أبرع رجل في العالم

١

ربما يتذكر أحد — وربما لا — أنه في عام ١٨٧٨، قضى الجنرال إجناتييف عدة أسابيع من شهر يوليو في فندق باديشر هوف في بادن. أفادت الصحف العامة بأنه زار المنتجع من أجل صحته، التي قيل إنها تضررت كثيرًا بفعل القلق المستمر والمسئوليات الملقاة على عاتقه في خدمة القيصر، لكن الجميع كان يعرف أن إجناتييف كان قد فقد الحظوة للتوِّ في سانت بطرسبرج، وأن غيابه عن مراكز القوة السياسية الحيوية — في وقت كان فيه السلام في أوروبا هشًّا مثل ريشةٍ في مهب الريح، بين سالزبوري وشوفالوف — لم يكن إلا نفيًا مُقنَّعًا على نحوٍ مهذَّب، لا أكثر ولا أقل.

إنني مَدِين بالحقائق الآتية، لصديقي فيشر، من نيويورك، الذي وصل إلى بادن بعد وصول إجناتييف بيوم، وأُعلن عنه حسب المُتَّبع في القائمة الرسمية للغرباء، بصفته: «السيد الدكتور البروفيسور فيشر، والسيدة حرمه. إقامة. أمريكا الشمالية.»

إن ندرة الألقاب بين الأرستقراطيين المسافرين من أمريكا الشمالية، تُعدُّ مشكلةً مستمرة، بالنسبة إلى الشخص البارع الذي يكتب القائمة الرسمية؛ إذ يدفعه كل من الغرور المهني وطبائع الضيافة، على حدٍّ سواء، إلى سد النقص كلما أمكنه ذلك. إنه يوزِّع ألقاب الحاكم واللواء والدكتور البروفيسور، بقدرٍ مقبول من عدم التحيُّز، حسب ما يرتديه الأمريكيون الوافدون من ملابس مميزة أو عسكرية أو مهندمة. ويعود الفضل في اللقب الذي حصل عليه فيشر إلى نظَّارته.

كان الوقت لا يزال مبكرًا في الموسم؛ إذ لم يكن المسرح قد فُتح بعدُ، وكانت الفنادق نصف مشغولة بالكاد، والحفلات الموسيقية في أكشاك الكونفرسيشن هاوس، كان الحضور فيها قليلًا، ولم يجد أصحاب الدكاكين عملًا أفضل من قضاء أوقاتهم في التحسُّر على تردِّي أحوال بادن، منذ أُنهيَت المسرحية. شتَّت بعض السياح انتباهَ الرجل العجوز الواهن الذي يحرس البرج المُقام على جبل مركوريسبرج. وجد فيشر أن المكان مملٌّ جدًّا، بمثل إملال ساراتوجا في شهر يونيو، أو لونج برانش في شهر سبتمبر. كان يتعجل العودة إلى سويسرا، لكن زوجته انضمَّت إلى مائدة تضيفها كونتيسة بولندية، ورفضت بشدة أن تأخذ أي خطوة من شأنها أن تفسد هذه العلاقة العظيمة النفع.

في عصر أحد الأيام، عندما أتى حارس فندق باديشر هوف إلى فيشر راكضًا، كان فيشر يقف على أحد الجسور الصغيرة، التي تصل بين ضفتَيْ نهر أوزباخ ذي المجرى الضيق، ينظر بفتور إلى المياه، ويتساءل عما إذا كان بإمكان سمك السلمون الكبير الحجم الآتي من بحيرة رينجلي أن يسبح في مجرى النهر دون مشقة.

صاح الحارس لامسًا قبعته: «السيد الدكتور البروفيسور، أستميحك عذرًا، سليل النبلاء البارون سافيتش من موسكو، من بطانة الجنرال إجناتييف، يعاني نوبة مرضية رهيبة، ويبدو أنه يحتضر.»

عبثًا أكَّد فيشر للحارس أنه من الخطأ اعتباره خبيرًا طبيًّا؛ إذ إنه لا يحيط بأي علم من العلوم، عدا المتعلق بلعب البوكر، وأنه إذا كان انطباعٌ زائفٌ قد ساد في الفندق، فإن ذلك نتيجة لخطأٍ غبيٍّ لم يكن هو مسئولًا عنه بأي حال من الأحوال، وإنه بقدر تحسُّره على الحالة البائسة التي يعانيها البارون سليل النبلاء من موسكو، لا يظن أن وجوده في غرفة المريض سيكون له أدنى فائدة. كان من الصعب إزالة الفكرة التي استحوذت على تفكير الحارس، وحيث إن فيشر وجد نفسه يُسحَب بالفعل إلى الفندق، فقد خلُص في نهاية المطاف إلى الرضوخ للأمر الواقع، وشرح الموقف لأصدقاء البارون.

كانت الغرف الروسية في الطابق الثاني، غير بعيدة عن تلك التي يسكنها فيشر. أتى من الغرفة مهرولًا خادمٌ فرنسي يكاد يموت من الرعب، ليلتقي بالحارس والدكتور البروفيسور. حاول فيشر مجدَّدًا أن يشرح، لكن بلا فائدة. كان لدى الخادم ما يشرحه أيضًا، وقد مكَّنته طلاقة لسانه الفرنسي المتميزة، من السيطرة على دفَّة الحوار. كلا، لم يكن هناك أحد، لم يكن هناك أحد غيره، أوجست المخلص للبارون. هرع إلى جرنزباخ ذلك الصباح، كلٌّ من صاحب السعادة الجنرال إجناتييف، وصاحب السمو الأمير كولوف، والدكتور رابشويل، والبطانة كلها، والعالم كله. في تلك الأثناء، كان قد تمكَّن من البارون وعكةٌ مروِّعة، وكان أوجست حزينًا مروَّعًا؛ لذا توسَّل إلى المسيو لئلا يضيع أي وقت في الكلام، وليعجِّل بالمجيء إلى جوار سرير البارون، الذي كان يعاني سكرات الموت بالفعل.

تبع فيشر أوجست إلى الغرفة الداخلية، وكان البارون مرتديًا حذاءه ومستلقيًا على الفراش، وكان جسده مطويًّا على نفسه، من جرَّاء إحكام الألم المبرح قبضتَه عليه. كانت أسنانه تصطكُّ بشدة، وقد شوَّهت العضلات المتخشِّبة حول فمه تعبيرات وجهه الطبيعية، وبين الفينة والأخرى يصدر منه أنينٌ عميق، كانت عيناه الدقيقتان تدوران على نحو يُرثى له. ومن آنٍ لآخر، كان يضغط على بطنه بكلتا يديه، وترتعد أطرافه جميعها، من شدة ما يعاني.

نسي فيشر تفسيراته؛ فلو أنه كان طبيبًا أستاذًا في الحقيقة، لما تابع أعراض مرض البارون بعناية أعظم من ذلك.

همس أوجست المذعور قائلًا: «هل يستطيع المسيو إنقاذه؟»

قال المسيو بنبرةٍ جافة: «ربما.»

دوَّن فيشر ملحوظة وجيزة لزوجته، على ظهر إحدى البطاقات، وبعث بها إليها مع حارس الفندق. عاد الساعي بسرعةٍ كبيرة، جالبًا زجاجةً سوداء وقدحًا. وصلت الزجاجة إلى صندوق فيشر في بادن، قاطعةً الطريق كله من ليفربول، بعدما عبرت البحر إلى ليفربول من نيويورك، بعد خوضها الرحلة إلى نيويورك مباشرة قادمة من مقاطعة بوربون، بولاية كنتاكي. أمسك فيشر بها بتلهُّف ووقار، ورفعها إلى أعلى باتجاه الضوء. كان لا يزال هناك ثلاث بوصات، أو ثلاث بوصات ونصف البوصة، في قعر الزجاجة؛ أطلق صيحة تنمُّ عن الابتهاج.

أشار إلى أوجست بقوله: «هناك بعض الأمل في إنقاذ البارون.»

سكب نصف السائل الثمين في القدح، وأعطاه دون توانٍ للمريض المتأوِّه المتلوِّي. وفي غضون بضع دقائق، سُرَّ فيشر برؤية البارون يجلس معتدلًا في السرير وقد استرخت العضلات المحيطة بفمه، وحلَّ محل تعبير المعاناة نظرة سرورٍ رائق.

سنحت الفرصة آنذاك لفيشر ليرصد السمات الشخصية للبارون الروسي: كان رجلًا شابًّا في حوالي الخامسة والثلاثين من العمر، ذا ملامح بارزة وفائقة الوسامة، لكن مع رأسٍ غريب. كان الغريب بشأن رأسه أنه بدا تام الاستدارة في الأعلى؛ إذ كان من الواضح أن قُطره من الأُذن إلى الأذن، مساوٍ تمامًا لقُطره من الأمام إلى الخلف، وعلى نحوٍ أكثر لفتًا للنظر، تكلل الأثر الغريب لتشكيله غير العادي بخلوِّ رأسه من الشعر تمامًا. لم يكن ثمة شيء على رأس البارون، سوى قلنسوة ضيقة للغاية مصنوعة من الحرير الأسود، وقد عُلِّقت على إحدى قوائم السرير «باروكة» خادعة للغاية.

وبتعافي سافيتش بالقدر الكافي لتمييز وجود شخصٍ غريب، بادر بانحناءة احترام.

سأله فيشر بفرنسية ركيكة: «كيف حالك الآن؟»

رد البارون بإنجليزية طليقة يتحدث بها بصوتٍ ساحر: «أفضل كثيرًا، بفضل المسيو. أشعر بأنني أفضل كثيرًا، على الرغم من شعوري بنوع من الدوار هنا.» وضغط بيده على جبهته.

انصرف الخادم بإشارة من سيده، وتبعه الحارس، اقترب فيشر من السرير، وأخذ بمعصم البارون. حتى لمسته غير المتمرسة، أنبأته بأن مُعدَّل النبض كان عاليًا، إلى حدٍّ منذر بالخطر. كان متحيِّرًا للغاية، واعتراه قلق غير يسير حيال المنعطف الذي اتخذته الأمور. فكَّر: «هل أوقعتُ نفسي والروسيَّ في مصيبة سوداء؟ لكن لا؛ هو أبعد ما يكون عن سني مراهقته، ونصف قدح من مثل هذا الويسكي ليس من الوارد أن يؤثر على رأس طفلٍ رضيع.»

ومع ذلك، فإن الأعراض الجديدة تطوَّرت بسرعة وحِدَّة، جعلتا فيشر يشعر بقلقٍ غير عادي؛ أصبح وجه سافيتش أبيض كالرخام، وفاقَم من شحوبه التباين الحادُّ بينه وبين سواد القلنسوة التي يرتديها، واختل توازنه وهو جالس على السرير، وأمسك رأسه بكلتا يديه بطريقة تشنجية، كما لو كان يخشى أن ينفجر.

قال فيشر بتوتر: «يجدر بي أن أستدعي خادمك.»

قال البارون وهو يلهث: «لا، لا! إنك رجلُ طِبٍّ، وحريٌّ بي أن أثق بك. ثمة أمر على غير ما يُرام هنا.» وبحركةٍ تشنجية، أشار إلى الجزء العلوي من رأسه على نحوٍ غامض.

تمتم فيشر: «لكنني لستُ …»

صرخ الروسي بتسلُّط: «لا تتكلم! تصرَّف فورًا من غير تلكُّؤ ولا تأخير، افكك الجزء العلوي من رأسي!»

نزع سافيتش قلنسوته وألقى بها جانبًا، ولم يجد فيشر كلمات تعبِّر عن الذهول الذي اعتراه حين رأى النسيج الفعلي لجمجمة البارون؛ لقد كانت القلنسوة تواري حقيقة أن الجزء العلوي كله من رأس سافيتش، عبارة عن قبة من الفضة المصقولة.

كرر سافيتش قوله: «افككه!»

على مضض، وضع فيشر كلتا يديه على الجمجمة الفضية، وضغط ضغطةً خفيفة نحو اليسار، فاستجاب الجزء العلوي، ودار في لوالبه بالفعل وبسهولة.

قال البارون بصوتٍ خفيض: «أسرع! أقول لك إنه لا وقت نضيعه.» ثم أُغشي عليه.

في تلك اللحظة، كان هناك صوت أشخاص في الغرفة الخارجية، وفُتح الباب المؤدي إلى غرفة نوم البارون بعنف، ثم صُفق بالعنف نفسه. كان الوافد رجلًا قصيرًا هزيلًا في منتصف العمر، له وجهٌ حاد الملامح، وعينان صغيرتان رماديتان غائرتان، ذواتا نظرة ثاقبة. وقف لبضع ثوانٍ يحدج فيشر بنظرةٍ حادةٍ شديدة الارتياب.

استعاد البارون وعيه وفتح عينيه.

هتف: «الدكتور رابشويل!»

اقترب الدكتور رابشويل من السرير بخطواتٍ واسعةٍ مسرعة، وواجه فيشر ومريضه. سأل بغضب: «ما كل هذا؟»

ودون انتظار الجواب، وضع يده على ذراع فيشر بوقاحة، وجذبه بعيدًا عن البارون. لم يُظهر فيشر أي مقاومة؛ إذ غلبه الذهول أكثر فأكثر، وترك نفسه ليُقاد أو ليُدفَع باتجاه الباب. وفتح الدكتور رابشويل الباب على مصراعيه، ليمنح الأمريكيَّ فرصةً للخروج، ثم صفق الباب بعنف. وأنبأت طقطقة سريعة فيشر بأن المفتاح قد أُدير في القفل.

٢

في الصباح التالي، قابل فيشر سافيتش، وهو آتٍ من محطة الضَّخ ترينكهال. أومأ البارون بتأدُّبٍ خالٍ من المشاعر، ومضى في طريقه. وفي وقتٍ لاحق من اليوم نفسه، ناول أحد الخدم فيشر لفافة، ومعها رسالة تقول: «يفترض الدكتور رابشويل أن هذا سيكون كافيًا.» احتوت اللفافة على قطعتين ذهبيتين من فئة العشرين ماركًا.

كزَّ فيشر على أسنانه، وتمتم في نفسه: «سيعود إليه الأربعون ماركًا، لكن سأحصل في المقابل على سرِّه المحيِّر.»

عندئذ اكتشف فيشر أنه حتى الكونتيسة البولندية تفيد في العلاقات الاجتماعية.

كانت صديقة مائدة السيدة فيشر لطيفةً بطبعها، حين قصدها فيشر (من خلال زوجته) بخصوص البارون سافيتش من موسكو. هل تعرف أي شيء عن البارون سافيتش؟ بالتأكيد كانت تعرف، عنه وعن كل ذي شأن في أوروبا. هل ستتفضل بالإفصاح عما تعرفه؟ بالتأكيد ستفصح، وسيسعدها إشباع أدنى درجات فضول صديقتها الأمريكية. كان منعشًا — بالنسبة إلى سيدة عجوز لم يعد يبهرها شيء، ولم تعد منذ زمنٍ طويل تكترث كثيرًا بالرجال والسيدات والأشياء والأحداث الجديدة — أن تقابل شخصًا آتيًا للتوِّ من الأرجاء الفسيحة للعالم الجديد، مولَعًا للغاية باستطلاع أحوال عِلية القوم. أوه! نعم، ستفصح، بترحيبٍ شديد، عن تاريخ البارون سافيتش من موسكو، إذا كان ذلك سيسرُّ صديقتها الأمريكية العزيزة.

وفَّت الكونتيسة البولندية بوعدها بسخاء، مفصحة — علاوة على ذلك — عن مختاراتٍ كثيرة من القيل والقال والفضائح، التي تتناول مجتمع النبلاء الروس، ولا علاقة لها بالموضوع الأساسي. جاءت قصتها — كما لخَّصها فيشر — على النحو التالي:

لم يكن للبارون سافيتش وجودٌ سابق، وكان هناك غموضٌ يحيط بأصوله، لم يُحَل لغزه قط على نحوٍ مُرضٍ في سانت بطرسبرج، ولا في موسكو. قال بعضهم إنه لقيط من لقطاء مؤسسة فوسبيتاتلنوي دوم.

واعتقد آخرون أنه الابن غير المعترف به لشخصية بارزة بعينها، ذات قرابة وثيقة بآل رومانوف. وكانت النظرية الثانية أكثر ترجيحًا؛ إذ إنها تفسِّر إلى حدٍّ ما نجاحه المهني المنقطع النظير، منذ اليوم الأول الذي تخرَّج فيه من جامعة دوربات.

كانت هذه السيرة المهنية براقة وسريعة التطور، على نحوٍ غير مسبوق. دخل السلكَ الدبلوماسي القيصري، وكان لعدة سنوات ملتحقًا بالبعثات الدبلوماسية في فيينا ولندن وباريس، ومُنح لقب البارون قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين؛ لما أظهره من كفاءة عجيبة في إدارة مفاوضات على مستوى عالٍ من الأهمية والحساسية، مع آل هابسبورج، وصار ذا حظوة عند آل جورشاكوف، ومُنح كل الفرص لممارسة دهائه الدبلوماسي إلى حدِّ أنه قيل في دوائر مطَّلعة في سانت بطرسبرج إن العقلية القيادية التي قادت النهج الروسي خلال المسألة الشرقية برمَّتها، وخططت للحملة على نهر الدانوب، وأسهمت في انتصار جنود القيصر، وفي الوقت نفسه أبقت النمسا على مسافة، وحيَّدت القوة الألمانية الهائلة، وأثارت غضب إنجلترا، الذي لم يتطوَّر إلى تهديداتٍ خطيرة؛ تلك العقلية كانت عقلية البارون الشاب سافيتش. كان من المؤكد أنه رافق إجناتييف في القسطنطينية حينما اندلع الصراع للمرة الأولى، وكان مع شوفالوف في أثناء المباحثات السرية مع الدوق الأكبر نيكولاس في أدرنه، حين وُقِّع بروتوكول لهدنةٍ عسكرية، وسيكون قريبًا في برلين في كواليس المؤتمر الذي يُتوقَّع أن يَهزم فيه قادةَ أوروبا كلَّهم، وأن يُلاعب بسمارك ودزرائيلي، مثلما يلعب رجلٌ قوي مع طفلين شقيين.

لكن الكونتيسة لم تشغل بالها كثيرًا بإنجازات ذلك الشاب الوسيم في مجال السياسة، بل كانت تولي حياته الاجتماعية اهتمامًا خاصًّا؛ إذ لم يكن نجاحه في هذا المجال أقل لفتًا للنظر، فعلى الرغم من أن أحدًا لم يعرف على وجه اليقين اسم والده، فقد احتل بلا شك مكانة رفيعة في الأوساط العُليا المحيطة بالبلاط الإمبراطوري، وكان من المفترض أن يكون نفوذه لدى القيصر نفسه غير محدود. وبغضِّ النظر عن مولده، كان يُنظر إليه باعتباره أفضل من أنجبت روسيا؛ فبفضل قوة نبوغه الهائلة، انطلق من الفقر، وأحرز لنفسه ثروةً ضخمة، قدَّرها تقريرٌ بأربعين مليون روبل، ولم يجاوز التقرير الموثوق الحقيقة؛ إذ كان كل مشروعٍ محفوفٍ بالمخاطر يباشره يحقق نجاحًا أكيدًا، بفضل مزايا التنظيم والتوليف والتحكُّم نفسها، وهي الرأي السديد والمعتدل، والبصيرة البعيدة المدى، وما يبدو أنه قدرة تتجاوز قدرات البشر، وهو الأمر الذي جعل منه ظاهرة العصر في مجال السياسة.

ماذا عن الدكتور رابشويل؟ أجل، عرَّفتْه الكونتيسة بما سمعته عنه وبما رأته منه. لقد كان الطبيبَ المرافق دومًا للبارون سافيتش، الذي جعله تنظيمه الذهني اليقظ ذا حساسية عالية لهجمات المرض المفاجئة والخطيرة. كان الدكتور رابشويل سويسريًّا، وعمل في الأصل صانع ساعات أو حِرَفيًّا من نوعٍ ما، حسبما وصل إلى مسامعها. أما عن الباقي، فقد كان رجلًا مألوفًا ضئيل الحجم كبير السن، كرَّس نفسه لمهنته وللبارون، وهو عديم الطموح بشكلٍ واضح؛ إذ إنه أهمل تمامًا استغلال الفرص التي أتاحها له منصبه وعلاقاته في إنماء ثرواته الشخصية.

مسلَّحًا بهذه المعلومات، شعر فيشر بأنه جاهز على نحوٍ أفضل، للاشتباك مع رابشويل من أجل الاطلاع على السر. ظل ينتظر الطبيب السويسري لمدة خمسة أيام، وفي اليوم السادس، سنحت الفرصة المأمولة من تلقاء نفسها، على غير المُتوقَّع.

في منتصف الطريق إلى قمة مركوريسبرج، في آخر النهار، قابل حارس البرج الخرب نازلًا إلى أسفل. «كلا، البرج ليس مغلقًا؛ هناك رجل في أعلاه، يجري رصدًا للبلدة، وهو — أي الحارس — سيعود في خلال ساعة أو اثنتين.» لذا واصل فيشر صعوده.

إن الجزء العلوي من البرج في حالةٍ متهالكة، ويعوِّض النقصَ في السلالم المؤدية إلى القمة سُلَّمٌ خشبيٌّ مؤقَّت. بالكاد عَبَر رأسُ فيشر وكتفاه الفتحة المؤدية إلى المنصة قبل أن يكتشف أن الرجل الذي كان هناك بالفعل هو الرجل الذي كان يبحث عنه. كان الدكتور رابشويل يدرس طوبوغرافية الغابة السوداء باستخدام منظار مُقرِّب.

أعلن فيشر عن مَقْدمه بتعثرٍ مُواتٍ، ومحاولة لاستعادة توازنه أحدثت جلبة، وفي الوقت نفسه، كان يسدد ركلةً مختلسة إلى الدرجة الأخيرة من السلَّم، ويتشبث — بثقة — بحافة الفتحة. سقط السلم مسافة ثلاثين أو أربعين قدمًا، محدِثًا ضجيجًا؛ نتيجة لاصطدامه بجدران البرج واحتكاكه بها.

أدرك الدكتور رابشويل الموقف على الفور؛ فالتفت بسرعة، وعلَّق بنبرة ساخرة، قائلًا: «المسيو أحرج نفسه بلا داعٍ.» ثم عبس وكشر عن أسنانه، لمَّا تبيَّن له أنه فيشر.

قال الرجل القادم من نيويورك برباطة جأش لا تتزعزع: «إنه لأمر مؤسف إلى حدٍّ ما، سوف نظل محتجزَيْن هنا لبضع ساعات على الأقل، لكن دعنا نهنئ نفسَينا بامتلاك كلٍّ منا رفيقًا نجيبًا، فضلًا عن المناظر الساحرة التي يمكننا تأمُّلها.»

أومأ السويسري ببرود، واستأنف دراساته الطوبوغرافية، بينما أشعل فيشر سيجارًا.

تابع فيشر وهو ينفث سحب الدخان باتجاه تويفلمفيل: «أرغب كذلك في أن أغتنم هذه الفرصة؛ لأعيد ماركاتك الأربعين، التي وصلت إليَّ عن طريق الخطأ على ما أظن.»

أجاب رابشويل بنبرةٍ لاذعة: «إذا كان المسيو الطبيب الأمريكي غير راضٍ عن أجره، فيمكنه بلا شك إعادة تسوية الأمر، من خلال تقديم طلب إلى خادم البارون.»

لم يُعر فيشر هجومه اهتمامًا، لكنه وضع القطعتين الذهبيتين على الدَّرابزين بهدوء، أمام ناظري السويسري مباشرة.

قال بنبرة توكيد متعمَّدة: «لم أستطع مجرد التفكير في قبول أي أجر؛ فقد كوفئت بسخاء على خدماتي البسيطة، بفرادة الحالة وأهميتها.»

دقَّق السويسري بعينيه الرماديتين الصغيرتين الحادَّتين في ملامح الأمريكي مليًّا وبثبات، وأخيرًا قال بلا مبالاة:

«هل المسيو رجل علم؟»

أجاب فيشر: «أجل.» وقد أبطن تحفُّظًا على كل العلوم، ما عدا ذلك العلم الذي يشرح لعبتنا الوطنية، البوكر، ويحتفي بها.

تابع الدكتور رابشويل: «إذن فلربما يقر المسيو بأنه كان يندر أن يعاين حالة من حالات ثقب الجمجمة، أجمل أو أكبر من هذه.»

رفع فيشر حاجبيه قليلًا.

وأكمل الدكتور رابشويل: «والمسيو سيفهم أيضًا، كونه طبيبًا، الوضع الحساس للبارون نفسه ولأصدقائه، بهذا الصدد؛ ولذا سيغفر لي ما بدا أنه وقاحة، إبَّان اكتشافه الأمر.»

قال فيشر في نفسه: «إنه أذكى مما ظننتُ، إنه يمسك بجميع أوراق اللعبة، في حين لا أملك أنا أي شيء؛ لا شيء سوى القدرة على ضبط النفس، حينما يتعلق الأمر بلعبة من ألعاب الخداع.»

وتابع جهرًا: «إنني أشعر بالأسف العميق حيال تلك الحساسية، على الرغم من أنه خطر لي أنَّ نشر تقريرٍ دقيق حول ما رأيته، في إحدى الدوريات العلمية في إنجلترا أو أمريكا سيلفت أنظار العالم، وسيُستقبَل باهتمام في أوروبا.»

صرخ السويسري بحدَّة: «ما رأيتَه! إنه زائف. أنت لم ترَ شيئًا؛ فحينما دخلتُ لم تكن حتى قد أزلت اﻟ…»

وهنا توقَّف هنيهة ودمدم في نفسه، كما لو أنه يلعن تهوُّره، أما فيشر فاحتفل بتفوقه، بإطفاء سيجاره نصف المُدخَّن، وإشعال واحدٍ جديد.

أكمل الدكتور رابشويل بعصبيةٍ متنامية بوضوح: «أما وإنك تضطرني إلى أن أكون صريحًا، فسأعلمك بأن البارون أكَّد أنك لم ترَ شيئًا، فلقد قاطعتك في أثناء قيامك بإزالة القلنسوة الفضية.»

ردَّ فيشر، في محاولةٍ أخيرة، راسمًا على وجهه تعبيرات أكثر صرامة: «سأكون صريحًا بالقدر نفسه، فبخصوص هذه النقطة، ليس البارون شاهدًا يُعتدُّ به؛ لقد كان في حالة إغماء لبعض الوقت قبل أن تدخل، فربما كنتُ أزيل القلنسوة الفضية حين قاطعتني …»

شحب لون الدكتور رابشويل.

ثم قال فيشر ببرود: «ولربما كنتُ أعيدها إلى مكانها.»

بدا أن طرح هذه الاحتمالية وقَع على رابشويل وَقْع الصاعقة المفاجئة من بين الغيوم. وهنَتْ ركبتاه، وكاد يتهاوى على الأرض، ووارى عينيه بيديه، وأخذ يبكي مثل الأطفال، أو بالأحرى، مثل شيخٍ منكسر.

صاح بطريقة هستيرية: «سينشره! سينشره ليقرأه الصفوة وليقرأه العالم! وعند وقوع هذه الأزمة …»

ثم، وفي محاولة يائسة، بدا أن السويسري استعاد ضبطه لنفسه إلى حدٍّ ما. هرول في محيط المنصة لعدة دقائق، ورأسه منحنٍ وذراعاه معقودتان على صدره. قال ملتفتًا مرة أخرى إلى مرافقه:

«لو أن أي ثمن تطلبه فسوف …»

قاطع فيشر العرض ضاحكًا.

قال رابشويل: «إذن، لو؛ لو جثوتُ بباب عطفك …»

سأله فيشر: «ماذا إذن؟»

«وسألتك أن تعدني، بشرفك، بالتزام الصمت التام بشأن ما رأيته؟»

«الصمت حتى ذلك الوقت الذي لن يعود فيه للبارون سافيتش وجودٌ مثلًا؟»

قال رابشويل: «سَيَفِي ذلك بالغرض؛ إذ إنه حين لا يعود له وجود، سأهلك. وما شروطك؟»

«أريد القصة الكاملة، هنا والآن، ودون إخفاء شيء منها.»

قال رابشويل: «إنه لثمن باهظ هذا الذي تطلبه مني، لكن ثمة مصالح أكبر من كبريائي على المحك. سألقي على مسامعك القصة.»

وتابع بعدما توقَّف مليًّا: «لقد درجتُ على كوني صانع ساعات، في كانتون زيورخ، ولا أكون مغرورًا حين أقول إنني وصلت إلى درجة مدهشة من الحرفية في هذه الصنعة، ولقد طوَّرتُ قدرة على الابتكار قادتني إلى سلسلة من التجارب المتعلقة بإمكانات التراكيب الميكانيكية المجردة، لقد درستُ الآلات الذاتية الحركة الأفضل على الإطلاق التي صنعتها براعة الإنسان، ورقَّيتُها، واستحوذ على اهتمامي بشكلٍ خاص آلة بابيج الحاسبة؛ إذ رأيتُ في فكرة بابيج النواة لشيءٍ يحمل للعالم نفعًا أكبر بلا حدود.

بعد ذلك، تخليتُ عن عملي، وذهبتُ إلى باريس لدراسة علم وظائف الأعضاء. قضيتُ ثلاثة أعوام في جامعة السوربون، وحققتُ الإجادة في هذا الفرع من فروع المعرفة، وفي تلك الأثناء، امتدت مساعيَّ إلى ما وراء العلوم الطبيعية البحتة. انهمكتُ في علم النفس لفترة من الزمن، وبعد ذلك عرَّجت على مجال علم الاجتماع، الذي يُعدُّ — حال استيعابه على نحوٍ كافٍ — خلاصة كل المعارف ومُنتَجها النهائي.

وبعد سنوات من الإعداد، ونتيجةً لمجموع دراساتي، بدأتْ فكرة عمري العظمى — التي راودتني على نحوٍ غامض منذ أيام زيورخ — تتخذ شكلًا مكتملًا ومحدَّدًا.»

تحوَّل أسلوب الدكتور رابشويل من الممانعة غير الواثقة إلى التحمُّس الصريح. بدا أن الرجل نفسه قد تحوَّل. أصغى فيشر بانتباه، ودون أن يقاطع الحكاية، ولم يجد بُدًّا من أن يتخيل أن الحاجة المُلحَّة إلى البوح بالسر الذي صانه الطبيب بحذرٍ شديد ولزمنٍ طويل لم تكن كريهة للغاية بالنسبة إلى ذلك الرجل المتحمِّس.

أكمل الدكتور رابشويل: «والآن أصغِ جيدًا يا مسيو إلى عدد من المسائل المنفصلة، التي قد لا يبدو في البداية أن لإحداها علاقة بالأخرى:

تكللت جهودي في مجال الآلات الميكانيكية، بصنع آلة ذهبت في قوتها الحسابية إلى ما هو أبعد من آلة بابيج، فبالاستناد إلى البيانات، كانت الإمكانيات في هذا الاتجاه بلا حدود. لقد تمكَّنتْ لوغاريتمات بابيج المحسوبة بالعجلات والتروس من حساب إحدى ظواهر الكسوف. تمت تغذية الآلة بالأرقام، وأخرجتْ نتائجها بالأرقام أيضًا، والآن، فإن العلاقات بين الأسباب والنتائج ثابتة وراسخة رسوخ قوانين علم الحساب، إن المنطق علم مثله مثل علم الرياضيات، أو يجب أن يكون كذلك؛ لذا غُذِّيت آلتي الجديدة بالحقائق، وتوصَّلت إلى نتائج. باختصار، أجريتُ عملية مَنطَقة، ونتائج منطَقتها كانت صحيحة دائمًا، في حين غالبًا ما تكون نتائج التفكير المنطقي البشري خاطئة، إن لم يكن ذلك دائمًا. يتمثل مصدر الخطأ في المنطق البشري، فيما يسميه الفلاسفة «المعادلة الشخصية». نحَّت آلتي المعادلة الشخصية؛ انطلقت من السبب إلى النتيجة، من الفرضية إلى الاستنتاج، بدقةٍ بالغة؛ إن الذكاء البشري غير معصوم، أما آلتي فكانت وما زالت معصومة من الخطأ في عملياتها.

مرة أخرى، تعلمتُ من علمَي التشريح ووظائف الأعضاء، خطأ الخرافة الطبية القائلة بأن المادة الرمادية في المخ وجوهر الحياة لا ينفصمان؛ لقد رأيتُ أناسًا يعيشون بأعيرة نارية داخل النخاع المستطيل، ورأيتُ المخيخ والفصوص الدماغية تُزال من جماجم الطيور والحيوانات الصغيرة، وبرغم ذلك لم تمت. أعتقد أنه حتى لو أُزيل المخ من الجمجمة البشرية، فلن يموت الشخص، على الرغم من أنه سيُحرم بالتأكيد من الذكاء الذي كان يتحكم في كل شيء، ما عدا أفعال جسمه اللاإرادية.

مرة أخرى: إن دراسة متعمِّقة للتاريخ من وجهة نظر اجتماعية، لا وفقًا لخبرة تطبيقية لا يُعتدُّ بها بالطبيعة البشرية، جعلتني على يقين من أن أعظم العباقرة في التاريخ كانوا على مستوًى لا يعلو كثيرًا فوق مستوى الذكاء المتوسط، والقمم العُليا في بلدي الأصلي، تلك التي يعرفها العالم كله بالاسم، لا ترتفع إلا لبضع مئات من الأقدام، فوق القمم غير المسماة غير المحصورة العدد التي تحيط بها. لم يتفوق نابليون بونابرت على الرجل الأبرع فيمن حوله، إلا بالقليل. ولكن ذلك القليل كان كل شيء، وساد نابليون أوروبا. ومثلما تفوق نابليون على مورات في القدرات العقلية التي تترجم الأفكار إلى حقائق، فإن رجلًا يتفوق على نابليون، يمكنه أن يجعل من نفسه سيدًا للعالم بأسره.

والآن، لنجمع هذه المسائل الثلاث في واحدة: لنفترض أنني أخذتُ رجلًا، وبإزالة مخه الذي يكرس كل أخطاء وزلات أسلافه، لأعود به إلى أصل العرق، فإنني أزيل جميع مصادر الضعف في مسيرة حياته المستقبلية. لنفترض أنه بدلًا من الذكاء غير المعصوم الذي أزلتُه، منحتُه ذكاءً اصطناعيًّا يعمل وفقًا ليقينية القوانين الكونية، ولنفترض أنني وضعتُ هذا الكائن الفائق، الذي يفكر تفكيرًا منطقيًّا سليمًا، في جسدٍ أقوى بنيةً وأقل شأنًا، لا يفكر تفكيرًا منطقيًّا سليمًا، وانتظرتُ النتيجة المحتومة بهدوء فيلسوف.

ها قد حصلتَ على سري يا مسيو، فهذا هو بالضبط ما فعلتُه. في موسكو، حيث يتولى صديقي الدكتور دوتشات مسئولية معهد سانت فاسيلي الجديد للحمقى الميئوس منهم، وجدتُ صبيًّا في الحادية عشرة من عمره، كانوا يدعونه ستيبان بوروفيتش. منذ وُلد، لم يرَ ولم يسمع ولم يتكلم ولم يفكر، منحته الطبيعة، كما كان يُعتقد، بعضًا من حاسة الشم، وربما بعضًا من حاسة الذوق، لكن حتى ذلك لم يكن هناك ما يؤكده. حاصرَت الطبيعة روحه بأكبر قدر من الفاعلية. كانت تجليات طاقته تنحصر في الهمهمات المتفرقة غير المفهومة، والتشبيك والفرك الدائمين للأصابع. في الأيام المشمسة، كانوا يضعونه في كرسي هزازٍ صغير، في بقعة تسقط عليها أشعة الشمس الدافئة، وكان يهتز جيئة وذهابًا لساعات، محرِّكًا أصابعه النحيلة، ومدمدمًا تعبيرًا عن سعادته بالدفء، في لازمةٍ حزينة ورتيبة من البلاهة. هكذا كانت حالة الفتى حين رأيتُه للمرة الأولى.

رجوتُ صديقي العزيز الدكتور دوتشات أن يعطيني ستيبان بوروفيتش. لو لم يكن ذلك الرجل الرائع قد مات منذ زمن طويل، لكان حريًّا به أن يشاركني نجاحي. أخذتُ ستيبان إلى بيتي وأعملتُ المنشار والسكين، استطعتُ العمل على ذلك الخطأ البشري المسكين اليائس العديم النفع والعديم القيمة، بتهوُّر وبلا خوف، كما لو كنتُ أعمل على كلب اشْتُري أو التُقط لغرض التشريح حيًّا. كان ذلك قبل بضع وعشرين سنة، واليوم يحوز ستيبان بوروفيتش من القوة أكثر مما يحوزه أي رجل آخر على وجه الأرض، وفي غضون عشر سنوات، سيصبح الحاكم المطلق لأوروبا، وسيد العالم؛ إنه لا يخطئ أبدًا؛ لأن الآلة التي تفكِّر تحت جمجمته الفضية لا ترتكب الأخطاء على الإطلاق.»

أشار فيشر باتجاه الأسفل إلى حارس البرج العجوز، الذي شُوهد يكافح لتسلُّق التل.

تابع الدكتور رابشويل: «لطالما فكَّر الحالمون في احتمالية أن نجد بين أطلال الحضارات القديمة بعض النقوش المقتضبة، التي تغير الأساسات التي بُنيت عليها المعرفة البشرية. هزأ العقلانيون بالحلم، وسخروا من فكرة الكابالا العلمية. العقلانيون حمقى. لو أن أرسطو قد اكتَشف على لوحٍ مغطًّى بنقوشٍ مسمارية في نينوى بضع كلمات هي «البقاء للأصلح»، لكانت الفلسفة ستكسب ألفين ومائتي عام. سأعطيك — بالعدد نفسه من الكلمات تقريبًا — حقيقةً لها الثقل نفسه. إن غاية تطور المخلوق هي أن يتحوَّل إلى خالق، ربما سيستغرق الأمر نحو ألفين ومائتي عام قبل أن تجد هذه الحقيقة القبول العام، لكن ذلك لا يقلل منها. إن البارون سافيتش هو صنيعتي وأنا صانعه؛ صانع الرجل الأكثر براعة في أوروبا، الرجل الأكثر براعة في العالم.

ها هو سلمنا يا مسيو. لقد وفيتُ بنصيبي في الاتفاق. تذكر نصيبك.»

٣

بعد جولة دامت لمدة شهرين في سويسرا والبحيرات الإيطالية، وجد آل فيشر أنفسهم في فندق سبلينديد بباريس، محاطين بأناس من الولايات المتحدة، فكان في ذلك ترويحًا عن فيشر بعد تجربته المذهِلة في بادن، التي تلاها قدر كبير من القمم الثلجية الرائعة والشبحية، ليكون مرة أخرى بين من ميَّزوا بين الأوراق المتتالية المتشابهة، والأوراق المتتالية الملتوية، ومن اهتزت قلوبهم استجابة لاهتزاز قلبه لدى رؤية العَلم الأمريكي. كان من المحبب جدًا إليه، أن يجد في فندق سبلينديد في حفلة للشرقيين الذين أتوا لرؤية العرض، الآنسة بيللا وارْد، من بورتلاند، وهي فتاة جميلة وذكية، مخطوبة لأعز أصدقائه في نيويورك.

بقدرٍ أقل بكثير من السرور، علم فيشر أن البارون سافيتش كان في باريس، قادمًا للتو من مؤتمر برلين، وأنه كان أسد الساعة، مع القلة المختارة الذين كانوا يقرءون ما بين سطور السياسة، ويعرفون الفرق بين دُمى الدبلوماسية ولاعبيها الحقيقيين، في اللعبات الكبرى. لم يكن الدكتور رابشويل مصاحبًا للبارون؛ فقد كان مضطرًّا للبقاء في سويسرا، إلى جانب فراش أمه العجوز المُحتضرة.

كانت هذه المعلومة الأخيرة موضع ترحيب عند فيشر، وكلما تفكر أكثر في الحوار الذي جرى على جبل مركوريسبرج، انتابه شعور أقوى بأن من واجبه الفكري إقناع نفسه بأن الأمر برمته كان وهميًّا، وليس حقيقيًّا. كان سيكون مسرورًا — حتى مع التضحية بثقته في ذكائه الشخصي — بتصديق أن الدكتور السويسري كان يلهو مفترضًا سذاجته. لكن ذكرى المشهد في غرفة البارون في باديشر هوف كانت نابضة بالحياة على نحو لا يدع لهذه النظرية أدنى أساس تقوم عليه. كان مضطرًّا إلى الابتهاج بفكرة أن المحيط الأطلنطي الواسع سيَحول قريبًا — ولا بد — بينه وبين كائن غريب للغاية، وخطير للغاية، وبغيض بقدر مخيف، مثل البارون سافيتش.

بالكاد مر أسبوع قبل أن يجد نفسه وقد أُلْقِيَ به مرة أخرى في صحبة ذلك الشخص البغيض.

قابلت سيدات المجموعة الأمريكية البارون الروسي، في حفلة راقصة في فندق ذا نيو كونتيننتال. كنَّ مسحورات بوسامة وجهه، ودماثة خُلقه، وذكائه، وظُرفه. وقابلنه مرة أخرى عند المفوَّض الأمريكي، ومما أثار ذعر فيشر بطريقة لا تُوصف أن المعرفة التي نشأت بهذه الطريقة بدأت تتطور سريعًا باتجاه الحميمية، وصار البارون سافيتش زائرًا دائمًا لفندق سبلينديد.

لم يكن فيشر يحب أن يطيل التفكير في تلك الفترة. وعلى مدى شهر، حل محل سلامه النفسي شعورٌ بالخوف والاشمئزاز؛ إنه مجبر على الاعتراف بأن تعامل البارون معه كان لطيفًا إلى أبعد حد، مع أنه لم يكن هناك إلماح من أيٍّ من الجانبين إلى ما حدث في بادن، لكن علمه بأنه لا نفع يُرجى لأصدقائه من تلك العلاقة مع مخلوقٍ لا شك أن المبادئ الأخلاقية لديه قد حل محلها نظام من التروس المسننة أبقاه باستمرار في حالة من الارتباك. كان سيُسرُّ بأن يشرح لأصدقائه الأمريكيين الشخصية الحقيقية للروسي، من أنه رجل لا يتمتع بهيئةٍ عقلية صحية، بل هو مجرد أعجوبة من الإبداع الميكانيكي، القائم على هدم مبادئ المجتمع كله بشكلها الحالي؛ فهو باختصار وحشٌ لا بد أن يثير مجرد وجوده غضب ذوي العقول، الذين يملكون أدمغة من الرمادي والأبيض الحقيقيين. لكن الميثاق المبرم بينه وبين الدكتور رابشويل ألجم لسانه.

غير أن حادثةً عارضة نبَّهته فجأة إلى جانبٍ خطير من جوانب المسألة، وملأت فؤاده برعبٍ جديد.

ذات مساء، قبل أيام قليلة من الموعد المحدد لمغادرة المجموعة الأمريكية من هافر إلى الوطن، حدث أن دخل فيشر إلى الغرفة الخاصة التي اتفقت مجموعته على أن تكون مقرًّا لها، فظن في البداية أن الغرفة فارغة، لكنه سرعان ما ميَّز في تجويف إحدى الشرفات، خيال البارون سافيتش والآنسة وارْد من بورتلاند، يحجبه جزئيًّا قماش الستارة. لم يلاحظا دخوله. كانت يد الآنسة وارْد في يد البارون، وكانت معلقة ناظريها بوجهه الوسيم، بطريقة لم يكن لفيشر أن يخطئ تفسيرها.

سعل فيشر، وبذهابه إلى نافذة أخرى، تظاهر بالاهتمام بأمور تحدث في الشارع الرئيسي. خرج الاثنان من تجويف النافذة. كان وجه الآنسة وارْد متورِّدًا من أثر الارتباك، وانصرفت على الفور، في حين لم تظهر أي من أمارات الحرج على وجه البارون، وحيَّا فيشر برباطة جأش مثالية، وبدأ يتحدث عن البالون العظيم في ساحة بلاس دو كاروزيل.

انتاب فيشر شعورٌ بالأسى، لكنه لم يستطع أن يلوم السيدة الشابة؛ كان يعتقد أنها ما زالت مخلصة من صميم قلبها لخطيبها في نيويورك. كان يعلم أن إخلاصها لا يمكن أن يتزعزع أمام الإغراءات التي يقدمها أي رجل على وجه الأرض؛ لذا أدرك حقيقة أنها كانت واقعة تحت تأثير قوةٍ فوق بشرية، لكن ماذا عساها تكون النتيجة؟ لم يستطع إخبارها بأي شيء؛ فميثاقه ألجمه، وكان من غير المجدي استعطاف البارون؛ إذ لا تحكم مقاصدَه المرنة عواطفُ بشرية. هل يجب أن يمر الأمر مرور الكرام ويقف هو مكتوف اليدين؟ هل يجب التضحية بهذه الفتاة الساحرة والبريئة، من أجل نزوة عابرة لإنسانٍ آلي؟ وبافتراض أن نوايا البارون كانت من أشرف ما يكون، فهل يجعل ذلك الوضعَ أقل ترويعًا بأي صورة من الصور؟ الزواج من آلة! إن ولاءه الشخصي لصديقه في نيويورك، وتقديره للآنسة وارْد، على حدٍّ سواء، دفعاه بقوة إلى التصرف على وجه السرعة.

وبعيدًا عن كل المصالح الشخصية، ألم يكن عليه واجبٌ مجرد نحو المجتمع، ونحو حريات العالم؟ هل يُفترض أن يُسمح لسافيتش بمواصلة مسيرته التي هيأها له صانعه الدكتور رابشويل؟ كان فيشر الرجل الوحيد في العالم الذي بإمكانه الوقوف في وجه البرنامج الطموح. هل حدث على الإطلاق أن كان ثمة حاجةٌ أكبر لتدخُّل بروتُس؟

بين الشكوك والمخاوف، كانت الأيام الأخيرة التي قضاها فيشر في باريس تعيسة إلى حدٍّ لا يُوصف. وفي صبيحة يوم مغادرة القطار البخاري، كان قد عزم تقريبًا على التدخُّل.

غادر القطار المتجه إلى هافر عند الظهيرة، وفي تمام الساعة الحادية عشرة، ظهر البارون سافيتش في فندق سبلينديد ليودِّع أصدقاءه الأمريكيين. راقب فيشر الآنسة وارْد عن قرب، فوجد تحفُّظًا في سلوكها طمأنه. قال البارون بصورة عرضية إن من واجبه ومن دواعي سروره أن يزور أمريكا، خلال الشهور القليلة القادمة، وتمنى أن يعيد حينئذ العلاقات التي قُطِعت الآن. وبينما كان سافيتش يتحدث، لاحظ فيشر أن عينيه الْتقَتا بعيني الآنسة وارْد، وقد لوَّن خديها قدر من الحمرة؛ فعلم فيشر أن الوضع كان ميئوسًا منه، وتطلَّب إصلاحًا على نحو مُلِح.

انضم الآن إلى سيدات المجموعة في حثِّ البارون على الانضمام إليهم في الغداء السريع الذي كان مقرَّرًا أن يسبق استقلال العربات إلى المحطة. قَبل سافيتش الدعوة الودية بسرور، ورفض تناول النبيذ بتأدُّب وبصرامة، متحجِّجًا بأنه ممنوع منه تمامًا بأمر طبيبه. غادر فيشر الغرفة للحظات، وعاد ومعه الزجاجة السوداء التي لعبت دورًا في واقعة بادن.

قال: «لقد أعرب البارون بالفعل عن قبوله لأفخم منتجاتنا الأمريكية، وهو يعلم أن هذا الشراب يحظى بتأييدٍ طبيٍّ طيب.» وبقوله ذلك، سكب ما تبقى من محتويات زجاجة كنتاكي في كأس، وقدمها إلى الروسي.

تردد سافيتش؛ فخبرته السابقة مع هذا الشراب، كانت مغرية ومنذرة في الوقت نفسه، لكنه لم يُرد أن يبدو قليل الذوق، وأتى تعليق عابر من الآنسة وارْد ليجعله يحسم أمره.

قالت باسمة: «البارون لن يرفض بالطبع أن يتمنى لنا رحلة سعيدة على الطريقة الأمريكية.»

أفرغ سافيتش الكأس في جوفه، وتحوَّل مسار الحديث إلى أمور أخرى. كانت العربات قد حضرت في الأسفل بالفعل، وكان الناس يتبادلون تحايا الوداع، حينما ضغط سافيتش فجأة بيديه على جبهته، وتشبَّث بظهر كرسي. تجمَّعت السيدات حوله في فزع.

قال بصوت واهن: «لا شيء، إنه دُوار عارض.»

قال فيشر شاقًّا الصفوف: «لا وقت نضيعه، فالقطار سيغادر في خلال عشرين دقيقة. استعدوا في الحال، ريثما أهتم أنا بصديقنا.»

وقاد فيشر البارون إلى غرفة نومه على عجل. تهاوى سافيتش على السرير، وتكررت أعراض بادن، وفي غضون دقيقتين فقَدَ الروسي وعيه.

نظر فيشر في ساعته، وكان لا يزال لديه ثلاث دقائق متبقية. أدار المفتاح في قفل الباب، وضغط زر الجرس الكهربائي.

وبعد أن استطاع فيشر السيطرة على أعصابه، ببذل جهد كبير للتحكم في النفس، نزع عن رأس البارون الباروكة المخادعة والقلنسوة السوداء. قال في نفسه: «اغفر لي يا إلهي إن كنت أرتكب خطأً جسيمًا! لكني أعتقد أن هذا هو الأفضل لنا وللعالم.» وفكَّ القبة الفضية بسرعة، لكن بيدٍ ثابتة. كانت الآلة تقبع مكشوفة أمام ناظريه. أطلق البارون أنينًا، لكن فيشر دمَّر الآلة العجيبة بلا رحمة. لم يكن لديه وقت ليفحصها، ولا رغبة في ذلك. التقط صحيفة ولَفَّ بها الآلة على عجل، ودفع بهذه الحزمة في حقيبة سفره المفتوحة، ثم ركَّب الغطاء الفضي على رأس البارون بإحكام، وأعاد القلنسوة والباروكة.

فعل كل ذلك قبل أن يجيب الخادمُ الجرس، وقال له فيشر حينما أتى: «إن البارون سافيتش مريض، لا داعي للقلق، أرسل في الحال إلى فندق دو لاتيني لاستدعاء خادمه أوجست.» وفي خلال عشرين ثانية، كان فيشر يستقل سيارة أجرة، مسرعًا نحو محطة سان لازار.

حينما شرعت السفينة البخارية بيرير تمخر عباب البحر، وصارت جزيرة يوشانت تبعد عنها خمسمائة ميل، وتموج تحت عارضتها قامات لا تُعد ولا تُحصى من المياه، أخذ فيشر حزمة من الصحف من حقيبة سفره. كانت أسنانه منطبقة بصرامة، وشفاهه متصلبة. حمل الحزمة الثقيلة إلى حافة السفينة، وألقاها في مياه الأطلنطي. صنعت دوَّامة صغيرة في المياه الهادئة، وغاصت مبتعدة عن الأنظار. تخيَّل فيشر أنه سمع صيحة عنيفة يائسة، ووضع يديه على أذنيه لإسكات الصوت. أتى نورس يحوم فوق الباخرة؛ ربما كانت الصيحة صيحة النورس.

شعر فيشر بلمسة خفيفة على ذراعه، فالتفت بسرعة. كانت الآنسة وارْد تقف إلى جانبه، بالقرب من السياج.

قالت: «يا إلهي، يا لشحوبك! ماذا كنت تفعل بالله عليك؟»

رد فيشر بتؤدة: «كنت أحمي الحريات في قارتين، وربما أنقذتُ سلامك الشخصي.»

قالت: «حقًّا! وكيف فعلت ذلك؟»

كان جواب فيشر القاصم: «فعلتُها عن طريق إلقاء البارون سافيتش عن ظهر السفينة.»

انفجرت الآنسة وارْد في ضحكةٍ مجلجلة، وقالت: «أحيانًا تكون مضحكًا جدًّا يا سيد فيشر!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤