قصة الكتابة

أرأيتَ إلى صفحةٍ مطبوعة تنشرها أمامك؟ إنها لتُنشئ فصلًا رائعًا من قصةٍ مُمتعة ترجع فصولها الأولى إلى الماضي السحيق، وهي قصةٌ بلغت من السعة والعمق مَبلغًا يستحيل على إنسانٍ واحد أن يُلمَّ بأطرافها. ومن ذا الذي يدري متى وأين بدأت هذه القصة في الظهور، وماذا تُبديه في مُستقبل الأيام؟ وما ظنُّك بقصة كتبتْها الإنسانية كلها منذ دَبَّ على ظهر الأرض إنسان؟

بل إنَّنا اليوم أجزاءٌ حيَّة من هذه القصة، فلنبدأ حيث نقِف اليوم، ثُمَّ لنَعُد مع السنين القهقرى حتى نبلغ من الرواية بدايتَها؛ فعيناك قد ألِفَتا أن تنظُرا إلى صفحاتٍ مطبوعة، حتى لم يعُد يستوقِف هذا الضربُ من الكتابة منك النظَر. وعلام تعجَب وأنت ترى الصحيفة اليومية المطبوعة في انتظارك كلَّ صباح على مائدة الإفطار؟ دراهمُ معدودة كفيلةٌ أن تأتيك بآيةِ الآياتِ من رفيع الأدب، مطبوعةً في كتابٍ أنيق جميل، فأصبحتَ وكأنما إخراج المطابع للكتُب أمر مألوف لا دهشةَ فيه ولا عجَب، مع أنه في حقيقة أمره يَستثير كلَّ عجبٍ وإعجاب. انظُر إلى هذه الوسائل التي تتوسَّط بين قلَمِ الكاتب وعقل القارئ؛ فلعلَّ أعجبَها هي المطبعة التي قد يكون لها من الأثَر في المدينة الحديثة ما ليس لعاملٍ آخَر على الإطلاق؛ وقبل أن تدور من المطبعة عجلاتها لا بدَّ أن تكون آلاتٌ أخرى قد أخرجتِ الأحرُف مسبوكةً جميلة الرسم بديعة التنسيق؛ ولا خير في هذه الأحرُف إن لم تكن مصانع الورق قد أخذت تُخرج من لُباب الشجر وبالِي الخِرَق مِثل هذا الذي تُسرِّح فيه بصرَك من ورقٍ صقيلٍ جميل. فإذا ما أُعِدَّ ذلك كله، أخذت المطبعة تَفيض بأوراقها المطبوعة لتُسلمها إلى آلاتٍ تَطويها فتُغلِّفها بين جلدتَين، فإذا هي كتاب منشور بين يدَي قارئٍ في ناحيةٍ من نواحي الدنيا الفسيحة الأرجاء.

سِرْ خطوةً قصيرة إلى الوراء لتبلُغ عصرًا كان يجهل قوَّة البخار والكهرباء، فكانت المطابع — كسائر آلات الصناعة — تُدار بالأيدي، فماذا ترى؟ ترى القوم يُخرِجون الكتُب مُتقنةَ الصُّنع جميلة الشكل، إذ كانت تُطبَع على ورقٍ من ألياف التِّيل، فعَوَّض آباؤنا من قِلَّة النُّسخ المطبوعة من الكتاب الواحد متانة الصناعة التي تؤدي إلى طُول البقاء؛ وهكذا حسنات الرُّقي كثيرًا ما تتبَعُها السيئات، ونواحي الإصلاح كثيرًا ما تُلاحقها نواحٍ من الفساد. فلئن كان آباؤنا قد طبعوا كتُبَهم بمطابع الأيدي، على ورقٍ من صُنع الأيدي، فلقد أخرجوا كتُبًا أقوى بناءً من معظم ما تُخرجه مطابع اليوم، وأبقى على وجه الدهر؛ إذ الورق الذي نستخدِمه اليوم مصنوع من لبِّ الخشب، ممزوجًا بأحماضٍ قوية، فسُرعان ما يصفرُّ وجهُه وتضعُف قواه، ولولا تَلاحُق الطبعاتِ للكتابِ الواحد لأسرع إليه الزَّوال. على أن آباءنا إلى جانب ما كان لهم من كتبٍ متينة، كانت لهم طباعة رديئة، فكم صغُرتِ الأحرف ودَقَّت حتى أَجهَدتْ أبصار القارئين، اقتصادًا للورق، فضلًا عن قلَّةِ الكتُب وارتفاع ثمنِها، فلم يكُن في مُستطاع كثيرٍ من الناس أن يقتنوها.

إلى هنا قد خطَونا إلى الوراء خطوتَين هما: عهد المطبعة تُدار بالكهرباء، وعهد المطبعة تُدار بالأيدي. ثم قِف لحظةً وقفةَ إكبارٍ وإعجاب أمام دكانٍ صغير لرجل ألماني عاش في منتصف القرن الخامس عشر، وهو يوحنَّا جوتنبرج،١ الذي يُعَدُّ — بحق — أبا الطباعةِ غيرَ مُدافَع؛ فهو الذي ابتكر وسيلةً لصبِّ الحروف بحيث يُمكن نقلُها وتحريكها، فيسهُل رصُّها في سطورٍ وصفحات. وليتَنا ندري أيَّ كتابٍ أخرج هذا الطبَّاع الخالد، فليس في المتاحف كلِّها كتاب يحمِل اسم جوتنبرج؛ غير أنَّ الأناجيل اللاتينية التي ما يزال بعضها باقيًا، يرجع الفضل في طبعِها إليه مع نفَرٍ من الأعوان والأتباع. ولنَذْكُرْها عبرةً من عِبَر الزمان أن هذا المخترع العظيم — ككثيرٍ غيره من رجال الاختراع ممن يدين لهم العالَم بالفضل الجزيل — قد دفعتْه الحاجة أن يرزَحَ تحت عبءٍ من الدَّين، لم يكن له بوفائه قِبَل، فجاءه الدائن وانتزع منه ما يملِك من أدواتٍ وأحرُف، وخلَّفَهُ لِفاقةٍ فَمَوت. وليس من شكٍّ في أن ذلك الدائن قد انتفع بما أخذ من جوتنبرج، فلم يمضِ على الدنيا نِصف قرنٍ من الزمان حتى انتشرتِ الطباعة على وجه أوروبا من الشمال إلى الجنوب.

ثُم ماذا قَبْل المطبعة والطباعة؟ تابِع الرحلة إلى الماضي البعيد حتى تبلغ عهدًا لم تعرِف فيه أوروبا كيف يكون الورق، أو عرفَتْ منه القليل الضئيل؛ إذ الورقُ صنيعة أهل الصين، ثم أهل مصر، وعنهم أخذ العرب الذين علَّموا صناعته لجيرانهم من أهل الغرب؛ فالأوروبيُّون مَدينون بهذه المادة — التي لها من القيمة في تَقدُّم العلوم ما لها — لثلاثة أجناسٍ من أجناس البشر، وهم الصينيون والمصريون والعرب.

وقبل أن يذيع استخدام الورق، كانت تُكتب الكتُب والوثائق والرسائل على نوعٍ خاص من الجلد؛ والجلد بطبعِه طويل البقاء بطيء البِلى، فما نزال نرى في المتاحف صفحاتٍ من الجِلد خُطَّت كتابتها منذ ثلاثة آلاف عام على أقلِّ تقدير؛ فالغنم والأبقار التي تُغذِّي أجسامَنا بلحومها، قد أتمَّت على الإنسان نعمتَها فوَهبتْه جلودَها، لا لينتعِلَها ولا ليَلبَسَها فحسْب، بل ليتَّخِذ منها حافظًا أمينًا يصُون له ذُخر الآداب مدى آلاف السنين.

وكان الفُرس يكتبون في جلود الجواميس والبقر والغنم. وكانت العرب تكتُب في أكتاف الإبل وفي العُسُب — وهو جريد النخل يكشفون الخُوص عنه ويكتُبون في الطرف العريض منه — كما كانوا يكتبون في اللخاف، وهي الحجارة البِيض الرقيقة، وأحيانًا يكتبون في الجلد. وفي هذا كله كُتِب القرآن الكريم أول ما نزل في عهد النبي، فكانوا يكتبون الآياتِ في العُسُب واللخاف وعظام الأكتاف والأضلاع والأدَم (الجلد).

ولقد حفِظت لنا الكتُب المكتوبة على الجلد الجزءَ الأعظم من تُراث الأدبَين اللاتيني واليوناني، كما حفِظت أكثرَ ما خطَّه الإنسان في القرون المسيحية الوسطى التي امتدَّت أربعة عشر قرنًا؛ فقد أخذ النُّسَّاخ يكتُبون على صفحاتٍ من الجلد المَتين ما وجدوه مكتوبًا على أوراق البردي المُهلهلة من آيات الأدب القديم، وكان هؤلاء النُّسَّاخ — من الرهبان والقساوسة — يتَّخذون من الأديِرة ملاذًا للعمل والمأوى، تلك الأديرة التي ظلَّت قرونًا عدَّة آمَنَ ما يلوذُ به رجال العِلم من مكان. وليس من شكٍّ في أن هؤلاء النُّسَّاخ قد وجَّهوا همَّهم الأكبر فيما ينسخون إلى الكتُب المقدسة، فنسخوا الإنجيل وسائر المخطوطات التي منحوها التقديس. على أنَّ بعض هؤلاء النَّسَخة من الرهبان قد اتَّجهوا إلى إحياء الآداب القديمة؛ فكم من راهبٍ أنفق جهدَه في إخراج كتابٍ أدبي، أو في تحقيق نصٍّ مجهول. وها هي ذي متاحف الفن ودُور الكتُب تحوي نماذج فخمة من هذا العمل الجليل الجميل، ولا نزال نشاهد بعض هذه الكتب التي نشروها وزخرفوها بأحرُفٍ مُذهَّبة وألوانٍ ناصعة كأنما نُقِشت بالأمس القريب.

ولئن كان استخدام الجلد للكتابة يرجع عهدُه إلى ماضٍ سحيق، إلا أنه لم يكن شائعًا؛ فلو كنتَ ممَّن عاشوا في روما أو أثينا قبل القرن الرابع الميلادي وأرَدْتَ أن تبتاع نُسخةً من كتاب لفرجيل٢ أو هومر،٣ لَمَا ظفرتَ به مكتوبًا على صفحاتِ الجِلد، بل لوجدتَه يُباع مكتوبًا على مادةٍ من الورق صُنعت من ألياف نباتٍ جافٍّ هو البردي؛ والبردي نبات مائي قوي ينمو في مصر، تُؤخَذ سُوقُه وتُشقُّ وتُضغَط وتُجَفَّف، ثُم تُصنع منها الأوراق. وكانت مصر تبعث بهذه الأوراق البردية إلى اليونان وإلى روما وغيرهما من البلدان المُجاورة، وعلى هذه الأوراق كانت تُكتَب روائع الأدب اليوناني والأدب اللاتيني، حتى شاع استخدام صحائف الجِلد.

إنَّ العالَم إذ يذكُر قدماء المصريين بالإعجاب، يرى أول ما يَستثير إعجابه أهرامهم الشوامخ، وما خلَّفوا من أنفَسِ الذخائر في مقابر ملوكهم، ولكنَّ تلك الآثار على جلالِها وخُلودها لم تُضفْ إلى المدنيَّة ما أضافتْهُ هذه اللفائف الضئيلة الهزيلة من أوراق البردي، التي أتاحت للمصريين وسائر أُمَم البحر الأبيض أن يُسجلوا أفكارهم فيخلِّدوها. ولم يقِف فضل المصريين على المدنية فيما يتَّصِل بالكتابة أن صَنعوا الورق في صُورته الأولى، بل لعلَّهم كذلك أول شعبٍ ابتكر كتابةً تُمثِّل الحروف المنطوقة، فأثَّروا بذلك في سير المدنية تأثيرًا قويًّا مباشرًا.

وكان المفتاح الذي يفتح مغاليق كتابتهم مفقودًا مدى قرونٍ طوال، ثم أراد الله لأصحاب العلم أن يَفكُّوا تلك الرموز في عهدٍ حديث، لا يذهب في الماضي إلى أكثرَ من قرنٍ واحد، وذلك حين وجد «بُوسَار»٤ — وهو مهندس في حملة نابليون على مصر — حجرَ رشيد المعروف، وهو حجرٌ نُقِش عليه بيان طويل أصدرَه القساوسة المصريون تكريمًا لأحد ملوكهم. والبيان منقوش على الحجَر في ثلاثِ لغات: نُقِش بالأحرف الهيروغليفية، وباللغة الديموطيقية — وهي لغة كان يتكلَّمها أهل مصر حين نُقِش الحجر — كما كُتِب باللغة اليونانية. ولمَّا كانت اليونانية لغةً معروفة مألوفة، أمكن بعد جهدٍ طويل أن تُقارَن بها الكتابة المصرية وتُحَلَّ رموزها. ويرجع الفضل في هذه المقارنة وفكِّ الرموز إلى العالِم الفرنسي شامبليون.٥ وأصبح اليومَ يسيرًا على عالِم الآثار المصرية أن يقرأ المكتوب على المسلَّات والتوابيت، بل استطاع عُلماء اليومِ أن يُنطِقوا أبا الهول بعضَ سِرِّه المكتوم.

فإذا جاوزْتَ مصر إلى ما يُجاورها من بلاد الشرق، ألفيتَ فينيقيا على الساحل الشرقي للبحر الأبيض، وصادفتَ في أبنائها شعبًا يعمل ويُتاجر، ولا يُخصِّص من مجهوده للثقافة إلَّا قليلًا. ومع ذلك فقد أُريد لهؤلاء الفينيقيين أن يكونوا بحقٍّ أصحاب الفضل علينا في كلِّ كتابٍ نُطالِعه، لأنهم هم الذين أنشئوا حروف الهجاء مكان الكتابة المُصوَّرة التي اصطنعها المصريون من قبل! ولا بدَّ أن تكون هذه الأحرُف الهجائية قد نشأت عندهم قبل الميلاد بما يقرُب من ألف عام؛ حيث كان استخدام البرديِّ شائعًا معروفًا؛ وأتاح وَجهُهُ الصقيل للكاتِب أن يُجري عليه كتابةً مَرِنة سهلةً كهذه الكتابة التي ابتكرَها الفينيقيون، ومن يدري؟ فلعلَّ الفينيقيين أن يكونوا قد اتَّخذوا من هذه الكتابة سلعةً تُباع فتعود على أصحابها بربحٍ وافر؛ فقد كانوا يشترون من مصر فيما يشترون أوراقَ البردي، ثُم يبيعونها إلى اليونان وغيرهم مُضافًا إليها ما ابتكروه من أحرُف الهجاء.

فإذا خطوتَ في أغوار الماضي خطوةً أُخرى قبل عهد البردي، بلغْتَ زمانًا كانت مادة الكتابة فيه من الجوامِدِ الثوابتِ التي لا تكاد تنتقِل من مكانها، وذلك هو بمثابة العصر الحجَري للعلوم والآداب؛ إذ كان المصريون الأوائل وغيرهم من الشعوب القديمة يَنحِتون ما يكتُبون على عُمُدٍ وجُدران؛ ولكن لولا أنْ أسعفت الكتُب هاتيك الأحجار لفَنِيَ ما خُطَّ عليها في عهدٍ قريب أو بعيد، لأنَّ الزمان الذي يأكُل كلَّ شيءٍ يُبيد جلاميد الصخر فيما يُبيد. زِدْ على هذا أنَّ الكتُب قد يَسَّرت للعِلم المنقوش على الحجَر أن يدُور بين قرَّاء العالَم في سهولةٍ ويُسر؛ وإلَّا فكيف كانت تكون مكتبةٌ جُدرانها من الصخر ومكنوناتها من الصخر؟ وكيف تكون مِثل هذه المكتبة ذات نفعٍ لقارئٍ يُطالع في داره مُستدفئًا بنار مِدفأته، أو مُستلهِمًا هدوءَ مكتبته؟

ولئن كان المصريون الأوَّلون ينقشون آثارهم على جلاميد الصخر، فقد كانت بابل تكتُب آثارها على ألواحٍ من الطَّفل، وهي أيسَرُ من تلك حملًا وأخفُّ ثقلًا، وإن كانت أسهلَ كسْرًا، ولكن على الرغم من خِفَّتها فأين هي من الكتاب المطبوع؟ وإن أردتَ أن تُقدِّر نعمة هذا العصر — عصر المطبعة — فسائل نفسك كيف يكون الأمر إذا أنت طلبتَ إلى بائع الكتُب في عصر الكتابة على ألواح الطَّفل أن يبعَثَ إليك بنُسخةٍ من كتابٍ جديد؟ عندئذٍ تَجيئك عرباتٌ مُثقلات بأحمالٍ من اللَّبِنات! قد يسأل: وهل كان يحدُث ذلك أيام البابليِّين؟ والجواب أنه لم يحدُث، لأنَّ القراءة الشعبية لم يكن لها وجود، ولم يكن يعرِف القراءةَ والكتابة إلَّا نفَرٌ قليل من القساوسة والنُّسَّاخ، وكانت الكتابة مقصورةً على موضوعات الدِّين وأعمال الملوك.

لكنَّ الآداب والعلوم مَدينةٌ في تقدُّمها — أيضًا — لاستخدام مادة للكتابة فيها خفَّةٌ ونُعومة ومرونة، لتهون الكتابة عليها، فيسهُل تسجيل الأفكار فيها وتبادُلها. وثمَّة مادةٌ توفَّرت لها المتانة والخفَّة وسهولة الاستعمال، وتلك هي الخشب؛ فهو إذن جدير من هذه القصة بمكانٍ ظاهر؛ فعلى ألواحٍ شُقَّت من أشجار الزَّان كان «السَّكسُون» القُدَماء يكتبون؛ فاذكُر بعد اليوم إنْ قرأتَ كتابًا تحت شجرةٍ أنَّ مِن هذه الشجرة التي تُمدُّك بالظل، جاء هذا الكتاب الذي يُمدُّك بالنُّور.

فمِن الصخر الذي نَقَش عليه الأقدمون، نبتَتِ الشجرة التي كتَب على أخشابها وقُشورها المُحدثون، وعلى أفنانها اتَّخذت الطيور أعشاشَها، فاستمدَّ الكاتب منها «ريشَتَه»، وفي ظلِّ هذه الشجرة — شجرة النور والعرفان — يجلس الإنسان ليقرأ الكتُب ويُنشئ الأفكار.

قد تُطالبنا الآن أن نقيس لك هذه الأعصُر المُتعاقبة بعضها إلى بعض، ونحن عن ذلك نُجيب: تصوَّر تلًّا من الكتُب يرتفع ما ارتفعت إحدى نواطِح السحاب، ثُم اجعَلْ هذا التلَّ يُمثِّل ما لبِثَه الإنسان على وجه الأرض من قرون؛ فالكتاب الذي في الذُّروة يُمثِّل عصر الكتاب المطبوع، والكتُب الثلاثة أو الأربعة التي تَلِيه تُمثِّل عصور الكتابة اليدوية على صحائف الجِلد والبردي؛ والكتُب الستة التي تجيء بعد ذلك تُمثل عصور النقْش على الصخر والآجرِ والخشب، فإنْ هبطتَ بعد ذلك في تلِّ الكتُب بضعةَ أقدام، صادفتَ ترقيمًا وتصويرًا ونقشًا، خلَّفَه الإنسان الأول ولَمْ نُدخله في عصور الكتابة لأن تفسيرَه عزَّ على أفهام العلماء. ثمَّ ماذا في بقية التلِّ وقد بقِيَ جزؤه الأكبر؟ كلها كتُب صحائفها بِيض، إمَّا لأنها تُمثل عصورًا طويلة لم يكتُب فيها الإنسان، وإمَّا لأنَّ الزمان قد أتى على ما خُطَّ في صحائفها فمَحاهُ من صفحة الوجود.

١  Johann Gutenberg.
٢  Virgil.
٣  Homer.
٤  Boussard.
٥  Champollion.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤