمة!

وظلا يتبادلان إطلاق النار حتى فرَغَت ذخيرتهما، فمضيا غير بعيدين من الممثلة ووقفا جامدَين. وقال رجل الفراش وهو مُكبٌّ على الجريدة: هذا الرجل جديرٌ بكل إعجاب.

فقال ذو البدلة السوداء: بكل تأكيد.

وقالت الممثلة: أرأيتَ كيف أنه يقطف الورد ويرقص في حومة القتال!

فقال رجل الفراش بصوتٍ منخفض: سمعي ثقيل، هَلَّا اقتربتِ لأسمعَكِ؟

ولكنَّ ذا البدلة السوداء ضرب الأرض بقدمه فساد الصمت.

•••

تحركَت الستارة للمرة الرابعة فخرجت من ورائها امرأة متوسطة العمر، تحمل بين ذراعيها ستةً من المواليد، فوقفَت في وسط الحجرة وقالت: أنا امرأة من كوبا، ولَدتُ ستة توائم، وجميعها في صحةٍ جيدة!

فقالت الممثلة: هيهات أن تَصلُحي بعد ذلك لحياة الأضواء.

– ولكني معجزةٌ من معجزات الحياة!

فقال الجنديُّ الأمريكي: نحن في عصر معجزات العلم والصناعة لا الحياة، ومثل هذه المعجزة المزعومة خَلِيقة بأن تدفع العالمَ إلى أنيابِ مجاعة شاملة.

فقال الفيتنامي: لا خوف على العالم من مجاعةٍ ما دامت قنابلُكم تحصده.

– إنها لا تُبيد إلا النفايات.

فقالت الأم: هل أجدُ طعامًا متوفرًا؟

فقال لها الفيتنامي: توجد ذخيرة بعدد حبَّات الرمال.

فقالت الأم: لم أسمع تحيةً واحدة.

فقال رجل الفراش: طوبى لك في الدارَين!

– شكرًا يا سيدي.

– ولأبيهم أكبر تحيات التقدير.

– أُكرر الشكر يا سيدي.

– هل لديكم قانونُ تعليم مناسب؟

– عندنا أشياءُ كثيرة مناسبة.

– أهلًا بك وسهلًا.

وذهبت إلى الناحية الأخرى. جلست على الأرض وراحت تغني للمواليد، تُغني وتغني حتى ثقل رأس الفيتنامي بالنعاس فتثاءب، وتبعه الأمريكي على الأثر، وجلسا تباعًا على الأرض عن يمين المرأة ويسارها. وأوسعَت لكلٍّ موضعًا في حجرها فتوسَّدَه برأسه وغطَّ في النوم.

•••

وتحركت الستارة حركة عصبية فخرج من ورائها رجلان، اندفعا إلى وسط الحجرة، وكلٌّ منهما ممسكٌ برأس الآخر يُحاول جهده أن يخفضَه إلى أسفل. صاح أولهما: المارْك فوق الجميع.

فصاح الآخر: الفرنْك لا يُعْلَى عليه.

– المارك رمز التفوق.

– الفرنك رمز الإنسانية!

ولكَمَ الألمانيُّ الفرنسيَّ فتراجع مترنحًا حتى سقط فوق رَجُل الفراش. نهض الفرنسي من سقطته فهجم على الألماني ولطَمه على وجهه، ثم قبض على رِباط عنقه وجذبه منه جذبةً قوية فاندلق ناحية الفراش حتى ارتطم برجُل الفراش، واستعاد توازنه وانقضَّ على خَصمه. وجعل كلٌّ منهما يحاور الآخَر حتى لا يُمكِّنه من نفسه، ونال منهما الإعياءُ فوقفا متباعدَين وهما يلهثان. وقالت الممثلة: أقترح أن تُودِعا نقودَكما عندي حتى تُسوِّيا خلافاتكما!

فابتسم إليها ذو البدلة السوداء وقال: قولٌ طيب، أحسنت.

فخَطَت نحوهما خطوتين وقالت بإغراء: لديَّ موضوع يصلح للإنتاج المشترك.

فقال الألماني: أوافق إن يكن عن حرب ١٨٧٠.

وقال الفرنسي: حرب ١٩١٤ أهمُّ وأخطر.

فقالت الممثلة: هو عن امرأةٍ مريضة نفسيًّا، وأعراض مرضها أن تسير عاريةً وهي نائمة!

فقال رجلُ الفراش وهو مُكبٌّ على جريدته: مرضٌ ممتاز.

وقال الفرنسي: أعطينا مثالًا لتلك الحالة المرَضية.

مدَّت يديها للجزء الأعلى من لباس البحر كأنما لتنزعه؛ ولكنَّ ذا البدلة السوداء قال: ليس في وسَط الحجرة!

فقال رجلُ الفراش: يُهمُّني أيضًا أن أرى ما يجري في بيتي.

فقال الآخر بحدة: الأجانب يستحقُّون معاملة خاصة!

– لقد عانيتُ من صراعهم، فمن حقي أن أشاركَهم بعض المسرة!

فقالت له الممثلة: لا من أهل المال أنت، ولا من أهل الفن.

فتساءل منكرًا: أفندم؟ سمعي ثقيل.

فقال ذو البدلة السوداء: ألاحظ أن أذنك تعمل بحسب هواك.

– إني أمارس حُريتي من خلال أذني.

– سأُسمِعكَ بنفسي ما يَتعذَّر عليك سماعه.

– شكرًا، لا داعي لتكليف خاطرك!

اندسَّت الممثلة بين الرجلين فتأبَّطَت ذراعيهما ومضَت بهما إلى موضعها السابق.

ومن وراء الستارة خرج رجلان، يحمل أوَّلُهما كتبًا ويحمل الآخَرُ قوارير. وقَفا جنبًا لجنبٍ وسط الحجرة، ثم قال حاملُ الكتب بصوت عريض رنان: من ذخائر التراث، تفسير القرآن، طبعة أنيقة مع تعليقات بأقلام أكبر الأساتذة، الثمن جنيه واحد.

وقال حامل القوارير بصوت منغوم: أفخر أنواع الويسكي، وردَت منها كميات محدودة، بأسعار محدَّدة ومعقولة تتراوحُ بين أربعة جنيهات وخمسة جنيهات.

فسأل رجلُ الفراش حاملَ الكتب: ألا تُميزون أرباب الأسر بشيء من التخفيض؟

– يختصُّ بالتخفيض الطلبة فقط.

– وأرباب الأسر؟

– الثمن معقول جدًّا.

– شكرًا.

وعاد حامل القوارير يقول: أفخر أنواع الويسكي، كميات محددة وأسعار زهيدة!

فسأل رجلُ الفراش حاملَ الكتب: أحرامٌ أن يتناول المسلم قليلًا من الويسكي كدواء؟

فأجاب حامل الكتب: إني أتناول كأسًا قبل النوم كدواءٍ لضيق الشرايين.

– ولكني أشكو ثِقلًا في السمع؟!

فقال حامل القوارير: ثقل السمع عَرَضٌ مرَضيٌّ لضيق الشرايين.

– ولكن ثمن الويسكي كفيلٌ بسدِّ الشرايين.

وتدخل ذو البدلة السوداء في الحديث فخاطب حاملَ القوارير قائلًا: قفْ جنب السيد الفرنسي فهو يحب المرح.

وتحوَّل إلى حامل الكتب قائلًا: قفْ جنب السيد الألماني فلعله أن يكون مستشرقًا.

ثم التفت إلى الممثلة وقال: همتك، لديك قرآن وويسكي وموضوع مشترك!

•••

وتحرَّكتِ الستارة فخرج من ورائها رجلان من رجال الفضاء؛ روسي وأمريكي، سارا بخفةٍ نحو وسط الحجرة، تصافَحا، ثم قال الروسي لزميله الأمريكي: أصدق التهاني.

فقال الأمريكي: ومني إليكَ أصدق التهاني.

– لا يهم أنني سبَقتُك إلى التجرِبة ما دمتَ تتقدم بنجاح، تهانيَّ!

– المهم هو النجاح، وسألحقُ بك، وسوف أسبقك، تهانيَّ!

– لا أظن أنك ستسبقُني أبدًا، فاتَ أوانُ ذلك، تهانيَّ.

– أراك لا تعمل حسابًا للمفاجآت الأمريكية، تهانيَّ.

فقال رجل الفراش: إنكما حلمٌ وَرْديٌّ في عالم قطران!

– شكرًا أيها الرفيق.

– شكرًا أيها الزبون.

فقال رجل الفراش: بفضل العلم تقع معجزات.

فقال الروسي: وبفضل النظام الشيوعي.

فقال الأمريكي: بل بفضل النظام الرأسمالي.

فقال رجل الفراش: لقد ارتفعتما إلى سمَوات الله عز وجل.

فقال الروسي: رأيت الكواكب تسبح في أفلاك متأثرة باختلاف أحجامها؛ فمَساراتها متحددةٌ بصراع طبَقي أزَلي سرمدي.

فقال الأمريكي: وهناك الشمس تُمدُّ الكواكب بالحرارة والضوء كالمعونة الأمريكية.

– ألم ترَيا شيئًا وراء ذلك؟

فقال الروسي: لا شيء وراء ذلك.

ولكن الأمريكي صاح: رأيت الله.

– كيف؟ .. أين؟

– نورٌ يخطف الأبصار، يشعُّ في منطقةٍ من السماء تقع فوق البيت الأبيض.

فقال له الروسي: يا لك من دجال!

– اخرس أيها السفاك.

– سندفنُكم أحياءً.

– سندفنكم أمواتًا.

فهتَف رجل الفراش متأوهًا: الغَوْث!

فصاح به ذو البدلة السوداء: ها أنت تسمع كل كلمة تقال.

– أسمعُ وشًّا؛ لعله ضيق الشرايين، إليَّ بقليلٍ من الويسكي …

– معك عُمْلة صعبة؟

– ولا سهلة!

– كفَّ عن شرب الشاي فإنه مثيرٌ للأعصاب.

– إنه يَهَبُني أطيبَ ساعات اليوم!

وهتفت الممثلة بنرفزة: لا أستطيع أن أعمل في هذا الجو الصاخب.

فقال رجل الفراش بقلق: من الحمق أن نترك هذين العملاقين يتخاصمان.

فقال ذو البدلة السوداء: مَن ذا يجزم أين تقع المصلحة؟

وتقدمت الممثلة من رجلَي الفضاء وقالت وهي تشير إلى الأم: يوجد صغار نيام!

فكظم كلٌّ حنقه. وقال الروسي بوجهٍ متجهم مخاطبًا زميله: تهانيَّ.

فقال الآخر بازدراء: تهانيَّ.

وذهبا مع الممثلة فاتخذا لهما موقفًا.

•••

ومن وراء الستارة خرجت فتاة جميلة في العشرين من عمرها، في مِني جِيب، معلقةً حقيبتَها بكتفها، ووقفت في وسط الحجرة وقالت: أنا فتاة مثقفة، أُتْقن العربية والإنجليزية وأعمال السكرتارية، أريد وظيفة سكرتيرة.

هَرَش رجلُ الفراش ذقنه، أمَّا ذو البدلة السوداء فقد سألها: ألم تُقيِّدي نفسَكِ في إدارة القُوى العاملة؟

– بلى.

– عليكِ أن تنتظري دوركِ.

– طال الانتظارُ، أريد وظيفةً حُرَّة.

فقالت لها الممثلة: أعرف شخصًا هامًّا في حاجة إلى سكرتيرة!

– إني مستعدَّة لمقابلته في الوقت الذي يحدده.

فقال رجلُ الفراش: ولكنك لا تعرفين عنه شيئًا؟

– أعرف عملي وكفى.

فقال الرجل بتأثُّر: فكِّري قليلًا، إني أحدثك بلسان أبٍ.

– كأنك يا سيدي تخاف عليَّ؟

– الناس أشرارٌ يا ابنتي، وأنتِ صغيرة السن.

– لستُ صغيرة.

– ما زلتِ في طَور البراءة!

– لستُ هشَّةً ولا خوف عليَّ.

– إنكِ تُعرِّضين نفسك لخطر فادح.

– إني أحتقرُ هذا الإشفاق!

– إني أب …

– بل جَدٌّ، وأقدمُ من ذلك!

– سامحَكِ اللهُ.

– سأجد في العمل حريتي وكرامتي.

– قد … قد …

– لا أسمح لأحدٍ بالتدخل في شئوني.

– ثمَّة أخطار …

– أخطار! .. ألم تسمع عن غُزاة الفضاء؟!

– معذرة يا آنسة.

فقال ذو البدلة السوداء: ليتك تعرف نعمة السكوت!

فقالت لها الممثِّلة: انضمِّي إلينا مؤقتًا، ثمة شركة في دور التكوين.

•••

وتحركت الستارة فخرج من ورائها رجل عجوز أنيق الملبس، وقف وسط الحجرة وقال بنبرة شبهِ باكية: يا بُني، عُدْ إلى أبيك؛ طلَباتك مُجابة.

فسأله ذو البدلة السوداء: متى اختفى؟

– منذ أسبوع …

– بحثتَ عنه في مكانه؟

– لم أترك مكانًا واحدًا.

– ما عمره؟

– ستة عشر عامًا.

– ما مشكلته؟

– كلُّ شيء، ولا شيء بالذات.

– رأي، سلوك، ذوق، هه؟

– نعم، وعَلِم اللهُ ما راعيت إلا مصلحته.

فقال له رجل الفراش: إني أرثي لك.

– شكرًا.

– ليس زمانُنا بزمان الآباء.

– زمان قذر.

فصاح به ذو البدلة السوداء: لا تسبَّ الزمان فهو الدولة.

فعاد الرجلُ يُردد بهدوء حزين: يا بُني، عُدْ إلى أبيك … طلباتك مجابة.

واختار لنفسه موقفًا جنب حامل الكتب.

•••

من وراء الستارة خرجَت فتاة صعيدية حاملةً مقطفًا كبيرًا، تبعها على الأثر صعيديٌّ في الخمسين، وقَفا في وسط الحجرة، فسألته الفتاة: لم جئنا إلى هنا يا أبي؟

فهَوَى بكفِّه على وجهها وصاح: لأُنقذ شرفي من الفساد.

نَدَّتْ عن الفتاة صرخةٌ مدوية. رمت بالمقطف وجرت نحو الفراش، فأحاطها الرجلُ بذراعه. سرعان ما لحق بها الأب، ولكي يُخلصها من ذراع الرجل انهال على صدره ضربًا حتى سحب الرجلُ ذراعه متأوهًا. جذبها إلى وسط الحجرة، طرحها أرضًا، استلَّ خنجرًا وانهال عليها طعنًا حتى أخمد أنفاسَها، ثم دفنها في المقطف، وغطَّاها بخمارها، وهو يُتمتم بتشفٍّ: الآن رُدَّت الحياة إليَّ.

فقال له ذو البدلة السوداء: ستفقدها وراء القضبان أو فوق المشنقة.

فقال باستهانة: طُظ!

– متى تحترم القانون؟

– طظ.

وحمل المقطف ومضى به صوب الفراش فدفعه تحته. تأوَّه رجل الفراش وقال له: يا لك من وحش!

فقال له بازدراء وهو يرجع إلى وسط الحجرة: كيف يُعَدُّ أمثالُك من الرجال؟!

– كيف طاوعَتك يدُك على قتل ابنتك؟

– يوجد شيء اسمه الشَّرف.

– وتوجد أيضًا الحماقة.

فأشهرَ خنجره مرة أخرى وهو يتساءل في ريبةٍ: ولكنَّ ذا البدلة السوداء بادر إليه فأخذه من ذراعيه إلى الناحية الأخرى.

•••

وترامى عزفُ أوركسترا وتخت بلدي في وقتٍ واحد، وخرج من وراء الستارة رجلان؛ أولهما في لباس مُغني أوبرا، والآخر مُغنٍّ بلدي. وقفا في وسط الحجرة، وراحا يُغنيان في وقت واحد، كلٌّ بطريقته. فأحدَثا صخبًا متنافرًا مزعجًا مضحكًا. ولما خَتما غناءهما تصافحا ببرودٍ، مُغني الأوبرا في احتقار لم يُفلح في مُداراته، والمغني البلدي دارى ضحكةً أوشكت أن تُفلت منه. في أثناء ذلك تقلَّص وجهُ رجل الفراش من الانزعاج، وتساءل: أبكما مَسٌّ أم ألمٌ مُلِح؟

– نحن بخير.

– لماذا تصرخان؟

– غنَّينا كأحسنِ ما يكون الغناء.

– أكان ذلك غِناءً؟

– أسْمَعناك الشرقَ والغرب معًا.

– ألم يكن الأفضل أن نسمع كلًّا على حدة؟

– أصلنا ننتمي إلى مؤسسة واحدة …

وزاد الأوبرالي على ذلك أن قال: أنا المستقبَل، وزميلي الفاضل يمثل الماضيَ.

فغضب المغني البلدي وقال: أنا مغنٍّ، أمَّا هذا الرجل فهو مجنون يصرخ بلا سبب.

وتبادلا صفعتَين، وتوثَّبا لعراكٍ أشد. فصاح رجل الفراش: اذهبا .. اتركاني في سلامٍ.

فقال ذو البدلة السوداء باستياء: تأدَّبْ في مخاطبة المغنِّيَين الرسميَّين!

وأشار إلى الرجل فأمسكا عن الخصام وذهبا معًا إلى الناحية الأخرى.

•••

وتحركَت الستارة فخرج من ورائها طالبٌ ثم شرطي، وقفا في وسط الحجرة وهما يتبادلان نظرةً متوجسة، وسأله الشرطي: لمَ تتسكع في الطرقات؟

فتساءل الطالب بتحدٍّ: لم تتبعُني كظِلِّي؟

– أنا ظِلُّ الأشياء المعوجَّة!

– ألا تشمُّ في الجو رائحة غبار خانق؟

فتشمَّم الشرطي الجو وقال: في الجو غبار خانق!

– إني أبحث عن هواء نقي.

– ولكنك بتسكُّعك تُثير مزيدًا من الغبار الخانق.

فضحك الطالب ضحكة جافةً وقال: الليل ينشر جَناحيه بينا الشمسُ ما زالت في كبد السماء، فما تفسيرك لذلك؟

– لعل الليل أسرعَ أو أن الشمس تباطأَت.

– فما علاقة ذلك بتحديد مرَّات السقوط؟

– مثل علاقته بإهدار المال بلا حكمة.

– واضحٌ أنك تهذي.

– وأوضحُ منه أنك قليل الأدب.

وقذف الطالبُ الشرطي بطوبة فلم تُصبه؛ ولكن أصابت رجل الفراش فتأوَّه دون أن يرفع رأسه عن الجريدة. تراجع الشرطيُّ خطوات، لوَّح بهَراوته استجماعًا لقوته، ولكنها في حركاتها العشوائية أصابت رجل الفراش في قدَمِه ومنكبه فتأوَّه مرة أخرى. تبادلا الضرب حتى نزفت دماؤهما، فتباعَدا وهما يترنَّحان من الإعياء والإنهاك. وهتف رجل الفراش: وما ذنبي أنا؟

فقال ذو البدلة السوداء: لا تفتأُ تتدخَّل فيما لا يعنيك!

– ولكنَّ القتال يدور في حُجرة نومي.

– عال، فأنت أصلحُ شاهدٍ للإدلاء بما رُئيَ، ما سببُ المعركة؟ ومَن البادئ بالضرب؟

– للمعركة أسباب غيرُ عادية.

– مثال ذلك؟

– الغبار والتسكُّع والليل والشمس.

– يا لك من شاهدٍ فاجر!

– أقسم لك …

فقاطعه بحدَّة: ومرات السقوط في الامتحان ألم تسمع بها؟

– إنَّ سمعي ثقيل كما تعلم.

– ها أنت تعود لادِّعاء الصمَم، واضحٌ أنك مُغْرض!

– علم الله …

– فمن الذي بدأ الضرب؟

تلقَّيتُ ضربتين متعاقبتين، ولكن تعذَّر عليَّ تحديد المصدر البادئ!

– فاجر، ألم أقل إنك شاهد فاجر؟!

– دعنا من التحقيق.

– دعنا من التحقيق؟

– واضحٌ أن أعصابهما تحتاج إلى عقاقيرَ فعالة.

– الصيدليات مَلْأى بالعقاقير.

– الحاجة ماسَّة إلى طبيبٍ لا إلى شرطي.

– ألست طبيبًا؟ .. إني أناقشك طيلةَ الوقت باعتبارك طبيبًا!

– أنا طبيبٌ حقًّا، ولكني في إجازة مرَضية.

– أصبحتُ قادرًا على الحركة في بيتي؛ فأنا أغادر الفِراش وقتما أشاء، ولكن تلزمني بضعة أيام راحة قبل أن أمضي إلى الخارج لمزاولة نشاطي المعتاد.

– حسنًا، لا تُبدِّد قُواك في الثرثرة حتى تستردَّ صحتَك.

ومضى الرجلُ إلى الطالب والشرطيِّ فأخذهما إلى موقفٍ في الناحية الأخرى.

•••

وتحركت الستارة فخرج من ورائها زنجي وعربي مسلَّح، وقَفا في وسط الحجرة، وقال الزنجي: المشوار طويل فيما يبدو.

– أجل … إنه يبدو كذلك.

– أين أنت ذاهب؟

– إلى آسيا، وأنت؟

– أنا متردِّد بين أمريكا وأفريقيا.

– وما مشكلتك؟

– في أمريكا يحاصرني الاضطهاد باعتباري الأقلية، وفي إفريقيا يحاصرني باعتباري الأغلبية!

– يا له من اضطهاد كالقدَر! ما سببه؟

– لأني أسود؛ هكذا يُقال.

– أن تُضطهَد وأنت أقليَّة فتلك رذيلة شائعة، ولكن كيف تُضطهَد وأنت الأغلبية؟

– ثمة رجل أبيض يحتكر الاضطهاد، ويمارسه حيثما وُجد.

– ولكني أراك لا تحمل سلاحًا؟

– كان لنا زعيمٌ يدعو إلى الحب والسلام.

– وهل استجابوا له؟

– قتلوه غِيلة!

– ما كان أجدرَه أن يُقتَل وهو يُقاتل!

– آمنَ بأن الحب أقوى من جميع الأسلحة.

– لا مكان إلا لنوعَين من الإنسان؛ واحد يُقاتل بقلبٍ مِلؤه الشر، وآخر يقاتل بقلبٍ ملؤه الخير.

– لعلك من النوع الأخير؟

– لعلِّي.

– وما مشكلتك أيها المقاتل؟

– لقد سُرِقت.

– سرَقوا مالك؟

– سرقوا وطني!

– وطنك؟!

– بجِباله وأنهاره وحقوله وتاريخه، ثم قذفوا بي إلى العَراء.

– أي قطَّاع طرق!

– وراءهم يقف الذين يضطهدونك.

– لذلك تحمل السلاح؟

– ولذلك يجب أن تحمل السلاح.

– ولكن أين أجدُه؟

وهنا قال رجلُ الفضاء الروسي: تجده عندي إذا أردته.

– ولكني لا أملك ثمنه.

– يمكن الاتفاق على ذلك دون إرهاق.

فصاح رجلُ الفضاء الأمريكي مخاطبًا الزنجي: تجنَّبْ هذا الرجل؛ فإنه لم يرَ الله في السماء.

فقال رجل الفضاء الروسي: أحذرك من أضاليل هذا الزميل؛ فقد زعم أنه رأى إلهًا أمريكيًّا.

– لم أقل إنه يحمل الجنسية الأمريكية، ولكن ثبت لي أنه إله العالم الحر.

فسأله الزنجي: هل آنستَ عنده ازدراءً للسود؟

– إنه نور، فطبيعيٌّ أن يُفضِّل من عباده مَن على صورته.

– هل أدركتَ في حضرته سرَّ ذلك كلِّه؟

– إن حكمته تجلُّ عن أفهامنا، إنه فوق التصور والخيال، آه لو رأيته في مقامه السَّنيِّ فوق البيت الأبيض!

فصاح رجل الفضاء الروسي: ألم أقل لك إنه دجال؟

وقال العربي المسلح: دعونا من السماء، على الأرض تُسرق أوطان ويُضطهَد أبرياء، وعلى المسروق والمضطهَد أن يحمل السلاح، وأن يتعاون مع مَن يعطيه السلاح، وأن تُفسَّر حكمة الله على ضوء ذلك!

– أنت شيوعي!

– أنت إمبريالي!

– أنت ظالم!

– أنت أسود!

– أنت دجال!

– أنت سفَّاح!

وتأوَّه الرجل في فِراشه وعيناه لا تتحولان عن الجريدة، فسأله ذو البدلة السوداء: ما لك؟ ماذا تريد؟

– أريد سلاحًا!

– ولكن إجازتك المرَضية لم تنتهِ بعد.

– أريد سلاحًا!

– اصبرْ …

– ألم تسمع ما قيل؟

– سمعتُ واقتنعت، ولكن إجازتك لم تنتهِ بعد.

– إني أقرأ في رأسك أفكارًا غريبة!

– إن أردتَ الصراحة فإن تعليقاتك المتكررة لا توحي بالثقة!

– لعلك لا تعرفني على حقيقتي.

– إني أعرفُك أكثرَ مما تتصور!

– أنا رجل مخلِص ومستعدٌّ للقتال.

– ولكنك غيرُ مدرَّب على استعمال السلاح.

– إذن أتدرَّب.

– اصبر حتى تنتهيَ إجازتك.

– طيب .. أعطني كأسًا من الويسكي.

– معك عُملة صعبة؟

فتنهَّد الرجل بصوت مسموع، وعند ذاك قال له رجلُ الفضاء الأمريكي: أتريد السلاح حقًّا؟

– أجل.

– والويسكي؟

– أجل.

– عهد الله أعطيك ما تريد من سلاح وويسكي.

– حقًّا؟!

– كلمتي ميثاق!

– ولكني لا أملك نقودًا.

– لا يهم.

– أتُعطيني ما أريد بلا مقابل؟

– بشروط لا تستحق الذِّكْر، انتظر …

وتحرك متجهًا نحو الفراش، ولما بلغه وجد ذا البدلة السوداء في انتظاره، فقال له: أريد أن أحادث هذا المريض على انفراد.

فقال ذو البدلة السوداء: ليس بيني وبينه سر!

– المرضى في وطننا الأمريكي يتمتَّعون بحريات هائلة!

فقال الزنجي: كذاب!

تحوَّل نحوه غاضبًا، ولكنَّ ذا البدلة السوداء حال بينهما، ثم أوسع لهما مكانًا بين الآخرين.

•••

من وراء الستارة خرج رجل قصير نحيل، يلفُّه الحياء حتى بدا كطفل، وقف في وسط الحجرة وراح ينظر فيما حوله بارتباك. همَّ بالكلام مرة ومرة؛ ولكنه لم ينبس. وإذا برجل جديد يخرج من وراء الستارة، ضخم مَهيب ذو لحية مدبَّبة، اتخذ موقفه أمام الرجل الأول فأخفاه عن الأنظار، وقال بنبرة متعجرفة: أنا رجلٌ ألماني من بون.

فسأله الألماني الأول: ألدَيك معلومات جديدة عن المارك؟

فقال بالنبرة المتعجرفة: لا أُقيم الآن في ألمانيا، لم أجد هناك المعاملة اللائقة، أنا مواطن عالمي، ولدي اختراع كيماوي مذهل.

فسأله رجل الفراش: أله فائدةٌ في تجديد الشباب؟

وسأله الزنجي: هل يُجْدي مفعولُه في تهذيب الخلق الإنساني؟

وسألته الأم: هل ينفع غذاءً للأطفال؟

فقال: إنه مسحوقٌ غامض، يكفي الجرام منه لإبادة خمسين مليونًا من البشر.

هبَّ الجميع في اهتمام ساحق، حتى الأمريكي والفيتنامي استيقظا ووثبا واقفَين. قال الألماني الأول: لعلهم جهلوا مقاصدك أيها الأخ العبقري فلم يُحسنوا معاملتك، عُدْ إلى وطنك.

ولكن رجل الفضاء الأمريكي قال: أيها الأخ العبقري، أمريكا هي وطن العلماء، عندنا برج بابل يعيش فيه العلماءُ من مختلِف الأجناس عيشة الأباطرة. اذهب إلى وطنك الحقيقي أمريكا!

وقال له رجل الفضاء الروسي: ليكن مسحوقك في خدمة الملايين الكادحة، لا في خدمة حفنةٍ من مصَّاصي الدماء.

وقال له العربي: يلزمني ملليجرام من مسحوقك العبقري!

وسأله ذو البدلة السوداء: هل سبق لك زيارةُ معبد الكرنك تحت شمس الشتاء المشرقة؟

فقال الألمانيُّ بعجرفة: تلزمني مهلةٌ للتفكير.

وذهب إلى ناحية الواقفين فاتخذ مكانًا. وبذَهابه ظهر مرةً أخرى الرجلُ القصير النحيل.

وقال له رجلُ الفراش: كان المنتظَر أن تبدأ أنت بالكلام.

فابتسم في حياءٍ دون أن ينبس فسأله: باللهِ ماذا يمنعُك من الكلام؟

فتغلَّب على حيائه وقال: أعتقد أنني بصددِ اكتشاف طريقةٍ ناجعة لمعالجة السرطان.

وساد صمتٌ شامل حتى واصل حديثه قائلًا: لقد جرَّبتها على مرضى كثيرين فنجحت بنسبة ٤٠٪، ولكني في حاجةٍ إلى مزيد من البحث والتجريب، وتلزمني تكاليفُ باهظة!

وساد الصمت؛ صمتٌ ثقيل، حتى قال الفرنسي هامسًا: هذا الرجل يستحقُّ التشجيع، ولولا أزمةُ الفرنك …

فقال الألماني: إنه جديرٌ بالتشجيع، ولكن مَن أدرانا أنه ليس دجَّالًا؟

فقالت الممثلة: إنْ تكشَّفَ عن دجال فأنا أرشحه لتمثيل دور في فيلمنا المشترك.

وقال رجل الفضاء الأمريكي: أبحاث السرطان متقدمة عندنا.

فقال رجل الفضاء الروسي: يمكن أن نستضيفَك عامًا في المعهد الطبي الشيوعي.

فصاح رجل الفضاء الأمريكي: يمكن أن نستضيفك عامين، ولكن إذا زرتَ روسيا تعذَّر عليك دخولُ بلادنا.

ونفخ رجل الفراش بصوتٍ مسموع، فسأله ذو البدلة السوداء: ماذا تشكو؟

– أريد كأسًا من الويسكي.

– تمر بك الأحداثُ وأنت لاهٍ عنها بشهواتك!

– أعطني سلاحًا.

– تريد أن تسكر وتُطلق النار على غير هدًى!

وأشار إلى الرجل القصير النحيل إشارةً خاصة، فمضى ليتخذ موقفًا بين الواقفين.

•••

وتحركت الستارة فخرج من ورائها رجلٌ ملفوف في كفَن لا يظهر منه إلا رأسه، وقف في وسط الحجرة وقال: أنا المدير العام لمؤسسة م. م. م.

فقال له رجل الفراش: تشرَّفنا يا فندم.

– انتقلتُ إلى رحمة الله على أثر نوبةٍ قلبية أصابتني وأنا جالسٌ إلى مكتبي.

– ليرحمك الله.

– الموت أكبر كارثة في الوجود، أكاد أُجنُّ كلما تصورتُ أن العالم سيمضي في طريقه عقب اختفائي كأنني لم أُعايشه دقيقةً واحدة.

– أكنتَ تتوقع أن يتوقَّف عن الحياة إكرامًا لك؟

– هذه هي مأساة الوجود الحقيقية التي تُفقِده أيَّ معنًى من المعاني!

– صدِّقني فإن العالم مُثقلٌ بهمومه بحيث يُغفَر له ألَّا يشعر بموتك.

– ذهبت الحياة بجمالها وسحرها وآمالها!

– ليرحمك الله.

– ما لقلبك جامدًا هكذا، حتى الحيوان يحزن.

– حزني للحياة لم يترك في قلبي موضعًا للحزن على الموت!

– متُّ وحيدًا، وها أنا أحزن وحدي.

– لتكُن الجنة مثواك.

– وأنا والد س وص بالجامعة، وشقيق أ بمؤسسة م. م. م، وعمُّ د بمؤسسة م. م. م، وابن خالة ز بمؤسسة م. م. م، وستُشيَّع الجنازة من مسجد عمر مكرم في تمام الثانية عشرة ظهرًا ولا عزاء للسيدات.

– سأعزي بتلغراف.

– ولم لا تشيِّع جنازتي بنفسك؟

– إني مريضٌ كما ترى.

– تستطيع أن تُشيع جنازتي لو بك رغبة في ذلك.

– أخشى أن أُصاب بنكسة.

– أنانيٌّ لا تفكر إلا في نفسك.

– لا وقتَ عندي للتفكير في نفسي ولا فيمن يموت.

– ليت يومَك كان قبل يومي.

– أنتم السابقون ونحن اللاحقون.

وبدأ الرجل يتحرك ببطءٍ ليتخذَ موقفه بين الجماعة. وفي أثناء سيره قال ذو البدلة السوداء: مات رجلٌ من جيل الثورة المضادة.

فقال رجل الفضاء الأمريكي: فقَدْنا صديقًا ذا استعدادٍ طيب للتفاهم.

وقالت الممثلة: نقَص روَّاد السينما رجلًا ولا كل الرجال.

•••

وتحركَت الستارة فخرج من ورائها رجل وجيهٌ بَدين، أنيق الملبس رغم ضخامته الفذَّة، وقَف في وسط الحجرة ثم بسَط صحيفةً وراح يقرأ منها بصوت جهوري: من واجبي، من حقي، أن أقول رأيي كما يجدر بصحفي يحترم نفسه ويحترمه الجميع، وأن أصوغَه بالوضوح الكامل لنخترقَ الظلمات إلى رؤيةٍ مضيئة؛ لعلنا نهتدي إلى مرفأٍ آمن في هذا البحر العاصف الذي تتلاطمُ أمواجه كجبالٍ من الظلام، سأقول الحقَّ بوضوح مهما كلَّفني ذلك من جهدٍ ومن تضحية؛ لذلك أقول لكم:

الوعي قضية، تسير مسارَها الطبيعي إلى نقيضها وهو اللاوعي، وعلى أثر تقدم مطَّرِد يتكوَّن تركيبٌ جديد من النقيضَين هو المرض. بمعنى آخر الوعي + اللاوعي = المرض. إن يكن عُصابًا فهو مرض نفسي، وإن يكن ذُهانًا فهو مرض عقلي. ذلك أن كل شيء يخضع في النهاية للديالكتيك. ولا يلبث التركيب الجديد (المرض النفسي أو العقلي) أن يتحولَ إلى قضية جديدة تبحث بدورها عن نقيضها كما تبحث المراهِقة عن عريس، ونقيض المرض هو الصحة النفسية، ثم يجمعها تركيبٌ جديد آخَر بحكم حتمية الديالكلتيك، وهذا التركيب الجديد يتكوَّن من المرض والصحة، مرض ديالكتيكي وصحة ديالكتيكية، وهي حالٌ لا هي صحة ولا هي مرض، وإذا ترجَمْناها إلى لغةٍ فلسفية أمكنَ أن نُطلق عليها «حال وجودية» … ويغلب عادةً أن تكون من نوع الوجود في ذاته، ولكن بتدخلِ قُوًى قهرية باغيةٍ تتحول إلى نوع آخَر هو الوجودُ لذاته، ويخشى في تلك الحال أن تتحول إلى وضعٍ أجوف أو ما يُسمى في الهندسة بالفراغ؛ فراغ مشحون بالقلق السرمدي، ولا علاج لذلك إلا بالمزيد من الديالكتيك. هذه هي حقيقة المسألة بلا حشوٍ ولا إسهاب لا موجب له، شرحتها متوخيًا البساطةَ والوضوح، بلغةٍ شعبية جديرة بمخاطبة شعب عظيم يمرُّ بلا شك بمحنة عصبية، ويتوثب لقهر ما يعترض سبيله من عقَبات، مصممًا على الصمود والنجاح، ألا هل بلَّغت؟

أعقب كلمتَه صمت، استمرَّ حتى خرَقه رجلُ الفراش قائلًا: شكرًا يا سيدي؛ ولكن ثَمة أسئلة حائرة أودُّ أن أوجِّهها إليك.

فقال بهدوء: صناعتي هي الكتابة لا الكلام.

– ولكنها أسئلة مُلحَّة يا سيدي.

– اكتبها في ورقةٍ وسأجيب عليها كتابة.

وتكرم بإعطائه ورقةً وقلمًا فتناولهما الرجلُ وسجَّل أسئلة، ومدَّ بها يده إليه. قرأها الصحفي بعناية ثم سجَّل بدوره إجاباته عليها، ثم راح يقرؤها: بالنسبة للسؤال الأول الجواب: محتمل.

بالنسبة للسؤال الثاني الجواب: بيْنَ بينَ.

بالنسبة للسؤال الثالث الجواب: نعم ولا.

بالنسبة للسؤال الرابع الجواب: لعل وعسى.

بالنسبة للسؤال الخامس الجواب: إنه سلاح ذو حدَّين.

بالنسبة للسؤال السادس الجواب: خير الأمور الوسط.

فتمتم رجل الفراش: شكرًا يا سيدي.

فردَّ الصحفيُّ الشكر بهزةٍ من رأسه وانتقل إلى الناحية الأخرى. طوى رجل الفراش الجريدةَ ثم احتسى آخِرَ رشفة من الشاي، هبط إلى أرض الحجرة، راح يسوِّي جلباب نومه ويتثاءب. وفي الحال أحدق به جميعُ الحاضرين بغير استثناء، جعلوا يدورون حوله مردِّدين مقاطعَ من أقوالهم السابقة في وقتٍ واحد. تخلل دوَرانَهم طلقاتٌ نارية، انفجارُ قنابل، أزيرُ طيارات، صرخاتٌ آدمية. وكلما أتمَّ أحدُهم دورتَه زحَف تحت الفراش واختفى، حتى خلَت الحجرة ولم يَعُد يبقى بها سِواه. وفتح الباب وظهرَت عنده المرأة وهي تتساءل: شربت شايك؟

فأحنى رأسه بالإيجاب، فقالت وهي تختفي في الداخل: أظن آنَ لنا أن نناقش مشاكلنا العاجلة!

فمضى نحو الباب وهو يُتمتم: استعنَّا على الشَّقا بالله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤