الفصل السابع والعشرون

وقفت جيني بروستر وظهرُها للباب، وعلى وجهها ابتسامةٌ لطيفة.

«هذا يومُ التمثيل بالنسبة إليَّ، يا آنسة لونجوورث. لقد مثلتُ دور الخادمة على نحوٍ بارع للغاية، لدرجة أنني خدعتُ عدة أفراد في هذه الأسرة. أنا الآن أُقلدكِ في تمثيليتك الدرامية المثيرة: «ما حدث بالبحر». ألا تعتقدين أنني أؤدي هذا بإتقانٍ شديد؟»

ردت إديث، وهي تجلس مرةً أخرى: «بلى.» ثم أردفت: «أتساءل لماذا لم تتَّخذي من التمثيل مِهنةً لكِ.»

«لقد فكرتُ كثيرًا في فعل هذا، لكن مجال الصِّحافة مثيرٌ أكثر.»

«ربما. لكن به لحظات خيبةِ أمل. عندما مثَّلت تمثيليتي الدرامية، كما تُسمينها، على متن السفينة، لقد تم ترتيب أدواتي المسرحية لصالحي أكثرَ مما هو الوضع عليه الآن.»

«هل تقصدين منعي من ركوبِ القارب؟»

«لا؛ أقصد أن الزرَّ الكهربي كان تحت يدي؛ أي كان من المستحيل بالنسبة إليك الضغطُ عليه للحصول على مساعدة. والآن، بينما أنت تسدِّين الباب، فلا يمكنك منعي من دق الجرس؛ لأن حبل الجرس هنا بجواري.»

«نعم، هذا موطنُ ضعف، أُقِر بذلك. هل تنوين، إذَن، شد حبل الجرس، وجعلهم يطردونني؟»

«أنا لا أعتقد أن هذا سيكون ضروريًّا. أتصور أنك ستخرجين بهدوء.»

«إنك فتاةٌ ذكية جدًّا، يا آنسة لونجوورث. أتمنى لو كنتُ أحبك، لكنني لا أفعل؛ لذا لن نُضيع وقتنا الثمين في التأسُّف على هذه الحقيقة. أليس لديكِ أيُّ فضول لسماع ما كنتُ سأخبرك به؟»

«مطلقًا؛ لكنَّ هناك شيئًا واحدًا أودُّ معرفته.»

«أوه، هل هناك؟ حسنًا، هذا شيء بشري، على أية حال. ما الذي ترغبين في معرفته؟»

«لقد أتيتِ إلى هنا بعد تزكياتٍ كثيرة. كيف عرَفتِ أنني أريدُ خادمة، وهل كانت تزكياتك …»

توقفَت إديث عن الكلام لتُفكر في الكلمة، التي قالتها جيني على الفور.

«مزوَّرة؟ أوه، لا، يا عزيزتي! لا حاجة إلى القيام بأيِّ فعلٍ إجرامي في ذلك البلد، إن كان لديك مال. أنا لم أُزوِّرها؛ لقد اشتريتها. ألم تكتبي لأيٍّ من السيدات الصالحات اللائي من المفترض أنني عملت لديهن؟»

«بلى، وأثنَيْن عليكِ بشدة.»

«بالتأكيد. كان هذا جزءًا من الاتفاق. أوه، يُمكنك فعلُ أي شيء بالمال في لندن؛ إنها مدينة مثيرة بشدة للإعجاب. وفيما يتعلق بكيفية معرفتي بحاجتكِ إلى خادمة، فهذا أيضًا تم بسبب المال. لقد رشوتُ الخادمة السابقة لتُغادر المكان.»

«فهمت. وما الذي كنتِ تهدفين إليه من كل هذا؟»

ضحكَت جيني بروستر؛ نفس الضحكة الرقيقة التي أبهرت ويليام لونجوورث منذ ساعةٍ أو اثنتين؛ والتي كانت تُطارد مخيلةَ ونتوورث أحيانًا في حي السيتي. وتركت مكانها لدى الباب وألقَت بنفسها على كرسي.

ثم قالت: «آنسة لونجوورث، أنتِ لستِ ثابتةً على رأيٍ واحد. لقد تظاهرتِ في البداية بأنه ليس لديكِ أيُّ فضول لسماعِ ما أود قوله، ثم ها أنت تسأليني على وجه التحديد عما كنت أودُّ قولَه لك. بالطبع، أنت متلهفةٌ بشدةٍ لمعرفة سبب وجودي هنا؛ لن تكوني امرأةً إن لم تكوني كذلك. والآن، لقد غيَّرتُ رأيي، ولا أنوي إخبارك. ومع ذلك، سأقول لك إن هدفي من المجيء إلى هنا، كان، أولًا، أن أعرف بنفسي كيف تُعامَلُ الخادمات في ذلك البلد. كما تعرفين، كلُّ تعاطفي مع النساء العاملات، وليس مع نساء … في الواقع، مثلك، على سبيل المثال.»

«نعم، أعتقد أنك قلتِ هذا ذاتَ مرة قبل ذلك. وما رأيك في معاملتنا لخادماتنا؟»

«من خلال تجرِبتي، إنها رائعة جدًّا في حقيقة الأمر.»

«يُسعدني بشدةٍ سماعي لردك هذا. كنت أخشى ألا نحوز رضاءك. والآن، أين عليَّ أن أُرسل أجْرَك الشهري، يا آنسة بروستر؟»

أسندت جيني بروستر ظهرها إلى مسند كرسيِّها، وعيناها شبهُ مغلقتَين؛ وكان شعورٌ بالغضب باديًا فيهما ممَّا ذكَّر إديث بنظرةِ الكره التي كانت تُبديها تجاهَها على متن السفينة. واكتسى وجهُها الأبيض بلونٍ دافئ وكانت شفَتاها مغلقتَين تمامًا. ثم سادت لحظةٌ من الصمت، واختفى غضبُ جيني سريعًا كما تكوَّنَ سريعًا. ثم ضحكت، بنبرةٍ بدا فيها بعضُ التحفظ.

«يُمكنك قولُ أي شيء مسيء على نحوٍ أكثرَ هدوءًا ولطفًا من أي شخص قابلتُه من قبل؛ أنا أحسدك على هذا. عندما أقول شيئًا دنيئًا ووضيعًا، أفعل ذلك بغضب، ويكون في صوتي قدرٌ معيَّن من الحدة. ليس بإمكاني الخرخرةُ مثل القطَّة والخربشة في نفس الوقت … أتمنى لو كان بإمكاني فعلُ ذلك.»

«هل من المسيء أن أعرض عليكِ مقابلَ ما قمتِ به من عمل؟»

«نعم، إنه كذلك، وأنت كنت تعلمين أنه كذلك عندما قلتِ ذلك. أنت لا تفهمينني على الإطلاق.»

«هل من الضروريِّ أن أفعل؟»

ردت جيني بتأمُّل، مريحةً مرفقَها على ركبتها وذقنها على راحة يدها: «أنا لا أظن أنك تعتقدين ذلك.» ثم أردفت: «هنا تختلف رؤيتنا للأمور. أنا أحب معرفة كلِّ شيء. ويُهمني معرفةُ ما يعتقده الناس وما يتحدَّثون بشأنه، وعلى نحوٍ ما، لا يبدو أن هُويَّة الأشخاص تُهمني؛ فأنا مهتمةٌ بآراءِ رئيس خدَمِك السياسيةِ أكثرَ من تلك الخاصة باللورد فريدريك بنجهام. إنَّ كليهما من المحافظين، لكن اللورد فريدي يبدو متزعزعَ الرأي؛ إذ يُمكنك التأثيرُ عليه خلال خمسِ دقائق؛ لكنَّ رئيس الخدم ثابتٌ على آرائه كالصخرة. أنا معجبة حقًّا برئيس الخدم هذا. أرجو أن تنقلي له خبرَ رحيلي بلُطف؛ لأنه عرَض عليَّ الزواج، ولم يحصل على الرد بعد.»

قالت إديث، وهي تبتسم رغمًا عنها: «لا يزال هناك وقت. أتريدين أن أستدعيَه؟»

ردت جيني، متنهِّدةً بعمق: «رجاءً لا. أريد تجنب مثل هذا المشهد المؤلم؛ لأنه كان واثقًا بشدةٍ من نفسه، ولم يتصور أبدًا أن أرفضه. إن الأمر مثيرٌ للشفقة أيضًا لأن رئيس الخدم يُعَد بالنسبة إليَّ النموذجَ الذي ينبغي أن يكون عليه الشخصُ الأرستقراطي. إن نُبلَه مذهل على نحوٍ كبير؛ في حين أن اللورد فريدي شابٌّ عادي وبسيط ولطيف، بحيث لو أرسلتُه إلى الولايات المتحدة فأنا متأكدة أن لا أحدَ سيعتقد أنه لورد حقيقي. أما رئيس الخدم، فالأمر مختلفٌ معه تمامًا.»

«من المحزن جدًّا ألا تستطيعي الحصولَ على عرضٍ مماثل من اللورد فريدريك.»

ردَّت جيني، ناظرةً بعينين محملقتين إلى الفتاة الموجودة أمامها: «المحزن جدًّا! يرحمك الله! لقد تلقيتُ عرضًا بالزواج من اللورد فريدي قبل أسبوعين من رؤية رئيس الخدم. أعتقد أنك لا تُصدِّقين أيَّ كلمة مما أقوله. حسنًا، فلتسألي اللورد فريدي. سأُقدِّمكِ إليه، وأخبره بأنك لا تُصدِّقين أنه قد طلب مني أن أُصبح الليدي فريدي، إن كان هذا هو اللقَب. إنه حينها سيبدو مرتبكًا، لكنه لن يُنكر الأمر. كما تعلمين، عندما وجدتُ نفسي أنني سأمكث في إنجلترا لبعض الوقت، كتبتُ إلى مدير تحرير صحيفة «آرجوس» أطلب منه إعداد مجموعة من الرسائل التقديمية وإرسالها إليَّ، حيث إنني أريدُ على وجه الخصوص دراسةَ الطبقة الأرستقراطية. لذا، أرسلها إليَّ، وأؤكد لك أنني وجدتُ الدخول إلى غرفة خدَمِك أكثرَ صعوبة بكثير من الدخول إلى قصور النبلاء؛ هذا بالإضافة إلى أنَّ تكلفة الاختلاط بأفراد الطبقة العليا أقل.»

جلسَت إديث في صمت، ناظرةً باهتمامٍ مندهش إلى الفتاة، التي كانت تتكلم بسرعةٍ شديدة لدرجة أنه كانت هناك أحيانًا صعوبةٌ في متابعة ما قالته.

«لا، اللورد فريدي أقلُّ في تعاليه بكثيرٍ من رئيس الخدم، كما أن كلامه ليس مختارًا بعنايةٍ مثلَه؛ لكني أعتقد أن رئيس الخدم لديه خبرة أكبر؛ ففريدي صغيرُ السن للغاية. أنا محبطة بشدة من أفراد الطبقة الأرستقراطية. إنهم ليسوا متكبِّرين كما تصوَّرتُهم. لكن ما أدهشني في هذا البلد هي الطريقة التي تُفسِدون بها يا معشر النساء الرجالَ. إنكن تُحسِنَّ معاملتهم بشدة. إنكن تَقُمن بتدليلهم والمبالغة في التودُّد إليهم، ومن الطبيعي أن يُصبحوا مغرورين. إن هذا مثير للشفقة أيضًا؛ لأن أغلبهم أناسٌ لطفاء. إن الأمر سيَّان في أيِّ مكان ذهبتُ إليه؛ بما في ذلك غرفة الخدم. عجبًا، عندما تُقابلين زوجَين صغيرين في السنِّ، ينتميان إلى ما قد تُطلقين عليه «الطبقات الفقيرة»، يمشيان في الحديقة، يُطأطئ الرجلُ رأسه بينما يمشي مترهلًا، بينما تنظر الفتاة إليك بنظرةٍ متحدِّية، كما لو أنها تقول لك: «لقد حصلت عليه. فليُبارِكْه الرب! ما الذي لديكِ لتقوليه في ذلك؟» بينما يبدو أن الرجل خجلانُ من نفسِه، ومن الواضح أنه يشعر بأنه قد خُدِع. إن أيَّ رجل يجب أن يفهم أنك تُحسنين إليه عندما تُثنين عليه بكلمةٍ مهذَّبة. هذا هو الإطار الصحيح الذي يجب أن تُعاملي أيَّ رجل فيه، وحينها يُمكنك فعلُ أي شيء تريدينه معه. أنا بوجه عام أجعله يعرض عليَّ الزواج، حتى يُمكنَني إنهاءُ الأمر قبل أن يحدث أيُّ ضرر حقيقي، وحتى أُضفِيَ لمسةً نهائية فنِّية على الأمر. وبعد ذلك، يمكننا أن نُصبح صديقين رائعين، ونقضيَ معًا وقتًا طيبًا. تلك هي الطريقة التي استخدمتُها في التعامل مع اللورد فريدي. والآن، ها أنا ذا، أُثرثر كما لو أنني أحصل على مقابلٍ من أجل أن أتكلم وليس من أجل أن أكتب. لماذا تنظرين إليَّ هكذا؟ ألا تُصدقين ما أقوله لكِ؟»

«بلى، أنا أُصدق كلَّ ما تقولينه. ما لا يمكنني فهمه هو لماذا تدخلُ فتاةٌ بارعة مثلُك أحدَ المنازل و… حسنًا، تفعل ما فعَلتِه هنا.»

«لماذا لا يجب عليَّ أن أفعل هذا؟ أنا أسعى للحصول على معلومات دقيقة. وأنا أحصل عليها بطريقتي. إن كُتَّابكم هنا يتحدثون عن الطريقة التي يعيش بها الفقراء، وما إلى ذلك. إنهم يدخلون منازل الفقراء دون أيِّ خجل، ويكتبون انطباعاتهم عن المنازل الفقيرة جدًّا. لماذا إذن يجب أن يُحرَم الأغنياء من القيام باستقصاءٍ مماثل؟»

«إن هذا في كلتا الحالتين يُعَد من قبيل التجسُّس.»

«نعم؛ لكن الجاسوس ليس شخصًا سيئًا؛ على الأقل، لا يجب أن يكون كذلك. لقد رأيت نُصبًا تذكاريًّا في كنيسة وستمنستر لشخصٍ شُنِق لاتهامه بالتجسُّس. الجاسوس يجب أن يكون شجاعًا؛ فهو يجب أن يتَّسِم بالجُرأة والحذر وسَعةِ الحيلة. إنه في بعض الأحيان يفعل من أجل بلده أكثرَ مما تفعله كتيبةُ جيش بأكملها. أوه، هناك أناسٌ أسوأُ من الجواسيس في هذا العالم.»

«أعتقد أن هذا صحيح، لكن …»

«نعم، أعرف. من السهل على الأشخاص الذين لديهم وافرٌ من المال أن يَعِظوا فيما يتعلق بعيوب الآخرين. سأُخبرك بسر. إنني أكتب كتابًا، وإن تحقَّق له النجاح، فسأودِّع عالم الصِّحافة. أنا عن نفسي مِثلُك لا أحب عالمَ التجسُّس؛ أخشى أن إنجلترا تُفسدني، وإن جلستُ هنا لبضع سنوات، فقد ينحدرُ ذوقي كثيرًا بحيث أعتقد أن صُحفكم مثيرةٌ للاهتمام. بالمناسبة، هل رأيتِ السيد ونتوورث مؤخرًا؟»

ترددَت إديث للحظة، وفي النهاية قالت:

«نعم، لقد رأيتُه منذ يوم أو يومين.»

«هل كان على ما يُرام؟ أعتقد أنه حريٌّ بي أن أكتب له رسالةَ اعتذار عن كلِّ القلق الذي سبَّبتُه له على متن السفينة. قد لا تُصدقين هذا، لكنَّ ضميري أخذ يُؤنبني بعضَ الشيء بالفعل فيما يتعلق بهذا الأمر. أعتقد أن هذا هو السبب في أنني سامحتُكِ جزئيًّا على منعي من إرسال البرقية.»

اندهشَت إديث لونجوورث من نفسها لإعطاء الفتاة الشابة معلوماتٍ عن ونتوورث، لكنها كانت قد أعطَتها إياها، وغادرَت الخادمةُ الهاويةُ في هدوء، وهي تقول، على سبيل الوداع:

«لن أكتب شيئًا عن بيتك، في نهاية الأمر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤