الفصل الأول

علم الاستنتاج

التقط شيرلوك هولمز زجاجته من فوق زاوية رفِّ المِدفأة، وحُقنته من داخل غلافها الأنيق المصنوع من جلد الماعز. وبأصابعه البيضاء الطويلة المتوتِّرة ضبط سنَّ الحقنة الرفيع وشمَّر كُمَّ قميصه الأيسر. لوهلةٍ تأمَّل ساعده ورُسغه القوِيَّين اللَّذين تُغطيهما علامات وندوب حُقَن لا تُعدُّ ولا تُحصى. وأخيرًا، غرَس سنَّ الحقنة في مكانه، وضغط على مكبسها الصغير، ثم استرخى في مقعده المكسو بالمخمل وتنهَّد تنهيدةَ ارتياحٍ طويلة.

لشهورٍ عدة، شهدتُ هذا المشهد يحدُث ثلاثَ مرَّات يوميًّا، ولكنَّ تكراره لم يجعل عقلي يتقبله بأيِّ شكلٍ من الأشكال، بل على العكس، كان استيائي من المنظر يزداد يومًا بعد يوم، وظلَّ ضميري يُؤرِّقني كلَّ ليلة عندما تُراودني فكرة أنني لا أملك الشجاعة الكافية لأُبدي اعتراضي. أقسمتُ مرارًا وتكرارًا أن أُعبِّر عن رأيي في هذا الأمر، ولكن أسلوب رفيقي كان به من البرود واللامبالاة ما يجعله آخِرَ من تُريد الحديث معه بِحُريَّة بشأن أي أمرٍ شخصي؛ فالقدرات العظيمة التي يتمتَّع بها، وأسلوبه البارع ومعرفتي بصفاته الكثيرة الاستثنائية، كلها جعلتني أهابُ وأتراجع عن فِعل ما يُضايقه.

لكن في عصر ذلك اليوم، وربما من أثَرِ النبيذ الفرنسي الفاخر الذي تناولتُه مع الغداء أو حنَقي الزائد الذي أثاره أسلوبه الشديد التروِّي، شعرتُ فجأةً أنَّني لا أستطيع أن أكتُم الأمر بداخلي أكثر من ذلك.

سألته: «أي نوعٍ اليوم؟ مورفين، أم كوكايين؟»

رفع عينَيه بوهَنٍ عن المُجلَّد القديم المكتوب بأحرفٍ سوداء الذي كان قد فتحه، وأجاب: «إنه كوكايين؛ محلول تركيزه سبعة بالمائة. هل تودُّ تجربته؟»

أجبتُ بجفاء: «بالطبع لا، فجسدي لم يَتعافَ بعدُ من آثار الحملة الأفغانية. ولا أستطيع أن أُحمِّله أي جهد إضافي.»

قابل حدَّتي بابتسامة، وقال: «قد تكون مُحقًّا يا واطسون. أعتقد أن تأثيره على الجسم سيئ. ولكني أجده مُحفِّزًا جدًّا ومفتِّحًا للعقل لدرجةٍ تجعل من آثاره الجانبية أمرًا ثانويًّا.»

قلتُ بجدِّية: «لكن فكِّر في الأمر! احسب التكلفة! قد يُثير عقلك ويُحمِّسه كما تقول، لكنك تدفع مُقابل ذلك من عافيتك؛ فهو يتسبَّب في تغيُّرٍ زائد في الأنسجة وقد يُسبِّب فيما بعدُ ضعفًا مستديمًا. وأنت تعلم أيضًا كيف يجعلك مُتجهِّمًا. الأمر لا يستحقُّ العناء بالتأكيد. فلماذا تُغامر بفقدان قُدراتك العظيمة التي مُنحتَ إيَّاها مقابل مجرَّد لذَّةٍ عابرة؟ تذكَّر أني لا أُحدِّثك باعتباري فقط صديقك ولكن باعتباري طبيبًا مسئولًا عن صحتك بشكلٍ أو بآخَر.»

لم يبدُ أنه شعَرَ بالإهانة ممَّا قلت. بل على العكس، لامس أطراف أصابع يدَيه معًا وأسند مرفقَيه على ذراعَي كرسيِّه كمن يتُوق إلى الحديث وقال: «إن عقلي يثُور على الركود. أعطِني مُشكلات، أعطِني ما يشغَل عقلي، أعطِني أعقَدَ الشفرات لأَحُلَّها أو أصعبَ التحليلات، وسأكون في وضعي الطبيعي. حِينها يمكنني التخلِّي عن المُحفِّزات الاصطناعية. ولكنِّي أمقتُ رُوتين الحياة الطبيعية المُملَّ، وأتُوق إلى النشاط الذهني؛ ولهذا اخترتُ هذه المهنة على وجه التحديد، أو بالأصحِّ ابتكرتُها، فأنا الوحيد في العالم الذي يَمتهِنُها.»

رفعت حاجِبيَّ مُندهشًا وتساءلت: «أنت المُحقِّق غير الرسمي الوحيد؟»

أجاب قائلًا: «المُحقِّق الاستشاري غير الرسمي الوحيد؛ فأنا بمثابة أحدَثِ وأعلى محكمة استئناف في مجال التحقيقات. فعندما يُواجِه جريجسون أو ليستراد أو أثيلني جونز أمرًا يفوق حدود قُدراتهم — وهو ما يحدُث عادةً بالمناسبة — يضَعُونه بين يديَّ. فأفحَصُ أنا البيانات، بطريقة الخبراء، ثُمَّ أُطلق حُكمي كمُتخصِّص. لكني لا أنسِبُ الفضل لنفسي في هذه القضايا، ولا يظهر اسمي في أية جريدة. فأعظم مُكافأة لي هي العمل في ذاته، ومُتعة إيجاد مجال أمارس فيه قدراتي المُتميِّزة. أنت نفسك شهدتَ أساليبي في العمل في قضية جيفرسون هوب.»

قلتُ بمودَّة: «نعم بالطبع، ففي حياتي لم أنبَهِر بشيءٍ أكثر من ذلك، حتى إنني دوَّنت أحداثها في كُتيِّبٍ صغير ومنحتُها عنوانًا غريبًا بعض الشيء وهو «دراسة في اللون القرمزي».»

هزَّ رأسه بأسًى قائلًا: «لقد ألقيتُ نظرةً عليه، وبصراحة، لا أستطيع أن أُهنِّئك عليه؛ فعمل التحقيق في الواقع علمٌ دقيق، أو يجِب اعتباره كذلك، ويجِب أن يُعامل من هذا المنطلق ببرودٍ بعيدًا عن المشاعر. أما أنت فقد حاولتَ أن تُضفي عليه مسحةً رُومانسية، وكانت النتيجة تُشبِهُ محاولة إقحام قصَّةِ حُبٍّ أو قصة فرار حبيبَين في الفرضية الخامسة لإقليدس.»

اعترضتُ قائلًا: «لكنَّ الأمر لم يَخلُ من الرومانسية، وأنا لم يكن بإمكاني التلاعُب بالحقائق.»

«بعض الحقائق يجِب طمسُها، أو على الأقل مُعالجتها بقدْرٍ من التوازن. فالنقطة الوحيدة التي تستحقُّ الذكر في القضية هي الاستدلال التحليلي الدقيق الذي أوصَلَني من الآثار إلى الأسباب، ونجحتُ بفضلِهِ في حلِّ القضية.»

أغضبَني هذا النقدُ لعمَلِي الذي كتبتُه خصيصًا من أجل إسعاده. وأعترف أيضًا أنني انزعجتُ من أنانِيَّته التي كانت تُطالبني أن أُكرِّس كلَّ سطرٍ في الكُتَيب للحديث عن أفعاله المُميَّزة. فقد لاحظتُ أكثر من مرة خلال السنوات التي عشتُها معه في شارع بيكر أنَّ أسلوب صديقي الهادئ التعليمي يتخلَّله قدْرُ من الغرور. على أيَّةِ حال لم أُعلِّق على كلامه، وجلست أُمرِّض ساقي المُصابة؛ فقد أُصِبتُ فيها برصاصةٍ من بندقية قنصٍ منذ زمن، ومع أنها لم تَعُقْني عن المشي، كانت تؤلمني بِشدَّة مع كلِّ تغيُّرٍ في الطقس.

قال هولمز بعد بُرهة وهو يملأ غليونه القديم المصنوع من جِذْر الورد البرِّي: «لقد امتدَّ نشاطي مؤخرًا إلى باقي أنحاء أوروبا؛ ففي الأسبوع الماضي طلَبَ استشارتي فرانسوا لو فيلارد، الذي برَزَ مؤخَّرًا على ساحة خدمات التحقيق في فرنسا كما تعلم. هو يمتلك سُرعة البديهة التي تُميِّز أجداده السلتِيِّين لكن تنقُصه المعرفة الدقيقة في المجالات الواسعة التي يحتاجها لتطوير حرفته أكثر. كانت القضية تدور حول وصية، وكان بها بعض السِّمات المُثيرة للاهتمام. استطعتُ أن أُحيله إلى قضيتين مُشابِهَتَين؛ واحدة حدثت في ريجا عام ١٨٥٧ والثانية في سانت لويس عام ١٨٧١، قادَتاه إلى الحلِّ الصحيح. وهذا هو الخطاب الذي تَلقَّيتُه هذا الصباح للإشادة بمُساعدتي.» وبينما يتحدَّث ألقى إليَّ بورقةٍ مُجعَّدة من دفتر مُلاحظات أجنَبي. مررتُ بِعَينَيَّ عليها، ولمحتُ وفرةً من عبارات الإعجاب وكلماتٍ فرنسية مُتناثرة في كلِّ مكان، مثل «رائع»، و«ضربة بارعة» و«قُدرات مُذهلة» في مواضعَ مُتفرِّقة تشهَدُ جميعها على إعجاب الفرنسي الشديد.

قلت: «إنه يتحدَّث إليك مِثل الطالب إلى مُعلِّمه.»

قال باستخفاف: «إنه يُبالِغ في تقدير مُساعدتي، فهو لدَيه مواهِب كبيرة؛ فهو يمتلك اثنتَين من الخِصال الثلاث للمُحقِّق المِثالي؛ فلدَيه قوة الملاحظة، والقُدرة على الاستنتاج، ولكنه يفتقِر فقط إلى المعرفة، وهذه يُمكن أن تأتي مع الوقت. وهو يُترجِم حاليًّا أعمالي البسيطة إلى الفرنسية.»

«أعمالك؟»

صاح ضاحكًا: «ألا تعرِف؟ نعم، فأنا أعترِف بأني كتبتُ عدَّة دراسات، وكلها تدور حول موضوعاتٍ تقنية. فهذه، على سبيل المثال، دراسة حول التمييز بين رماد الأنواع المُختلِفة من التبغ. وفيها أدرجتُ مائةً وأربعين نوعًا من تبْغ السيجار والسجائر والغليون، وبها صُوَر ملوَّنة تُوضِّح الفرق بين رماد كلٍّ منها. فهذه نقطة تُثار باستمرار في المُحاكمات الجنائية، وأحيانًا تكون ذات أهمية قُصوى باعتبارها دليلًا. فإذا استطعتَ الجزْم، على سبيل المثال، بأن مُرتِكب الجريمة كان يُدخِّن سيجار لونكا الهندي، فسيُضيِّق ذلك مجال البحث بكلِّ تأكيد. وبالنسبة إلى العين المدرَّبة، فإنَّ الفرق بين الرَّماد الأسود لسيجار تريكينوبولي والزغب الأبيض الذي يُخلِّفه تبغ بيردز آي؛ كالفرق بين الكُرنْب والبطاطس.»

قلتُ له: «أنت تتمتَّع بموهبةٍ فذَّة في التعامُل مع أدقِّ التفاصيل.»

«أنا أُقدِّر أهميتها. وهذه هي دراستي حول تَقَفِّي آثار الأقدام، وبها بعض الملاحظات حول استخدام جبس باريس في حفظ الآثار. وهذه أيضًا دراسةٌ صغيرةٌ مُثيرة للاهتمام حول تأثير المِهنة على شكل اليدَين، وألحقتُ بها بصمات يدَين لبنَّائي أسقُف، وبحَّارين، وقاطِعي فلِّين، ومُنسِّقي طباعة، ونسَّاجين، ومُلمِّعي ألماس. فهذا أمر ذو أهميةٍ عمليةٍ كبيرة للمُحقِّق العلمي، وخاصةً في القضايا التي تتضمَّن جثثًا لم يتعرَّف عليها أحد، أو في اكتشاف سوابق المُجرمين. لكنِّي أُضجِرُك بالحديث عن هوايتي.»

أجبتُ بجدِّية: «على الإطلاق، إن هذا يُثير اهتمامي كثيرًا، خاصةً بعد أن تسنَّى لي أن أُشاهد تطبيقك العمَلِيَّ له. ولكنك كنتَ تتحدَّث الآن عن الملاحظة والاستنتاج؛ وهما نوعًا ما وجهان لعُملة واحدة.»

أجابَ وهو يتَّكئ في مقعده الوَثير وينفُثُ دُخانًا أزرق كثيفًا من غليونه لأعلى: «ليس تمامًا. فعلى سبيل المثال، لقد علمتُ من الملاحظة أنك ذهبتَ هذا الصباح إلى مكتب بريد شارع ويجمور، ولكن الاستنتاج يجعلني أعرف أنك أرسلتَ برقيَّةً من هناك.»

قلت: «هذا صحيح! أنت مُحقٌّ في النقطتَين! ولكنَّني أعترف بأني لا أفهم كيف توصَّلتَ إلى ذلك. لقد كان قرارًا مُباغِتًا من جانِبي ولم أُخبِر به أحدًا.»

ردَّ ضاحكًا من دهشتي: «الأمر بسيط جدًّا، بسيط لدرجةِ أنه لا يستلزِم شرحًا؛ ومع ذلك قد يُساعد في تعريف حدود الملاحظة والاستنتاج. لقد علمتُ من الملاحظة أن ثَمَّة القليل من التراب الأحمر اللون يلتصِق بنعل حذائك. وقُبالة قِسم شارع سيمور بدَءوا في رصف الشارع فوَضعوا الطين بطريقة تجعل من الصعب تفادي المشي فوقَه عند الدخول. وذلك الطين له هذا اللون الأحمر المميَّز نفسه الذي لا يُوجَد — على حدِّ علمي — في أي مكانٍ آخر في هذا الحي. إلى هنا ينتهي دور المُلاحظة، أما الباقي فهو استنتاج.»

«كيف استنتجتَ أمر البرقية إذن؟»

«حسنًا، أنا أعرف بالطبع أنك لم تكتُب خطابًا، وهذا لأني أجلس أمامك طوال النهار، وأرى أيضًا في مكتبك المفتوح ورقةً من الطوابع ورزمةً سميكة من البطاقات البريدية. فما الذي يدفعك إذن إلى الذهاب إلى مكتب البريد إلَّا لإرسال برقية؟ إذا استبعدتَ جميع العوامل الأخرى، ستجِد المُتبقِّي هو الحقيقة.»

فكرتُ قليلًا ثم قلتُ: «هذا صحيح في هذه الحالة. لكن كما قلت، هذا أمر بسيط. فهل ستعتبرني وقحًا إن وضعتُ نظرِيَّاتك أمام اختبارٍ أصعب؟»

أجاب: «على العكس، هذا سيمنعني من أخذ جرعةٍ أخرى من الكوكايين. سيُسعدني للغاية النظر في أية مشكلة تطرحها عليَّ.»

«لقد سمعتُك تقول إنه من الصعب أن يمتلك المرء غرضًا يستخدمه يوميًّا دون أن يترك أثرًا شخصيًّا عليه تستطيع العَين المدرَّبة ملاحظته. والآن أنا معي هنا ساعة جيب حصلت عليها مؤخرًا. هلا أخبرتَني عن شخصية صاحِبِها السابق أو عاداته؟»

ناولتُه الساعة وأنا أشعر بقدْرٍ من الاستمتاع؛ فقد كان هذا الاختبار، من وجهة نظري، مُستحيلًا، وكنت أنوي استخدامه لتلقينِهِ درسًا أمام نبرَتِهِ الواثقة التي يتحدَّث بها أحيانًا. وازن الساعة في يدِه وحدَّق في مِينتها، ثم فتَحَها من الخلف وفحَصَ أجزاءها الداخلية، أولًا بعينه المُجرَّدة ثم بعدسةٍ محدَّبة قوية. منعتُ نفسي بصعوبة من الابتسام عندما ارتسمَتْ على وجهه خَيبة الأمل وهو يُغلِق عُلبتها أخيرًا ويُعيدُها إليَّ.

قال مُعقِّبًا: «لا أكاد أجِدُ أيَّ بيانات؛ فقد تعرَّضَتِ الساعة مُؤخَّرًا للتنظيف، وذلك حرَمَني من الحقائق الكاشفة.»

أجبتُه: «هذا صحيح، فقد نُظِّفَت قبل أن تُرسَل إليَّ.» اتَّهمتُ صديقي في نفسي بأنه يُقدِّم عذرًا واهيًا وضعيفًا ليُبرِّر فشلَه؛ فما نوع المعلومات التي يُمكنه الحصول عليها من ساعة لم تُنظَّف؟

قال وهو يحدِّق في السقف بعينَين حالِمتَين شاحبتَين: «وعلى الرغم من عدَم حصولي على ما يكفي من المعلومات من خلال البحث، فإنَّني لم أخرج منه خاليَ الوفاض. صحِّح لي إن كنتُ مخطئًا. يُمكِنني القول إنَّ الساعة كانت ملكًا لأخيك الأكبر الذي وَرِثها بدَوره عن أبيك.»

«لقد خمنتُ هذا دون شكٍّ من حَرْفَي إتش ودبليو المَرسومَين على ظهرها؟»

«هذا صحيح؛ فحرف دبليو يُشير لاسم عائلتك. أما عُمر الساعة فهو خمسون عامًا تقريبًا، والأحرف من نفس عمرها؛ وبالتالي فهي مصنوعة من الجيل الماضي. وعادة ما تُورَّث المجوهرات للابن الأكبر الذي يكون اسمه الأخير، على الأرجح، هو نفس اسم أبيه. وإن لم تَخُنِّي الذاكرة، فقد تُوفِّي أبوك منذ عدة سنوات؛ وبالتالي أصبحَتْ في حيازة أخيك الأكبر.»

قلتُ له: «أنت مُحقٌّ حتى الآن، هل من شيءٍ آخر؟»

«كان أخوك رجلًا غير مُرتَّب، غير مُنظَّم، ومُهمِلًا جدًّا؛ فقد حصل على فُرَصٍ جيدة، لكنه أهدرها؛ فعاش فقيرًا لفترةٍ من الوقت تخلَّلتْها فتراتٌ قصيرة من الرَّغَد. وأخيرًا لجأ إلى مُعاقرة الخمر ثُمَّ مات. هذا كلُّ ما يمكنني استنتاجُه.»

هبَبْتُ واقفًا من مقعدي وجُبْتُ الغرفة باستياءٍ وأنا أَعرُج وفي قلبي مرارةٌ كبيرة.

قلتُ: «هذا لا يَليقُ بك يا هولمز، فلم يُخيَّل لي أنك قد تنحدِر إلى هذا المستوى. لقد تحرَّيتَ عن تاريخ أخي التَّعيس، وها أنت ذا تتظاهَر بأنك استنتجتَ هذا كله بهذه الطريقة الخيالية. لا تتوقَّع مِنِّي أن أُصدِّق أنك استنتجتَ ذلك من ساعته القديمة! ما فعلتَه أمرٌ قاسٍ، وبصراحة به شيء من الدَّجَل.»

قال بلُطف: «أرجوك تقبَّل أسَفي يا صديقي الطبيب العزيز. فقد نظرتُ إلى الأمر باعتباره مشكلةً مُجرَّدة، ونسيتُ كم هو أمرٌ شخصي ومُؤلِم بالنسبة إليك. لكن تأكَّد أني لم أكن أعلم أن لك أخًا قبل أن تُعطِيَني هذه الساعة.»

«إذن كيف، بحقِّ كلِّ ما هو خارق، عرفتَ هذه الحقائق؟ إنها صحيحة تمامًا بكلِّ تفاصيلها.»

«حسنًا، هذا نوع من الحظِّ الجيد. لم أقُلْ إلَّا ما تُرجِّحُه كفَّة الاحتمالات، ولم أتوقَّع على الإطلاق أن أكون دقيقًا إلى هذا الحد.»

«ألم يكن ذلك مُجرَّد تخمين؟»

«لا، لا، فأنا لا ألجأ أبدًا للتخمين؛ فهو عادة مُريعة، وتأثيرها مُدمِّر على مَلكة التفكير المنطقي. أنت ترى هذا كله غريبًا بالنسبة إليك لأنك لا تَتَّبِع أسلوبَ تفكيري ولا تُلاحظ الحقائق الصغيرة التي يُمكن أن تُبنَى عليها استنتاجاتٌ كبيرة. على سبيل المثال، بدأتُ حديثي عن أخيك بقول إنه كان مُهمِلًا. إذا نظرتَ إلى الجانب السُّفلي من عُلبة الساعة هذه تُلاحظ أنها ليست مُنبعِجة فقط من مكانين، بل تُغطِّيها أيضًا خدُوش وعلامات جرَّاء وضع أشياءَ حادَّة، مثل عملاتٍ معدنية أو مفاتيح، معها في الجيب نفسه. وبالطبع الافتراض بأنَّ رجلًا يُعامل ساعة قِيمتُها خمسون جنيهًا بهذا الاستهتار لا بدَّ أن يكون مُهمِلًا؛ أمر لا يحتاج إلى عبقري. كذلك ليس من الصعب الاستدلال من ذلك على أن رجلًا ورِثَ غرضًا واحدًا بتلك القِيمة قد تُرك له أيضًا ما يكفيه في النواحي الأخرى من حياته.»

أومأتُ برأسي مُوضِّحًا موافقتي على استدلالاته المنطقية.

«ومن عادة المُرتهِنين في إنجلترا أنهم عندما يَرهَنون ساعة يَنقُشون رقم التذكرة داخل علبة الساعة بسنٍّ حاد. هذا عمليٌّ أكثر من إلصاق الرقم عليها، فلا يُخاطرون بإضاعة الرقم أو تبديله. رأيتُ ما لا يقلُّ عن أربعة من تلك الأرقام بعدستي داخل علبة الساعة. وأستدلُّ من هذا على أنَّ أخاك كثيرًا ما كان يقَعُ في ضائقةٍ مالية، وأستدلُّ أيضًا على أنه كان يمرُّ بفتراتٍ عابرة من التَّرَف، وإلَّا ما كان ليستعيد الساعة المرهونة. وأخيرًا، أطلبُ منك النظر إلى اللَّوح الداخلي الذي به ثُقب المفتاح. انظر إلى آلاف الخدوش الموجودة حوله، وهي علامات تَعني أن المفتاح كان ينزلِق. أهناك رجلٌ غير مخمور يترُك مثل تلك العلامات؟ ولكنك لن تجِدَ ساعة رجلٍ سكِّير تخلو منها؛ فهو يُعيدها إلى عبوتها في الليل، وتترُك يدُه المرتعشة هذه الآثار. أخبرني إذن أين الغموض في ذلك؟»

أجبته: «إن هذا واضِح كالشمس، أعتذِر عن الإساءة التي وجَّهتُها لك؛ فقد كان يجدُر بي أن أثِقَ أكثر بقدراتك المُذهِلة. هل تسمح لي أن أسألك إن كنتَ تتولَّى أية قضايا في الوقت الحالي؟»

«كلا، ولذلك لجأتُ إلى الكوكايين؛ فأنا لا أستطيع أن أحيا دون استثارة عقلي. هل يُوجَد شيء آخر يستحقُّ أن أحيا من أجله؟ انظر من تلك النافذة. أرأيتَ ما هو أكثر كآبةً ووحشةً وجدبًا من ذلك العالم الموجود بالخارج؟ أترى كيف يزحف الضباب الأصفر ليُغطي الشارع ويلتفَّ حول المنازل ذات الألوان القاتمة. أيُوجَد ما هو أكثر ضجرًا ومادِّيَّةً من ذلك؟ ما فائدة التمتُّع بقدراتٍ إن لم يكن لدى المرء مُتَّسَع لاستخدامها؟ الجريمة أمرٌ عادي، والوجود أمرٌ عادي، ولا تُوجَد أي صفاتٍ عادية أخرى عدا هاتَين لها فائدة في هذه الحياة.»

ما إن كدْتُ أفتح فمي للردِّ على هذه الخطبة المُطوَّلة، حتى طرقَتْ صاحبة المنزل الباب، ودخلت وهي تحمل بطاقةً على صينيةٍ فضية.

قالت مُوجِّهة حديثها لصديقي: «هناك سيدةٌ شابَّة تطلُب مقابلتك يا سيدي.»

قرأ بصوتٍ عالٍ: «الآنسة ماري مورستان، حسنًا! لا أذكر هذا الاسم. اطلُبي من الآنسة أن تصعد إلينا يا سيدة هادسون. لا تذهَبْ يا دكتور، فأنا أُفضِّل أن تبقى.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤