الفصل السادس عشر

وقعة هليوبوليس

سار عمرو بمن معه إلى الجنوب بعد أن عبروا النهر سالمين، وكان سيرهم بجوار المزارع حتى بلغوا «ممفيس»، وكانت تلك المدينة القديمة قد اضمحل أمرها منذ بناء الإسكندرية، ولم يبقَ منها اليوم باقٍ، على أنها كانت في وقت غزوة العرب لا تزال أطلالها ماثلة في الموضع الذي كانت فيه عاصمة لدولة الفراعنة، وكانت فيها مساكن عدة لا تزال آهلة، وكانت في الجانب الآخر من النيل مدينةٌ نما أمرها وزاد سكانها، حتى لقد كان يُطلَق عليها اسم ممفيس١ أحيانًا، وتلك هي مدينة مصر، وكان أكثرها إلى جنوب حصن بابليون. ولعل العرب رأوا عند ذلك لأول مرة وهم في الجانب الغربي للنيل مدينة مصر واضحةً، تُشرِف عليها صروح حصن بابليون سامقةً فوق ماء النهر من وراء جزيرة الروضة. وإن نفسًا كنفس عمرو لا بد أن تكون قد ثارت بها سَورة الشجون؛ إذ يرى عن يمينه الأهرام، وعن يساره نهر النيل وحصن بابليون، وحوله أطلال ممفيس. وأما من كان معه من الناس فأكبر الظن أنهم ما كانوا إلا غزاة البادية يسيرون بين آجام النخيل لا يَعْبئون إلا قليلًا بما حولهم من آثار الحضارة الغابرة، ولا يلتفُّون إلى ما دونهم من بناء الروم أو البيزنطيين.
وأما سيرهم فليس لدينا علمٌ بيِّن بوصفه. وكان حاكم مدينة بيوم (الفيوم) اسمه «دومنتيانوس»، وأما حاكم الإقليم فاسمه «تيودوسيوس»، وكان عند ذلك مع حاكم الإسكندرية «أنستاسيوس» في بعض بلاد مصر السفلى بقرب «نقيوس»، ووكَّل أمر الدفاع عن الإقليم إلى «حنا»٢ قائد كتيبة «الخفر»، وهي كتيبة من أهل البلاد، وكان تحت إمرته رجلٌ آخر اسمُه «حنا الماروسي». وقد وُضع الجنود عند ثغور الفيوم التي يُدخل إلى الإقليم منها، وحُرست حراسةً حسنة، وأقام الروم ربيئةً لهم في حجر اللاهون٣ ليرصد العدو ويعرف أخباره ومسيره، ويحمل أنباء ذلك إلى «حنا» وكان مُقيمًا قرب شاطئ النهر، ثم أُرسلت سريَّةٌ من الفُرسان والرماة إلى العرب لتحُول بينهم وبين السير. ويلوح لنا أن جنود العرب لم يقوَوا على أن يخلصوا ممن لاقاهم من الروم، فعدلوا إلى جانب الصحراء وجعلوا يستاقون ما لاقَوا من النَّعم، فأخذوا منها عددًا عظيمًا، وما زالوا كذلك حتى بلغوا مدينةً اسمها البهنسا، ففتحوها عنوةً، وقتلوا من وجدوا بها من رجال ونسوة وأطفال،٤ ثم سمع عمرو بأن «حنا» كان يسير وراءه في قلة خمسين من فُرسانه يرقبون سيره، فبعد به عمن وراءه من جنده ثم كرَّ عليه مُباغتًا. فلما رأى «حنا» ذلك وأن الخطر مُحدِق به، أراد أن يعود سريعًا إلى عسكره في «أبويط»،٥ وهي واقعة على النيل على مسافةٍ قليلة من موضعه، فكان يسير بجنوده في الليل ويكمنون بالنهار في النخيل والآجام، ولكن عمرًا علم بمكمنه؛ إذ دلَّه عليه أحد شيوخ البدو،٦ فحاصره ومن معه، وقتلهم فلم يدع منهم أحدًا؛ فقُتل في ذلك «حنا» قائد الكتيبة ووكيله؛ لأن العرب لم يتخذوا منهم أسرى.

فلما بلغ القائدَ «تيودور» نبأُ هذه النكبة بكى وأعول، ثم هبَّ بعد ضياع الوقت، فحشد من دونه من الجنود، وبعث بهم صعدًا في النهر إلى جزيرة «الكيون»، ثم أسرع «أنستاسيوس» و«تيودوسيوس» بالعودة من «نقيوس» إلى حصن «بابليون» ليساعدوا من به، وأرسلوا من الحصن سريةً جعلوا عليها قائدًا اسمه «ليونتيوس» إمدادًا للعسكر في «أبويط». فلما بلغ «ليونتيوس» مَضرب العسكر في «أبويط» وجد المصريين حيالَ العرب، ووجد أن «تيودور» قد لاذ بجنوده في مدينة الفيوم، يخرج منها بين حين وحين فيهوي إلى العرب في البهنسا يُقاتلهم. وكان «ليونتيوس» رجلًا سمينًا خاملًا لا علم له بالحرب، فخُيِّل إليه أن العرب لن يلبثوا أن يُهزموا ويخرجوا من ذلك الإقليم؛ ولهذا خلَّف نصف جنده مع «تيودور» وعاد بالنصف الآخر إلى حصن «بابليون» ليروي لأُولي الأمر فيه ما شهده.

ولا شك أن العرب لم يستطيعوا فتح مدينة الفيوم، وأنهم عادوا أدراجهم إلى الشمال مُنحدرين مع النهر، وكان «تيودور» قد أمر بالبحث عن جثة «حنا» وكانت قد أُلقيت في النهر، فانتشلها الناس في شبكة، ثم حُنطت ووُضعت على سرير، وحُملت في النيل إلى حصن «بابليون» تُحيط بها آيات الحزن، ومن ثَم بعثوا بها إلى هرقل.٧ وقد حزن الإمبراطور لهزيمة «حنا» وقتله حزنًا شديدًا، وبعث إلى القائد «تيودور» يُظهر له مَوجدته وغضبه عليه، فعرف ذلك القائد أن الإمبراطور لم يغضب عليه إلا أن وشى به «تيودوسيوس» و«أنستاسيوس»، وأبلغا الإمبراطور عنه أنه السبب في قتل «حنا»؛ ومن ثَم وقعت في نفسه عداوةٌ شديدة لهذين الرجلين.

ولكن العرب لم يعودوا من الفيوم منذ أحسُّوا بالفشل وحده؛ فلعَمْري لقد يكون ابن العاص أتم في غزوته تلك أكثر مما كان يطمع فيه؛ فقد أخرج جيشه من مأزقٍ وقع فيه عند «أم دنين»، وانتقل به إلى موضعٍ أكثر أمنًا، ولقي في غزوته فوزًا كثيرًا ونصرًا في مَواطن عدة وإن لم يُحرز انتصارًا عظيمًا، وشغل جنده مدة فقطع عليهم مدة الانتظار؛ إذ جاءته الأمداد بعد ذلك بعد أن طال إبطاؤها عليه، فلما بلغه نبأ مجيئها عاد أدراجه بالمسلمين ليلقوها. أما «تيودور» فإنه جاء كذلك إلى الشمال مع جنوده إلى حصن «بابليون»، وقد اجتمع به الجند من كل جهات مصر فأصبح فيه جيشٌ عظيم.

وكان أول مسير عمرو إلى الفيوم نحو أول شهر مايو، وقضى في غزوته بضعة أسابيع أضاعها الروم ضياعًا، بل خسروا فيها خسارةً كبرى، وغنم العرب فيها غُنمًا عظيمًا. ولعل قدوم أمداد المسلمين التي بعث بها عمر بن الخطاب كان في السادس من شهر يونيو.٨ والْتَقى الجميع قريبًا من هليوبوليس، وكان الأمير على المدد الزبير بن العوام، ابن عمَّة النبي وصاحبه، وأحد رجال الشورى الستة، وكان معه أربعة آلاف رجل، ثم جاء في عقبه كتيبتان كلٌّ منهما من أربعة آلاف رجل، فكان جميع من جاء من الأمداد اثنَي عشر ألفًا.٩ وقد علم الروم أن النيل يعلو في مجراه العميق في وسط الصيف؛ ولهذا أرادوا أن يُناجزوا المسلمين بمن اجتمع منهم قبل أن يفيض النهر، ولكنهم عجزوا كل العجز عن أن يحُولوا دون اجتماع جيوش المسلمين المُتفرقة، مع أنهم كانوا يملكون حصن بابليون، وكان نهر النيل في يدهم، وعادوا إلى مسلحة «أم دنين» فملكوها. فلو كان عندهم علم بالحرب وحزم في الرأي لاستطاعوا أن يمنعوا عمرًا من العبور إلى الجانب الشرقي، فكانوا يجعلونه بذلك في مَعزل عمن جاء يمدُّه، ولعلهم كانوا يستطيعون بذلك القضاء عليه.
ولكنهم لم يفعلوا ذلك مع كل ما كان لديهم من ميزة عليه، واستطاع عمرو أن يعبر النهر إما عنوة وإما على غِرة منهم، وأغلب الظن أنه عبر النهر في موضعٍ أسفل من موضع «أم دنين» إلى الشمال منها؛ لأن ترعة «تراجان» كانت عند ذلك مطمومة منذ أُهمل أمر حفرها وكَرْيها، ولم تكن لتعُوق سير العرب حتى في وقت فيض النيل. وكان عمرو قد علم بأن أمداد المسلمين سائرة في طائفتين مُيممةً شطر «عين شمس»، وهي «هليوبوليس»، وعلم أن مُقامه في الجانب الغربي مُخطر.١٠ والحق أنه فزع خوفًا من أن يفطن الروم إلى الأمر فيحُولوا بينه وبين الاتصال بالمدد الذي جاء به الزبير، ولكن «تيودور» ضيَّع الفرصة على عادته، فلم يضرب الضربة القاضية، واستطاع عمرو أن يسير للقاء المدد ويبلغ عسكر المسلمين في هليوبوليس وقد امتلأت قلوب أصحابه عزةً وبِشرًا بما وُفِّقوا إليه من الفوز في غزوتهم.
كانت هليوبوليس في الأزمنة القديمة إحدى مدن مصر الكبرى، واسمها «أون»،١١ ويتردد ذلك الاسم في قصص موسى، وكان لا يزال باقيًا يُطلِقه القبط عليها في القرن السابع، ويفيد ذلك الاسم معنى «مدينة الشمس». ولا شك أن اليونان أخذوا ذلك المعنى فجعلوا اسمها عندهم «هليوبوليس»، وقد احتفظ العرب كذلك بذلك المعنى فجعلوا اسم الموضع «عين شمس».١٢ وكانت هذه المدينة معروفةً بعظمة آثارها، كما كانت معروفة بأنها قِبلة لأهل العلم وكعبة للدين. ولما زارها «سترابو» قبل ذلك الوقت بستة قرون كان الناس هناك يدلُّونه على المواضع التي كان أفلاطون يتلقى فيها العلم من قبل. على أن الزمن عند ذلك كان قد غيَّر المدينة، وجرَّت صروفه وحروبه وحصاراته ذيل العفاء على أكثر معابدها وتماثيلها. فلما أتى العرب لم يكن باقيًا من مجدها القديم إلا قليل من أسوارٍ مهدَّمة، وتماثيل ﻟ «أبي الهول» قد دُفن نصفها تحت الثرى، وعمودٌ واحد مما يُعرَف ﺑ «المسلة»، ولا يزال باقيًا إلى اليوم ذكرى من ذلك العالم الغابر.
وكانت المدينة على نهد من الأرض، يُحيط بها قديمًا سورٌ غليظ لا يزال أثر منه باقيًا إلى اليوم.١٣ ولم يكن لها خطر في الحرب في ذلك الوقت، ولكنها كانت تستطيع المُدافعة، وكان فيها ماءٌ كثير، وتصلح لإمداد الجيش بالمئونة؛ ولهذا اتخذها عمرو مَقرًّا، وجعل يتجهز منها لِما هو مُقبِل عليه من القتال. وقد وصفنا فيما سلف من قولنا مَقدم «تيودور» إلى حصن بابليون، وأنه جعل يحشد فيه الجنود من بُلدان مصر السفلى، ولكن لعله ما أتم حشد الجيش الذي كان يستطيع به قتال العرب والخروج به إلى عين شمس حتى كانت الأمداد التي بعث بها عمر بن الخطاب قد بلغت عمرو بن العاص، فأصبح بها أميرًا على جيشٍ عُدته خمسة عشر ألفًا، من بينهم طائفة من أكبر فُرسان الإسلام وشجعانه.١٤ ولسنا نعرف عدد الجيش الذي حشده الروم إلا بالظن والحدس، وقد عرفوا حق المعرفة ما كان عليه عدوُّهم من الشجاعة؛ فقد سُمع قبطي مرةً وهو يقول: ما أعجب أمر هؤلاء العرب؛ فإنهم أتَوا إلى مصر في قلة من الناس يريدون لقاء الروم في كتائبهم العظيمة! فأجابه آخر من القبط: إن هؤلاء قوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه حتى يُقتلوا عن آخرهم.١٥ وتُروى قصةٌ أخرى، وهي أن الروم كانوا لا يُقدِمون على القتال، ويقولون: ما لنا من حيلة في قومٍ غلبوا كسرى وهزموا قيصر في بلاد الشام. على أن هذه القصص قد جاءت عن طريق العرب، وإنا نشكُّ كثيرًا في صحة القصة الأخيرة؛ فإن الروم كانوا أكثر عددًا، وإن جيوشهم التي كانت على قدم القتال لم تكن أقل من عشرين ألفًا عدا من كان في الحصون.
كانت خطة عمرو أن يجعل الروم يخرجون إليه، فيُقاتلونه في السهل وهم بعيدون عن حصن بابليون، فلما أحسَّ «تيودور» من نفسه القوة جعل يُناجز العرب، وسار إليهم بجيوشه نحو «هليوبوليس»، وكانت على مسافة ستة أميال أو سبعة من عسكر العرب، وكان على الخيل «تيودوسيوس» و«أنستاسيوس»، ولكن أكثر الجمع كانوا رجَّالة، بعضهم رماة وبعضهم يحملون الرماح، وكانت ربيئة العرب قد أسرعت فحملت إلى عمرو ما عزم عليه الروم، فاستطاع أن يُوجِّه جنوده إلى مواضعها ويُعبئهم للقتال، فسار هو من هليوبوليس مع أكثر الجمع من العرب للقاء الروم، ولكنه أرسل تحت الليل كتيبتين؛ إحداهما إلى «أم دنين»، والأخرى وعليها خارجة بن حذافة إلى مكانٍ واقع إلى الشرق، ولعله كان في ثنية الجبل١٦ بقرب الموضع الذي فيه اليوم قلعة القاهرة؛ فكان سير الروم على ذلك بين هذين الكمينين من العرب. وكان عمرو قد أمرهما أن يهبطا على جانب جيش الروم ومؤخرته إذا ما سنحت لهما الفرصة.١٧
وخرج الروم بين البساتين والأديرة التي كانت إلى الشمال الشرقي من الحصن وانتشروا في السهل،١٨ وكان ذلك في الصباح الباكر، ولم يكن عندهم علم بمكيدة عمرو، بل رأوا أنه كان يسير إليهم في جمعه آتيًا من هليوبوليس، ثم حدث اللقاء بعد ذلك، ولعله كان في مكانٍ وسط بين معسكرَي الروم والعرب عند الموضع الذي اسمه اليوم «العباسية». وكانت كلٌّ من الطائفتين مُوقِنة بأن ذلك اليوم سيكون يوم الفصل في أمر مصر؛ فكانت كلٌّ تُقاتل قتال المُستميت. فلما حمِي وطيسُ القتال وعضَّ الناس على النواجذ، أقبلت كتيبةٌ خارجة تهوي من مَكمنها في الجبل، كأنما هي عاصفةٌ تجتاح مؤخرة الروم. فلما رأى الروم أنهم قد أُخذوا بين جيشين من عدوهم، وقع الفشل في صفوفهم، واتجهوا بعض الاتجاه إلى يسارهم نحو «أم دنين»، فلقيهم الكمين الآخر، فظنُّوا أنه جيشٌ عربي ثالث؛ فانتثر نظامهم، وحلَّت بهم الهزيمة، ففرُّوا لا يلوُون على شيءٍ يطلبون النجاة من سيوف العرب وهي تلمع كأن وميضَها وميض البرق. فاستطاع الأقل منهم أن يبلغ الحصن برًّا فيلوذ به، وكثير منهم ساقهم الفزع إلى النهر، فنزلوا في السفن وعادوا إلى الحصن، ولكن طائفةً كبيرة هلكت، واستولى العرب بعد انتصارهم على «أم دنين» مرةً أخرى. وقد قُتل في الوقعة كل من كان بها من الجنود إلا ثلاثمائة، ولاذ كل من نجا من الروم بحصن «بابليون» وأغلقوا عليهم الأبواب، ولكنهم منذ علموا بما أصاب إخوانهم الروم من القتل حملهم الخوف على أن يتركوا الحصن، فساروا في النهر إلى «نقيوس».
وليس في الأخبار ما يذكر عدد القتل من الجانبين، ولكن من المعروف أن أمير الجيش «تيودور» والحاكمين «تيودوسيوس» و«أنستاسيوس» لم يُقتلوا. على أنه قد بقي من الروم فئة لا بأس بها اجتمع إليها من كان في الحصن في أثناء القتال، فصارت منهم جميعًا مسلحةٌ قوية تستطيع الدفاع عنه، ولكن النصر أفاد العرب فوائد جمَّة؛ فقد أصبحت مدينة مصر في قبضة يدهم بغير قتال، وكانت من قبلُ يحميها الجيش الذي في الحصن،١٩ وأصبحوا يملكون ناصية شاطئ النهر من ناحيتَي الحصن من أعلاه ومن أسفله، ونقلوا عسكرهم من هليوبوليس فضربوه في شمال الحصن وشرقه بين البساتين والكنائس، وذلك هو الموضع الذي صار يُعرَف بالفسطاط فيما بعد. وقد صار جيش العرب بعد ذلك النصر كافيًا لحصار «بابليون» لا يعُوقه عائق من التضييق عليه، بعد أن قضى على جيش الروم فلم تبقَ منه إلا الفلول التي لاذت بالحصن أو هامت على وجهها في بلاد مصر السفلى. ولما بلغت أنباء نصر العرب إلى الفيوم غادَرها من بها من المسالح، فخرج «دومنتيانوس» عندما علم بذلك من المدينة في الليل، وسار إلى «أبويط»، ثم نزل في النهر بجنوده، وجدَّ هاربًا إلى «نقيوس»، ولم يخبر أهل «أبويط» بما كان منه من ترك الفيوم لأعدائه لا دافع عنها أحد. ولما بلغ نبأ «دومنتيانوس» وهربه إلى عمرو بن العاص بعث كتيبةً من جنده عبروا النهر، وفتحوا مدينتَي «الفيوم» و«أبويط»، وأحدثوا في أهلها مَقتلةً عظيمة، وأصبح ذلك الإقليم تحت الحكم الإسلامي منذ ذلك الحين.
ولما قضى عمرو بذلك على كل من وقف له من الفيوم، وخلص له أمرها، أرسل جنوده إلى موضعٍ اسمه «دلاص»،٢٠ رآه أصلح المواضع للنزول من النهر إلى ذلك الإقليم، وأصبح العرب بذلك إلى حينٍ سادةَ النهر، وكان هذا أثرًا عظيمًا من آثار النصر. غير أن الروم كانوا لا يزالون يملكون جزيرة الروضة، وهي جزيرةٌ ذات حصون تتصل بحصن بابليون، تسير بينهما السفن والقوارب، وبقيت الأسفار على ذلك في النهر على عادتها يكاد لا يعوقها عائق؛ لأن العرب لم يكونوا من أهل البحار؛ إذ لم يحذقوا بعدُ تسيير السفن، وكانوا في شغل بما هم فيه من القتال والفتح في الأرض. وعاد عمرو فأمر جرائد الخيل بالعودة إليه،٢١ وكان أنفذهم يجوسون خلال البلاد بعد وقعة عين شمس، ثم أمر «أبا قيرس»٢٢ حاكم دلاص أن يمدَّ المسلمين الذين كانوا بالفيوم بالسفن لينتقلوا فيها من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي. وكان يقصد بذلك أن يفتح كل إقليم مصر، وهو الإقليم الذي كان يلي مفترق فرعَي نهر النيل.
figure

ولعل وقعة عين شمس كانت في النصف من شهر يوليو سنة ٦٤٠، وقضى العرب في فتح الفيوم نحو أسبوعين؛ وعلى ذلك لم يبدأ فتح مصر السفلى قبل شهر أغسطس، وكان عمرو يطمع أن يبسط يده إلى هناك قبل أن يحُول فيض النيل بينه وبين ذلك. وأما ما كان من أمر «جورج» حاكم إقليم مصر، فإما أن يكون قد وقع في الأسر عند فتح مدينة مصر، وإما أنه أذعن للعرب وخضع لأمرهم. فالحق أن الرهبة من العرب أخذت عند ذلك بقلوب الناس في كل البلاد، ولا سيَّما ما كان منها على كثب من سيوفهم، اللهم إلا المواضع ذات الحصون.

غير أن مصر السفلى كانت تشقُّها التُّرع الكثيرة، وكان بعض هذه الترع لا يمكن اجتيازه خوضًا، فجاء الأمر إلى «جورج» أن يُقِيم قنطرة على الترعة عند قليوب، وقال حنا النقيوسي: «وأخذ الناس يُساعدون المسلمين.»٢٣ وإنه لمن سوء الحظ أن قول الأسقف هنا ليس بالواضح البيِّن، غير أنا إذا قرنَّا ذلك القول مع سائر ما جاء في ديوانه رأينا أن معناه لا يزيد على أن الناس قاموا بتلك المساعدة إذ أُمِروا بها؛ أي إنها لم تكن مساعدة الراغب المختار، بل عمل المُجبَر المضطر. وفي الحق أنَّا لو أمعنَّا النظر لرأينا في قول الأسقف نفسه ما يدل على ذلك دلالةً واضحة؛ فإنه بعد أن قال إن العرب فتحوا المدينتين الكبيريين «أثريب» و«منوف»، وملكوا ريفهما، وبسطوا سلطانهم على إقليم مصر كله، قال: «إنهم لم يكفِهم هذا، بل أمر عمرو أن يؤتى بالحكام من الروم مجموعةً أيديهم في الأصفاد وأرجلهم في القيود، ثم أخذ من الناس أموالًا عظيمة، وضاعف عليهم الجزية، وأمرهم أن يأتوا له بالأعلاف لخيله، وظلمهم ظلمًا كثيرًا.» وليس من العجيب أنه بمثل هذه الشدة قضى على كل مقاومة، وجعل الناس لا يعصون له أمرًا، ولكنا لا نجد كلمةً واحدة تدل على أنه قد كان بين أهل مصر من كان لمجيء المسلمين في قلوبهم إلا وقعُ الخوف والرعب.

على أن مدينة «نقيوس» — وكانت على الفرع الغربي للنيل — بقيت بنجوة من العرب بعد أن أخذوا «أثريب» و«منوف»؛ وذلك لأنها كانت ذات حصونٍ قوية وأسوارٍ مَنيعة، فما كانت لتؤخذ حتى يُحاصرها العرب حصارًا تامًّا، ولم يستطع العرب ذلك عندئذٍ؛ إذ كانوا لا يملكون العُدة للحصار ولا يتسع لهم الوقت له؛ وعلى ذلك بقيت «نقيوس» كأنها حلقةٌ تصِل من كانوا في حصن «بابليون» بمن كانوا في الإسكندرية، غير أن كبار الروم الذين كانوا فيها لم يستطيعوا البقاء بها عندما جاءتهم أنباء فتوح العرب وفوزهم، فهاجروا إلى العاصمة، ولم يُغادروا في المدينة إلا «دومنتيانوس» في قلة من الناس للدفاع عنها، وبعثوا إلى «داريس» في سمنود يأمرونه أن يحفظ ما عنده من البلاد التي بين فرعَي النيل، وعند ذلك زاد الخوف وذُعِر الناس، وغلب الرعب على كل بلاد مصر، فأخذ الخلق يفِدون أفواجًا من كل حدب إلى الإسكندرية تاركين أرضهم وبيوتهم وما فيها من زرع وضرع ومتاع؛ وبذلك خرج أهل مصر من عهدة المقوقس (قيرس) واضطهاده الذي عصف بهم عشر سنين إلى عهدٍ آخر من الخوف والفزع.

ولكن عمرًا لم يكن عند ذلك ليستطيع أن يسير إلى الشمال في أثر تلك الأفواج الهاربة؛ فإن النيل كان آخذًا في مدِّه يعلو به الماء علوًّا سريعًا في أواخر شهر أغسطس، فأصبحت البلاد لا يمكن السير فيها، وكان فوق ذلك لا يريد أن يخلف وراءه ذلك الحصن العظيم حصن «بابليون» بغير ردء من جنوده يدرأ عنه، وإذا هو شاء أن يجعل من جنوده ردءًا كان لا بد له أن يخلف جانبًا عظيمًا من جيشه؛ فلا يبقى له بعد ذلك من الناس من يقدر بهم على فتح الإسكندرية، فلم يكن له مَفرٌّ من أن يعمد بعد ذلك إلى فتح حصن «بابليون».

١  قد ورد ذكر آثار ممفيس في كتاب ابن الفقيه (القرن العاشر)؛ إذ سمع من أحد الشيوخ المعمَّرين عن قصرٍ عظيم من كتلةٍ واحدة من الصخر، وقد علَّق على ذلك تعليقًا غريبًا إذ قال: «وممفيس مدينة فرعون لها سبعون بابًا، وأسوارها من الحديد والنحاس» (Bibl. Geog. Arab، الجزء السادس، صفحة ٥٨ و٧٣). وقال اليعقوبي (وهو قبله بقليل): إن «مدينة ممفيس متهدِّمة». وقد كانت المدينة التي حول قصر الشمع محلةً مصريةً قديمة؛ فقد وُجدت بها آثارٌ فرعونية، وكان عند الباب الجنوبي للحصن تمثالٌ مصري معروف، ووُجدت حجارة في أسوار الحصن عليها نقوشٌ هيروغليفية. وكان اسم المدينة «مصر»، ولكن الظاهر أن «مصر» و«منف» كانا يُستعملان مترادفين في بعض الأحوال؛ فقد قال عبد اللطيف: «وتوجد الآثار التي بمصر القديمة وهذه المدينة بجوار الجيزة التي وراء الفسطاط، وكانت مسكن الفراعنة ومقر ملوكهم» (ed. G. White، صفحة ١١٧). ولفظ مصر له معنًى في إطلاقه؛ فمثلًا «المصران» استعملها ابن خلكان يقصد الكوفة والبصرة بمعنى «المدينتين» (انظر طبعة de Slane، الجزء الرابع، صفحة ٢٠٤). ولكنه في مصر كان عادةً يُطلَق على المدينة التي على الجانب الشرقي للنيل في جوار حصن بابليون.
٢  جاء في «زوتنبرج» (صفحة ٥٥٤، هامش ١) أن حنا هذا هو حنا حاكم برقة أو برقينة الذي جاء ذكره في «نيقفوروس». ولقد بيَّنَّا أن أخبار غزوة العرب في كتاب نيقفوروس ليست جديرة بالاعتماد. ومع ذلك فقد كان حنا هذا رجلًا كبير الشأن، ولدينا ما يحملنا على الظن أنه كان مُرسَلًا من قِبل هرقل، ولقد كان هو بعينه «قائد الرديف» الذي أتى بنص المذهب الجديد مُوفَدًا من «سرجيوس» إلى «قيرس»، وهو الذي حمل مع هذا النص الصليب الذي جاء ذكره في «حنا النقيوسي».
٣  إذا أردت معرفة أخبار هذا الموضع، فارجع إلى كتاب الدكاترة Hunt and Grenfell، وهو Fayoum Towns and their Papyri (صفحة ١٣، شكل ١٨). واللاهون على بحر يوسف على نحو عشرة أميال من مدينة الفيوم، وكانت عند مدخل الوادي الذي بين الجبال المُحيطة بكورة «أرسنويه»، وكانت موضعًا ذا شأن في الأمور الحربية للدفاع عن الإقليم (انظر المسعودي، صفحة ٣٨٥-٦).
٤  لم يكن من مذهب العرب ولا مما يُوصيهم به الدين والخلفاء أن يقتلوا طفلًا أو امرأة، ولعل ذلك خطأ من «حنا النقيوسي» دفعه إليه كرهه لأعداء بلاده ودينه، ولو حدث شيء من ذلك لمَا تردَّد مؤرخو العرب في وصفه؛ فإنهم لا يدعون شيئًا إلا وصفوه حتى ولو كان شديدًا عليهم. (المعرِّب)
«حنا النقيوسي، صفحة ٥٥٥»، ويجب أن نصدِّق خبر المذبحة، ولم تكن بمخالفة لقانون الحرب في تلك الأيام، وسنجد أمثلةً غيرها من نوعها. والبهنسا المقصودة هنا هي في كورة الفيوم بالطبع، وليست البهنسا المعروفة التي في موضع المدينة القديمة Oxyrhynchus؛ فقد كانت تلك على بُعد خمسين ميلًا إلى الجنوب من بعد بهنسا الفيوم (انظر أميلنو Geog. Copte، صفحة ٣). (المؤلف)
٥  موضع «أبويط» غير معروف، فيقول «زوتنبرج» إنها هي المدينة المعروفة بذلك الاسم في إقليم Lycopolis (أسيوط). ولكن هذا مُحال؛ إذ إن هذا المكان في جنوب البهنسا، وقد بيَّن أميلنو في كتاب Geog. Copte (صفحة ٣) أن هناك موضعين باسم «أبويط»، والمدينة المقصودة هنا لا بد أن تكون في مديرية بني سويف في الوقت الحالي، وهي قريبة من «بوصير كوريدوس» في الشرق من حجر اللاهون.
٦  جاء في ترجمة زوتنبرج «رئيس الشيعة»، ولكن الدكتور شارل يُترجمها «رئيس عصابة اللصوص»، ولا شك أن المقصود بذلك أهل الصحراء المُغِيرون.
٧  وهذا الحادث يدل على أن حنا كان موفدًا من قِبل الإمبراطور نفسه لغرضٍ معيَّن، وكان «تيودور» بغير شك يعتمد على مقدرة حنا في الحرب؛ ولذلك اهتم اهتمامًا عظيمًا لموته. وقد بيَّنَّا فيما سبق البراهين المباشرة على أن حنا كان هو الذي جاء يحمل نص المذهب الجديد، وأرسل معه الإمبراطور صليبًا له قداسةٌ عظمى.
٨  قد بيَّنا في مقالنا «تاريخ فتح العرب» أن الرواية القبطية تجعل هذا التاريخ يقع في وقت غزو العرب لمصر؛ وعلى ذلك لا يمكن أن يتفق مع مجيء عمرو الأول إلى مصر، ويمكن أن يكون هذا تاريخ مجيء جيش الأمداد.
٩  اختلف الرواة في عدد الأمداد؛ فقال ابن عبد الحكم إنها ٤٠٠٠، وقال البلاذري إنها ١٠٠٠٠ أو ١٢٠٠٠، وقال ياقوت ١٢٠٠٠. وأورد المقريزي نقلًا عن الكندي خبرًا رواه يزيد أن جيش عمرو كان ١٥٥٠٠، وتفصيل ذلك أن جيشه الأول كان ٣٥٠٠، ثم زاد ١٢٠٠٠. وقال السيوطي على اليقين إن الإمداد جاء أرسالًا إلى أن بلغ ١٢٠٠٠، وهذا ما رآه المقريزي، وقال إن كتيبة منها كانت مع الزبير وعددها ٤٠٠٠. وهذا يُفسر السبب الذي جعل مؤرخي العرب يقولون إن الأمداد كلها كانت ٤٠٠٠. ومن العجيب أن «حنا النقيوسي» يقول إنها كانت ٤٠٠٠، ويزيد على ذلك أن قائدها كان اسمه «والواريا»، وكان أسود، وهو من الهمج. ولا نستطيع أن نعرف الاسم المقصود على أنه قد كان منهم قائدٌ أسود، وهو عبادة في إحدى الكتائب. وقال زوتنبرج إن «والواريا» هذا تحريفٌ ظاهر. وقال ياقوت إن كلًّا من عبادة بن الصامت والمقداد بن الأسود ومسلمة بن مخلد كان على ألف رجل، وإن الزبير مثلهم، وإنه لا يوجد نوع من الخلط إلا وقع فيما كتبه العرب؛ وعلى ذلك فليس عجيبًا أن نرى المقريزي يؤجل وصول الأمداد، وهي ١٢٠٠٠، مع الزبير إلى الوقت الذي كان العرب يُحاصرون فيه حصن بابليون.
١٠  قد وقع نقل وتشويه في عبارة الفصل الثاني والستين من كتاب حنا، فجعله غير ممكن الفهم (صفحة ٥٥٦). وقد جاءت فيه عبارةٌ تُشير إلى السير لفتح الفيوم، وهي: «فتركوا المدن الحصينة، واتَّجهوا إلى موضعٍ اسمه «تنونديس» وساروا في النهر.» ثم جاءت بعدها عبارةٌ تُشير إلى فتح مصر، والجملة التي بعد ذلك تُشير إلى الرجوع من الفيوم. وإنا في أشد الحاجة إلى ترتيب لجمل النص على يد ناقد بصير، ولكن على كل حال يمكن أن نُدرك مما جاء في هذا الوصف أن عمرًا كان يُحسُّ قلقًا من الحال التي كان فيها.
١١  كتب شمبوليون الأصغر تعليقًا على هذا الموضوع: (L’Eg. sous Les Pharoans t. ii pp. 36. 41).
١٢  الظاهر أنه قد غلب الاسم الجديد «المطرية» على الاسم القديم «عين شمس»، والموضع معروف للسياح من أجل شجرة العذراء والعين التي استراحت الأسرة المقدسة بجوارها.
١٣  جرت العادة أن يُقال إن هليوبوليس هي «أون»، ولكن الخريطة الحديثة الحربية تجعل «أون» في موضع تل اليهودية، وهليوبوليس في موضع تل الحسن، وآثار تل اليهودية على نهد من الأرض يحيط بها سورٌ ساذج من اللَّبن، في حين أنه لا يزال في تل الحسن سورٌ قوي عُلوُّه عشرون قدمًا. ولا بد أن عمرًا قد ضرب عسكره في الموضع الأخير؛ فإن تل اليهود على اثنَي عشر ميلًا إلى الشمال بعد ذلك. وقد علا كل سطح ذلك السهل بضع أقدام منذ القرن السابع، ويدل على ذلك العمق الذي توجد فيه المسلة اليوم والعمق الذي توجد فيه الآثار الأخرى تحت مستوى سطح السهل.
١٤  ذكر ابن عبد الحكم كما جاء في كتاب أبي المحاسن الأسماء الآتية للصحابة الذين شهدوا فتح مصر، الصحابة: عمرو وابنه عبد الله، والزبير، وعبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص (وهذا مختلف فيه)، وخارجة بن حذافة، وقيس بن أبي العاصي السهمي، والمقداد بن الأسود، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، ونافع بن عبد قيس الفهري، وأبو رافع مولى رسول الله، وابن عبدة، وعبد الرحمن وربيعة ابنا شرحبيل بن حسنة، ووردان مولى عمرو.
الأنصار: عبادة بن الصامت، ومحمد بن مسلمة، وأبو أيوب خالد بن يزيد، وأبو الدرداء عويمر بن عامر، ويُسمى عويمر بن يزيد. وقد أتى نفس الكاتب بأسماءٍ أخرى ممن شهد الفتح، ومن هم أقل من هؤلاء ذكرًا بين العرب (انظر النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، (Lugd. Bat 1885-6) Juynboll Matthes).
١٥  أبو المحاسن، صفحة ٨.
١٦  ولعل هذه هي الحادثة التي ذكرها المقريزي في غير موضعها، حيث يقول إن عمرًا أرسل ٥٠٠ فارس بقيادة «خارجة بن حذافة»، وأمرهم أن يكمنوا فيهبطوا على العدو إذا خرج من بين الأديرة. قال: «فساروا بالليل ودخلوا مَغار بني وائل قبل الصباح.» فلما بدأت الوقعة بعد الفجر نزلوا على مؤخرة الروم بغتةً، وأكملوا ما بدأ من اضطرابهم واختلال أمرهم.
١٧  يقول «زوتنبرج» إنه لا يستطيع فهم الموقعة نظرًا للمسافات التي بين هذه المواضع، وقد أخطأ بجعل تنونديس «أم دنين» إلى جنوب بابليون بدل أن يجعلها في شمالها. ولا شك أن «حنا النقيوسي» جعلها أبعد إلى الشمال الغربي؛ ولهذا يقول إن المكان الآخر في شمال بابليون. ولكنا فيما عدا الاعتراضات الأخرى لو وضعنا كمين عمرو في جنوب بابليون لجعلنا خطته في منتهى الجهالة، في حين تكون كتيبةٌ أخرى من جيشه في الشمال ومعظم جيشه في هليوبوليس. وفوق ذلك كان حصن بابليون ومعسكر الروم يسدَّان الطريق الذاهب إلى الجنوب. ولو قلنا إن عمرًا ذهب إلى لقاء العدو ولم يبقَ في عسكره لانتظاره هناك لذهب الاعتراض ببُعد المسافة. ولقد نسي «زوتنبرج» فوق هذا أن النيل كان يجري في موضعٍ شرقيَّ مجراه الحالي بكثير. فإذا نحن وضعنا كمينًا عند «أم دنين» (الأزبكية) وآخر عند القلعة أو الجبل الأحمر صارت خطة الموقعة واضحة. ولنا كلمةٌ أخرى؛ فقد كانت هليوبوليس قديمًا تُغطي مساحةً أكبر مما يمكن تصوُّره اليوم، وهذا واضح ليس فقط من الأطلال الباقية، بل من شهادة ابن دقماق؛ إذ يقول صراحةً: «وكانت عين شمس في الزمن الماضي مدينةً عظيمةً متسعةً متصلة بمصر القديمة التي في موضع الفسطاط في الوقت الحاضر» (الجزء الخامس، صفحة ٤٣). ومعنى هذا أنه لا بد قد كانت المسافة بين أرباض المدينتين قصيرة، على أن أرباضهما كانت عبارة عن منازل وكنائس مُتفرقة.
١٨  يظهر لمن يطَّلع على هذا الوصف الذي وصفنا به موقعة عين شمس أنها على اختلافٍ كبير مع ما جاء في الطبري (انظر زوتنبرج، الجزء الثالث، صفحة ٤٦٣)؛ فقد جاء في الطبري: (١) إن الوقعة كانت بعد فتح حصن بابليون. (٢) إن المقوقس كان مع جيش القبط في عين شمس، وقد أزمع السير إلى مصر. (٣) إن جيش عمرو سار إلى أبواب عين شمس. (٤) إن جيش القبط تشتَّت عند أول صدمة، وخسر عددًا عظيمًا بين قتيل وأسير. (٥) إن العرب غنموا غنيمةً عظيمة، وأرسلوا الأسرى إلى المدينة. وإنه ليكون من الإسراف أن نكذِّب خبرًا مثل هذا الخبر المفصَّل، ولكنا فوق ما نشعر به من ضرورة الأخذ بما جاء في كتاب حنا الذي كان قريبًا من ذلك العهد، يظهر لنا أن الطبري قد أخطأ خطأً في وصف البلاد؛ فإن وصفه للوقعة صحيح، ولكنها لم تكن وقعة عين شمس، والدليل على هذا: (١) ترتيب الحوادث؛ فإن هذه الوقعة لا يمكن أن تكون بعد فتح مصر، في حين أن مواقع أخرى يمكن أن تقع بعد ذلك، وقد وقعت فعلًا بعد فتح مصر. (٢) الطبري نفسه يكشف عن خطئه بوصفه عين شمس بأنها كانت «مدينةً عظيمة في بلاد القبط، وأنها واقعة في الغرب»، ومعنى هذا إما أن يكون أنها في غرب النيل أو في غرب مصر السفلى، ولكن عين شمس لا يمكن أن تُوصف بأحد هذين الوصفين؛ وعلى ذلك فالظاهر أن الوصف السابق إنما هو وصف بعض المواقع التي كانت فيما بين بابليون والإسكندرية، وقد وقعت في الغرب، وسيأتي ذكر هذا فيما يلي.
وقد كانت غلطة الطبري سببًا في خلط كثير من مؤرخي العرب مثل ابن الأثير وابن خلدون (وقد كان الطبري غريبًا عن مصر لا يعرف كثيرًا من وصف بُلدانها). وهذا مثلٌ جديد من الأمثلة الدالة على ما يجده الإنسان من الخلط في وصف حوادث هذا العصر، حتى في خير الكتب المعتمدة والدالة على ما يجب على المؤرخ الذي يُعالج وصف هذا العصر من التمحيص والمقارنة، ولكنا نرى أن هناك سببًا بسيطًا في مثل هذا الخطأ الذي يقع فيه سوى هذا من المؤرخين العرب؛ فإنا إذا وجدنا أن ابن الأثير يذكر أن قُواد العرب حاصَروا عين شمس، ويقول إن «الزبير» تسوَّرها (وسترى أنه إنما تسوَّر قصر الشمع)، نجد أنفسنا حِيالَ خلطٍ شبيه بما سبق ذكره، وسبب كل ذلك اسم «بابليون»؛ فإن العرب أو بعضهم فهموا ذلك الاسم على أنه باب اﻟ «أون» أو «باب أون»، و«أون» هي عين شمس (الاسم العربي لهليوبوليس)، ومن هنا نشأ الخلط بين المكانين؛ فإن البلاذري يذكر أن الفسطاط كانت عند الفتح اسمها «أيون»، وقال المؤرخون بعد ذلك إن اسمها كان «اليون»، وأخذوا ذلك اللفظ على أن معناه «أون» وهي «عين شمس»؛ فبُنِيي على هذا الخطأ أنه قد حوصرت عين شمس، ونُقلت الحوادث من بابليون إليها. وفي رأينا أنه لم يسبق أحد إلى هذا التفسير، وأنه يُفسر كثيرًا من الصعاب التي نلقاها في تواريخ العرب. وقد أُسيءَ فهم اللفظ الروماني «بابليون»، فصار في صورٍ متعددة، مثل: «باب اليون»، ومدينة «ليون»، و«قصر اليون»، و«باب اللوق»، و«لونيا»، و«أيون».
١٩  عنوان الفصل الخامس والستين من ديوان حنا هو «كيف استولى المسلمون على مصر في السنة الرابعة عشرة من الدورة القمرية؟» ولكن لم يرِد وصف للاستيلاء في ذلك الفصل، وهذا مثل من مائة مثل مما يدل على نقص الكتاب وتغيير مواضع أخباره.
٢٠  كانت «دلاص» على الضفة الغربية للنيل في جنوب «ممفيس»، وهي إلى شرق مدينة الفيوم، وهي بالقبطية «تيلوج»، وباليونانية «نيلوبولس» (انظر كتاب أميلنو Geog. Copte، صفحة ١٣٦).
٢١  جاء في السيوطي نقلًا عن ابن عبد الحكم: «بعد إتمام فتح مصر (مدينة مصر)، أرسل عمرو جرائد الخيل إلى القرى المجاورة.» وجاء في ديوان حنا عند وصف الوقت عينه: «فجمع جنوده ليُرسلها في وجوهٍ مختلفة.» وهذا اتفاقٌ واضح.
٢٢  وهذا هو «أبا كيرى» (الذي جاء ذكره في ديوان حنا، صفحة ٥٥٩). وقد حار «زوتنبرج» في ذلك الاسم، فقال: «وليس من المؤكد أن يكون هذا اللفظ علَمًا على شخص.» ولكن كل شك قد زال عند كشف وثائق «قره باسك» Papyrus Erzherzog Rainer: Fuhrer durch die Ausstellung، ورقم ٥٥١ منها هو خطاب من خارجة المشهور كتبه إلى «أبا قيرس» حاكم «هرقليوبولس مجنا»، ورقم ٥٥٨ منها مكتوب باليونانية والعربية بتاريخ ٢٥ أبريل سنة ٦٤٣، وهو من عبد الله بن جابر إلى «كريستوفوروس» و«تيودورا كيوس» ابنَي «أبا قيرس» عينه. وهذا الخطاب الأخير أقدم وثيقة إسلامية في مصر إن لم يكن أقدم ما في العالم. ورقم ٥٥٤ يذكر الاسم أيضًا.
٢٣  صفحة ٥٥٩، الفصل ٦٣. وترجمة زوتنبرج هكذا: «وقد كان عند ذلك بدؤهم بمد يد المساعدة للمسلمين.» وفي ذلك خروج على الأصل الذي لا يزيد على: «وبدءوا يُساعدون المسلمين.» ورأى أن المساعدة كانت محدودة ومعيَّنة لغرضٍ خاص، ولم تكن مساعدةً عامة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤