الفصل التاسع والثلاثون

يتكوَّن هذا الفصلُ في أغلبه من رسائل. بوجهٍ عام، الرسائل تكون غيرَ ذات أهمية كبيرة لأي أحدٍ سوى كاتبيها ومستقبِليها، لكنها مدرَجة هنا على أمل أن القارئ، بعد أن تُصبح لديه درايةٌ كافية بمرسليها ومستلِميها، قد يشعر ببعض الاهتمام بما ورد فيها.

بعد أسبوعين تقريبًا من استقبال جورج ونتوورث للبرقية من كينيون، وجد، في صباح أحد الأيام، على مكتبه رسالتَين، كلتاهما تحمل طابعَ بريدٍ كنديًّا. كانت إحداهما سميكةً بعض الشيء، أما الأخرى، فرفيعة، لكنَّ الاثنتَين كانتا من المرسِل نفسِه. فتح بسرعة الرسالةَ الرفيعة أولًا، دون أن ينظر إلى التاريخ المطبوعِ عليها. وقد اندهَش قليلًا من محتواها، الذي كان كالتالي:

عزيزي جورج

لقد سمعتُ لتوي أن ميلفيل هو الشخص الذي اشترى المنجم. إن ملابساتِ الأمر لا تجعلُني أشكُّ في أن هذه هي الحقيقة؛ لذا، رجاءً تجاهَلِ الطلب الذي قدَّمتُه المتعلقَ بالعمل المتضمَّن في الرسالة التي بعثتُ بها إليك منذ مدَّة قصيرة. أشعر بإحباطٍ شديد بسبب امتلاك ميلفيل للمنجم. يبدو أنني فقط منَعتُ وغدًا من شرائه حتى يقعَ في يد وغدٍ آخر.

صديقك المخلص
جون كينيون

قال ونتوورث في نفسِه: «ميلفيل المالك!» ثم أردفَ: «ما الذي يُمكن أن يكون قد وضَع هذه الفكرةَ في رأس جون؟ هذه الرسالة هي مِن الواضح أنها تلك التي أُرسِلَت قبلَ هذه ببضع ساعات؛ لذا، ستحتوي على الطلب الذي تقدَّم به أيًّا كان.» ثم، ودون تأخير، فتح جورج ونتوورث الظرفَ الخاص بالرسالة الثانية، التي كان من الواضح أنها كُتِبَت أولًا.

لقد احتوت على عددٍ من المستندات المتعلِّقة بنقل مِلكية المنجم. والرسالة المرسلة من جون نفسِه ذكَرَت تفاصيلَ عملية شراء المنجم. ثم ورد فيها ما يلي:

أودُّ أن تُسدِيَ لي معروفًا، يا جورج. هلا تتفضل وتطلب من مالك المنجم أن يجعلني أتولَّى إدارته؟ أنا بالطبع أتطلع لجعله يزدهرُ قدرَ الإمكان، وأعتقد أنني يمكنني الحصولُ على أكثرَ من راتبي، أيًّا كان. أنت تعرف أنني لا أهتمُّ كثيرًا بمسألة المال، لكن احصل لي على أكبرِ راتب تعتقد أنني أستحقُّه. أنا أريد المال لأغراض ليست أنانيةً على الإطلاق، كما تعلم. لكي أَصدُقَك القول، يا جورج، أنا سئمتُ من المدن والناس. أريد أن أعيش هنا في الغابة، حيث لا يوجد الكثيرُ من الخداع والغش، كما يبدو أنه الحال في المدن الكبيرة. عندما ذهبتُ إلى لندن في المرة الأخيرة، شعرت وكأنني صبيٌّ عاد إلى بيته. لقد تبدَّلَت مشاعري تمامًا، وأعتقد أنني، لولا وجودُك أنت وإحدى الشابَّات، ما كنتُ سأهتم قط برؤية المدينة الكبيرة ثانيةً. ما فائدة تعمُّدي الغموضَ، وكتابة الكلمتين «إحدى الشابات»؟ بالطبع، أنت تعرف ما أقصد؛ الآنسة إديث لونجوورث. أنت تعرف، أيضًا، أنني واقعٌ الآن، ومنذ مدَّة طويلة، في غرامها. إن نجحت في كسب المال الذي أعتقد أنني يجب أن أكسبه ببيع المنجم، فقد يكون لديَّ بعضُ الأمل في كسبِ المزيد، وبأن أُصبح في النهاية في وضعٍ يسمح لي بطلبها للزواج؛ لكن هذا والكثير جدًّا من الآمال الأخرى قد اختفى في ظلِّ تَجارِبي اللندنية الأخيرة. أريد أن أذهب إلى الغابة وأستعيدَ بعضًا من طبيعتي المفقودة، وثقتي المفقودة في الطبيعة البشرية. إن كان بإمكانك الاتفاقُ مع مالك المنجم، بحيث يُمكنني المكوثُ هنا لسنة أو اثنتين، فستُسدي لي معروفًا عظيمًا.

قرأ جورج ونتوورث الجزءَ الأخير من هذه الرسالة مرتين أو ثلاثَ مرات. ثم وقف، وأخذ يذرع المكان وهو يُفكر.

ثم قال في نفسه متمتمًا: «إن هذا ليس شيئًا يُمكنني أن أستشير أحدًا فيه.» ثم أردف: «المشكلة في كينيون هي أنه متواضعٌ بشدة؛ إن القليل من تقدير الذات المفيد سيكون هو الشيءَ المناسب له.» وفي النهاية، توقف فجأةً في أثناء مشيه. وقال لنفسه: «يا إلهي! سأفعل هذا الأمر، وليكن ما يكون.»

ثم جلس على مكتبه وكتب رسالة.

عزيزتي الآنسة لونجوورث (هكذا بدأت الرسالة)

لقد أخبرتِني عندما كنتِ هنا آخِرَ مرة أنكِ تريدين كل المستندات الخاصة بالمنجم. لقد وصل مستندٌ هذا الصباحَ مهم للغاية. إن جون كينيون، كما ستعلمين من خلال قراءة الرسالة، يرغب في إدارة المنجم. لا داعي للقول إنني أعتقد أنه أفضلُ رجل مناسبٍ في العالم لهذا المنصب، وإن كل شيء سيكون على ما يُرام على يدَيه. لذا، سأُرفق بهذه الرسالة رسالتَه. فكَّرتُ في إرسال جزء منها، لكن نظرًا إلى معرفتي برغبتك في الحصول على كلِّ المستندات الخاصة بالأمر، فقد سمحتُ لنفسي بإرسال تلك الرسالة تمامًا كما وصلَتني، وإن كان أيُّ شخص يجب أن يُلام في هذا الأمر، فأنا هو هذا الشخص.

سأظل وكيلَك.

جورج ونتوورث

وأرسل هذه الرسالة على الفور، بحيث لا يكون أمامه أيُّ فرصة للتراجع.

«ستصل إليها عصرَ هذا اليوم، وهي بلا شكٍّ ستأتي لرؤيتي.»

ربما ليس من الضروري القولُ إنها لم تَزُره، ولم ترَه لعدة أيام بعد ذلك؛ لكن في صباح اليوم التالي، عندما ذهب إلى مكتبه، وجد رسالةً منها. وكان نصها كالتالي:

عزيزي السيد ونتوورث

إن إرسالك لي رسالةَ السيد كينيون تُعَد سابقةً خطيرة بعض الشيء، ولا يجب تحتَ أيِّ ظرف أن تُتبع بإرسال أيِّ رسائل قد تتسلَّمها من أي شخص آخر إلى السيد كينيون. مع ذلك، وكما كنتَ على الأرجح مدركًا عندما أرسلتَ الرسالة، فلن يُلقى بأيِّ لوم على عاتقك، أو على عاتق أيِّ شخص آخر، في تلك الواقعة. ومع ذلك، كن حذرًا للغاية في المستقبَل؛ لأن إرسال الرسائل، بالكامل، يُعَد أحيانًا شيئًا محفوفًا بالمخاطر. يجب أن تتذكر أنني أريد دائمًا كلَّ المستندات الخاصة بالأمر، وأنني أريدها جميعها دون استثناء. أنا ممتنَّة جدًّا لك لإرسالك الرسالة.

وفيما يتعلق بإدارة المنجم، أنا بالطبع كنتُ أظن أن السيد كينيون كان يرغب في العودة إلى لندن. إن كان يريد البقاءَ بالخارج، ويريد بالفعل المكوثَ هناك، فأودُّ أن تُخبره بأن السيد سميث سعيدٌ للغاية لمعرفة أنه يرغب في تولِّي مسئولية المنجم. لن يبدوَ عمَليًّا من جانب السيد سميث أن يقول إن السيد كينيون عليه أن يُحدِّد الراتب الذي يريده، لكن، لسوء الحظ، السيد سميث يجهل تمامًا الراتب الملائم في هذه الحالة؛ لذا، هلا تتفضل وتسوِّي أنت هذا الأمر؟ أنت تعرف الراتبَ المعتاد لمثل هذه الوظيفة. رجاء اكتب هذا الرقم، وأضف إليه مائتين في العام. وأخبر السيد كينيون أن المبلغ المذكور هو الراتب الذي وضعَه له السيد سميث.

أرجو أن تكون حذرًا بشدةٍ في صياغة الرسائل، بحيث لا يعرف السيد كينيون أيَّ شيء عن هُوية السيد سميث.

مع خالص الاحترام
إديث لونجوورث

عندما تسلَّم ونتوورث هذه الرسالة، ونظرًا إلى أنه رجل، لم يعرف ما إذا كانت الآنسة لونجوورث مسرورةً أم لا. لكنه، كتب بسرعة رسالةً لجون، أخبره فيها بأنه عُيِّن مديرًا للمنجم، وأن السيد سميث مسرورٌ للغاية لِشَغلِه هذا المنصب. وذكر الراتب، لكنه أخبره بأنه إن لم يكن كافيًا، فلا شكَّ أن السيد سميث متلهِّفٌ بشدة للحصول على خدماته بحيث يُمكن زيادة المبلغ.

عندما تسلَّم جون الرسالة، كان سعيدًا بشدة.

في الوقت الذي كان يقرأ فيه ونتوورث رسالتَيه، تلقَّى جون الرسائل التي أُرسِلَت عندما اشتُري المنجم. شعر بالارتياح عندما عرَف أن ميلفيل في النهاية لم يُصبِح المالك؛ وذهب إلى العمل بعزمٍ وإصرار، وهو ينوي قضاءَ عامين أو ثلاثة من حياته في العمل الشاقِّ من أجل تطوير موارد المنجم. في أول أسبوعين، قبل أن يستقبل أيَّ رسائل، لم يفعل شيئًا سوى التعرُّفِ على الطريقة التي يسير بها العملُ هناك. لقد وجَد العديد من الأشياء التي يجب تطويرها. لقد شُغِّلت الآلات على نحوٍ أدى إلى تعطُّلِها، وكان العمَّال يعملون بتَهاوُن كما يفعل العمال عندما لا يكونون خاضعين لإشراف. كان مديرُ المنجم قلقًا بشدةٍ على منصبه. وأخبره جون بأن ملكية المنجم قد تغيرَت، لكنه، حتى تصله تعليماتٌ أخرى من إنجلترا، لا يمكنه تحديد ما سيحدث. وعندما وصلَته الرسائل، تولى جون زِمامَ العمل بعزمٍ وإصرار، وسرعان ما حدث تحسُّنٌ واضح في طريقة العمل. وقد سمح ببقاء المدير القديم كمديرٍ مساعد؛ لكن هذا الشخص سرعان ما وجد أن التساهل الذي كان سائدًا في عهد شركة المناجم النمساوية قد ذهَب إلى الأبد.

كان على كينيون أن يسافر في رحلةٍ أو رحلتين طويلتين إلى كندا والولايات المتحدة، للترتيب لبيعِ منتجات المنجم؛ لكنه، بوجهٍ عام، قضى وقته بالكامل في قرية الحطَب بالقرب من النهر.

وبعد مرور عام، استطاع كتابة رسالة مبهجة للغاية إلى ونتوورث.

قال: «كما ترى، المنجم، في النهاية، كان يستحقُّ المائتي ألف جنيه التي طلَبْناها فيه. لقد أدرَّ، حتى في العام الأول، عشَرةً بالمائة من هذا المبلغ. وهذا سيردُّ كلَّ المبلغ الذي تكلَّفَه شراءُ المنجم بأكمله، وأعتقد، يا جورج، أنه من الأمانة أن ندعَ كلَّ هذا العائد يذهب إلى السيد سميث هذا العام؛ لأنه هو مَن قدَّم المال في وقتٍ عصيب. هذا سيجعله يستعيدُ المبلغ الذي دفعه؛ لأن رأس المال العامِلَ لم يُمَس. إن الميكا المستخرَج غطَّى تكاليفَ تشغيل المنجم، وكل الباقي ربحٌ صافٍ. لذا، إن كنتَ تريد، سنتخلَّى عن نصيب الثلث الخاص بنا هذا العامَ، ثم يُمكننا أخذُ ربحنا الكبير العامَ المقبل ونحن مرتاحو الضمير. سأُرفق الموازنة.»

جاء على تلك الرسالة ردٌّ في الوقت المناسب من ونتوورث، الذي قال إنه قد عرَض طلب جون على السيد سميث؛ لكن بدا أن الرجل سُرَّ بشدةٍ بالاستثمار المربح الذي قام به، لدرجةِ أنه لن يقبلَ بأيِّ تقسيمٍ آخرَ للأرباح سِوى بالتقسيم المتساوي. وبدا أنه تأثَّر بشدةٍ بالعرض الذي قدَّمه جون، واحترمه لتقديمه، لكن الرفض المقترَح من جانبه وجانبِ السيد ونتوورث لتقسيم الرِّبح شيءٌ لا يمكن قَبوله. وحيث إن الوضع كان كذلك، فقد أرسل جون رسالةً وشيكًا بمبلغٍ كبير للغاية لأبيه. وكانت لحظةُ إرساله لهذه الرسالة، بلا شكٍّ، إحدى أسعدِ اللحظات في حياته، وكانت تلك الرسالة هي آخِرَ مجموعة الرسائل العجيبة التي ظهرَت في هذا الفصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤