الفصل الثامن

الاعتقاديون والشُّكاك

نلقي على أنفسنا الآن سؤالًا ثالثًا وأخيرًا عن المعرفة هو: ما حدودها؟ ما هو المدى الذي يستطيع الإنسان أن يبلغه بعلمه لو مكَّنته ظروف التحصيل؟ وأول ما يَرِد على أذهاننا من محاولات الفلاسفة في الإجابة عن هذا السؤال — إجابة صريحة أو متضمَّنة — أن ثمة فريقين يقفان أحدهما من الآخر موقف النقيض من نقيضه، فهنالك «الاعتقاديون» الذين يرَوْن أنْ ليس للمعرفة الإنسانية نهاية تقف عندها، فإنْ قصَّر الإنسان في معرفته للكون بكل ما فيه، فما ذلك لقصور في طبيعة عقله أو في طبائع الأشياء، إنما هو قصور مرهون بزوال العوائق فيزول، وهنالك «الشُّكاك» من ناحية أخرى، يرَوْن أنْ ليس للجهل الإنساني بحقائق العالم حد يقف عنده؛ إذ لا وسيلة أمام الإنسان في وسعه التماسها ليعرف شيئًا خارج نفسه.

أما «الاعتقاديون» فهم بصفةٍ عامةٍ أصحاب المذهبين: العقلي والتجريبي على السواء؛ لأن كلًّا من هذين المذهبين — قبل «كانت» — كان يعتقد في مصدر المعرفة الذي يأخذ به، ثم لا يرى بعد ذلك أيَّ مانع يمنع الإنسان من أن يستقيَ من ذلك المصدر علمًا بكل شيء، فإذا قال العقليون: إن العقل هو مصدر المعرفة؛ أي أننا نبدأ شوط المعرفة من مبادئ عقلية غير مكسوبة من خبرة الحواس، ثم نستطيع بعد ذلك أن نستولد هذه المبادئ علمًا كاملًا بكل ما في الوجود من حق. إذا قال العقليون ذلك تضمَّن قولهم هذا أنْ ليس خارج العقل شيء يمكن أن يقف عقبة في سبيل تحصيله المعرفة كاملة. وكذلك إذا قال التجريبيون إن التجربة الحسيَّة هي مصدر المعرفة تضمَّن قولهم أنْ ليس هنالك ما يحد من المعرفة إذا هُيِّئت الظروف المناسِبَة للحواس أن تتصل بما يُراد معرفته.

غير أن العقليين والتجريبيين على السَّواء لم يطرأ ببالهم أن هذا المصدر أو ذاك مما اتخذه كل منهم أساسًا للمعرفة، هو في ذاته بحاجة إلى التحليل، أي أن نقطة الابتداء ليست في الحقيقة نقطة ابتداء، بل لها ما وراءها مما قد يظهره التحليل. و«الاعتقادية» كلمة تُطلق لتعني هذا الموقف كائنًا مَنْ كان واقفه، وهو الموقف الذي يتخذ فيه الإنسان لعلمه نقطة ابتداء يسير بعدها دون أن يتناولها هي نفسها بالتحليل والنقد. وعلى هذا الاعتبار يكون «العلماء» من الاعتقاديين بهذا المعنى؛ لأن العالِم في علمه يفرض نقطة ابتداء يبني عليها بناءه العلمي، لكنه لا يحفر تحتها ليرى ماذا في الأساس. حتى الرياضة تبدأ بما تسميه تعريفات وبديهيات ثم تشتق من هذه البداية نظرياتها؛ فنظرياتها صحيحة إذا كانت مُسْتدلَّة استدلالًا سليمًا من تلك المسلَّمات الأولى، لكن الرياضي لا يجعل جزءًا من عمله الرياضي تحليل المسلمات نفسها. وكذلك قل في العلوم الطبيعية حين يبدأ العالم بافتراض أشياء أو مبادئ كالمادة والمكان والزمان والسببية وما إلى ذلك، دون أن يجعل جزءًا من عمله — باعتباره عالمًا — تحليل تلك الأشياء والمبادئ. نقول: إن «العلماء» في علومهم المختلفة «اعتقاديون» بهذا المعنى الذي أسلفناه، غير أن الكلمة تنصرف — إذا قيلت — أول ما تنصرف إلى المذاهب الفلسفية التي لا تناقَش فروضها الأولى، كالعقليين حين لا يناقشون فكرة «العقل» نفسها، وكالتجريبيين حين لا يناقشون فرضهم الأول بأن المعرفة مستحيلة خارج حدود التجربة. وقد أسلفنا الحديث في الباب السابق عن هاتين الجماعتين من حيث رأيهما في مصدر المعرفة عند كل منهما، ونكتفي هنا بإثبات أنهما معًا من «الاعتقاديين» حين يكون سؤالنا هو: هل المعرفة ممكنة؟ وما حدودها؟ لأن كلًّا منهما يجيب بما خلاصته: نعم، هي ممكنة وليس لها حدود تنتهي عندها. مع اختلاف كل منهما عن الأخرى فيما تراه مصدرًا لتلك المعرفة.

وأما الشكاك — فعلى نقيض ذلك — إذ يرون أن المعرفة بمعنى العلم بالشيء كما هو في حقيقته الخارجية مستقلًّا عن ذات الشخص العارف فمستحيلة؛ إذ لا يسع الإنسان أن يعرف شيئًا إلا في صلة ذلك الشيء بنفسه، ومنظورًا إليه من وجهة نظره. وحتى لو فرضنا أن في وسع الإنسان أن يعرف شيئًا ما كما هو في حقيقته الموضوعية، فليس في وسعه أن ينقل معرفته هذه إلى سواه؛ لأنها ستصبح جزءًا من ذاته، وكل ما في مستطاعه إزاء الآخرين هو أن ينطق بكلمات، وليست الكلمات هي نفسها المعرفة الذاتية التي عرفها.

وجدير بنا في هذا الموضع أن نفرِّق بين الفيلسوف الشاكِّ والفيلسوف الذي يستخدم منهج الشك — مثل ديكارت — فبينما الأول يشكُّ في إمكان حصول الإنسان على المعرفة إطلاقًا، ترى الثاني يؤمن بإمكان المعرفة، وغاية ما في الأمر أن الوصول إلى المعرفة اليقينية يحتاج إلى حذر وحرص.

وسنضرب مثلًا للفيلسوف الشاك «بروتاجوراس»١ الذي أخرج كتابًا أسماه «في الآلهة» بدأه هكذا: «أما عن الآلهة فلا أراني على يقين من وجودهم أو عدم وجودهم، ولا من شكلهم كيف يكون؛ ذلك لأن ثمة أشياء كثيرة تعوق المعرفة اليقينية، منها غموض الموضوع وقصر حياة الإنسان.» حتى ليقال: إنه اتُّهم بالإلحاد واضطهِدَ من أجل ذلك؛ ففر من أثينا.

ويصفه لنا أفلاطون في محاورة أسماها باسمه؛ إذ أسماها «بروتاجوراس»، وفي هذه المحاورة لا يقدمه أفلاطون في الصورة الجدية اللائقة به، لكنه يعود في محاورة أخرى هي محاورة «تياتيتوس» فيناقش — جادًّا — الرأي المشهور عن بروتاجوراس والذي يُعَد محور فلسفته، وهو الرأي القائل بأن «الإنسان مقياس كل شيء، فهو مقياس أن الأشياء الموجودة موجودة، وأن الأشياء غير الموجودة غير موجودة.» وهو رأي يفسرونه بأنه يعني أن كل فرد من الناس هو مقياس الأشياء جميعًا، حتى إذا ما اختلف الناس على رأي ما، فليس هنالك حقيقة موضوعية يمكن الرجوع إليها لتصويب المصيب وتَخْطيء المخطئ.

هذا هو جوهر مذهب الشكاك جميعًا، وهو أن المعرفة نسبية لا مطلقة؛ أي تكون صوابًا أو خطأً بالنسبة للشخص العارف، ويستحيل أن أجد غير الإنسان نفسه ليقيس الرأي من حيث صوابه أو خطؤه. وهذه النسبية في المعرفة تكون ظاهرة في الآراء الأخلاقية بوجه خاص؛ فالخير خير بالنسبة للشخص الذي يقول عنه إنه خير، ولا يمنع أن يكون هذا الخير نفسه شرًّا بالنسبة لشخص آخر ومن وجهة نظر أخرى.

وإذا أخذنا بتفسير أفلاطون في محاورته المذكورة (تياتيتوس) لمبدأ بروتاجوراس هذا، كان الشبه قريبًا جدًّا بينه وبين المذهب البراجماتي الحديث، (وقد أسلفنا شرحه في الفصل الثاني) حتى لقد قال زعيمٌ من زعماء المذهب البراجماتي «هوشلر» عن نفسه إنه تلميذ لبروتاجوراس. ووجه التشابه هو في اعتبار صدق الرأي متوقفًا على منفعة الإنسان صاحب الرأي؛ فقد تكون فكرتان صادقتين معًا، لكن إحداهما أنفع من الأخرى فتكون أصدق منها بمقياس منفعتها ونتائجها، ولو أنها لا تكون أصدق منها من حيث دلالة كل منهما على واقع معين؛ مثال ذلك أنه لو كان شخص مصابًا باليرقان، فإن كل شيء يبدو في عينيه أصفر، ولا معنى لقولنا له إن الأشياء في حقيقتها ليست صفراء، وكل ما نستطيع قوله له هو أن الأشياء التي يراها هو صفراء يراها المعافون من مرض اليرقان بالألوان الفلانية. فعلى الرغم من أن ما يقوله المريض صادق؛ لأنه يرى الأشياء صفراء فعلًا، وكذلك ما يقوله المعافون صادق؛ لأنهم يرون الأشياء ملونة على نحو آخر، إلا أن الأخذ برأي المعافين «أفضل»؛ لأنه «أنفع» في تيسير الحياة العملية وتسييرها.

فالمقياس في صدق الرأي ليس هو الرجوع إلى الحقيقة الموضوعية الخارجية؛ إذ إن ذلك — في رأي هذا المذهب — محال؛ فمحال أن تنظر إلى الشيء الخارجي بغير عينيك، وأن تمسه بغير جلدك، وأن تسمع صوته بغير أذنك، أو تذوق طعمه بغير لسانك. وإذن فلا مَناص من استخدام حواسك أنت في إدراك الشيء؛ وبالتالي لا مَناص من جعل حقيقته قائمة على إدراكك الذاتي له مهما اختلف ذلك الإدراك من إدراك الآخرين. وكثيرًا ما يحدث هذا الاختلاف، فلن تُقنع المريض بأن الطعام ليس مُرًّا كما يقول هو حكمًا بوقع الطعام على لسانه، ولن تقنع المحموم بأن الأشباح التي يراها غير موجودة كما يظن.

وكثيرًا ما يُقال — خطأً — عن مبدأ بروتاجوراس هذا: — القائل بأن الإنسان مقياس الأشياء جميعًا — إنه مبدأ ينتهي إلى هذه التقاليد والعقائد؛ لأن كل فرد من الناس سيذهب مذهبه دون أن تكون هنالك الحقيقة الموضوعية الواحدة التي يلتقي عندها الجميع. وواضح أن هذه النتيجة لا تلزم عن مقدمتها، بل على عكس ذلك ما قاله بروتاجوراس نفسه من أنه ما دام اتفاق الناس مستحيلًا بالرجوع إلى حقيقة موضوعية لاستحالة هذا الرجوع؛ إذن فلا مناص في حياتنا العملية من الأخذ بالأنفع كما تقرره أغلبية الآراء، ولما كانت التقاليد هي التعبير عن رأي الأغلبية؛ فالأخذ بها أنفع اجتماعيًّا من الخروج عليها.

١  فيلسوف يوناني، عاش بين عامَي ٤٨٠–٤١٠ قبل الميلاد (تقريبًا).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤