الفأر الشيطاني

تعرفون أنه عندما يسكن رجلٌ في قلعة منعزلة على قمَّة جبلٍ شاهق على ضفة نهر الراين يكون عرضةً لإساءة الظن به؛ فقد اعتقد نصف أهل قرية شفينكشفانك الطيبين، بما فيهم العمدة وابن أخيه، أنني هاربٌ من العدالة الأمريكية. بينما كان النصف الآخر مقتنعًا اقتناعًا راسخًا بأنني مجنون، ووجدتْ هذه الفرضية دعمًا من كاتب العدل بمعرفته العميقة بالطبيعة البشرية وذكائه الحاد. وكان كلا فريقَي هذا الجدل المثير على الدرجة نفسها من القوة، لدرجة أن كلًّا منهما كان يقضي كل وقته في مواجهة حجج الفريق الآخر؛ ومن ثَمَّ لم تَنلْني منهم أي مضايقات تقريبًا.

ومعروف لأي شخص يزعم امتلاك معرفة عالمية أن قلعة شفينكشفانك القديمة مسكونةٌ بأشباحِ تسعة وعشرين بارونًا وبارونة من بارونات العصور الوسطى. كان سلوك هذه الأشباح القديمة متحفظًا جدًّا؛ ففي المجمل كانت مضايقتهم لي أقلَّ بكثير من مضايقة الفئران التي كانت تتجول بأعداد كبيرة في كل أرجاء القلعة. وعندما امتلكت هذا المسكن، كنت أُضطرُّ إلى إبقاء المصباح مشتعلًا طوال الليل، وكنت أضرب حولي باستمرار بعصًا خشبية كي لا ألقى مصير الأُسقف هاتو. وبعد ذلك أرسلت رسولًا إلى فرانكفورت جلب لي قفصًا من السلك، تمكنت من النوم فيه براحة وأمان بمجرد أن اعتدت على صوت الصرير العالي الصادر عن أسنان الفئران وهي تقرض الحديد في محاولاتها العاجزة للدخول إليَّ والتهامي.

وفيما عدا الأشباح والفئران، والوطاويط والبوم العابرة بين الحين والآخر، كنتُ أول ساكن يسكن قلعة شفينكشفانك منذ ثلاثة أو أربعة قرون؛ فلقد تركت بون بعد أن استفدت كثيرًا من المحاضرات المتبحرة والعبقرية التي قدَّمها السيد كالكاريوس، بروفيسور العلوم الميتافيزيقية الشهير في تلك الجامعة المثيرة للإعجاب، واخترت هذه الأطلال كأفضل مكان لإجراء بعض التجارب في علم النفس. ولم يُظهِر اللاندجراف فون توبليتس (الوريث الذي يملك قلعة شفينكشفانك) أيَّ علامة دهشة عندما ذهبت إليه وعرضتُ عليه إيجارًا قدْره ستة تالرات شهريًّا نظير شرف الإقامة في قلعته المتداعية؛ لقد كان يفوق في بروده موظفَ استقبال في أحد فنادق برودواي؛ يملأ استمارة النزلاء ويتسلَّم منهم النقود في احترافية.

قال: «سيكون من الضروري أن تدفع إيجار شهر مقدمًا.»

فأجبت وأنا أَعُدُّ الدولارات الستة: «وأنا لحسن الحظ مستعدٌّ لذلك أيها اللاندجراف النبيل.» وضع المال في جيبه وأعطاني إيصالًا بقيمة المبلغ، وتساءلت إن كان قد حاول من قبلُ الحصول على إيجار من الأشباح التي تسكن القلعة.

كانت أكثر الغرف الصالحة للسكن في القلعة هي تلك الموجودة في البرج الشمالي الغربي، التي كانت تسكنها من قبلُ السيدة أديلايد ماريا، الابنة الكبرى للبارون فون شوتن، التي ماتت جوعًا في القرن الثالث عشر على يد والدها الحبيب بسبب رفضها الزواج من قرصان ذي رِجلٍ واحدة يسكن وراء النهر. ونظرًا لأنني لا يمكنني التطفُّل على سيدةٍ، أقمتُ في غرفةٍ فوق سلالم البرج الجنوبي؛ حيث لم يكن يسكن هناك إلا راهب عاطفي كان يغيب في ليالٍ كثيرة، ولا يسبب لي المتاعبَ في أي وقت.

في هذه العزلة الهادئة التي استمتعت بها في القلعة، من الممكن تقليلُ النشاط البدني والذهني إلى أقل درجة ممكنة للحياة؛ فالقديس بيدرو دي ألكانتارا الذي قضى أربعين سنة في صومعة أحد الأديرة علَّم نفسه أن ينام ساعة ونصف الساعة فقط في اليوم، وأن يتناول الطعام مرةً كل ثلاثة أيام، ولأنه قلَّل وظائف جسده لهذا الحد فإنني أعتقد بشدة أنه حتمًا قلَّص روحه لتصبح كروح الشخصية السلبية لرضيعٍ غير واعٍ. إن التمرين والفكر والاحتكاك والنشاط هي ما تُظهر تفرُّدَ طبيعة الإنسان. وما زالت كلمات البروفيسور كالكاريوس المقنعةُ محفورةً في ذاكرتي؛ حيث قال:

«ما الرابط الغامض الذي يربط الروحَ بالجسم الحي؟ لماذا أنا كالكاريوس، أو على الأحرى لماذا تسكن الروح المدعوة كالكاريوس في هذا الجسد الحي بالتحديد؟ [وهنا ضرب البروفيسور العلَّامةُ على فخذه الضخمة بيده المكتنزة.] أليس ممكنًا أن أكون شخصًا آخَر، أَوَليس ممكنًا أن يكون الآخر هو أنا؟ فإذا حرَّرنا الأنا الفردية من الجسد المحيط الذي ترتبط به بحكم العادة وبموجب التواصل الطويل، فمن يستطيع أن يقول إنه من غير الممكن طردُ الروح بالإرادة الحرة لتترك الجسد الحي في حالة استقبال لتسكن فيه أنا أخرى غير فردية، تكون أكثر استحقاقًا له، وأفضل من الأنا القديمة؟»

تركت هذه الفكرة العميقة انطباعًا دائمًا في ذهني؛ فعلى الرغم من أنني راضٍ تمامًا عن جسمي؛ فهو سليم ومفعم بالصحة ووسيم بدرجة معقولة، فلطالما كنت غير راضٍ عن روحي، فضلًا عن أن التأمل المستمر في مواطن ضعفها وفظاظتها وعجزها زاد حالة السخط وحوَّلها إلى ازدراء. هل يمكنني واقعيًّا أن أهرُب من نفسي؟ وهل يمكنني إخراج هذه الجوهرة الزجاجية من عُلبتِها الأنيقة وأضع بدلًا منها جوهرة حقيقية؟ وما التضحيات التي قد لا أوافق عليها؟ هل سأشكر كالكاريوس بحماس وأشكر الساعة التي أخذتني إلى بون؟

اعتزمت خوضَ هذه التجربة التي لم تُجرَّب من قبل، فحبست نفسي في قلعة شفينكشفانك.

وباستثناء الصغير هانز، ابن صاحب النُّزل الذي كان يصعد الجبل ثلاث مرات أسبوعيًّا قادمًا من القرية ليجلب لي الخبزَ والجبن والنبيذ الأبيض، وأخته التي جاءت لاحقًا، كان البروفيسور كالكاريوس هو زائري الوحيد أثناء فترة العزلة؛ وقد جاء من بون مرتين ليحيِّيني ويشجعني.

أثناء زيارته الأولى لي، أقبل الليل ونحن ما زلنا نتحدث عن فيثاغورس وتناسُخ الأرواح. وكان عالم الميتافيزيقا العلَّامة رجلًا بدينًا يعاني قِصرَ نظرٍ شديدًا.

قال وهو يعصر يديه من القلق: «لا يمكنني أبدًا أن أنزل حيًّا من فوق هذا التل. سوف أتعثر، يا إلهي، وربما أسقط على صخرة مسنَّنة.»

فقلت: «يجب أن تبقى هنا طول الليل يا بروفيسور، وأن تنام معي في القفص السلكي. وأود أن تقابل الراهب زميلي في الغرفة.»

قال: «هذا الراهب لا وجود له إلا في عقلك فقط يا صديقي الشاب العزيز؛ فهذا الشبح ليس إلا مِن صُنعِ العصب البصري، وسوف أتأمله بلا انزعاج كما يفعل الفيلسوف.»

جعلت البروفيسور يخلُد إلى النوم في القفص السلكي، وبصعوبة بالغة حشرت نفسي بجواره. وبطلب خاص منه أبقيت المصباح مضاءً. فسَّر البروفيسور طلبه قائلًا: «ليس الأمر أنني قلق بشأن أشباحك المتخيلة؛ فهي من نسج خيالك فحسب. لكنني قد أتقلَّب وأسحقك في هذا الظلام.»

وقال في النهاية: «كيف يسير قمع الذات؛ أي إخضاع روح الفرد؟ ها! ماذا كان ذلك؟»

قلت: «إنه فأر يحاول الدخول إلينا؛ كن هادئًا، أنت لست في خطر. إن تجربتي تسير على نحوٍ مُرضٍ. لقد تخلصتُ تمامًا من أي اهتمام بالعالم الخارجي؛ لقد اختفت تقريبًا مشاعر الحب والعرفان والصداقة والاهتمام برفاهيتي ورفاهية أصدقائي، وآمل عما قريب أن تتلاشى ذكرياتي أيضًا، وأن يتلاشى مع ذكرياتي ماضيَّ الفردي.»

صاح في حماس: «أنت تُحرِز نجاحًا ساحقًا! وكذلك تسدي لعلم النفس خدمةً لا تُقدَّر بثمن. سرعان ما ستكون طبيعتك الروحية خاليةً وخاوية وجاهزة للاستقبال … فليحفظني الرب! ماذا كان ذلك؟»

فقلت مُطَمْئنًا إياه: «هذا صياح بومة فحسب.» بينما طار ذلك الطائر الرمادي الضخم الذي أصبح مألوفًا بالنسبة إليَّ مرفرِفًا بصوت مزعج، ونزل من فتحة في السقف واصطدم بأعلى القفص السلكي.

رمق كالكاريوس البومة باهتمام، ونظرت البومة بجدية إلى كالكاريوس.

قال البروفيسور: «مَن يعلم إن كانت تلك البومة تحرِّكها روح فيلسوف راحل عظيم أم لا؟ ربما فيثاغورس، ربما أفلوطين، ربما روح سقراط نفسه تسكن مؤقتًا أسفل هذا الريش.»

اعترفت أن هذه الفكرة خطرت لي أيضًا.

استطرد البروفيسور: «في هذه الحالة ليس عليك سوى إبطال طبيعتك، وإلغاء فرديتك، كي تستقبلَ في جسدك هذه الروح العظيمةَ التي يخبرني حدسٌ بأنها روح سقراط، وأنها تحوم حول كِيانك المادي على أمل أن تدخل فيه. استمِرَّ أيها التلميذ الشاب الجليل في تجربتك الجديرة بالثناء، وفي العلوم الميتافيزيقية … يا إلهي! أهذا هو الشيطان؟»

كان ذلك هو الفأر الرمادي الضخم الذي يزورني كل ليلة، لقد كبُر هذا المخلوق المخيف على مدار حياته التي تُقدَّر بقرن تقريبًا، وأصبح يناهز حجم كلب ترير صغير. كانت شواربه بيضاء تمامًا وسميكة للغاية، واستطال ناباه الضخمان وأصبحا ذَوَي طرفَيْن مقوَّسَين تنحصر جمجمته بينهما. كانت عيناه كبيرتين وفي حمرة الدم. وكانت زاويتا الشفة العليا شديدتَي التجعُّد والانكماش لدرجة أن وجهه ارتسم عليه خبثٌ شيطاني قلما نراه إلا في بعض وجوه البشر. كان عجوزًا وحكيمًا فلم يقرض الأسلاك، بل جلس في الخارج على مؤخرته وحدَّق فينا بنظرة كراهية لا تُوصف. ارتجف صديقي. وبعد فترة التفت الفأر وجرَّ ذيله الغليظ مُصدرًا صوتًا عند ملامسته الشبكة السلكية، واختفى في الظلام. تنهَّد البروفيسور كالكاريوس تنهيدةً عميقةً تنم عن ارتياحه، وسرعان ما غطَّ في نوم عميق ولم تجرؤ بومة أو فأر أو شبح على الاقتراب منَّا حتى الصباح.

كنت قد نجحت حتى تلك اللحظة في دمج خصالي الفكرية والمعنوية في روتين الوجود الحيواني المحض، لدرجة أنه عندما حان موعد قدوم كالكاريوس مرة أخرى كما وعدني، لم أشعر باهتمام كبير بزيارته الوشيكة. أما هانزل الذي كان مسئولًا عن إحضار المؤن فقد أُصيب بالحصبة، وأصبح الحصول على الطعام والخمر معتمدًا على قدوم أخته الجميلة إيما؛ تلك الفتاة ذات الشعر الأشقر صاحبة الثمانية عشر ربيعًا، التي تصعد الطريق المنحدر بخفَّةِ الغزال ورشاقتهِ. كانت صغيرةً وذات جمال طبيعي، وأخبرتني من تلقاء نفسها عن قصة حبها البسيطة؛ فقد كان حبيبها فريتس جنديًّا في جيش الإمبراطور فيلهلم، وكان في حاميةٍ بكولونيا. كانا يأملان في أن يحصل عما قريب على رتبة ملازم نظرًا لشجاعته وإخلاصه، وأن يعود إلى الوطن بعد ذلك ويتزوجها. ادخرت من المال الذي تجنيه من منتجات الألبان حتى كوَّنت مبلغًا صغيرًا أرسلته إليه كي يساعده في شراء الرتبة. هل رأيتُ فريتس من قبلُ؟ لا؟ لقد كان وسيمًا وطيبًا، وكانت تحبُّه حُبًّا لا تستطيع وصفه.

استمعت لهذه الثرثرة بالقدْر نفسه من الاهتمام الرومانسي الذي قد تثيره فيَّ مسألة رياضية لإقليدس، وهنَّأت نفسي على أن روحي القديمة كادت تختفي. كانت البومة الرمادية تقف فوق القفص كل ليلة. وكنت أعلم أن سقراط ينتظر ليستحوذ على جسدي، فكنت مشتاقًا لأن أفتح ذراعَيَّ وأستقبل هذه الروح العظيمة. وفي كل ليلة كان يأتي ذلك الفأر البغيض وينظر إليَّ عبْر الأسلاك، واستفزَّني حقده البارد المزدري استفزازًا غريبًا، وتمنيت أن أمد يديَّ من أسفل القفص وأمسكه وأخنقه، لكنني خِفت عضته السَّامة.

بحلول ذلك الوقت، كانت روحي على وشْك أن تتلاشى تمامًا بسبب إهمالها المتعمد المنضبط، وأخذت البومة تنظر إليَّ بمحبة بعينيها الهادئتين، وبدا كما لو أن روحًا نبيلة تلمع من خلال هاتين العينين وتقول لي: «سآتي عندما تكون جاهزًا.» وكنت أنظر إلى هاتين العينين العميقتين اللامعتين وأقول بشوق منقطع النظير: «تعالَ سريعًا يا سقراط؛ لأنني شبه جاهز!» ثم ألتفتُ وأجد النظرة الشيطانية من الفأر البشع، الذي كان يسحبني شرُّه المستهزئ إلى الأرض وكراهيتها.

كان كرهي لهذا الوحش الشنيع هو الأثر الوحيد المتبقي من طبيعتي القديمة، وفي عدم وجوده بدت روحي كأنها تحوم حول جسمي وفوقه استعدادًا لأن تطير وتتركه حرًّا للأبد. وبمجرد أن أراه ينتابني اشمئزاز وكراهية لا يمكنني التغلب عليهما، فيُبطلان كل ما أنجزته، وأجدني ما زلت نفسي، وشعرت بأنني لكي أنجح في التجربة لا بد من التخلُّص من هذا المخلوق الكريه الذي يحجُب روح الفيلسوف العظيم مهما كلَّفت التضحية أو الخطر.

صِحتُ في الفأر قائلًا: «سوف أقتلك أيها الحيوان الكريه، وستحُل في جسمي المتحرِّر روحُ سقراط التي تنتظرني هناك.»

وجَّه الفأر عينيه الخبيثتين نحوي وابتسم ابتسامةً ساخرة لم يسبق أن رأيت لها نظيرًا. كان ازدراؤه لي يفوق احتمالي، ففتحت جانب القفص السلكي، وتشبثت بعدوِّي باستماتة. أمسكته من ذيله، وجذبته نحوي، وحطمت عظام أرجله الشحمية، وتحسست بلا تبصُّر بحثًا عن رأسه، وعندما وضعت كلتا يديَّ حول عنقه، طوَّقت حياته بقبضة محكَمة. وبكل ما أُوتيت من قوة، وبكل طيش الرغبةِ المستميتة مزَّقت لحم الضحية الكريهة ولويته، فشهق، وصاح صيحةَ ألمٍ رهيبة، وأصبح أخيرًا خائرًا وهادئًا في قبضتي. لقد أرضيت كراهيتي وانتهى آخر شغف لي، وأصبحت حرًّا لاستقبال سقراط.

عندما استيقظت بعد نوم طويل خالٍ من الأحلام، لم أكد أتذكر أحداث الليلة البارحة؛ بل كل حياتي السابقة كما لو كانت أحداث قصة قرأتها منذ سنوات.

رحلت البومة، لكن جثة الفأر المشوَّهة كانت راقدة بجواري، وتلك الابتسامة المريعة مرسومةً على وجهه حتى وهو ميت، بل أصبحَت الآن تبدو كابتسامة انتصار شيطانية.

نهضت ونفضت عن عيني النعاس، وبدا كما لو كانت حياة جديدة تسري في شراييني. لم أعد لامباليًا وسلبيًّا. أصبحت مهتمًّا بما حولي بحيوية، وأردت الخروج للعالم بين البشر، للانخراط في الأحداث والاستمتاع بالعمل.

صعدَت إيما الجميلة التل جالبة معها سلَّتها، فقلتُ لها: «سوف أتركك. سأجد مكانًا أفضل من قلعة شفينكشفانك.»

فسألتني في حماسة: «وهل ستذهب إلى كولونيا؛ حيث الحامية التي يوجد بها جنود الإمبراطور؟»

«ربما سأذهب إليها … في طريقي إلى العالم.»

استطردت في خجل: «هلا ذهبت إلى فريتس نيابةً عني؟ لديَّ أخبار جميلة لأرسلها إليه؛ لقد تُوفي عمُّه، كاتب العدل العجوز البخيل ليلة أمس، وأصبح فريتس يمتلك الآن ثروة صغيرة، ويجب أن يعود إليَّ على الفور.»

قلت ببطء: «كاتب العدل مات ليلة أمس؟»

«نعم يا سيدي، ويقولون إن وجهه كان مسودًّا في الصباح، لكن هذا خبر رائع بالنسبة إلى فريتس ولي.»

أردفتُ بمزيد من البطء: «ربما … ربما لن يصدقني فريتس؛ فأنا غريب، والأشخاص الذين يعرفون حال الدنيا مثل هذا الجندي الشاب يميلون إلى التشكك.»

أجابت بسرعة وهي تخلع من إصبعها حلية رخيصة: «خذ هذا الخاتم. لقد أعطاني فريتس إياه وسيعرف منه أنني أثق بك.»

كان الزائر التالي العالم كالكاريوس، وكان شبه مقطوع النَّفَس عندما وصل إلى السكن الذي كنت أستعد لمغادرته.

قال متسائلًا: «كيف حال تناسخ الأرواح يا تلميذي الجليل؟ لقد جئت ليلة البارحة من بون، لكن بدلًا من قضاء ليلة أخرى مع فئرانك المرعبة عرَّضت مالي لابتزاز صاحب النُّزل في القرية؛ لقد احتال عليَّ النصَّاب.» واستطرد وهو يُخرِج محفظته ويَعُد ثروة صغيرة من العملات الفضية: «لقد أخذ مني أربعين عملة فضية مقابل المبيت والفطور.»

رؤية العملات الفضية وسماع خشخشتها وهي تحتكُّ بعضها ببعض في يد البروفيسور كالكاريوس أنعشا روحي الجديدة بشعور لم أشعر به من قبلُ؛ ففي تلك اللحظة بدت الفضة الأكثر لمعانًا في الكون من وجهة نظري، وبدا لي أن الاستحواذ على هذه الفضة بأي طريقة هو الاستخدام الأنبل للطاقة البشرية. وتحت تأثير دافعٍ مفاجئ لم أستطِع مقاومته، هجمتُ على صديقي ومعلِّمي وانتزعت المحفظة من يديه، فصرخ في دهشة وفزع.

صحتُ قائلًا: «استمِرَّ في الصراخ! لن ينفعك بشيء؛ فلن يسمع صرخاتك الضعيفة إلا الفئران والبوم والأشباح، أما المال فهو لي.»

تساءل ذاهلًا: «ما هذا؟ أتسرق ضيفك وصديقك وموجِّهك ومرشدك في دروب العلوم الميتافيزيقية المتسامية؟ أي غدرٍ استحوذ على روحك؟»

أمسكت السيد البروفيسور من ساقيه وقذفته بعنف على الأرض. قاوم مثلما قاوم الفأر الرمادي، فكسرتُ قطعة سلك من القفص وربطتُ يديه وقدميه بإحكام، لدرجة أن السلك جرح لحمه السمين جرحًا غائرًا.

قلت وأنا أقف عليه ضاحكًا: «ها! كم ستكون جثتك السمينة وجبةً رائعة للفئران!» وانصرفتُ عنه راحلًا.

صاح: «يا إلهي! أنت لا تنوي أن تتركني، فلا أحد يأتي إلى هنا أبدًا.»

أجبت وأنا أكزُّ على أسناني وألوِّح بقبضتي أمام وجهه: «هذا أفضل؛ فسوف تحظى الفئران بفرصة إراحتك من لحمك السمين دون أن يقاطعها أحد. آه، إنها جائعة جدًّا، أؤكد لك ذلك أيها العالِم الميتافيزيقي، وسوف تساعدك سريعًا في قطع الرابط الغامض الذي يربط الروح بالجسد الحي؛ فهي تعلم جيدًا كيف تخلص الأنا الفردية من اللحم المحيط بها. أهنِّئك على هذه التجربة النادرة المحتملة.»

أخذتْ صرخات البروفيسور تخفُت شيئًا فشيئًا وأنا أنزل على التل. وبمجرد أن أصبحت صرخاته خارج حيز سمعي توقَّفتُ لأعد غنيمتي. عددت المال الموجود في محفظته مرارًا وتكرارًا ببهجة استثنائية، وحصلت دائمًا على النتيجة نفسها؛ فلم يكن في المحفظة سوى ثلاثين قطعة فضية.

قادني طريقي إلى عالَم المقايضة والربح إلى المرور عبْر كولونيا، وبحثت في الثكنات العسكرية عن فريتس شنايدر ابن بلدة شفينكشفانك.

قلتُ وأنا أضع يدي على كتفه: «يا صديقي، سأسديك أكبر خدمة يمكن أن يقدِّمها رجل لآخر؛ أنت تحب الشابة إيما ابنة صاحب النُّزل، أليس كذلك؟»

فقال: «أحبها حقًّا، هل أتيت بنبأ عنها؟»

«لقد انتزعتُ نفسي للتوِّ من عناقها الحار.»

فصاح: «هذا كذب! إن الفتاة الشابة نقية كالذهب.»

قلتُ في هدوء وأنا ألقي إليه خاتم إيما: «بل مزيفة كمعدن هذه الحلية الرخيصة، لقد أعطتني إياها بالأمس عندما افترقنا.»

نظر إلى الخاتم ثم وضع كلتا يديه على جبهته وقال متأوِّهًا: «هذا صحيح، هذا خاتم الخطبة!» وراقبت ألمه باهتمام هادئ.

استطرد وهو يُخرِج من صدره محفظةً مغزولة بإحكام: «انظر، هذا هو المال الذي أرسلتْه إليَّ لتساعدني في شراء الترقية، ربما هذا المال مالك؟»

أجبت ببرود شديد: «من المحتمل جدًّا؛ فالقطع المعدنية تبدو مألوفة.»

ودون أن ينطق الجندي بكلمة أخرى قذف المحفظة عند قدمي وولَّى مدبرًا، وسمعته يبكي، وكان الصوت في أذني كأنه الموسيقى، ثم التقطتُ المحفظة وأسرعت إلى أقرب مقهًى كي أعدَّ القطع الفضية، فلم أجد بها إلا ثلاثين قطعة أيضًا.

كان مصدر السعادة الأساسي لطبيعتي الجديدة هو الحصول على الفضة، إنها متعة عظيمة، أليس كذلك؟ كم أنا محظوظ لأن الروح التي استحوذت على جسدي في القلعة لم تكن روح سقراط التي كانت ستجعلني على أفضل تقدير مفكرًا بائسًا مثل كالكاريوس، بل كانت الروح التي كانت تسكن الفأر الرمادي قبل أن أخنقه. لقد اعتقدت في لحظةٍ أن الروح الجديدة جاءتني من كاتب العدل المتوفَّى في القرية؛ أما الآن، فأنا أعلم أنني ورثتها من الفأر، وأعتقد أنها الروح التي كانت تسكن في الماضي جسد يهوذا الإسخريوطي، أمير رجال الأفعال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤