نافذة في الدور الخامس والثلاثين

مدَّ ساقَيه مستسلمًا لطراوة الفوتيل. شعر بشيءٍ من الجهد في نهاية نهارٍ حافل بالنشاط. أضاء الخادمُ العجوز مصابيحَ البهو وألقى نظرةً أخيرة على البار والمائدة الشهية، ثم همَّ بالذهاب، ولكنه قال له: أطفئِ النور حتى يأتيَ المدعوُّون.

فصدَع العجوز بالأمر وذهب. أمَّا هو فقد غاب هيكله النحيل في ظلمة المغيب، ومضى يرنو من خلال النافذة في الجدار المقابل إلى المقطَّم وراء النيل والحقول وشرقيِّ المدينة، وقال لنفسه: عيد ميلاد جديد، سبع شمعات رمزية، ما أكثرَ الأعوامَ وما أقلَّ من بقي من الأصدقاء!

وأغمَض عينيه وهو يُتمتم: تُرى ما عدد الأرغفة التي التهمتُها؟ وعدد الخِراف والعجول؟ والأفدنة من الخَضروات والبقول؟ والأمواج من مياه النيل؟ والسُّعرات الحرارية التي استهلكتُ في اللعب والعمل؟

وتثاءب طويلًا وهو يقول: سعيدٌ مَن يبلغ هذا العمرَ وهو مرتاح الضمير!

وأسلمَ للصمت ليستردَّ حيويته، وأعجبه أن يَسبح في صمتٍ عميق؛ لولا أنْ تناهى إلى سمعه حفيفُ ثوب أو تردُّد أنفاس. فتح عينَيه فرأى في وسط البهو تقريبًا عجوزًا مُهلهلَ الثياب، أعورَ حافيَ القدمين. تساءل: مَن؟

وأمعَن النظر، ثم قال بدهشة: جارنا القديم المسكين!

ولم ينبس العجوزُ بكلمة، فقال الرجل: ذكريات الصِّبا التي لا تُنسى، كيف صعدتَ إلى شقتي في الدور الخامس والثلاثين؟

لم يتكلم العجوز ولم تندَّ عنه رغبةٌ في الكلام، فقال: أدَفَعتْك الحاجةُ إلى المجيء؟

وانتظر عبثًا أن يتكلم، ثم تساءل: أتريد كالزمن الأول بعضَ النقود أو الملابس القديمة؟

تراجَع العجوز خطوات، فقال الرجل: خطرتَ على بالي مرَّاتٍ فظننتُك انتقلتَ إلى دار البقاء!

ولأول مرةٍ قال العجوز بصوتٍ بارد: لم يَخِب ظنُّك!

– حقًّا؟!

– حقًّا!

– كأنما جئتَ تحيةً لعيد الميلاد.

فقال بصوتٍ غليظ: عليك اللعنة!

– اللعنة؟

– وعلى جميع المجرمين!

وتراجع أكثرَ فاختفى تمامًا؛ اختفى قبل أن يُطفئ وَقْدة تساؤلاته، قبل أن يجلوَ سرَّ غضبِه عليه وتنكُّرِه لإحسانه. وتساءل: ماذا يقع في العالم الآخَر من أمور يشقُّ على عقولنا هضمُها؟

فجاءه صوتٌ ناعم يقول: ألا زلت تُكلم نفسَك كالمجانين؟

وتراءت أمامه في فستانها البيتيِّ الفضفاض تنضح صحةً وشبابًا. هتف بخوفٍ: أنتِ؟!

– دون غيرها وبجميع ذكرياتها …

– ذكريات أليمة، لم يبرأ قلبي بعدُ من عذاباتها.

– يا للعجب!

– وبسببها عافت نفسي الزواجَ فبقيتُ أعزبَ حتى النهاية.

– ولكنك لم تفعل إلا أنْ عَشِقتَني.

– رغم أنك كنتِ بمنزلة الأم، امرأة أبي.

– في مذهب العشق يجوز كلُّ شيء.

– ما زالت الجريمة تُنغص عليَّ صفوي.

– أتُسميها جريمة؟

– أنتِ التي أغريتِني!

– كِلانا أغرى صاحبَه.

– إنها ذِكرى الجحيم في حياتي.

– وهي أسعدُ ذكرياتي.

– يا لكِ من …

– امرأة طيبة، كما أنك إنسان طيب.

– أهذا يُمثل الرأيَ هناك؟

– كيف لم يبلُغك؟ .. عيد ميلاد سعيد.

وتوارت عن ناظريه. تبلبلَ فكرُه. رغم ذلك داخَلَه إحساسٌ دافئ بالارتياح، انجابت همومٌ ثقيلة، وقال لنفسه: مَن يدري؛ فلعلِّي بالغتُ أيضًا في محاسبة النفس عن غرَق ذلك الشابِّ المجهول …

سمع تنهُّدةً عميقة. رأى الشابَّ يقف عاريًا يُحملق في وجهه ويقول: تقول إنك بالَغت؟

فقال بأمل: بِتُّ أعتقد ذلك.

– يا لك من فاجر!

ترامَقا طويلًا حتى انقبَض قلبه، وقال الشاب: تركتَني أغرق يا نذل!

– لا ذنب عليَّ، أنت وحدك المسئول.

– غلبَني الموج وخانتني قُواي فاستغثتُ بك.

– لم أكن أُحسن السباحة …

– بل كنتَ تُحسنها بالقدر الكافي لإنقاذي .. ولكنك هربتَ يا قاتل …

– لا تقل ذلك، القانون نفسُه في ذلك العهد …

– القانون! إنَّ الغرقى في ذمَّة المتفرجين!

– حسبتُ أن ذلك الموقف قد تصوَّر لك في صورةٍ جديدة …

– ولِمَ يتصور في صورة جديدة؟

– هكذا انقلبَت الأحكام في عالمكم!

– لقد انقلبَت في رأسك بحُكم الخوف، وإني نادمٌ على مُخاطبتك …

وغادره على حالٍ من القلق فقدَ معها توازُنَه، اضطرب صدرُه وجاش بالمتناقضات وقال: أيُّ الأفعال خيرٌ وأيُّها شر؟ وكيف يهتدي ضميري في هذه الغابة المتلاطمة بالغرائب؟! آه لو كان أبي حيًّا!

وإذا بالصوت الذي طال انقطاعُه يقول: أشكر لك حُسن ظنك.

غضَّ البصرَ تجنبًا للمواجهة، وعقَلَ الخجلُ لسانَه فلم ينطق، وقال الأبُ بنبرة لم تخلُ من تهكُّم: أراك تستعدُّ للاحتفال بعيد ميلادك!

ولما لم ينبس سأله: ماذا يمنعك من الكلام؟

فأجاب بصوتٍ متهدج: الذنب، وإنه لكبير!

– أما زلتَ تذكر ذلك؟

– وكيف لي بالنسيان؟

– ولكني لم أحضر لإحياء ذكرياتٍ تافهة.

فتشجَّع قائلًا: لقد اختلَّ الميزان وانفرط العِقد.

– وترومُ الاهتداءَ إلى أساس مكين؟

– بكل ما أملك من قوة.

– حسن، ركِّز فِكرَك جيدًا وأجِب بأمانةٍ على ما أسألك عنه.

– ستجدني طوعَ أمرك يا أبي.

فهتف بإنكار: لستُ أباك!

– لستَ أبي؟!

– وتصوُّرك هذا يقطع بأنك ما زلتَ تعيش في عصر حجري!

– ولكنها علاقةٌ حقيقية لا يُنكرها أحد.

– بل علاقة خاصة تعيقك عن الرؤية الصحيحة.

شعر بأن عليه أن يُجاريَه، لا أن يُناقشه، فقال: معذرة عن خطأ وقعت فيه بحسن نية.

– أجبني، ما أهمُّ حدثٍ وقَع لك في طفولتك؟

– لا أذكر، لعلَّ طفولتي مرَّت دون أحداث تستحق الذِّكر.

– إجابة عمياء تُنذر بعواقبَ سخيفة.

– الحق أني …

– أجبني، ما أكبرُ خطيئة ارتكبتَها في شبابك؟

استعَدَّ ولم يُجب، فقال الرجل: ما زلت تخجل مما لا يدعو للخجل، وهو نذيرٌ بأنك ستُباهي بما يجدر بك أن تخجل منه.

– آسف …

– أجبني، كم شخصًا قتلتَ؟

– لم أقتل أحدًا والحمد لله.

– ألم يشرع أحدٌ في قتلك؟

– كلا، ماذا جعلك تظنُّ بي ذلك؟

تنهد الأبُ بصوت مسموع، فقال الرجل: عشت حياة طيبة …

– طيبة!

– لم يَشُبْها سوى أخطاء بسيطة، مثل ذلك …

– لا يهمُّني أن أسمع إلى أخطاء بسيطة …

– وقدَّمتُ للمجتمع خدماتٍ لا بأس بها.

– لا بأس بها!

– ما الذي يهمُّك حقًّا يا أبي؟

– أبي مرةً أخرى!

– معذرة!

– ذهب العمرُ هباءً …

– ماذا تريدني على أن أفعل؟

– يا لضيعة لقاءٍ ينتهي بالسؤال الذي بدأ به!

– لكنك لم تقل شيئًا.

– قلتُ كلَّ شيء.

واختفى الأب. اختفى دون أن تقع عليه عينُ الرجل، ولكنه شعَر بذَهابه وشعر بخيبة أمل مريرة.

غير أنها لم تَطُل؛ وجد نفسه يميل إلى تصديقه فيما قال مِن أنه قال كلَّ شيء، ما عليه إلا أن يستعيدَ أقواله.

ومضى يتذكر. وقال لنفسه: ليس هذا العيدُ كالأعياد السابقة؛ رأسي يدور، وينثر في دورانه ما استقرَّ فيه من أفكار، كل شيء يتطاير.

ومضى يتذكر. ولكنه عوجل بحضور الممرضة، تصافَحا بمودة. راقبَها وهي تُعدُّ الحقنة معجبًا بشبابها الغض.

خلع الجاكتة فحسَر كُمَّ القميص مُسلِمًا ذراعه، حقَنتْه وهي تقول: بالشفاء …

– شكرًا.

أعادت الحقنةَ إلى العلبة المعقَّمة فقال: ابقَي لتشتركي في حفل عيد ميلادي.

– ولكني لا أعرفُ المدعوِّين.

– رجلان وزوجتاهما، لم يبقَ سِواهم!

– ولكني لم أُحضر هدية.

– إنكِ أنت الهدية.

فأشارت إلى ثوب العمل المحتشِم وقالت: لستُ مستعدَّة.

– جميعنا في الحلقة السابعة والثامنة فتلكوني أنت صِلتَنا الحميمةَ بالحاضر …

وتردَّدَت بعض الشيء، فأمسك بمعصمها قائلًا: لن أدعَكِ تذهبين.

فجلسَت على المقعد التالي لمقعده وهي تبتسم. سألها: كل شيء على ما يُرام؟

– نحمده.

– متى تتزوجين؟

– في نهاية الشهر القادم.

– سأفتقدُكِ كثيرًا.

– ألم تشبَع بعد؟

وضحكَت، فابتسم ابتسامةً لا تخلو من فتور، وجاء المدعوُّون؛ الصديقان وزوجتاهما، صُفَّت الهدايا فوق الخوان، تُبودِلَت القُبلات، جَلجلَت الضحكات، تم التعارف بين السادة والممرضة، ملأ الرجلُ الكئوسَ بنفسه رغم مثول الخادم العجوز وراء البار، اختلطَت التهاني بالنِّكات بالأحاديث. اشترك الرجل في الحديث بنصفِ عقل، بدا رغم التظاهُر جادًّا أو متفكرًا، ولم يجلس كما جلسوا؛ جعل يَذْرع المكان حينًا، وحينًا يقف. وقال له الصديق الأول: اجلس، وقوفُك يُرهقنا.

وسألته زوجة الصديق الآخر: لِمَ لا تجلس؟

فابتسم ابتسامةً غامضة وقال: شيء يُحدثني بأنه عيد الميلاد الأخير.

وأكثرُ من صوت قال: فال الله ولا فالك.

فقال بإصرار: سوف يتبيَّن لكم صدقُ قولي.

فسأله الصديق الأول: ماذا بك؟

وقالت زوجته: لستَ كالعهد بك.

والتفتَت نحو الممرضة متسائلة: أهو على ما يُرام؟

فأجابت الفتاة: على خير حال.

فقال له الصديق الآخر: إذن فدَعْ ما لله لله، واجلسْ واهنأ بالعيد.

فقال الرجل: كلا.

– كلا؟

– قرَّرتُ أن أؤدِّيَ واجبي.

– أيُّ واجب يا هذا؟

– قبل أن تُفلت الفرصة إلى الأبد.

– إنه الويسكي بلا شك!

– لا وقتَ للهذر.

– ولكنها ليلةُ عيدك.

وقالت زوجة الصديق الآخر: صديقُنا ممتع، هذا كلُّ ما هنالك.

تحرك الرجل إلى الطرف الآخر من البهو، وضع قدمه على كرسي، اعتمد بثقله عليها، وجعل ينظر نحوَهم باهتمام، مُنقلًا بصرَه من وجهٍ لوجه، وقال: الأيام تمر، وأنتم تتقدَّمون في العمر، لا بدَّ من مواجهةٍ صريحة بينكم وبين الأيام.

فقال الصديق الأول ضاحكًا وهو يرفع كأسه: صحتك!

وقالت زوجة الصديق الآخر: عندي كلمة من الشعر المنثور، متى يُسمح لي بإلقائها؟

فقال الرجل بوجهٍ جاد: لا مُحدِّث غيري الليلة.

– ولكنها ليلةُ عيدك!

– الأخير!

– دعنا من هذه السيرة المزعجة!

– اسمعوا، لقد شهدتُ مُداولة قضائية، ثم فُوِّضتُ في التحقيق والحكم والتنفيذ!

– أراهن أن ذلك كلَّه سيتمخَّض عن فُكاهة رائعة!

– أشكُّ في ذلك كلَّ الشك.

فقال الصديق الأول: أقترح أن نُجارِيَه حتى النهاية.

فقال الصديق الآخَر: عظيم، اعتبِرْنا ماثلين في محكمتك!

– إنكم لكذلك، أردتم أم لم تريدوا.

– فماذا تروم منا؟

– قلتُ إن الأيام تمر، وإن الأعمار تتقدم، ولا بدَّ من مواجهة صريحة.

– لتكُن مواجهةٌ صريحة.

فأشار إلى الرجلَين وقال: أجيباني، كم شخصًا قتلتما؟

فضجُّوا بالضحك. انتظَر حتى سكتوا ثم قال: أجيباني، لِمَ لَم تتعرَّضا للقتل حتى الآن؟

فضجُّوا بالضحك مرةً أخرى، ولما ساد السكوت قال: أجيبا، لِم لَم تُسجَنا على الأقل؟

وقالت زوجة الصديق الآخر: ألم أقل لكم أنه سيتمخَّض عن فكاهة رائعة؟

فقال الرجل: إني مفوَّض لقتلِ مَن لم يُقتَل أو يُسجن!

فهتف الصديق الآخر: يا عدوَّ الأخيار!

وقال الصديق الأول: وأنت خبِّرنا متى قَتلتَ أو قُتلتَ أو سُجنت؟

وقالت زوجة الصديق الأول متضاحكة: ونحن ألا نستحقُّ القتل أيضًا؟

فقال الرجل بخشونة: نطقتِ بالحقِّ يا سيدتي!

– حقًّا؟!

– أنسيتَ الحب الذي ألَّف بيننا في الصبا؟

ولأول مرة تغير الجو. تجهَّمَت الوجوه في ذهول، وصاح الصديق الأولُ غاضبًا: أفَقَدت عقلَك وذوقَك؟!

فقال الرجل بتحدٍّ: لا مفرَّ من الحقيقة مهما طال الزمن، كان حبُّنا حقيقة ولكن تصادفَ أنك كنتَ ابنَ خالتها، فقيل إنك أَولى بها، وإذا بالحقيقة تنهارُ وتستسلم!

– مجنون، وضِّحْ لنا ما غَمُض من أمرك.

– انهارت واستسلمَت، لم تُقاوم، ثم استسلمَت مرةً أخرى فيما بعد، ها أنا أصارحُك بأننا — أنا وهي — اشتركنا في خيانتك زُهاء خمسة أعوام!

انتَتر الصديقُ الأول واقفًا، همَّ بالانقضاض على الرجل، ولكن الرجل أخرج مسدسه من جيبه، سَدَّده نحوه، ثم أطلَق النار، فخرَّ الصديقُ صريعًا وسَط هدير من الصراخ. حتى الخادم العجوز صرخ، وصاح الرجل ويدُه بالمسدس ترعش: ليلزَمْ كلٌّ مكانَه!

انكبَّت الزوجةُ فوق زوجها مجهشة في البكاء فتساءل ساخرًا: لِم تبكين؟ تزوَّجتِه على رغمك وخُنتِه بإرادتك، ما أقبحَ الدموعَ الجارية في أخاديد وجهك، أتودِّين اللَّحاق به؟

فصاحت في غضب: مجرم .. مجرم …

ولكنَّ رصاصةً استقرت في رقبتها قبل أن تُكمل كلامها، فتهاوت إلى جانب جثة زوجها مضرَّجة في دمائها. حملقَت فيه الأعينُ في فزع أخرس، فقال: أشهد أن القتل أكبرُ تحدٍّ لقضبان الحياة …

فقال الصديق الآخر بصوت سائب لا ضابط له: ماذا دهاك أيها الصديق الكريم؟ .. أنَسيتَ أننا جئنا للاحتفال بعيد ميلادك؟!

فقال مستردًّا ذاكرتَه من صدى الحدث: أنت أيضًا لم تَقتل ولم تُقتل …

فقال الصديق برعب: كسائر الملايين، وإلا ما بقي على وجهِها أحد، ماذا دهاك أيها الصديق الكريم؟

وقالت الزوجة وهي ترتعد: نحن أصدقاؤك، أنَسيتَ العمر الطويل؟ أنسيتَ مودةَ نصفِ قرن؟!

فحدَجَها بنظرة احتقار قائلًا: وأنتِ أيضًا، ما تزوَّجتِ منه إلا من أجل ثروته، أنتِ أيضًا استسلمتِ، لا أحد منكم يحترم المقاومة!

– أتُحاسبني على عواطفَ طفوليةٍ اندلعَت في قلبي منذ نصف قرن؟

– إني أعرف عشيقَكِ أيضًا!

– فلْيُسامحك الله.

وقال له الصديق متوسلًا: دعنا نذهب!

فسأله بازدراء: لِم لَم تغضب لعِرضك؟

– دعنا نذهب بحقِّ صداقة العمر!

– لقد بلَغْنا نقطةً لا يجوز التراجعُ عندها.

– أتقتل الأبرياءَ بالجملة؟

– لا يوجد بريءٌ واحد.

أخْفت الممرضةُ وجهها بين يدَيها، على حينِ هتف الخادم العجوز من وراء البار: سيدي .. اتقِ الله العظيم!

فقال الرجل بارتياح: أحسنتَ أيها العجوز.

وأطلق الرَّصاص مرتين، فسقط الصديق، ثم سقطَت زوجته. لم يَعُد يُسمَع إلا نحيب الممرضة الحسناء، فنظر الرجلُ نحوها وتساءل: لم قبلتِ الدعوة يا سيئةَ الحظ؟

فواصلت النحيبَ دون أن تجيب، فقال: لعله ضميرُك الذي أغراكِ بقَبولها؟

فقالت وهي تنشج: قَبِلتُها إكرامًا لك.

فقال متقزِّزًا: ولكنكِ تُبغضينني كالموت!

– أنا؟!

– أجل.

– لا تظلمني.

– اختلستُ مرةً نظرة إلى المرآة ونحن في غَمرة العناق، فرأيتُ الاشمئزازَ مطبوعًا على وجهِكِ كالقطران!

– أبدًا .. أبدًا.

– عرَضتُ عليكِ ذات يوم أن تَقْبلي الزواج مني ولكنكِ اعتذرتِ …

– كنتُ مخطوبة كما تعلم …

– أجل، والحق أني أكبَرتُكِ.

– ليس إلا أني كنتُ مخطوبة …

– ولكنكِ قبلتِ أن تكوني خليلتي نظيرَ مكافأةٍ من المال تستعينين بها على إعداد نفسكِ للزواج …

– سيدي …

– لم تُقاومي! ماذا يُبغِّض لكم المقاومة؟

– لكنك سعدتَ بقراري على أي حال!

– هذا حق؛ ولذلك فإني أحكمُ عليك بالإعدام.

وثَبَت الجميلةُ في استغاثةٍ فَزِعة، ولكن الرصاصة عاجَلَتها فهوَتْ على وجهها. أنزل قدمَه من فوق الكرسي وتقدَّم ببطء وهو يتفحَّص الجثث، ومد بصره إلى الخادم العجوز وراء البار، فتراءى شاحبَ الوجه بلون الموت، قال له: أيها العجوز الطيب، ما رأيُك فيما شهدت؟

لم يستطع الرجل أن ينبس بكلمةٍ فقال: بدأتَ الخدمة في بيتي شابًّا، وها أنت تقف كالغصن الذابل الجافِّ في أرذل العمر …

هز العجوز رأسَه دون أن ينطق فقال: كم أسأتُ إليك، حتى العذاب ذقتَه أحيانًا على يدي …

– سيدي …

– ولم يخطر لك مرةً واحدة أن تهجرَ بيتي …

– رغم كل شيء كنتُ طيب القلب.

– لا تكذب، كم تورَّطتَ معي فيما يليقُ وما لا يليق، كم شهدتَ هنا ألوانًا من الدَّعارة السافرة!

– أفضالك مع ذلك لا يمكن أن تُنسى …

– ولا مرة واحدة فكَّرتَ أن تُعاملني بما أستحق؟

– إني خادمك المطيع يا سيدي.

– لذلك أحكم عليك بالإعدام …

حاول العجوز أن يختفيَ وراء منصة البار، ولكن الرصاصة نفَذَت في رأسه. تنهَّد الرجل بعمق؛ تنهد بعمقٍ حتى ملأ صوتُ تنهدِه البهو …

•••

شعر بالضوء يشع وراء جفنَيه المغلقين ففتح عينَيه، رأى الخادمَ العجوز واقفًا والبهو متوهجًا بالضوء، فنزع نفسَه من جلسته المريحة وهو يقول: جاء المدعوُّون؟

فقال العجوز: جاءت الممرِّضة …

ذهب الخادم. دخلَت الممرضة مشرقةَ الوجه، تبادَلا ابتسامةً عريضة. خلع جاكتته وحسَر كمَّ القميص وهي تُعِد الحقنة، قالت: عام سعيد.

فقال وهو يُسلمها ذراعه: إني أدعوكِ للحفل الصغير.

فقالت وهي تمسح بقطنةٍ مبلَّلة بالكحول موضعَ الغز: أودُّ ذلك، ولكني على موعدٍ مع خطيبي.

– إني أدعوه معكِ، أرجو أن تُبلغيه ذلك …

– سيَسرُّه أن يُلبِّي دعوتَك؛ فهو لا ينسى مساعدتَك في نقله إلى القاهرة، ولكنه ليس على ما يُرام.

– مريض؟

– كلا .. ولكن حالته النفسية ليست على ما يرام.

– تلك أعراضٌ تمر، متى تتزوجان؟

– قريبًا على أيِّ حال.

– سأفتقدُكِ كثيرًا.

فضحكَت قائلة: حَذارِ، سأبدأ بالزواج حياةً جديدة!

– يا لك من استغلاليةٍ فاتنة؛ ولكني لن أنسى السعادةَ التي حظيتُ بها على يديك!

– أكرِّر التهنئة.

وذهبَت وهو يُتبِعُها عينَين. ثم أجال بصرَه في البهو؛ الأرض والمقاعد والبار، ثم تنهَّد بعمقٍ ونظر في الساعة ثم تمتم: رحلةٌ طويلة حقًّا في أقلَّ من خمس دقائق!

ومضى يَذْرع البهو، ولكنَّ الانتظار لم يَطُل، فما لبث أن جاء المدعوُّون؛ رجلان وامرأتان في الحلقتَين الثامنة والسابعة، صُفَّت الهدايا فوق الخوان، تُبودِلَت القُبلات، اتخذوا مجالسهم، ومضى الرجل يملأ الكئوس بنفسه.

– لم يبقَ إلا نحن الخمسة.

– ليرحَم الله الراحلين.

وقالت زوجة الصديق الأول: ثَمة تنبيه هام أسوقه حرصًا على سهرتنا الغالية.

– ألا وهو؟

– منعُ الكلام في السياسة أو الحرب.

– عين الصواب.

– إنه يمتصُّ الحيوية، يجعل من السمَر حديثًا مرهقًا، يدفع إلى طريق مسدود، لنرحمْ أنفسنا هذه الليلة …

– أشكُّ في إمكانِ تحقيق هذا المطلب البريء، سنتظاهر بالامتثال، وسنتحدَّث في هذا أو ذاك من الموضوعات، ثم نجد أنفسَنا ونحن لا ندري في الجبهة.

– وحتى إذا وُفِّقنا إلى اختيار موضوعٍ ما، فلن نلبثَ أن نجد الكلام لَغْوًا لا معنى له ولا طعم، وإننا في الواقع إنما نهرب من الحديث الوحيد المقضيِّ به علينا، ولن نجد بُدًّا في النهاية من الرجوع إلى الجبهة، وتتشعَّب الآراء والاحتمالات، وتتطاحن فروض الحرب والسلم، وتمضي الليلة ونحن غائصون في شَركٍ حفرناه بأيدينا.

فقالت المرأة بإصرارٍ: إذن فلْأُنصِّب من نفسي مَلاكًا حارسًا للسهر، أُطلق صَفَّارة إنذار كلما آنستُ ميلًا نحو الحديث الأبدي.

– تجرِبةٌ لا بأس بها، ولكني أتنبَّأ بالفشل من قبل أن تبدأ …

– صحتكم.

– صحتك.

– ولكن ما بالُ صاحب العيد يبدو شاردًا؟

– أنا؟

– أجل .. يوجد شيء في رأسك الكريم.

فضحك قائلًا: الحق أني حلمتُ حلمًا غريبًا.

– خير إن شاء الله.

– ولكن ماذا أقول؟

– قلْ ما رأيتَ، ونحن على تأويل الرؤيا قادرون.

فقال وهو يرمقُهم بنظرةٍ غريبة: رأيتُ أنني قتلتُكم جميعًا رميًا بالرصاص.

ضجُّوا جميعًا بالضحك.

– خيرُ ما فعلت؛ فإننا أصبحنا كالخيل القديمة تُرمى بالرصاص على سبيل الرأفة.

– وكنتُ أقتل وأنا في غايةٍ من المرح …

– يمكن تفسير الأحلام بأضدادها؛ فمعنى الحلم أن تتمنَّى لنا طول العمر.

– عظيم.

– أما إذا اعتمَدنا في تفسيرنا على العلم، على فرويد مثلًا، فسنكشفُ عن رغبات جنسيةٍ مكبوتة لا يَحسُن الجهر بها …

– ما كان في الوُسع أن أكبِتَها طيلةَ ذاك العمر.

– صحتك.

– صحتكم.

– وحتى النساء؟

– حتى النساء!

– يخونك العيش والملح.

– حتى الخادم العجوز والممرضة!

– لم يكن حُلمًا؛ ولكنه كان استمرارًا لأحاديث الحرب.

– لعلَّه.

– ولكن لم تفضَّلتَ بقتلِنا؟

– لم أعُد أذكر، فسرعان ما تُنسى تفاصيل الأحلام.

– تذكَّر السبب؛ فإننا نتوقَّع أن يكون طريفًا …

– لا أظن.

– لا شك أننا تحدَّيناك بطريقةٍ ما؟

– ربما.

– ماذا فعلتَ بعد أن أجهزتَ علينا؟

– لا أذكر.

– ألم تشعر بالندم؟

– لا أظن.

– اسمح لي أن أقول لك …

ولكن الخادم العجوز دخَل ليُعلن عن حضور الممرِّضة وخطيبها. وذهب فجاءت الممرضة يتبعُها خطيبُها، وتم التعارف على يد الرجل، واتخذ القادمان مجلِسَيهما متجاورَين، والشابُّ يبتسم ابتسامةً ودودة ربما ليُخفيَ كآبةً لم ينجح في إخفائها، وقدَّم لهما الرجل كأسين وهو يقول: صحتكما.

وقال لهما الصديق الأول: نشكركما على حضوركما؛ فإن مجلسنا يحتاج إلى دمٍ جديد.

فقال الرجل: إنها شابة ممتازة، وهو شابٌّ ممتاز، ولكنه يبدو على غير ما يُرام.

فقال الشاب: إني على خيرِ حال يا سيدي.

– حقًّا؟! .. ما رأيُكِ يا آنسة؟

فقالت بشيءٍ من الحزن: إنه كما تقول يا سيدي، ولكن لا يجوز أن نُكدِّر صفْوَ الحفل بهمومنا.

وسأل الصديق الثاني: أهو مريض؟

– كلا يا سيدي؛ ولكن ينتابهُ من آنٍ لآنٍ شعورٌ مجهول بالكآبة.

– كيف تنتاب الكآبةُ مَن أنتِ خطيبتُه؟

فقال الشاب محتجًّا: إني بخير.

فقال الرجل: لستَ كما تقول …

– سيدي .. لا يجوز أن نُكدر صفْوَكم …

– صارِحْني يا بني؛ فإني بمنزلة الوالد.

وقالت زوجة الصديق الأول: لعلنا نجدُ في حديثك ملاذًا من حديثٍ آخَر يُطاردنا … وتساءل الصديق الثاني: ما علَّة كآبتك؟

فأجابت الممرضة: بلا سبب.

وتساءل الصديق الأول: لعله خلافٌ في العمل؟

فأجاب الشاب: لا شيءَ البتَّة.

– أو بوادرُ قلق مما يخطر للمحبِّين؟

– لا شيء البتة يا سيدي.

ولم تملك الممرضةُ أن قالت: قال لي ونحن في الطريق إلى هنا: إن الانتحار فكرةٌ طيبة!

فهتف الشاب: أتُعيدين كلمةً ردَّدتُها بلا قصد ولا معنًى؟

– لقد خفتُ خوفًا حقيقيًّا …

– ما أغربَ أطوارَك!

– اعذرني …

– إننا نُفسد الجو.

فقال الرجل: لا داعي للحرج يا بُني؛ فأنا نفسي حلمتُ منذ حينٍ بأني قتلتُ جميع المدعوِّين بما فيهم خطيبتك، وحتى خادمي العجوز …

وضجَّ المدعوُّون بالضحك، حتى الشاب ابتسم، وقال الرجل: اشربْ كأسك، اطرُدْ عنك الحرَج، وصدِّقني فإني أرحِّب بك ترحيبًا خاصًّا، وأشعر بأنك تُشاركني في موقفي الغريب.

والتفت الرجل نحو أصحابه وقال: معذرة، فإني أتوهَّم أن لديَّ كلمةً طيبة يحسن أن تُقال لصديقنا الشاب، فاستمتِعوا بوقتكم دون تأجيل …

فقال الصديق الأول: إني أتوقَّع حديثًا طريفًا جديرًا بالمتابعة، وبخاصةٍ وأنه لا يحرم الأكل أو يمنع الشرب!

فنظر الرجل نحو الممرضة وقال: أنتِ مسئولة، كيف ترَكتِه يغرق في الكآبة؟

فقالت الممرضة: أعتقد أننا سُعداء، أو هذا ما اعتقدتُه …

فسأل الرجل الشابَّ: لِمَ أنت كئيب؟

– إنها تُبالغ يا سيدي.

فقالت الممرضة: لم أُبالغ قط.

فقال الرجل: نحن في الدور الخامس والثلاثين، وقد لقَّنَني ذلك حكمة …

فسأله الصديق الثاني ضاحكًا: ألذلك علاقةٌ بجريمة قتلِنا؟

وأخذ الرجلُ الشابَّ من يده ومضى به إلى النافذة، ثم قال: من هذا الموضع المرتفع ترى أكثرَ من نيلٍ يجري في القاهرة …

فقال الشاب: منظرٌ عجيب حقًّا، ولا شك أنه في أثناء النهار أعجب.

– من هنا ترى الحدائقَ كأنها أشكالٌ هندسية دقيقة، مرسومةٌ على سطح من الورق …

– ربما .. ولكن أرجو ألا تُصدِّق أني فكرت حقًّا في الانتحار.

– السيارات لُعَب أطفال، الناس فئران، أما الجبل والمساكن فبناءٌ هائل متَّصل التكوين تنبثقُ منه هنا وهناك قِبابٌ ومآذن، الطرقات تختفي تمامًا، كما يختفي تفرُّد الناس وتميزُها، ولا أثر يظهر لهمومها ومشاكلها، وأفراحها وأتراحها.

– ما أعجبَ ذلك كلَّه!

– ما أجملَ أن نتعامل مع الشمس والهواء والعلو! .. أيُضايقك حديثي؟

– أبدًا، أخشى أن يُضايقك وجودي …

وقالت زوجة الصديق الأول: ارفعْ صوتَك قليلًا يا عزيزي؛ فنحن أيضًا في حاجةٍ إلى كلمتِك الطيبة.

فقال الرجل للشاب: إني سعيدٌ بك، ولعلي أستطيعُ أن أُقنعك كما أقنعتُ نفسي بالحياة فوق كلِّ شيء!

– فوق كل شيء؟

– أعني أن تنظرَ إلى همومك من فوق، كما تنظر إلى المدينة تحتَك فتراها أشكالًا مجردةً لا فاعلية لها.

فهتف الصديق الثاني: أحسنتَ أيها الحكيم.

ولكن الشاب قال: هذه خاطرةٌ قد تخطر أحيانًا للمثقَل بالهموم للراحة، ولكن لا موضعَ لها بين الحقائق.

فقالت زوجة الصديق الثاني مخاطِبةً الشابَّ: إنها وصفةٌ مجرَّبة، فلا تستهِن بها يا عزيزي.

وقال الرجل: أجل .. لا تستهن بها، ما أجملَ أن نحيا فوق كل شيء!

– ولكننا خُلِقنا لنعيش تحت.

– ألا تستطيعُ أن ترتفع؟

– لا أظن، الملايين تُعاني تحتنا.

– لا يُغير ذلك من جوهر الحقيقة.

– أشكُّ في ذلك يا سيدي.

فأشار الرجل إلى المدينة المرصَّعة بالأضواء وقال: هنا وهناك، تقع أحداث؛ تنشأ علاقات، تتفجَّر خصومات، أمَّا بالنسبة للراصد من هذه النافذة فلا يحدث شيءٌ على الإطلاق!

– لعله ضعفُ رؤية يا سيدي!

فضجَّ البهوُ بالضحك، وضحك الرجلُ أيضًا وقال: الشباب مرحلة خطيرة، يأنفُ من المهادنة ويسخر من الحِكمة، فليس أمامَه إلا إحدى طريقين؛ فإما الانتحار أو الثورة.

وتساءل الصديق الأول: والحب، أليس طريقًا أيضًا؟

ولكن الشاب تساءل: الانتحار أو الثورة؟

– وكلاهما شيءٌ واحد للراصد من النافذة.

– النافذة!

– نبرتك ساخرة! خبِّرني بصدقٍ عمَّا جاء بك إلى هنا.

– المشاركة في عيد ميلادك …

– وماذا أيضًا؟

– ربما رغبتُ أيضًا في شيءٍ من الراحة.

– علامة سيئة.

– سيئة؟

– تقطع بأنك غارقٌ في الهموم.

– لا تخلو حياةٌ من ذلك.

– المهم هو موقفُنا منها، أليس كذلك؟

– أن نُواصل الصراع.

– أرجو ألا تُردِّد أمامي شعاراتٍ محفوظة.

– لا أخجل من ترديد الشعارات إذا كانت مُجدِية.

– وأنا رجل مجرِّب، وقد حققتُ لنفسي نصرًا على الدنيا، ومن واجبي أن أُفضِيَ بالسر لمن هو في حاجةٍ إليه.

– أشكرك.

– ألا تُصدِّقني؟

– إني متلهِّف على معرفة السر.

وقال أكثرُ من صوت: ونحن متلهفون أيضًا.

فقال الرجل: في الأصل كانت الهموم.

– في الأصل؟

– بدأَت التجربةُ والهموم تقصم ظهري.

– أي هموم من فضلك؟

– لا أهمية لذلك، الفراق .. العقوق .. الدنس .. أشجان الوطن .. زلزالٌ في يوغسلافيا، لا تهتمَّ بالأسماء، كانت الهموم قد قصَمَت ظهري.

– وبعد؟

– استولى عليَّ الإعياءُ والإرهاق، وذات يوم وجَدتُني أطلُّ على المدينة من هذه النافذة، عند ذاك أُلهِمت الحقيقةَ دفعةً واحدة …

– الحقيقة؟

– وهي أن الهموم لا وجود لها.

– أين ذهبت؟

– لم أرَ إلا مدينة مجردة.

– المدينة نفسها تختفي إذا ارتفعتَ درجةً مناسبة.

– مدينة مجرَّدة ولا أثرَ للهموم.

– محضُ خيال.

– أبدًا.

– الواقع أن الهموم تستقرُّ في أعماق نفوسنا.

– ولكنها تتلاشى إذا نظرتَ من عَلُ.

– مطلبٌ مستحيل.

– ولكني حقَّقتُه وانتصرت.

– أتعني أنه لم يَعُد يحزنك شيء؟

– بلى …

– هذا يعني أنك لم تَعُد من البشر.

– أكرر التحذيرَ من ترديد الشعارات.

– ولكنها الحقيقة.

– لا حقيقة إلا تجرِبتي الظافرة.

– تخيَّل — لا سمح الله — أنك فقدتَ أعزَّ ما تملك.

– جرَّبتُ أفظعَ من ذلك، أتحدَّاك أن تُميز من موقفك هذا بين القبر والبيت.

– ذاك عزاءٌ عقليٌّ لا شأن له بالأعصاب.

– الأعصاب تُذعن في النهاية للنافذة.

– لا أصدِّق …

فقالت زوجة الصديق الثاني: يجب أن تُصدِّقه.

فقال الشابُّ للرجل: إنه يعني لو صحَّ أنك لم تَعُد حيًّا.

– أو أنني أحيا فوق قمَّة الحياة.

– لعلك لم تعرف ضَراوة الحياة الحقيقية.

– عُجِنتُ بها وخُبِزت.

– إذن فأنت أسعدُ رجل في العالم.

– نحن نتحدَّث عن الحكمة لا السعادة.

– قد تكون حكيمًا ولكنك — ومعذرةً — لستَ حيًّا.

– ما زالت أنفاسي تتردَّد.

– حِكمتُك خَليقة بقتل بواعثِ الحياة الحقيقية.

– ها قد عُدنا إلى الشعارات.

– بقتل التقدُّم.

– لم أُخِلَّ يومًا بواجب.

– ولِمَ تؤدي أيَّ واجب؟

– لأنني حيٌّ ولأنه واجب!

– إنك تطرح علينا لغزًا؟

– بدأتَ تفهمُني.

– ولكنَّ حديثك يُخاصم الواقعَ ويبدو معقدًا غيرَ مفهوم.

– قولك هذا يمكن أن يَصدُق على أي شيء في الحياة.

– يؤسفني أنني لا أستطيع الإفادةَ من حِكمتك.

– أعترف لك بأنني قلقتُ عندما وقع بصري عليك.

– لِم؟

– شيء حدَّثني بأنك مُقْدِم على شيء خطير!

– أيُّ شيء هذا؟

– أصارحك بأنَّ خاطر الانتحار خطر لي.

– فكرة بعيدة عن الواقع بُعْدَ هذه النافذة عن الأرض.

– ولذلك أطْلعتُك على السر الذي يقتل فكرةَ الانتحار.

– شكرًا، لا حاجة بي إليه، ثم إنَّ لي وسائلي الخاصة.

– عظيم .. عُد إلى مجلسك واشرَب.

وتأهَّب الجميع لشتى التعليقات. أمَّا الرجل فلم يبرح مكانَه أمام النافذة، ثم صعد فوق مقعدٍ قريب.

أشاعت حركتُه الدهشة، فتساءل الصديقُ الأول: أتنوي إلقاء خطبة؟

من موقفه فوق المقعد انتقل بخفةٍ لا تُناسب سِنَّه إلى حافة النافذة، فوقف عليها مستندًا بيديه إلى ضلعَيها. وقف الجميعُ في ذهولٍ، وصاح أكثرُ من صوت: ماذا تفعل؟! .. احترس …

في اللحظة التالية رأَوه وهو يرمي بنفسه في الفضاء، فيختفي بسرعةٍ خاطفة، مخلِّفًا وراءه صرخةً محشرَجة كالعُواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤