حطام القراصنة!

راحَت الطائرة تُحلِّق فوق مياه المحيط الهندي وهي تتجه إلى الشرق، كان الشياطين مع ضوء النهار الساطع تبحث أعينُهم وتفتِّش عن «جزر القمر».

كانت جزيرة «نجازيدجا» هي أولَ ما لاح لأعين الشياطين، لقد كانت تمتدُّ في اتجاه عمودي عند مقدمة الطائرة … ثم هبطت الطائرة في مطار «موروني» عاصمة ولؤلؤة جزر القمر، هبط الشياطين بحذر وهم يتوقعون مفاجأة بعد ما حدث طوال الليل في «دالجادوا» … لكنهم وجدوا مفاجأة أروع … لقد كان الحاج «أحمد جوهر» ينتظرهم بسيارته الفارهة، ووجهه الطيب وملامحه الودودة، لقد أحسوا أن المدينة تفتح لهم ذراعَيها، وتغمرهم بطيبةِ الوجوه وروعةِ الطبيعة الخلابة، والبيوت الناصعة البياض، وهامات النخيل، وجوز الهند الخضراء وكانت السيارة كلما هدأت من سرعتها لتنحرف إلى طريق آخر كان الشياطين يرَون الوجوه تُطالعهم بابتسامات وترحيب حتى ظن الشياطين أن سكان الجزيرة يعرفونهم ويعلمون مهمَّتَهم جيدًا.

وجاءت كلمات الحاج «أحمد جوهر» تُجيب عن أسئلة كثيرة تدور بأذهان الشياطين … قال: الناس هنا طيبون مسالمون … يحبون الخير … ويوجد دائمًا للغريب مكانٌ بينهم، وإذا توسَّموا فيه خيرًا أصبح واحدًا منهم.

كان الشياطين يسمعون هذا الكلام ويرَون ما يحدث حولهم فيتعجبون ويتخيلون فعلًا أنهم في «مصر» أو «السعودية» أو «الجزائر» … أو أي بلد عربي شقيق.

توقَّفت السيارة أمام بيت رائع له فناء واسع وبه كثيرٌ من أشجار الموز وجوز الهند … وله سورٌ من الحجر الأبيض …

نزل الحاج «أحمد» من السيارة وفتح البوابة بنفسه ثم عاد للسيارة، ودخل بها إلى فناء البيت … ثم نزل الشياطين مع الحاج «أحمد»، وقادهم إلى حيث سيقيمون … ثم قال لهم مازحًا: أريدكم أن تقبلوني معكم أساعد في أي عمل … فأنا وحدي هنا … ليس لي زوجة ولا ولد، ليس معي إلا خادمي الأمين «بشرى».

ردَّ «أحمد»: نحن لا نستغني عنك لحظة.

ثم قال الحاج «أحمد»: قبل أن أنسى … أنا لا أعرف شيئًا في هذا البيت؛ فالجائع يذهب ويبحث عن الطعام، فأنا مثلكم أعزب … ولا أعرف الطهيَ ولا كيف يكون.

استولَت مشاعر الطيبة والروح المرحة على قلوب الشياطين؛ حيث لمسوا في شخصية الحاج «أحمد» وداعةً لا مثيلَ لها.

ثم أستأذن الحاج «أحمد» في الذهاب إلى متجره الذي يبيع فيه الأسماك، ثم طلب من الشياطين أن يستريحوا ويأخذوا قسطًا وفيرًا من الراحة حتى يعود إليهم بعد الظهر.

كان الشياطين فعلًا في حاجة إلى الراحة، وما إن أسلموا أجسادهم للفراش حتى سافروا بعيدًا في أعماق بحار النوم.

وحين استيقظوا كان الحاج «أحمد» قد عاد من متجره وأعدَّ الخادم مائدة الغداء، وكان عليها أصنافٌ متنوعة من الأسماك المشوية والمقلية … فجلسوا لتناول الغداء … لقد كان الطعام لذيذًا … فأكلوا كثيرًا … ثم جلسوا بعد الغداء يشربون الشاي ويتحدثون … وطال الحديث عن الناس والخير والشر والجزر الأربعة، وهي «نجازيدجا» و«نزواني» أو «هنزوان» و«مايوتة» أو «ماهوري» والتي لا تزال تخضع للنفوذ الفرنسي وجزيرة «موالي»، ثم أخبرهم أنه يمتلك متجرًا لبيع السمك ويمتلك قاربَ صيد، وآخر مطاطًا، وأن كل هذا مسخرٌ لخدمة الخير وأهله … وعرض الحاج «أحمد» المهمة وكيفية الإفادة من هذه الإمكانات في سبيل تحقيقها.

لقد بدَا الحاج «أحمد» حزينًا لما يحدث متعجبًا من هؤلاء الأشرار الذين يبيعون إخوانهم في الوطن واللون والجنس … كل هذا من أجل المال؟ يبيع الإنسانُ أخاه من أجل المال؟

عرض الحاج «أحمد» على الشياطين أن يصحبَهم في جولة داخل المدينة ليروا أوجهَ الحياة المختلفة، ثم صحبهم إلى الميناء وأراهم قارب الصيد «الفيبر»، وهبط الشياطين إلى القارب الذي كان أشبهَ بيختٍ ثم شاهدوا اللنش المطاطي … وسار بهم الحاج «أحمد» على الشاطئ لمسافة طويلة … ومرُّوا على أحد المرافئ الصغيرة، ورأوا المياه العذبة تتدفق شفافة بين الصخور، وثمار جوز الهند اللذيذة التي يروي ماؤُها العطشَ وفي ختام الجولة حضر بهم الحاج «أحمد» في المساء عرسًا «قمريًّا» …

لقد كان الشياطين في دهشة مما رأوا كأنهم في إحدى المدن العربية العريقة فعلًا … فزيُّ العروسين خليطٌ من الزي العربي وزي مسلمي آسيا، والحناء العربية تزيِّن راحتَي العروس، ومما أدهش الشياطين الستة هو مجموعة من الرجال والنساء كانوا ينشدون سيرة الرسول — صلى الله عليه وسلم — في حفل العرس.

انقضَت السهرة وعاد الشياطين مع الحاج «أحمد» لكن من طريق آخر، فصعد بهم وسط التلال، ووجدوا أنفسهم في الأعالي وسط غابات كثيفة من الشجر ذي الرائحة الجميلة، وراح الحاج «أحمد» يتكلم ويصف لهم هذه الأشجار وما تُخرجه من أزهار وتأخذها «فرنسا» لتصنع منها أثمنَ أنواع العطور والمستحضرات الطبية، ثم عادوا إلى البيت.

جلس الشياطين الستة أمام الحاج «أحمد جوهر» الذي كان يجلس على مقعد وحيد في مقابلة الشياطين، وكان يتكئ على عصًا من الأبنوس … وكان في رأس «أحمد» العديدُ من التساؤلات، ووجد الفرصة متاحة، فسأل الحاج «أحمد»: كيف هي حياة الصيادين هنا؟

ردَّ الحاج «أحمد»: الحياة هنا كما ترون بسيطة وهادئة، والصيادون يخرجون للصيد في رحلات تستغرق يومين أو ثلاثة، ثم يعودون.

قال «أحمد»: هل هناك شرطة مثلًا أو مخابرات تراقب نشاطهم أو تفتشهم؟

ردَّ الحاج «أحمد»: هناك فقط مبنى صغير به ثلاثة جنود يكتبون التصاريح للصيادين.

أحمد: ومتى تخرج رحلات الصيد غالبًا؟

الحاج «أحمد»: تخرج غالبًا بعد صلاة الفجر وقبل أن تطلع الشمس … لكن لماذا كل هذه الأسئلة؟

أحمد: قد نحتاج إلى جولة في المحيط لاستطلاع الأمر …

ردَّ الحاج «أحمد»: لا تشغل بالك بأي شيء … كلُّ شيء سيكون جاهزًا في نفس اللحظة التي تقرر فيها.

قال «أحمد»: بسرعة لقد قررنا.

ردَّ الحاج «أحمد»: متى؟

قال «أحمد»: غدًا قبل أن تُشرق الشمس …

وقف الحاج «أحمد»، وقال: كما تحبون … إذن لا بد من بعض الترتيبات البسيطة ثم اتجه الحاج «أحمد» إلى غرفة المكتب ومكث بها لحظات … اتصل فيها بالتليفون ثم عاد إلى الشياطين، وقال: كل شيء على ما يرام … سيكون معكم أحد رجالي الماهرين كي يخرجَ بكم من الشعاب والصخور التي تحت سطح الماء كي لا تصطدموا بها!

أحمد: إننا سنأخذ اللنش المطاطي … إنها جولة سريعة …

الحاج «أحمد»: كما تودون!

كانت رائحة الأشجار تملأ الجزيرة مع أنفاس الصباح المقبل … وركب الشياطين اللنش المطاطي وانطلقوا نحو المجهول … وسرعان ما كانوا خارج الميناء … ثم بدأ اللنش يدور حول الرأس الصخرية ويستدير ناحية الشرق … كانت مياه المحيط هادئة، وأمواجه مسطحة، وكان اللنش ينطلق فيُدرك بعض القوارب الصغيرة، فيتجاوزها وراءه. كان «أحمد» قد ترك «باسم» و«رشيد» و«قيس» في البيت، واقترح أن يقوم بهذه الجولة في المحيط مع «خالد» و«بو عمير» …

مضَت ساعة واللنش يقطع المسافات في نهمٍ شديد حتى أصبح المحيط حولهم من كل جانب ولم يَعُد هناك أثرٌ للجزر.

خيَّم الصمت على الجميع باستثناء صوت ماكينة اللنش التي كانت تدفع الماء بقوة.

رفع «بو عمير» النظارة المكبرة وأخذ ينظر في اتجاه الشرق … ثم قال: ليس إلا المحيط … هل سنظل نُبحلق في المياه كثيرًا؟

ردَّ «أحمد»: ليس أمامنا سوى ذلك حتى نعثر على ضالتنا.

قال «بو عمير»: لقد مرَّ يومان … ولا يزال الوقت طويلًا …

ردَّ «أحمد»: إن ما يقطعه اللنش في نصف يوم تقطعه الباخرة في يوم ونصف …

بو عمير: لقد مرَّت ثلاثُ ساعات ولم نرَ شيئًا … إنها مجرد مياه … ربما تكون قد أخذَت طريقًا غير هذا الطريق!

وهنا تدخَّل الصياد «عبد الكريم»، وقال: ليس هناك سوى هذا الطريق … لا بد أن يمرَّ قريبًا من الساحل لأنه إذا لم يملك إمكانيات السفر في المحيط فسوف يضلُّ ولن يعود أبدًا …

واصل اللنش رحلتَه السريعة منطلقًا إلى المجهول باحثًا عن قشة سابحة فوق أمواج المحيط العملاق ومرَّت ساعة أخرى … هدأ «أحمد» من سرعة اللنش ثم أخذ النظارة وأخذ ينظر في كل الاتجاهات لكنه لم يرَ شيئًا … نظر في ساعته ثم استدار في طريق العودة لقد كان يضبط طريق اللنش عن طريق البوصلة التي في ساعته …

جذب «عبد الكريم» كيسًا كبيرًا، ثم قرَّبه وفتحه، وأخرج منه بعض السندوتشات وقدَّمها للشياطين وأخرج بعض علب العصائر … وناولها لهم … وجلسوا يأكلون … كان «عبد الكريم» قلقًا. لقد كان يفكر في شيء ما … ثم رفع بصره إلى السماء ونظر إلى الشمس، ونظر إلى ظلِّه على اللنش، ثم قال ﻟ «أحمد»: لقد أخطأنا طريق العودة …

ردَّ «أحمد»: كيف عرفت؟

قال: الشمس الآن في قلب السماء واتجاه الظل يشير إلى الجنوب، وكان المفروض أن نتجه للشرق في طريق العودة …

قال «أحمد»: بالضبط … كما تقول … لكني انحرفتُ ناحية الجنوب أريد أن أقترب من جزيرة «هنزوان»، ربما تكون الباخرة اتجهَت جنوبًا إلى «مدغشقر».

نظر «عبد الكريم» إلى «أحمد» ثم قال: لقد ظننت أنك أخطأت الطريق …

ردَّ «أحمد»: إنني أستطيع أن أسافر بك إلى أية نقطة تريدها وأصل بك حيثما تريد تمامًا …

عبد الكريم: أهي ثقة؟

أحمد: نعم ثقة، ولكن نتيجة علم وخبرة … أسافر بك ليلًا بالنجوم والبوصلة، وأسافر بك نهارًا بالظلال والبوصلة … أعطني خريطة أَصِل بك إلى أية نقطة تريدها على وجه الأرض.

مرَّت ساعتان واللنش يقطع مياه المحيط متجهًا للجنوب قليلًا، بدأت الشمس تميل للغروب، ثم لاح لهم على بعد جسمٌ صغير على سطح الماء يبدو بعيدًا، دقق الشياطين النظر … وأمسك «أحمد» بالنظارة المكبرة، ونظر فيها ثم قال: إنه قارب صيد …

التفت «عبد الكريم» إليه، وقال: إن قوارب الصيد لا تصل إلى هذه الأعماق … ربما يكون قد ضل الطريق للعودة … كم به من الصيادين؟

أحمد: أرى ثلاثة يتحركون.

عبد الكريم: اقترب … وكن حذرًا … قد يكونون لصوصًا أو قراصنة …

ردَّ «خالد»: ماذا يسرقون؟

عبد الكريم: يسرقون البواخر والسفن تحت تهديد السلاح … يأخذون كل ما يريدون.

نظر «أحمد» إلى «خالد» فأومأ له «أحمد» برأسه … ففهم «خالد» ما يريد، ففتح الحقيبة وأخرج مدفعًا «رشاشًا» وركَّب أجزاءَه وهيَّأه للاستعمال ثم وضعه فوق الحقيبة.

أصبح القارب على بُعد ثلاثة أميال من الشياطين وبدَا واضحًا تمامًا … لقد كان القارب متجهًا إلى الجنوب … اقترب القارب أكثر … هدَّأ «أحمد» من سرعته … رأى الشياطين راية بيضاء، فوق القارب … أصبح الشياطين على مسافة مائة متر من القارب، فجأة رأى الشياطين قاربًا آخر أكبر من الأول يتسلَّل بجوار القارب، واندفع للأمام دائرًا حول اللنش الذي يستقلُّه الشياطين ويظهر به ستة رءوس لأشخاص يحملون بنادق، ثم ظهر فوق القارب ستة آخرون … كان القارب واقفًا فوق مياه المحيط لا يتحرك.

بينما كان اللنش الآخر يدور حول الشياطين من ناحية الغرب … وأصبح الشياطين بين القارب الصغير والكبير لقد حاصرهم القراصنة.

صاح أحد الرجال: سلِّموا أنفسكم دون مقاومة وإلا جعلناكم طعامًا للأسماك!

ثم صاح الآخر: لقد كنَّا نتابعكم مند الصباح … لقد آنَ الأوانُ أن تسيروا هادئين، هيَّا بنا يا بُني … اقترب … اقترب …

أدرك الشياطين للحظات أنهم صيدٌ سمين قد وقع في فخٍّ محبوك ولن يُفلتوا …

نظر «أحمد» إلى «خالد» و«بو عمير» ثم قال جملة واحدة في صوت خافت: جهِّزوا خطة الأفعى.

مدَّ «خالد» يدَه في الحقيبة وأخرج قنبلة صغيرة وأمسكها في يده ثم وقف، ورفع يدَيه لأعلى كالمستسلم، وكذلك فعل «بو عمير»، وسار «أحمد» بالقارب في بطء اتجاه القارب الآخر كأنهم ذاهبون ليسلِّموا أنفسهم، وحين اقترب القارب وأصبح على بُعد عشرة أمتار تقريبًا رفع «أحمد» سرعةَ القارب فجأة، فانطلق كالطائر فوق مياه المحيط واقترب من القارب بحوالي ثلاثة أمتار، فألقى «خالد» بالقنبلة بعد أن نزع فتيلَها في سرعة البرق على القارب، وانحرف «أحمد» باللنش … وفجأة تحوَّل سطح المحيط إلى جحيم وتناثرَت قِطعُ الأخشاب وبقايا الحطام الآدمي فوق موج المحيط بعد أن تحطَّم القارب الصغير بمن فيه!

حين أدرك قارب القراصنة فرارَ الشياطين، زادوا من سرعة القارب حتى كادت الماكينة أن تحترق … وكانت المسافة تقترب من المائة متر … بدأت تضيق وتقلُّ … وكانت الطلقات تتهاوى في مياه المحيط كحبَّات المطر …

اقترب لنش القراصنة من الشياطين، لقد أصبح على مقربة خمسين مترًا …

عمل «أحمد» مناورةً سريعة … فغيَّر من اتجاه القارب إلى الجنوب، فاتسعَت المسافة مرة أخرى، لكن الطلقات كانت تسقط قريبًا منهم من اليمين ومن الشمال …

اندفع الشياطين فوق مياه المحيط والقراصنة من خلفهم … وفي لهجة سريعة طلب «أحمد» من «خالد» و«بو عمير» أن يستعدَّا بالمدفع الرشاش …

أحمد: «خالد» سأدور باللنش للخلف بمنتهى السرعة، فتشبثوا باللنش جيدًا، وحين يستقيم اللنش في الاتجاه المعاكس سنكون على نفس الخط الذي سيندفع فيه القراصنة … أريدكم أن تُمطروهم بالرصاص، هذه فرصتنا الوحيدة للنجاة … وكالبرق الخاطف تمكَّن «أحمد» من إدارة اللنش للخلف، ولم تمضِ ثوانٍ قليلةٌ حتى كان الشياطين بمحاذاة القراصنة، فأمطروهم بالرصاص … وركز «خالد» الطلقات في جسم اللنش المطاطي الذي انفجر كالبالونة وتهاوَى القراصنة في الماء، والتفتَ الشياطين يرقبون الموقف والقارب مندفع في طريقه، لكن كان هناك خللٌ في المقدمة … لقد أصابَته طلقةٌ فانفجر هذا الجزء …

هدأ «أحمد» من سرعة القارب، الآن لم يَعُد هناك خطرٌ؛ فقد انشق المحيط وابتلع القراصنة … لقد أصبحوا طعامًا «شهيًّا» لأسماك المحيط الجائعة لقد تخلَّصت البشرية من بعض الشر … توقفوا لحظات، أخرج «بو عمير» أنبوبة بها مادة لاصقة ثم مسح الجزء المحيط بمكان الطلقة ووضع عليه بعضَ المادة اللاصقة وتركه … ثم جذب الجيب الجلدي الملتصق بجانب اللنش والذي توضع فيه الأشياء الصغيرة والمسامير وبعض قطع الأسلاك ثم نظَّفه، ووضع عليه شيئًا من المادة اللاصقة … ثم تركه لحظاتٍ ووضعه فوق مكان الطلقة وضغط عليه بيده … فأغلق الثقب …

ضحك «عبد الكريم» ثم قال: لقد كانوا ينوون بنا شرًّا.

قال «أحمد»: قم وهات المنفاخ وانفخ مقدمة اللنش.

وقف «عبد الكريم» ووضع المنفاخ تحت قدمه ثم بدأ يقفز ويضغط على المنفاخ حتى عادَت مقدمة القارب كما كانت، وارتفع صوت الموتور يهدر فوق مياه المحيط ويشقُّ صفحتَها ولم يتبقَّ من النهار سوى ثلاث ساعات ولا بد من الوصول قبل حلول الظلام.

مضت ساعة … قال «أحمد»: لقد أنجزنا شيئًا مهمًّا …

ساد صمتٌ قصيرٌ بعد هذه الجملة … ثم قال: لو لم نُقابلهم اليوم ربما قابلناهم في ظروف أسوأ …

ردَّ «خالد»: من الواضح أنهم كانوا ينتظرون شيئًا … وأنهم يؤمِّنون الطريق …

سكت «أحمد» لحظة ثم قال: لقد استهلكنا وقودًا كثيرًا … ماذا بقيَ يا «عبد الكريم»؟

هزَّ «عبد الكريم» خزاناتِ البنزين الصغيرة، وقال: بقيَ القليل!

أحمد: هل سيكفينا حتى نعود؟

عبد الكريم: أتمنَّى ذلك حتى لا نبيتَ فوق مياه المحيط.

مرَّت ساعتان واقتربَت الشمس من المغيب، لقد بقيَت ساعة على الغروب … أمسك «خالد» بالنظارة المكبرة وجعل ينظر …

أحمد: هل رأيت شيئًا؟

خالد: انتظر لحظة … أرى أشباحًا فوق ماء المحيط …

أحمد: ناولني النظارة …

أمسك «أحمد» بالنظارة ودقَّق النظر ثم قال: إنها الجزيرة … لكنها ما زالت بعيدة. فجأة انتهى الخزان الذي كان موصولًا بموتور القارب، وقرَّب «عبد الكريم» الخزان الأخير ونقل فيه الخرطوم وواصل القاربُ اندفاعَه …

أوشكت الشمس على المغيب وبدأت خيوط الظلام تتسلل إلى الأفق من الشرق … وشيئًا فشيئًا بدأت الجزيرة تتضح للعيون … حتى بدَت كقطعة إسفنج بيضاء فوق ماء المحيط …

وقف «عبد الكريم» ونظر ثم قال: سندخل بعد غروب الشمس، لقد اقتربنا، المهم ألَّا ينفدَ الوقود، كانت الشمس قد بدَت فوق سطح الماء كقرص مشتعل … ثم راحَت تتلاشى حتى ذابَت في ماء المحيط وبقيَت ذيول أشعتها تملأ الأفق … وحين اقتربوا من الرأس الصخرية التي تقبع أول الميناء … توقَّف المحرك، لقد نفد الوقود، ولم يجد الشياطين حيلةً يُكملون بها المسافة حتى يصلوا إلى الرصيف، فتركوا الأمواج تدفع القارب مع اتجاه الريح.

كان الحاج «أحمد جوهر» يزرع الشاطئ ذهابًا وإيابًا … لقد أصابه القلق والتوتر بعد أن ظن أنهم تعرَّضوا لسوء … وحين أخبره الصيادون بوجود القارب قريب من مدخل الميناء لم يتردد في إدارة قاربه الكبير وقاده بنفسه حتى وصل إلى حيث يستقر اللنش، وألقى لهم حبلًا ثم قطرهم خلفه واتجه للشاطئ.

ظل الحاج «أحمد» صامتًا لا يتكلم حتى وصلوا إلى البيت، ثم فاجأهم بسيل من الأسئلة … وكان «قيس» و«باسم» و«رشيد» قد استولى عليهم القلق أيضًا، لقد كان المفروض أن يصلوا قبل المغرب بساعتين على الأقل، فماذا حدث؟

لم ينتظر الحاج «أحمد» أن يجيبوا عن أسئلته بل تركهم حتى دخلوا الحمام واغتسلوا وبدلوا ملابسهم ثم جلسوا يتناولون الطعام … وفي هذا الوقت بدأ «أحمد» يحكي لهم ما حدث …

وهنا اندفع «عبد الكريم»، وقال: لقد شاهدت الموت بعيني … لقد نمت في القارب حتى أموت وأنا نائم ولا أرى ما يحدث … ضحك الشياطين … وضحك الحاج «أحمد»، وقال ﻟ «عبد الكريم»: كنت أحسبك صيادًا قويَّ القلب!

ردَّ «عبد الكريم»: أنا كنت أحسب نفسي أيضًا صيادًا ماهرًا حتى رأيت هؤلاء فعلمت قدري أني لست ماهرًا ولا حتى صيادًا.

ثم التفت إلى الحاج «أحمد»، وقال: إنهم ليسوا بشرًا عاديِّين مثلنا يا حاج، إنهم شياطين … قد عُجِنوا بماء الشياطين …

ضحك الحاج «أحمد» وقال: فعلًا … إنهم الشياطين ألا تعرف ذلك؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤