الفصل الرابع

بالكاد يمكن القول إن إديث لونجوورث نموذجٌ للفتاة الإنجليزية. صحيحٌ أنها قد تعلَّمت مثلَ أيِّ فتاة إنجليزية، لكن ليس على تنشئتها المعتادة. لقد فقدَت أمَّها في مرحلة مبكِّرة من حياتها، وهو ما أحدثَ فارقًا كبيرًا في تربيتها، بغضِّ النظر عن مدى ثَراء والدها، الذي كان ثريًّا، دون أدنى شك. إذا سألت أيَّ رجل لندنيٍّ عن مكانة جون لونجوورث، فستعرف أن «المنزل» سُمعتُه طيبة. يقول الناس إنه محظوظ، لكن جون لونجوورث العجوزَ يؤكِّد أنه لا يوجد شيءٌ اسمه الحظُّ في مجال الأعمال، وهو قولٌ غير صحيح على الأرجح. إن لديه استثماراتٍ كبيرةً في كل أنحاء الكرة الأرضية تقريبًا. وعندما يدخل أيَّ مجال، فإنه يدخله بقوة. يتحدث الناسُ عن عدم استحسان وضع كلِّ البيض في سلةٍ واحدة، لكن جون لونجوورث مؤمنٌ بهذا الشيء؛ ومؤمن أيضًا بمراقَبة السلَّة. هذا لا يعني أنه يضع كلَّ بيضة في سلة واحدة، أو حتى في نوعٍ واحد من السِّلال؛ لكن عندما يكون جون لونجوورث مقتنعًا بنوعية السلة المقدَّمة إليه، فإنه يضع عددًا كبيرًا من البيض فيها. وعندما يُعرَض عليه أيُّ شيء للاستثمار فيه — سواءٌ كان منجمًا أو مصنعًا للجِعَة أو خطَّ سكةٍ حديدية — كان يأخذ رأي الخبراء في الأمر، والاحتمال الأكبر أن يتجاهل في النهاية هذا الرأي. لقد كانت لديه عادةُ الذَّهاب شخصيًّا لرؤيةِ ما يُعرَض عليه. وإذا كان الاستثمار كبيرًا بما يكفي، فلم يكن ليتردَّد في السفر إلى الجانب الآخر من العالم من أجل إلقاء نظرة عليه. صحيحٌ أنه في حالاتٍ كثيرة كان لا يعرف أيَّ شيء عن المجال الذي سيستثمرُ فيه، لكن هذا لم يكن مهمًّا له؛ فقد كان يحب أن يفحص بنفسه المكانَ الذي سيضعُ فيه جزءًا كبيرًا من أمواله. بدا أن الاستثمار بالنسبة إليه نوعٌ من الحَدْس. وفي أحيانٍ كثيرة عندما كانت تُجمِع آراء الخبراء على مدى رِبْحية مشروعٍ ما، وكان يبدو كل شيء آمنًا على نحوٍ تام، كان يقوم بزيارة شخصية للمكان موضوعِ البيع، ويصل إلى قناعةٍ فورية بعدم شرائه. وحينها، كان لا يُبدي أيَّ أسباب لرفاقه بشأن تغييرِ رأيه؛ كان فقط يرفض الاستمرارَ في النظر في العرض وينسحبُ من الأمر. وقعَت حالاتٌ كثيرة من هذا النوع في مسيرته. أحيانًا، كانت تخسر شركة كبيرة ورابحة، وكان يُتوقَّع لها مستقبل كبير، وعندما تجري تصفيتُها، يتذكَّر الناسُ ما قاله لونجوورث عنها. وهكذا تكوَّنَ لدى مَن يعرفون السيد لونجوورث العجوزَ شعورٌ غيرُ مستند على أيِّ أساس عِلمي مفاده أنه لو كان طرَفًا في شيء، فإن هذا الشيء آمن، ولو استطاع مؤسِّسٌ لشركةٍ ما أن يحصل على موافقته على المشاركة فيها، فمِن شبه المؤكد أن مشروعه سينجح.

•••

عندما انتهت إديث لونجوورث رسميًّا من تعليمها، أصبحت رفيقةَ أبيها أكثرَ فأكثر، وكان عادةً ما يُشير إليها على سبيل المزاح باعتبارها مساعدتَه. لقد كانت تُسافر معه في أسفاره الطويلة، ولذلك، سافرَت العديدَ من المرات إلى أمريكا، ومرةً إلى رأس الرجاء الصالح وأخذَتها إحدى الرحلاتِ البحرية الطويلة التي كانت وِجهتُها أستراليا في جولة كاملة حوال العالم. لقد ورثت إديث الكثير من فطنة أبيها، ولا شكَّ أنه لو قُدِّر لها أن تعتمد في حياتها على نفسها وعلى إمكانياتها فقط، لأصبحَت سيدةَ أعمال ممتازة. وكانت تعرف بدقةٍ نطاقَ استثمارات أبيها، وكانت كاتمةَ أسراره على نحوٍ لا تجدُه سوى في نساءٍ قليلاتٍ فيما يتعلَّق بأقاربهن الرجال. ولقد كان الرجل العجوز يثقُ بشدةٍ في رأيها، على الرغم من أنه نادرًا ما يعترف بذلك. ونظرًا إلى أنهما سافرا معًا كثيرًا في رحلات طويلة، فمن الطبيعيِّ أنهما أصبحا، على نحوٍ ما، صديقَين مقرَّبين. وهكذا يتضح لنا أن تعليم إديث كان مختلفًا تمامًا عن تعليمِ أيِّ فتاة إنجليزية عادية، وتلك التنشئة الخاصة حوَّلتها إلى نوعٍ مختلف من النساء، عمَّا كانت ستكون عليه لو كانت والدتها حية.

نمَتْ ثقةٌ تامة بين الأبِ والابنة، ومؤخرًا فقط حدَث ما عكَّر صفوَ علاقتهما معًا، وهو الأمر الذي لم يتحدَّث بشأنه أيٌّ منهما مرةً أخرى منذ فُتح الحوار حوله.

قالت إديث، ربما بصراحةٍ أكثر من المعتادة منها، إنها لا تُفكر على الإطلاق في الزواج، ومن ثَم، فهي لا ترغب في الزواج من الرجل الذي بدا أن أباها قد اختاره لها. وردًّا على ذلك، لم يَقل أبوها شيئًا، لكن إديث كانت تعرفه جيدًا وتعتقد أنه لا يُمكن أن يُغيِّر رأيه بشأن هذا الأمر. إن دعوة أبيها لابن أخيه كي ينضمَّ إليهما في هذه الرحلة تحديدًا، أثبتَت لها أنَّ أباها يرى أن كلَّ ما يحتاج إليه الأمر هو أن يقرِّب أحدَهما من الآخر أكثرَ من ذي قبل؛ وعلى الرغم من التزامها الصمتَ حيال ذلك، فقد كانت تعتقد أنَّ أباها ليست لديه فِطنةٌ في هذه الأمور مثل التي يُبْديها عند شراءِ شركةٍ نامية. وقد كانت إديث في تعاملها مع ابن عمِّها شديدةَ التهذيب — تمامًا كما هو حالها مع أيِّ شخص — لكنه لاحظَ أنها تُفضِّل البقاء بمفردها على مرافقته، وهذا ما جعله، رغم غضبِ السيد لونجوورث، يقضي معظمَ وقته في لعب الورق في غرفة التدخين، بدلًا، بحسَب رأي الرجل العجوز، من أن يتَنزَّه على سطح السفينة مع ابنةِ عمه.

كان ابن عم إديث ويليام لونجوورث يشعر بالضيق بعض الشيء؛ لأنه كان يرى أنه شخصٌ مناسب جدًّا للزواج، شخص تتطلع أيُّ فتاةٍ عاقلة إلى الاقتران به. إنه لم يدَّعِ على الإطلاق بأنه واقعٌ بشدة في غرام إديث، لكنه كان يعتقد أن الزواج سيكونُ شيئًا رائعًا من كافة الجوانب. لقد قال في نفسه إن إديث فتاة جميلة، وإنَّ مال عمِّه أمرٌ بالتأكيد يستحقُّ التفكير فيه. وفي واقع الأمر، بدأ يتمنى أن يُتِم الزواج، لكن نظرًا إلى أنه لم يرَ حوله مَن يمكن أن يعتبره منافسًا له، فقد كان ينظر إلى الأمر باعتباره محسومًا لصالحه. لذا، كان يُظهِر للآنسة إديث أن سعادته ليست معتمدةً بأيِّ نحوٍ على مرافقتها له؛ وكان يفعل هذا بقضاءِ وقته في غرفة التدخين ولعب الورق مع غيره من الركَّاب. كان من الواضح جدًّا لأي شخص يرى إديث، أنه إن كان هذا يُلائمه، فهو يُلائمها بالتأكيد؛ لذا، كانا نادرًا ما يتقابلان في السفينة إلا على طاولة الطعام، حيث يكون مكانُ إديث بين أبيها وابن عمِّها. وقد جرى حوارٌ واحد قصير بين الآنسة لونجوورث وابن عمها حولَ موضوع الزواج. تحدَّث هو عن الأمر بنبرةٍ واثقة جدًّا باعتباره ترتيبًا جيدًا، لكنها قالت باختصارٍ شديد إنها ليست لديها أيُّ رغبة في تغيير اسمها.

قال ابنُ العم ويليام: «أنتِ لا تحتاجين إلى ذلك، فاسمي لونجوورث، وهو اسمُك في الوقت نفسِه.»

ردَّت: «هذا ليس مجالًا للمزاح.»

«أنا لا أمزح، عزيزتي إديث. أنا فقط أُخبرك بما يعرف الجميعُ أنه صحيح. أنتِ بالطبع لا تُنكرين أن اسمي هو لونجوورث، أليس كذلك؟»

ردَّت الفتاة: «أنا لا أقصد أن أُنكِر أو أؤكِّد أي شيء فيما يتعلق بهذا الأمر، وسأكون ممتنةً بشدةٍ لو لم تَعُد إلى هذا الموضوع ثانيةً.»

ونتيجةً لذلك، عاد الرجل الشابُّ مرة أخرى إلى غرفة التدخين.

في هذه الرحلة، عرَفَت إديث الكثيرَ عن المجتمع الأمريكي. وقد حبَّبها الأمريكيُّون بشدةٍ في بلدهم، وعلى الرغم من أن الطقس كان صعبًا بعضَ الشيء، فقد استمتعَت بشدةٍ بالجولات التي كانت تتمُّ بالزلَّاجات والفعاليات المختلفة التي يُتيحها الشتاءُ لسكان أمريكا الشمالية. لقد ذهب أبوها وابنُ عمها إلى أمريكا لتفقُّدِ عدةِ مصانعَ للجِعَة كانت توجد في أجزاء مختلفة من البلاد، التي كان من المفترض دمجُها في شركة واحدة كبيرة. لقد اتخذوا من إحدى مدن الساحل الغربيِّ هناك مَقرًّا لهم، وبينما كانت إديث تستمتع بوقتها بصُحبة أصدقائها الجدد، زار الرجلان مصانعَ الجِعَة الموجودةَ في أماكنَ مختلفةٍ من البلاد، التي رغم ذلك كانت قريبةً من المدينة التي كانت تمكثُ فيها إديث. بدا أن مصانع الجِعَة كانت في حالة جيدة جدًّا، على الرغم من أن ابن عم إديث قال إن الجعة التي يُخمرونها كانت أسوأَ جعةٍ ذاقها، وقال إنه لا يرغب في أن تكون له أيُّ صلة بإنتاجها، حتى لو أدَّى إنتاجها إلى أرباح كبيرة. كان عمه قد تذوق الجعة المنتَجة هناك، لكنه قصَر نفسه على تناول الجعة الإنجليزية الجيدة المعبَّأة والمعتَّقة، التي ارتفع ثمنُها، إن لم يكن جودتها، بسبب مصاريفِ النقل. ولكن كان هناك شيءٌ في مزيج الجعة الذي يُصنع هناك لم يُعجبه، ومن الكلمات القليلة التي قالها عن الموضوع، أدرك ابنُ أخيه أن لونجوورث لن يُصبح عضوًا في اتحاد شركات الجعة الكبير المزعوم. كانت هناك نيةٌ للقيام برحلةٍ إلى كندا، وكانت إديث تأمُل في مشاهدة مدينة مونتريال في نسختها الشتوية؛ لكن تم التغاضي عن فكرةِ هذه الزيارة؛ بسبب قضاء الكثير من الوقت في الولايات الأمريكية الغربية. لذا، بدَءوا رحلتهم إلى أرض الوطن، وكان لونجوورث العجوز يجلس قدرًا كبيرًا من الوقت على كرسيِّه على سطح السفينة، بينما كانت إديث تتمشَّى هناك بمفردها، وكان ابن عمها يقضي معظم وقته في غرفة التدخين. كانت هذه هي الفتاةَ التي ألقى بها القَدَرُ بين ذِراعَي جون كينيون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤