العناية الإلهية

بعد أن رحلت روز تاركة آنا، رأت حلمًا عنها؛ فقد رأت أنها قابلت آنا وهي تسير أعلى تل جونزاليس هيل. كانت تعرف أنها قادمة من المدرسة، فصعدت كي تتحدث معها، ولكن آنا تركتها دون أن تنطق بكلمة. لا غرو. كانت مغطاة بطين بدا وكأن به أوراق شجر أو أفرع، بحيث بدا الشكل وكأنها أكاليل من الزهور الميتة، وكأن الزينة قد تداخلت مع الدمار، ولم يكن الطين أو الوحل جافًّا، بل كانت قطراته لا تزال تتساقط عليها، حتى بدت فظة وحزينة، وكأنها تمثال كئيب غير متقن الصنع.

خاطبتها روز قائلة: «أترغبين في أن تأتي معي؟ هل ترغبين في البقاء مع أبيك؟» ولكن آنا رفضت الإجابة، وبدلًا من ذلك قالت: «لا أريدك أن تذهبي.» وكانت روز قد حصلت على وظيفة في إحدى المحطات الإذاعية في بلدة في جبال كوتيناي.

كانت آنا ترقد في السرير ذي الأربعة أعمدة الذي كان روز وباتريك ينامان عليه، وصار باتريك ينام فيه بمفرده الآن؛ حيث كانت روز تنام في المعتكف.

كانت آنا تذهب للنوم في هذا السرير، ثم يحملها باتريك إلى سريرها. ولم يكن باتريك وروز يعلمان متى أصبح ذلك شيئًا أساسيًّا بعد أن كان شيئًا عارضًا. كان كل شيء في المنزل مضطربًا. كانت روز تعد أمتعتها، وكانت تفعل ذلك خلال النهار في غياب باتريك وآنا. كانت هي وباتريك يقضيان المساء في أجزاء مختلفة من المنزل. وذات مرة دخلت غرفة الطعام ووجدته يضع شريطًا لاصقًا على الصور الفوتوغرافية في ألبوم الصور، وتسبَّب قيامه بذلك في غضبها؛ فقد رأت صورة لها وهي تدفع آنا على الأرجوحة في المتنزه، وصورة أخرى وهي تبتسم ابتسامة مصطنعة بلباس البحر، مجرد أكاذيب.

قالت روز: «لم يكن الحال أفضل وقتئذ. لم يكن أفضل حقًّا.» كانت تعني أنها طالما كانت تخطط في قرارة عقلها للقيام بما تقوم به الآن، حتى في يوم زفافها كانت تعرف أن هذا الوقت سيأتي، وإذا لم يأتِ فقد تكون ميتة. كانت الخيانة قادمة منها.

قال باتريك في غضب: «أعرف ذلك.»

ولكن الحال كان أفضل بالطبع؛ لأنها لم تكن قد بدأت في محاولتها للتعجيل بلحظة الانفصال، إذ ظلت ناسية فترات طويلة أن هذه اللحظة يجب أن تأتي، حتى القول إنها كانت تخطط للانفصال، وإنها قد بدأت في الانفصال بالفعل، كان خطأً؛ لأنها لم تفعل أي شيء عن عمد، لم تفعل أي شيء بذكاء؛ لقد حدث كل شيء بأكبر قدر ممكن من الألم والدمار، وصاحبه كل أشكال التردد والتصالح والتعنيف، وها هي الآن تشعر وكأنها تسير على جسر متأرجح ولا يسعها سوى أن تضع نصب عينيها الألواح التي أمامها، دون النظر إلى أسفلها أو حولها مطلقًا.

قالت مخاطبة آنا بنبرة هادئة: «أيهما تريدين؟» وبدلًا من الإجابة عن السؤال، نادت آنا على باتريك. وعندما جاء جلست منتصبة وجذبتهما ليجلسا على السرير، كل على جانب، وتشبثت بهما وبدأت في النحيب والارتعاد. كانت طفلة مؤثرة بشكل بالغ لدرجة تجعلها أحيانًا كالنصل المكشوف.

قالت: «لستما مضطرَّيْن لذلك؛ فلم تعودا تتشاجران مرة أخرى.»

نظر باتريك نحو روز دون أن تحمل عيناه أي اتهام؛ فقد كانت نظرته المعتادة لسنوات — حتى عندما كانا يمارسان الحب — نظرة اتهامية، ولكنه شعر بألم بالغ بسبب آنا لدرجة محت كل الاتهامات. كان على روز أن تنهض وتخرج تاركة إياه ليواسي آنا؛ لأنها خشيت أن يكون هناك في الطريق دفعة كبيرة وخادعة من المشاعر من جانبها تجاهه.

لقد كان ذلك حقيقيًّا؛ فلم يعودا يتشاجران كثيرًا. كان على رسغيها وجسدها ندوب صنعتها بنصل شفرة (ليس في أخطر المناطق). وذات مرة حاول باتريك أن يخنقها في مطبخ هذا المنزل. وفي مرة أخرى هرولت إلى الخارج وجثت على ركبتيها وهي ترتدي لباس النوم وراحت تمزق حفنة من الحشائش. غير أن هذا النسيج الدموي الذي نسجه والداها من الأخطاء وعدم التوافق، والذي يمكن لأي شخص أن يرى ضرورة أن يُمزَّق ويُلقى بعيدًا، كان لا يزال هو نسيج الحياة الحقيقي في نظر آنا، نسيج الأب والأم، نسيج البداية والمأوى. كانت روز تفكر في معنى الخديعة بالنسبة للجميع؛ فنحن نأتي من ترابطات لا تضم بداخلها أي شيء مما نعتقد أننا نستحقه.

كتبت روز إلى توم لتخبره بما تعتزم فعله، كان توم مدرِّسًا بجامعة كالجاري. كانت روز تشعر بقليل من الحب تجاهه (هكذا قالت لأصدقائها ممن علموا بشأن تلك العلاقة: «قليل من الحب»). كانت قد التقته هنا قبل عام — وهو شقيق السيدة التي تمثل معها أحيانا في المسرحيات الإذاعية — ومنذ ذلك الحين أقامت معه مرة واحدة في فيكتوريا. كانا يتراسلان بخطابات طويلة. وهو رجل لطيف ودمث، يعمل مؤرخًا، واتسمت خطاباته لها بسرعة البديهة وعبارات الحب الرقيقة، وانتابها بعض الخوف من أن يقلل توم من مراسلاته عندما تعلن أنها بصدد الانفصال عن باتريك، أو أن يتوخى فيها مزيدًا من الحذر؛ إذ ربما قد تتمنى منه أكثر مما يرغب هو فيه؛ أي «تأتيه الأفكار». ولكنه لم يفعل؛ فهو لم يكن بهذا الحد من الفظاظة ولا هذا الحد من الجبن؛ وكان يثق بها.

كانت تخبر أصدقاءها أن انفصالها عن باتريك لا علاقة له بتوم، وأن مقابلاتها مع توم على الأرجح لن تزداد عن ذي قبل. كانت تعتقد ذلك، ولكنها كانت تفاضل بين العمل في البلدة الجبلية وبين عمل آخر في جزيرة فانكوفر؛ لأنها أحبَّت فكرة أن تكون أكثر قربًا من توم.

في الصباح كانت آنا في حالة من الابتهاج والمرح، وقالت إن كل شيء على ما يرام. قالت إنها ترغب في البقاء؛ فقد أرادت البقاء في مدرستها مع أصدقائها، وعندما قطعت نصف الممشى أبطأت من سرعتها لكي تلوح لوالديها وصاحت لهما قائلة: «طلاقًا سعيدًا!»

•••

ظنت روز أنها بمجرد أن تخرج من منزل باتريك، سوف تعيش في غرفة جرداء كئيبة، أو مكان متسخ رث، ولكنها لم تكن لتعبأ بذلك، ولم تكن لتشغل نفسها بإعداد مكان لها؛ فقد كانت تبغض كل ذلك. كانت الشقة التي عثرت عليها — وكانت عبارة عن الطابق العلوي لمنزل من الطوب البني يقع ناحية الجبل عند منتصف الطريق — متسخة ورثة، ولكنها سرعان ما بدأت العمل على إصلاحها. تزيَّن الحائط بورق ذي لونين: الذهبي والأحمر، كان قد وُضع على عَجَل (فقد اكتشفت أن هذه الأماكن غالبًا ما تتزين بفكرة أحد الأشخاص عن ورق حائط أنيق)، وكان شكله جميلًا، ولكنه انطوى قليلًا فوق إزار الحائط، فاشترت بعض الغراء وقامت بلصقه، كما اشترت نباتات معلقة وكانت تعتني بها لكي لا تذبل وتموت. وقامت بوضع بعض الملصقات الهزلية في المرحاض، ودفعت أثمانًا زهيدة لقاء غطاء سرير هندي، وبعض السلال والآنية الفخارية والأكواب المزخرفة التي اشترتها من المتجر الوحيد في البلدة الذي تتوافر فيه مثل هذه الأشياء. وقامت بطلاء المطبخ باللونين الأزرق والأبيض، في محاولة للحصول على ألوان الخزف الصيني المنقوش. وقد تعهد صاحب المنزل بدفع تكاليف الطلاء، ولكنه لم يفعل. كما اشترت شموعًا زرقاء، وبعض البخور، وباقة كبيرة من أوراق النباتات والحشائش المجففة ذات اللون الذهبي. وبعد أن انتهت من كل ذلك ظهرت معالم المكان وبدا واضحًا أنه يخص امرأة تعيش بمفردها، ربما لم تعد صغيرة، لها صلة — أو تتمنى أن تكون على صلة — بإحدى الكليات أو بالفنون، مثلما كان المنزل الذي كانت تعيش فيه من قبل؛ أي منزل باتريك، يسهل تمييزه كمنزل يخص رجل أعمال أو مهني ذي إرث من المال والمعايير.

بدت البلدة الواقعة وسط الجبال بعيدة عن كل شيء، ولكن روز أحبتها، وكان بُعدها جزءًا من أسباب هذا الحب. حين تعودُ للحياة في بلدة بعد أن تجرب حياة المدن يكون بداخلك فكرة مفادها أن كل شيء هناك سهل ومفهوم، وكأن مجموعة من الأشخاص قد اجتمعوا معًا وقالوا: «لنلعب لعبة البلدة»، وتعتقد أنه لا يمكن للموت أن يقرب أحدًا هناك.

كتب لها توم قائلًا إنه لا بد أن يأتي لرؤيتها، وفي شهر أكتوبر (ولم تكن تتوقع أن يكون ذلك بهذه السرعة) لاحت فرصة لذلك، تمثلت في مؤتمر عُقد في فانكوفر؛ فقد خطَّط لأن يترك المؤتمر في فانكوفر قبل انتهائه بيوم، ويدعي أنه سيقضي يومًا إضافيًّا هناك حتى يتاح له يومان بلا التزامات، ولكنه اتصل من فانكوفر ليبلغها أنه لن يتمكن من الحضور؛ فقد أصيب بعدوى في أسنانه، وكان يعاني ألمًا مبرحًا، وكان لا بد من خضوعه لجراحة أسنان طارئة في نفس اليوم الذي كان قد خطط لقضائه مع روز. وقال إنه سيأخذ اليوم الإضافي على أية حال، وسألها عما إذا كانت تعتقد أن ذلك بمنزلة حكم أُصدر عليه. قال إنه يتبنى نظرة كالفينية للأمور، وإنه يترنح من الألم والأدوية.

سألتها صديقتها دوروثي ما إذا كانت تصدقه. ولم يكن يخطر ببال روز ألا تصدقه.

قالت روز: «لا أعتقد أنه الشخص الذي يفعل ذلك.» وردت دوروثي بنبرة يغلب عليها المرح واللامبالاة: «إنهم يفعلون أي شيء.»

كانت دوروثي هي السيدة الوحيدة الأخرى في المحطة، وكانت تعمل في برنامج لرعاية كبار السن والمعوزين مرتين في الأسبوع، وتتجول لإلقاء خطب على المجموعات النسائية؛ وكان الإقبال عليها كبيرًا باعتبارها سيدة مراسم الاحتفال في حفلات العشاء التي تقام لتسليم الجوائز للمؤسسات الشبابية، أو شيئًا من هذا القبيل. وقد قامت الصداقة التي نشأت بينها وبين روز في المقام الأول على عزوبيتهما المشتركة نوعًا ما وطبيعتهما المغامرة. وكان لدوروثي حبيب في سياتل، ولم تكن تثق به.

بينما كانت روز ودوروثي تتناولان القهوة في «هول إن وان»، وهو مقهى صغير ومحل لبيع الفطائر المحلاة يقع بجوار المحطة الإذاعية، قالت دوروثي: «إنهم يفعلون أي شيء.» ومضت دوروثي تروي لروز قصة عن علاقة جمعتها بمالك المحطة الذي أصبح عجوزًا الآن ويقضي معظم وقته في كاليفورنيا. كان قد أهداها عقدًا في الكريسماس، وقال إنه من اليشم، اشتراه من فانكوفر، فذهبت لإصلاح المشبك وسألت بكل فخر عن قيمة العقد المادية، فقيل لها إنه ليس من اليشم على الإطلاق، وشرح لها الصائغ كيف حدد ذلك، حاملًا إياه تحت الضوء. وبعد بضعة أيام حضرت زوجة مالك المحطة إلى المكتب مرتدية عقدًا مماثلًا، وقد أخبرها هي أيضًا بنفس قصة اليشم. وبينما كانت دوروثي تخبرها بذلك، كانت روز تنظر إلى شعر دوروثي المستعار الأشقر الضارب إلى الرمادي، ذي اللمعة والمظهر الفاخر لدرجة تجعل من ينظر إليه لا يصدق أنه طبيعي ولو للحظة، ووجهها يكسوه مظهر كئيب كانت باروكتها وظلُّ عيونها الفيروزي تؤكدانه. كانت للوهلة الأولى تبدو خليعة؛ إلا أن الناس في تلك البلدة كانوا يرونها غريبة، ولكنها فاتنة، ومثالًا حيًّا لعالم عصري أسطوري.

قالت دوروثي: «كانت هذه آخر مرة أثق برجل؛ ففي نفس الوقت الذي كان يضاجعني فيه كان يضاجع فتاة كانت تعمل هنا — فتاة متزوجة تعمل نادلة — ويضاجع جليسة أحفاده. ما رأيكِ في هذا؟»

عادت روز خلال فترة أعياد الكريسماس إلى منزل باتريك. لم تكن قد رأت توم بعد، ولكنه أرسل لها شالًا مطرزًا ذا أهداب لونه كحلي كان قد اشتراه خلال إجازة مؤتمر في المكسيك في أوائل شهر ديسمبر، اصطحب خلاله زوجته معه (قالت روز لدوروثي إنه كان قد وعد زوجته بهذا على أية حال). على مدى ثلاثة أشهر زاد طول آنا، ونحفت؛ إذ كانت تفضل شد معدتها إلى الداخل وإبراز عضلاتها للخارج، لتبدو كطفلة من أطفال المجاعات. كانت معنوياتها مرتفعة، وفي غاية الحيوية والنشاط، وتنضح بالتصرفات المضحكة والألغاز. وبينما كانت تسير مع والدتها متجهتين إلى المتجر — حيث عادت روز مرة أخرى لتقوم بمهام التسوق، والطهي، حتى إنها أحيانًا ما كان الخوف يستبد بها من أن تكون وظيفتها وشقتها وتوم كلها أشياء لا وجود لها خارج نطاق خيالها — إذ بها تقول: «دائمًا ما أنسى وأنا في المدرسة.»

«تنسين ماذا؟»

«دائمًا ما أنسى أنكِ لست بالمنزل، ثم أتذكر أنه لا يوجد سوى السيدة كريبر.» كانت السيدة كريبر هي مديرة المنزل التي عيَّنها باتريك.

قررت روز أن تصطحب آنا لتعيش معها، ولم يمانع باتريك في ذلك، بل قال إن ذلك هو أفضل شيء. ولكنه لم يستطع البقاء في المنزل بينما كانت روز تحزم أمتعة آنا.

قالت آنا في وقت لاحق إنها لم تكن تعلم أنها ستذهب لتعيش مع روز، وإنها كانت تعتقد أنها قادمة في زيارة لا أكثر. وكانت روز تعتقد أن عليها أن تقول وتفكر في شيء كهذا حتى لا تتحمل ذنب أي قرار.

أبطأ القطار الجبلي السير بفعل عاصفة ثلجية عنيفة.

•••

كان الماء متجمدًا، ووقف القطار فترة طويلة في المحطات الصغيرة وقد لفَّته سحب من البخار على أثر إذابة الجليد المتراكم على أنابيب البخار، فكانتا ترتديان معطفيهما الثقيلين وتهرولان عبر رصيف المحطة. قالت روز: «سوف أضطر لأن أشتري لك معطف مطر، وأشتري لك بعض الأحذية الطويلة لتدفئك.» ففي شتاء المناطق الساحلية المظلم، كانت الأحذية الطويلة المطاطية ومعاطف المطر المزودة بغطاء للرأس كافية. لا بد أن آنا قد أدركت بذلك أنها ستبقى هناك، ولكنها لم تقل شيئًا.

عند حلول الليل، وبينما كانت آنا نائمة، راحت روز تنظر من النافذة إلى العمق الصادم للثلج وبريقه المتألق. كان القطار يزحف ببطء خوفًا من الانهيارات الثلجية. لم تكن روز قلقة؛ إذ أعجبتها فكرة وجودهما معًا وقد أُغلق عليهما هذا المهجع المظلم، أسفل أغطية القطار الخشنة، وتنطلقان عبر هذه الطبيعة القاسية. كانت تشعر دائمًا أن تقدُّم القطارات في المسير، مهما كان محفوفًا بالمخاطر، آمنٌ ومناسبٌ. فيما كانت تشعر، على الجانب الآخر، بأن الطائرات قد تفزع في أية لحظة مما تفعله، وتهوي عبر الهواء دون همسة احتجاج.

أرسلت روز آنا إلى المدرسة بملابسها الشتوية الجديدة، وكان كل شيء يسير على ما يرام؛ فلم تجفل آنا أو تواجه أية معاناة باعتبارها غريبة عن البلدة. وفي غضون أسبوع صارت تصطحب معها أطفالًا إلى المنزل، وتذهب هي أيضًا إلى منازل أطفال آخرين. وكانت روز تخرج لمقابلتها لتعود بها إلى المنزل في بداية ظلمة الشتاء، عبر الشوارع المحاطة بجدران شاهقة من الثلج. كان القلق يساور روز إذ حدث أن نزل دبٌّ من الجبال ودخل البلدة في الخريف، وتواردت الأخبار بشأن تلك الواقعة عبر الراديو بهذا النص: «زائر غير مألوف، دب أسود يجوب شارع فولتون. يُنصح بإبقاء الأطفال داخل المنازل.» كانت روز تعرف أن من غير المحتمل أن يدخل دب إلى البلدة في الشتاء، ولكن القلق ساورها أيضًا، وكذلك كانت تخشى السيارات في ظل ضيق الشوارع الشديد وصعوبة رؤية النواصي. في بعض الأحيان كانت آنا تعود إلى المنزل من طريق مختلف، بينما تقطع روز المسافة إلى منزل الطفل الآخر حيثما توجد ولا تجدها هناك، فتركض وتركض طوال الطريق إلى المنزل عبر الشوارع شديدة الانحدار، وتصعد درجات السلم الطويل وقلبها يخفق من المجهود ومن الخوف الذي كانت تحاول أن تخفيه عندما تجد آنا هناك.

كان قلبها يخفق أيضًا من عناء جر الغسيل والبقالة؛ فقد كانت المغسلة، والسوبر ماركت، ومتجر المشروبات الكحولية، تقع أسفل التل، وكانت هي مشغولة طوال الوقت، ودائمًا ما كان لديها خطط عاجلة للساعة التالية، من الذهاب لأخذ الأحذية التي تصلحها لأنها تحتاج إلى نعال جديدة، وغسيل وصبغ شعرها، وإصلاح معطف آنا من أجل المدرسة في الغد. إلى جانب وظيفتها التي كانت شاقة بما يكفي، كانت روز تقوم بنفس الأشياء التي طالما كانت تفعلها، وتفعلها تحت ظروف أصعب، إلا أن المدهش في الأمر هو ذلك القدر المذهل من الارتياح الذي كانت تشعر به في هذه الأعمال المنزلية الشاقة.

اشترت روز لآنا شيئين: السمك الذهبي وجهاز التليفزيون؛ إذ لم يكن مسموحًا بوجود القطط أو الكلاب في الشقة، فقط طيور أو أسماك. في أحد أيام شهر يناير، في ثاني أسبوع من قدوم آنا، هبطت روز التل سيرًا لتقابل آنا بعد المدرسة لتصطحبها إلى متجر وولورث لشراء السمك، فنظرت إلى وجه آنا واعتقدت أنه متسخ، ثم أدركت أنه ملطخ بالدموع.

قالت آنا: «سمعتُ اليوم شخصًا ما ينادي على جيريمي، واعتقدتُ أن جيريمي هنا.» كان جيريمي صبيًّا صغيرًا كثيرًا ما كانت تلعب معه في المنزل.

ذكرت روز السمك.

«معدتي تؤلمني.»

«ربما تكونين جائعة. لا أمانع في تناول فنجان من القهوة. ماذا تريدين؟»

كان يومًا عصيبًا؛ كانتا تسيران عبر المنتزه كطريق مختصر إلى وسط المدينة. كان هناك جليد ذائب، ثم تجمَّد، ومن ثم كان الثلج منتشرًا في كل مكان يعلوه ماء أو وحل. كانت الشمس ساطعة، ولكن ضوءها كان ذلك الضوء الشتوي الذي يجعل عينيك تؤلمانك، وثيابك ثقيلة للغاية، ويبرز كل ما تعانيه من اضطراب ومشقة، مثل المشقة التي كانتا تواجهانها الآن في محاولة السير على الجليد. كان كلُّ مَن حولهما مراهقِين غادروا المدرسة للتو، وساور روز شعور بالإحباط جراء صخبهم، وصياحهم، وتزحلقهم فوق الجليد، والطريقة التي جلس بها صبي وفتاة يتبادلان القبلات في تباهٍ.

طلبت آنا حليبًا بالشوكولاتة. ورافقهما المراهقون إلى المطعم. كان مكانًا ذا طراز قديم، مقاعده من ذلك النوع ذي الظهر الطويل على طراز الأربعينيات، وكان مالكه طاهيًا ذا شعر برتقالي يناديه الجميع بدري؛ كان بمنزلة الواقع الرث الذي أدركه الناس بحسٍّ من الاشتياق والحنين من خلال الأفلام، وأفضل شيء أنه لم يكن هناك من شخص يعتقد بوجود أي شيء يمكن الشعور بالحنين تجاهه في هذا المطعم؛ فقد كان دري يدخر لإصلاحه على الأرجح. ولكن في ذلك اليوم راحت روز تفكر في المطاعم التي ذكَّرها بها، حيث كانت تذهب بعد المدرسة، وفكرت أنها في النهاية لم تكن تشعر بالسعادة فيها.

قالت آنا: «أنت لا تحبين أبي. أعلم أنك لا تحبينه.»

قالت روز: «حسنًا، إنني أحبه، إلا أننا لا نستطيع الحياة معًا، هذا كل ما في الأمر.»

ومثل معظم الأشياء التي تقولها وأنت مرغم، كان لحديثها وقع الكذب، إذ قالت آنا: «أنت لا تحبينه، أنت تكذبين.» وبدأ وقع حديثها يبدو أكثر براعة، وبدت تتطلع للنَّيل من والدتها.

«أليس كذلك؟»

كانت روز في الواقع على وشك الإجابة بالتأكيد، والاعتراف بأنها لا تحبه. كانت تود لو قالت لها إذا كان هذا ما تريدين، فلكِ ما أردتِ. وكان هذا ما تريده آنا بالفعل، ولكن هل كان يمكنها أن تتحمله؟ كيف لك أن تقدِّر ما يمكن للأطفال تحمُّله؟ والواقع أن الكلمات من قبيل أحب، ولا أحب، وحتى كلمة أكره، لم يكن لها معنى بالنسبة لروز حين يتعلق الأمر بباتريك.

قالت آنا بنبرة بها بعض الرضا: «لا تزال معدتي تؤلمني.» ثم دفعت بكوب حليب الشوكولاتة بعيدًا، إلا أنها تنبَّهت لعلامات الخطر، ولم تشأ أن يتطور الأمر لأكثر من ذلك، فقالت: «متى سنُحضر السمك؟» وكأن روز قد توانت عن ذلك.

اشترتا سمكة برتقالية، وسمكة زرقاء مرقطة، وسمكة سوداء ذات جسم مخملي الشكل وعينين جاحظتين بشكل رهيب، وحملتاها جميعًا إلى المنزل في كيس بلاستيكي، واشترتا أيضًا حوض سمك، وحصى ملونًا، ونباتًا بلاستيكيًّا أخضر اللون. وعادت كلتاهما إلى طبيعتهما بعد دخولهما لمتجر وولورث، ورؤيتهما للأسماك المضيئة، والطيور المغردة، والملابس الداخلية النسائية بألوانها الوردية والخضراء، والمرايا ذات الإطارات المذهبة، وأدوات المطبخ البلاستيكية، إلى جانب سرطان بحري كبير من المطاط ذي اللون الأحمر البارد.

كانت آنا تحب مشاهدة برنامج «محكمة العائلة» على شاشة التليفزيون، وهو برنامج عن مراهقات كنَّ بحاجة إلى عمليات إجهاض، وسيدات قُبض عليهن لقيامِهن بسرقة بضائع بالمحلات، وآباء يظهرون بعد سنوات طويلة من الغياب لاسترداد أبنائهم بينما يفضل الأبناء دائمًا البقاء مع أزواج أمهاتهم. وكانت تحب برنامجًا آخر يسمى «عائلة برادي بانش». كانت برادي بانش عائلة مكونة من ستة أطفال رائعين ومشغولين، يساء فهمهم أو يسيئون فهم الآخرين بشكل كوميدي ساخر، وأم شقراء جميلة، وأب وسيم ذي بشرة داكنة، ومديرة منزل مرحة. كان برادي بانش يُعرض في السادسة، وكانت آنا ترغب في تناول العشاء أثناء مشاهدته. وسمحت لها روز بذلك؛ لأنها غالبًا ما كانت ترغب في العمل خلال وقت عشاء آنا. وبدأت في وضع الطعام في أطباق حتى تتمكن آنا من تناول الطعام بشكل أسهل، وتوقفت عن إعداد وجبات العشاء المكونة من اللحم والبطاطا والخضراوات؛ لاضطرارها لإلقاء قدر كبير منها؛ فكانت تعد طبقًا من اللحم المفروم الحار مع الفاصوليا البيضاء بدلًا منها، أو البيض المقلي، أو شطائر اللحم المقدد مع الطماطم، أو نقانق لحم الخنزير ملفوفة في عجينة البسكويت. وفي بعض الأحيان كانت آنا ترغب في تناول حبوب الإفطار، وكانت روز تسمح لها بتناولها، ولكنها بعد ذلك بدأت تفكر أنه ربما يكون أمرًا كارثيًّا أن ترى آنا جالسة أمام التليفزيون وهي تتناول حبوب الإفطار في الوقت الذي تجتمع فيه العائلات في كل مكان سواء في المطبخ أو على مائدة غرفة الطعام يستعدون لتناول الطعام والتشاحن والمزاح ومضايقة أحدهم الآخر. فأحضرت دجاجة، وصنعت حساء ذهبيًّا ثخينًا بالخضراوات والشعير. أرادت آنا تناول حبوب الإفطار، فقالت إن الحساء له مذاق لذيذ، وراحت روز تصيح قائلة: إنه حساء رائع، ولم يسبق لكِ تذوُّقه إلا بالكاد يا آنا، من فضلك جربيه.

غريب أنها لم تقل «من أجلي». وشعرت بارتياح بشكل عام حين قالت آنا بهدوء «لا».

في تمام الثامنة بدأت في الإلحاح على آنا لكي تأخذ حمامها ثم تذهب إلى الفراش. ولم تستطع روز أن تستقر وتهنأ بكأس من الشراب أو فنجان من القهوة مضاف إليه بعض الرَّم وتستسلم لمشاعر الرضا والتقدير إلا بعد أن انتهت من إعداد كوب من حليب الشوكولاتة لآنا، ثم جففت دورة المياه، ولملمت الأوراق وألوان الشمع وقصاصات اللباد، والمقص، والجوارب المتسخة، والداما الصينية، وكذا البطانية التي تلف آنا نفسها بداخلها لمشاهدة التليفزيون؛ نظرًا لبرودة الشقة، وأعدَّت غداء آنا لليوم التالي، وأطفأت نور غرفتها وسط احتجاجاتها. كانت تطفئ الأنوار ثم تجلس بجوار النافذة العالية تشاهد هذه البلدة الجبلية التي لم تكد تعرف بوجودها قبل عام واحد، وفكرت أن كل ما حدث كان بمنزلة المعجزة؛ أن تقطع كل هذه المسافة إلى هنا وتعمل، وأن تأخذ آنا، وأن تعول آنا وتعول نفسها. وفي تلك اللحظة كان بإمكانها الشعور بثقل آنا في الشقة بنفس شعورها الطبيعي بثقلها داخل جسدها، ودون الاضطرار لأن تذهب وتنظر إليها، كان بإمكانها النظر بسعادة مذهلة يشوبها الخوف إلى الشعر الأشقر والبشرة الفاتحة، والحاجبين اللامعين، ذلك الملمح الذي إذا نظرتَ عبره عن كثب، يمكنك أن ترى الشعيرات الدقيقة شبه الخفية تبدو لتخطف الضوء. لأول مرة في حياتها تدرك معنى الألفة والحياة الأسرية، وتعرف معنى المأوى والسكن، وتكدُّ من أجل إدارته.

قالت دوروثي: «ما الذي جعلك تنفصلين؟» كانت هي الأخرى متزوجة منذ فترة طويلة.

لم تدرِ روز بأي شيء تبدأ. بالندوب على رسغها؟ أم بالخنق في المطبخ؟ أم النبش في الحشائش وتمزيقها؟ كلها أمور لا صلة لها بالأمر.

قالت دوروثي: «بالنسبة لي شعرتُ بالملل فحسب. ولكي أكون صادقة معك، شعرت بالملل لأقصى درجة.»

كانت نصف ثملة. فأخذت روز تضحك، وقالت لها دوروثي: «علامَ تضحكين بحق الجحيم؟»

«شيء مريح أن تسمعي شخصًا يقول ذلك، بدلًا من الحديث عن عدم تفاهمكما.»

«حسنًا، لم يكن هناك تفاهم بيننا أيضًا. لا، الحقيقة هي أن عقلي كان مشغولًا بشخص آخر؛ فقد كنت على علاقة بشخص يعمل بإحدى الصحف، كان صحفيًّا، ذهب إلى إنجلترا، أقصد الصحفي، وكتب لي خطابًا عبر المحيط الأطلنطي يخبرني فيه أنه أحبني بصدق. لقد كتب لي ذلك الخطاب لأنه كان وراء المحيط وأنا هنا، لكنني لم يكن لدي ما يكفي من الإدراك لكي أعرف ذلك. أتعلمين ماذا فعلتُ؟ تركت زوجي — حسنًا، لم يكن في ذلك أية خسارة — واقترضت ألفًا وخمسمائة دولار من البنك، وطرت إلى إنجلترا وراءه. اتصلت بجريدته، فأخبروني أنه قد غادر إلى تركيا، فجلست في الفندق في انتظار عودته. يا لها من فترة! لم أخرج من الفندق قط، وإذا ذهبت للحصول على بعض التدليك أو لتصفيف شعري كنت أخبرهم أين يجدونني. كنت ألح عليهم بالأسئلة خمسين مرة في اليوم. ألا يوجد خطاب لي؟ ألم تأتني أية مكالمات؟ رباه، رباه، رباه!»

«وهل عاد؟»

«اتصلت مجددًا، وأخبروني أنه سافر إلى كينيا. بدأ الخوف يتمكن مني، ورأيت أنه لا بد أن أتمالك نفسي، وقد فعلت في اللحظة المناسبة، وعدت إلى الوطن وبدأت في سداد القرض للبنك.»

كانت دوروثي تشرب فودكا خالصة من كوب ماء.

«بعد عامين أو ثلاثة قابلته، ترى أين؟ في المطار. لا، في أحد المتاجر الكبيرة. قال لي إنه آسف لأنه لم يلحق بي في إنجلترا. فقلت له لا بأس، فقد استطعتُ الاستمتاع بوقت طيب على أية حال. كنت لا أزال أسدد القرض للبنك. كان يجب أن أخبره بأنه تافه وأحمق.»

كانت روز في العمل تتصفح الإعلانات التجارية وأحوال الطقس، وترد على الخطابات، وتجيب الهاتف، وتطبع الأخبار على الآلة الكاتبة، وتقوم بأداء الأصوات في مسرحيات الأحد التي يكتبها أحد القساوسة المحليين، وتخطط للقيام بمقابلات شخصية. كانت ترغب في كتابة قصة عن المستوطنين الأوائل للبلدة؛ فذهبت وتحدثت إلى رجل كفيف مسن كان يقطن أعلى متجر لبيع العلف، فأخبرها أنه في الزمن القديم كانت ثمار الكرز والتفاح تعلق بأغصان أشجار الأرز والصنوبر، وكان يلتقط لها صورًا وتُرسل إلى إنجلترا. وساعد ذلك في جلب المهاجرين الإنجليز لاقتناعهم بأنهم قادمون إلى أرض تزدهر فيها البساتين. وعندما عادت إلى المحطة بهذه القصة، ضحك الجميع؛ إذ كانوا قد سمعوها كثيرًا من قبل.

لم يكن توم يغيب عن تفكيرها، فكانت تكتب له ويكتب لها، فلولا هذه الصلة التي تربطها بأحد الرجال، ربما كانت قد رأت نفسها كشخص مذبذب ومثير للشفقة؛ فقد كان لتلك الصلة أثرها في استقرار حياتها الجديدة. بدا لفترة وكأن الحظ يحالفهما؛ فقد أقيم مؤتمر في كالجاري عن الراديو في الحياة الريفية، أو شيء من هذا القبيل، وكانت المحطة بصدد إرسال روز، وكان ذلك دون أي تآمر من جانبها. كان روز وتوم متهللين من الفرحة وهما يتحدثان عبر الهاتف، وسألت إحدى المدرسات الشابات عبر الردهة إذا ما كان بإمكانها أن تنتقل للإقامة بمنزلها كي تعتني بآنا خلال سفرها. أبدت الفتاة ترحيبها بالقيام بتلك المهمة. كان للمدرِّسة صديق انتقل أيضًا للإقامة معهما، ما أدى إلى ازدحام المكان بشكل مؤقت. عادت روز إلى المتجر الذي كانت قد اشترت منه مفرش السرير وقدور القهوة واشترت منه روبًا على شكل قفطان طويل مطرزًا بأشكال طيور بألوان تشبه ألوان الأحجار الكريمة. كان هذا الرداء يذكرها بعندليب الإمبراطور. وقامت بغسل شعرها. كان عليها أن تقطع مسافة ستين ميلًا بالحافلة، ثم تستقل الطائرة. كانت على استعداد لتحمل ساعة من الرعب مقابل قضاء مزيد من الوقت في كالجاري. كان العاملون بالمحطة يستمتعون بتخويفها، وأخبروها بأن الطائرات الصغيرة تقلع في خط شبه مستقيم من المطار الجبلي، ثم تتحطم وتتخذ طريقها سقوطًا فوق جبال روكي. كانت تعتقد أنه ليس من الملائم أن تموت بهذه الطريقة، أن تتحطم بها الطائرة في الجبال وهي في طريقها لرؤية توم. كانت تعتقد ذلك على الرغم من لهفتها للذهاب إليه؛ فقد بدت الرحلة أتفه من أن تموت من أجلها. كان خوض تلك المجازفة يبدو خيانة، ليس خيانة لآنا، وبالتأكيد ليس لباتريك، بل ربما خيانة لنفسها، ولكنها كانت تؤمن بأنها لن تموت، لا لشيء سوى أن الرحلة قد عهد بها إليها بشكل عارض دونما تدبير، ونظرًا لأن الأمر برمته لا يُصدق.

كانت معنوياتها في السماء وهي تلعب الداما الصينية مع آنا طوال الوقت، كما كانت تلعب معها لعبة «آسف»، أو أية لعبة أخرى تريدها آنا. وفي الليلة السابقة لسفرها — وكانت قد رتبت لاستقدام سيارة أجرة لتوصيلها في الخامسة والنصف صباحًا — كانتا تلعبان الداما الصينية، حين قالت آنا: «يا إلهي، لا أستطيع أن أرى بهاتين العينين الزرقاوين!» وتراخت على اللوح وهي على وشك البكاء، وهو ما لم تفعله من قبل في أية لعبة. راحت روز تجس جبهتها، وقادتها إلى فراشها وهي متذمرة. كانت درجة حرارتها ٣٨٫٨ درجة مئوية. كان الوقت متأخرًا للاتصال بتوم في مكتبه، وبالطبع لم يكن بوسع روز الاتصال به في منزله، فاتصلت بسائق السيارة الأجرة وبالمطار وألغت الرحلة؛ إذ حتى لو تحسنت حالة آنا في الصباح، لم تكن لتستطيع السفر. ومضت لتتصل بالفتاة التي كانت ستأتي للإقامة مع آنا، واتصلت بالشخص المسئول عن ترتيب المؤتمر في كالجاري، فقال: «يا إلهي، نعم. هكذا هم الأطفال!» وفي الصباح، وبينما كانت آنا متدثرة ببطانيتها تشاهد الكرتون، اتصلت بتوم في مكتبه، وأخذ يقول: «أنت هنا، أنت هنا! أين أنت؟»

فاضطرت أن تخبره بما حدث.

كانت آنا تسعل، وكانت حرارتها ترتفع وتنخفض. حاولت روز أن ترفع حرارة الشقة، وراحت تعبث بمنظم الحرارة، ثم قامت لتصفي محلول التبريد من مشعات التدفئة المركزية، واتصلت بصاحب المنزل وتركت له رسالة، لكنه لم يتصل، فاتصلت به في منزله في السابعة من صباح اليوم التالي، وأخبرته بأن طفلتها مصابة بالتهاب شعبي (وهو ما كانت تعتقده في حينها، ولكنه لم يكن صحيحًا) وأخبرته بأنها ستمنحه ساعة ليمنحها بعض التدفئة وإلا ستتصل بالجريدة، وتدين أفعاله عبر الراديو، وتُقاضيه، وأنها ستجد القنوات المناسبة لذلك. فما كان منه إلا أن جاء في التو واللحظة وهو يضع قناعًا مستعارًا (قناع الرجل المسكين الذي يحاول تأمين نفقات المعيشة تغويه نساء في حالة هستيرية)، وفعل شيئًا بمنظم الحرارة في الردهة، ومن ثم بدأت المشعات تسخن. أخبرت المدرِّسات روز أنه قد قام بإصلاح منظم حرارة الردهة بحيث يمكنه التحكم في الحرارة، بالرغم من أنه لم يرضخ أبدًا للاحتجاجات من قبل. شعرت بالفخر، شعرت وكأنها أم شرسة من أحد الأزقة راحت تصرخ وتكيل السباب وتقاتل من أجل ابنتها. نسيت أن أمهات الأزقة والأحياء الفقيرة نادرًا ما يكنَّ شرسات لما يعانينه من تعب وارتباك شديدين. لقد كانت صِلاتها الأكيدة بالطبقة الوسطى التي تنتمي إليها، وتوقعاتها بتحقيق العدالة هما ما منحتاها كل هذه الطاقة وهذا الأسلوب المستبد في القدح والسب، ما تسبب في إخافته.

بعد يومين اضطرت روز للعودة إلى عمل. كانت حالة آنا قد تحسَّنت، ولكن روز كانت قلقة طوال الوقت. لم تكن تستطيع ازدراد فنجان من القهوة، لما كانت تعانيه من غصة في حلقها بسبب القلق. كانت آنا على ما يرام، وتأخذ دواء السعال الخاص بها، وتجلس في فراشها تلون بألوان الشمع. وعندما عادت والدتها إلى المنزل، كان لديها قصة لتحكيها لها، وكانت تدور حول بعض الأميرات.

كان هناك أميرة بيضاء ترتدي ثياب العرس البيضاء وتتحلى باللآلئ والجواهر. كان البجع والنعاج والدببة القطبية هي حيواناتها الأليفة، وفي حديقتها تنمو أزهار الزنابق والنرجس الأبيض. وكانت تأكل البطاطا المهروسة، وآيس كريم الفانيليا، وتغطي فطائرها شرائح جوز الهند والمارينج الأبيض. وكانت هناك أميرة وردية تزرع الأزهار وتأكل الفراولة، وتربط مجموعة من طيور البشروش (كانت تصف شكلها لعدم قدرتها على تذكر الاسم). أما الأميرة الزرقاء، فكانت تقتات على العنب والمداد. أما الأميرة البنية، فكان طعامها أطيب من أية أميرة أخرى على الرغم من أن ملابسها كانت رمادية ضاربة إلى البني؛ فكانت تتناول اللحم المشوي، ومرق اللحم البني، وكعكة شوكولاتة مغطاة بطبقة من الشوكولاتة، وأيضًا آيس كريم الشوكولاتة بصلصة فدج الشوكولاتة. تُرى ماذا كانت تحوي حديقتها؟

قالت آنا: «كانت الأرض مفترشة بأشياء بذيئة على مداها.»

لم يُشِر توم وروز هذه المرة إلى خيبة أملهما بشكل صريح، فكانا قد بدآ في كبح جماحهما قليلًا، ربما لظنهما أن الحظ لا يقف في صفهما، فكانا يتراسلان بأسلوب يملؤه الحب والتروي والدعابة، وكأن الكبوة الأخيرة لم تحدث.

في شهر مارس اتصل ليخبرها بأن زوجته وأبناءه سوف يذهبون إلى إنجلترا، وأنه سيلحق بهما ولكن بعد عشرة أيام، فصاحت روز فرحًا بأن لديهما عشرة أيام كاملة سوف تمحو كل أثر للغياب الطويل الذي سيأتي لاحقًا (إذ كان مزمعًا أن يبقى بإنجلترا حتى نهاية الصيف). وتبين بعد ذلك أنها لن تكون عشرة أيام؛ إذ كان مضطرًّا للتوجه إلى ماديسون بولاية ويسكونسن في طريقه إلى إنجلترا. فقالت له روز إنه يجب أن يأتي إلى هنا أولًا، متداركة ما أصابها من خيبة أمل، وراحت تتساءل: كم يمكنك أن تمكث، أيمكنك أن تمكث أسبوعًا؟ وراحت تتخيل نفسها معه وهما يتناولان إفطارًا طويلًا مرحًا. رأت نفسها في عين خيالها في رداء عندليب الإمبراطور. كانت ستقدم قهوة مفلترة (إذن لا بد من شراء إناء قهوة ذي فلتر)، وتلك المربى اللاذعة ذات المذاق الجيد في البرطمان الحجري. ولم تولِ أي تفكير لمهامها الصباحية في المحطة.

قال توم إنه لم يكن يعلم بذلك، ولكن والدته قادمة لمساعدة باميلا والأطفال في الإعداد للسفر، ولم يستطع أن يحزم حقائب ويتركها هكذا، وقال إنه سيكون من الأفضل كثيرًا إذا استطاعت هي المجيء إلى كالجاري.

ثم غمرته السعادة وقال إنهما سيذهبان إلى بانف، حيث سيأخذان إجازة لمدة ثلاثة أو أربعة أيام، وتساءل عما إذا كان بإمكانها تدبير ذلك، وعما إذا كان بالإمكان أن تأخذ عطلة أسبوعية طويلة. فتساءلت إن كانت بانف مكانًا يصعب الوجود فيه بالنسبة له؛ إذ ربما يلتقي أحدًا ممن يعرفهم. فقال: لا، لا، سيكون كل شيء على ما يرام. لم تكن سعادتها بقدر سعادته الغامرة؛ لأنها لم تكن تفضِّل تمامًا أن توجد في فندق معه في فيكتوريا. ونزل إلى بهو الفندق ليحضر ورقة، واتصل بغرفتهما ليتأكد من أنها لن ترد عليه كما اتفقا، وبالفعل لم ترد عليه، ولكن المناورة سبَّبت لها إحباطًا، ومع ذلك فقد كان جوابها أن الأمر رائع وعظيم، وكان بحوزة كلٍّ منهما على الهاتف تقويم لكي يحددا الأيام التي سيلتقيان فيها. واتفقا على ضم العطلة الأسبوعية إلى أيام الإجازة؛ إذ كان لديها عطلة أسبوعية قادمة، وكانت على الأرجح ستنجح في أخذ يوم الجمعة أيضًا، وجزء من يوم الاثنين على الأقل. كان بإمكان دوروثي أن تقوم مكانها بالمهام شديدة الأهمية؛ فقد كانت دوروثي تدين لها ببعض من وقت العمل؛ إذ سبق لروز أن حلت محلها حين كانت في سياتل؛ إذ قضت ساعة على الهواء تقرأ نصائح منزلية ووصفات لم تكن تعتقد أنها مجدية.

كان لديها نحو أسبوعين للترتيب للأمر، فتحدثت مجددًا إلى المعلمة التي قالت إن بإمكانها المجيء، واشترت سترة. كانت تتمنى ألا يكون متوقعًا منها أن تتعلم التزحلق على الجليد في ذلك الوقت، فلا بد أنهما يستطيعان التمشية هناك. كانت تعتقد أنهما سيقضيان معظم وقتهما في تناول الطعام والشراب والحديث وممارسة الحب، وكانت الأفكار الخاصة بذلك النشاط الأخير تؤرقها بعض الشيء؛ إذ كانت أحاديثهما عبر الهاتف يغلب عليها الاحتشام والخجل إلى حد كبير، ولكن خطاباتهما كانت مفعمة بالوعود الملتهبة، لا سيما وهما الآن على يقين من اللقاء. كانت روز تحب قراءة وكتابة مثل هذه الوعود، ولكن لم يكن بإمكانها تذكُّر توم بالوضوح الذي كانت ترغب به. كان بإمكانها تذكُّر شكله، وأنه ليس طويلًا للغاية، ونحيل، وله شعر رمادي مموج، ووجه طويل حسن، ولكنها لم تستطع أن تتذكر عنه الأشياء الصغيرة المثيرة، كنبرة صوته أو رائحته المميزة. الشيء الوحيد الذي كانت تتذكره جيدًا هو أن وقتهما معًا في فيكتوريا لم يكن موفقًا تمامًا؛ كان بإمكانها أن تتذكر شيئًا ما بين القذع والاعتذار، شيئًا وضعهما على حافة الفشل الخطرة. وقد جعلها ذلك متلهفة بشكل خاص لأن تحاول أن تنجح مرة أخرى.

كان مقررًا أن تغادر يوم الجمعة في الصباح الباكر، مستقلة نفس الحافلة ونفس الطائرة التي خططت لاستقلالهما من قبل.

في صباح يوم الثلاثاء بدأ الثلج في الهطول، ولكنها لم تُعِر الكثير من الانتباه لذلك؛ إذ كان ثلجًا رطبًا جميلًا يتساقط من السماء مباشرة في شكل رقاقات كبيرة، وراحت تتساءل إن كان الثلج سيتساقط أيضًا في بانف. كانت تتمنى ذلك، فقد كانت تحب فكرة الاستلقاء في الفراش ومشاهدة الجليد. ظل الثلج يتساقط بشكل متواصل إلى حد ما على مدى يومين، وفي نهاية مساء يوم الخميس حين ذهبت لاستلام تذكرتها من وكالة السفر، أخبروها أن المطار قد أُغلق. لم تُبدِ أو تستشعر حتى أي قلق؛ بل كانت تشعر بارتياح بعض الشيء لكونها لن تضطر للسفر جوًّا. تساءلت في نفسها عن إمكانية السفر بالقطار، ولكن القطار بالطبع لم يكن يذهب إلى كالجاري؛ إذ كان يتوقف في مقاطعة سبوكان، وكانت تعلم ذلك بالفعل. إذن تبقَّت الحافلة، فقاموا بالاتصال للتأكد من أن الطرق السريعة مفتوحة وأن حركة الحافلات مستمرة. في أثناء تلك المحادثة بدأ قلبها يخفق قليلًا، ولكن كلَّ شيء كان على ما يرام، والحافلات تعمل. أخبروها بأن الرحلة بالحافلة لن تكون ممتعة للغاية؛ فهي تغادر من هنا في الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل، وتدخل كالجاري في حوالي الثانية بعد الظهر من اليوم التالي.

«حسنًا، لا بأس.»

قال الشاب ذو المظهر الرث: «لا بد أنك تريدين حقًّا الذهاب إلى كالجاري.» كانت وكالة السفر تلك متهدمة وخربة إلى أقصى حد، وكانت تقع في بهو أحد الفنادق خارج باب الحانة.

ردَّت روز بصفاقة: «أنا ذاهبة إلى بانف في الواقع. ونعم أريد الذهاب إلى هناك.»

«هل أنت ذاهبة من أجل التزحلق؟»

«ربما.» كانت على قناعة أنه قد خمَّن كل شيء. لم تكن تعرف حينذاك كم كانت مثل هذه الرحلات غير الشرعية للمتعة مألوفة وعادية؛ فقد كانت تعتقد أن هالة الخطيئة تتراقص حولها مثل ألسنة لهب نصف شفافة على موقد غاز.

عادت إلى المنزل وهي تفكر أنه سيكون من الأفضل كثيرًا حقًّا أن تجلس في الحافلة، تقترب أكثر فأكثر من توم، من أن تستلقي في الفراش يجافيها النوم. كل ما كان عليها أن تفعله هو أن تخبر المعلمة لكي تنتقل إلى منزلها في تلك الليلة.

كانت المعلمة في انتظارها تلعب الداما الصينية مع آنا، فقالت لها: «أوه، لا أعرف كيف أخبرك. أنا في شدة الأسف، ولكن حدث شيء ما.»

قالت لها إن شقيقتها قد تعرَّضت للإجهاض وهي في حاجة لمساعدتها. وكانت شقيقتها تلك تعيش في فانكوفر.

«سوف يقلُّني صديقي غدًا بالسيارة إذا استطعنا التواصل معًا.»

كانت تلك هي أول مرة تسمع فيها روز عن وجود صديق لها، وعلى الفور راودها الشك بشأن القصة برمتها. ربما تكون الفتاة قد جاءتها فرصة للسفر مع حبيب ما؛ لعلها قد تنشقت نسيم الحب والأمل هي الأخرى. ربما يكون زوج امرأة ما، أو شابًّا في مثل عمرها. نظرت روز إلى وجه الفتاة الذي كان حَب الشباب يكسوه يومًا ما وقد تحول إلى اللون الوردي من أثر الخجل والإثارة، وأدركت أنها لن تزحزحها عن موقفها أبدًا. مضت المعلمة تزين قصتها بالحديث عن طفلَي شقيقتها، وكان كلاهما صبيين، وأنهما كانا يتوقان لإنجاب طفلة.

بدأت روز اتصالاتها لاستقدام شخص آخر. اتصلت بطالبات، وزوجات الرجال الذين كانوا يعملون معها بالمحطة، اللاتي قد يعطينها أسماء جليسات أطفال، واتصلت بدوروثي التي كانت تكره الأطفال. كل ذلك دون جدوى. اتبعت كل الإرشادات التي أعطاها إياها الآخرون، على الرغم من إدراكها أن هذه الإرشادات كانت بلا قيمة على الأرجح، وأن القصد منها هو التخلص منها. شعرت بالخجل من إصرارها وإلحاحها. وفي النهاية قالت آنا: «بإمكاني البقاء هنا بمفردي.»

«كفِّي عن هذا السخف.»

«لقد فعلتُها من قبل حين كنتُ مريضة واضطررتِ للعودة إلى العمل.»

قالت روز وقد أحست بسعادة حقيقية بشكل مفاجئ لتوصلها لحل في غاية السهولة والرعونة: «ما رأيكِ في أن تأتي معي إلى بانف؟»

وفي عجالة شديدة مضتا تحزمان حقائبهما. ولحسن الحظ كانت روز قد ذهبت إلى المغسلة ذات الخدمة الذاتية في الليلة السابقة. لم تسمح لنفسها بالتفكير بشأن ما سوف تفعله آنا في بانف، ومن سيتكفل بنفقات الغرفة الإضافية، وما إذا كانت آنا ستوافق من الأساس على الإقامة في غرفة مستقلة. راحت روز تلملم كتب التلوين والقصص، وأدوات الزخارف المبعثرة التي تستطيع روز القيام بها بمفردها، وأي شيء اعتقدت أن من شأنه تسليتها. كانت آنا سعيدة بهذا التحول الذي طرأ على الأحداث، ولم تجفل من فكرة ركوب الحافلة. وتذكرت روز أن تتصل بالسيارة الأجرة مبكرًا لتقلهما عند منتصف الليل.

عَلِقت السيارة وسط الزحام في الطريق إلى المحطة، وخطر لروز أن اتصالها بالسيارة قبل نصف ساعة من موعد تحرك الحافلة كانت فكرة سديدة، مع أن الطريق إلى هناك عادة لا يستغرق أكثر من خمس دقائق. كانت محطة الحافلات عبارة عن محطة قديمة لخدمة السيارات، وكانت مكانًا موحشًا. تركت روز آنا على مقعد بالمحطة مع الأمتعة وذهبت لتشتري التذاكر، وعندما عادت كانت آنا قد ارتمت على الحقيبة، بعد أن استسلمت للنوم بمجرد أن استدارت والدتها.

«يمكنك النوم في الحافلة.»

فعدلت آنا جلستها ناكرة شعورها بالتعب. تمنَّت روز لو كان الجو دافئًا داخل الحافلة. ربما كان عليها أن تُحضر بطانية لتلفها حول آنا. لقد فكرت في ذلك، ولكنهما كانتا تحملان ما يكفي من الأمتعة، حيث كانت حقيبة التسوق مكتظة بكتب آنا وأدواتها الترفيهية؛ كان من الصعب تحمُّل فكرة الوصول بها إلى كالجاري شعثاء الشعر، معتلة المزاج ومصابة بالإمساك، إلى جانب أقلام التلوين التي تتساقط من الحقيبة وأيضًا بطانية متدلية من خلفها، فقررت ألا تأخذها.

كان هناك القليل فقط من المسافرين في انتظار ركوب الحافلة: زوجان شابان يرتديان الجينز ويبدو عليهما الشعور بالبرد والهزال؛ وامرأة عجوز مسكينة وقورة ترتدي قبعتها الشتوية، وجدة هندية بصحبتها طفل رضيع؛ ورجل مستلقٍ على أحد مقاعد المحطة يبدو عليه المرض أو الثُمالة. تمنت روز أن يكون هذا الرجل موجودًا في المحطة التماسًا للدفء فقط، وليس انتظارًا للحافلة؛ إذ بدا وكأنه قد يتقيأ، أو أن يتقيأ الآن وليس لاحقًا إذا كان سيصعد على متن الحافلة. كانت ترى أنه من الأفضل لو اصطحبت آنا إلى حمام المحطة، فبالرغم من بشاعته، ربما سيكون أفضل من الحمام المتاح بالحافلة. كانت آنا تجول بناظريها في المكان من حولها، تنظر إلى ماكينة بيع السجائر، وماكينة بيع الحلوى، وماكينة بيع المشروبات والشطائر. تساءلت روز إن كان عليها أن تبتاع بعض الشطائر وبعض الشوكولاتة الساخنة السائلة. فما إن تلبث الحافلة أن تدخل بها وسط الجبال حتى تتمنى لو كانت قد فعلت.

وعلى حين غرة خطر ببالها أنها قد نسيت الاتصال بتوم لتخبره بأن ينتظرها عند الحافلة وليس الطائرة، وعزمت على القيام بذلك حين يتوقفون لتناول الإفطار.

السادة المسافرون منتظرو الحافلة المتجهة إلى كرانبروك، راديوم هوت سبرينجس، جولدن، كالجاري، برجاء الانتباه. تم إلغاء حافلتكم. تم إلغاء الحافلة المزمع مغادرتها من هنا في الثانية عشرة والنصف.

ذهبت روز إلى شباك التذاكر وقالت: ما هذا؟ ماذا حدث؟ أخبرني، هل الطريق السريع مغلق؟ فأخبرها الرجل متثائبًا: «الطريق مغلق بعد كرانبروك. إنه مفتوح من هنا وحتى كرانبروك ولكنه مغلق بعد ذلك، ومغلق غربًا من هنا حتى جراند فوركس، ومن ثم لن يتسنى للحافلة حتى أن تصل إلى هنا الليلة.»

سألت روز في هدوء عن الحافلات الأخرى التي تستطيع أن تستقلها.

«ماذا تعنين بالحافلات الأخرى؟»

«حسنًا، ألا توجد حافلة أخرى إلى سبوكان؟ بإمكاني أن أتوجه من هناك إلى كالجاري.»

وعلى مضض سحب الرجل جداول الحافلات، وتذكر كلاهما أنه لا جدوى من ذلك إذا كان الطريق السريع مغلقًا ما بين هنا وجراند فوركس، إذ لن يتسنى لأية حافلة الوصول إلى هنا. فكرت روز في أن تستقل القطار إلى سبوكان، ثم تستقل الحافلة إلى كالجاري، ولكن لم يكن بوسعها القيام بذلك مطلقًا؛ إذ سيكون ذلك محالًا مع آنا. ومع ذلك سألت عن القطارات، وسألته هل نما إلى علمه أي شي بشأن القطارات؟

«سمعتُ أنها ستعمل بعد اثنتي عشرة ساعة.»

ظلت واقفة عند شباك التذاكر وكأنهم ملزمون بإيجاد حل لها، ولا بد أن يظهر.

«ليس بيدي شيء آخر يمكنني القيام به من أجلك هنا يا سيدتي.»

فانصرفت ورأت آنا عند هواتف العملة تعبث بصناديق استرداد العملات؛ إذ كانت أحيانًا ما تجد قطعة نقود بهذه الطريقة.

أقبلت آنا نحوها دون ركض، ولكنها كانت تسير مسرعة بطريقة متزنة مشوبة بالانفعال على نحو غير طبيعي، وقالت: «تعالَي إلى هنا، تعالَي إلى هنا.» وراحت تجذب روز التي تسمرت في مكانها نحو واحد من هواتف العملة العامة، وأمالت صندوق العملات نحوها. كان مليئًا بالعملات الفضية عن آخره، فشرعت تفرغها في يدها. كانت العملات متنوعة ما بين فئات الربع دولار، والخمسة سنتات، والعشرة سنتات، والمزيد والمزيد من العملات الأخرى. وراحت تملأ منها جيوبها. بدا الأمر وكأن الصندوق يمتلئ مرة أخرى في كل مرة تغلقه، وكأنها في حلم أو حكاية من حكايات الجنيات. إلى أن جرَّدته مما فيه في النهاية ملتقطة آخر قطعة عشرة سنتات به، ثم نظرت إلى روز بوجه شاحب متعب متوهج.

قالت في لهجة آمرة: «لا تقولي أي شيء.»

أخبرتها روز أنهما لن يصعدا على متن الحافلة، واتصلت بنفس السيارة الأجرة لتقلهما إلى المنزل. وتقبَّلت آنا التغيير الذي طرأ على الخطط دونما اهتمام. ولاحظت روز أنها تركب السيارة بمنتهى الحرص حتى لا تصلصل العملات في جيوبها.

وفي الشقة أعدت روز لنفسها شرابًا، أما آنا، فشرعت تنشر العملات على طاولة المطبخ وتفصلها في أكوام لعدها، دون حتى أن تخلع حذاءها الطويل أو معطفها.

قالت: «لا أصدق ذلك، لا أصدق.» كانت نبرة صوتها غريبة وكأنها شخص كبير، نبرة صوت تنم عن دهشة حقيقية تغلفها دهشة مصطنعة، وكأن الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها التحكم في الموقف والتعامل معه هو أن تضفي عليه طابعًا دراميًّا بهذا الشكل.

قالت روز: «لا بد أنها من مكالمة لمكان بعيد. أعتقد أن هذا المال يخص شركة الهواتف.»

قالت آنا بصوت امتزج فيه الشعور بالذنب والانتصار: «ولكن لا يمكننا أن نرده، أليس كذلك؟» وكانت إجابة روز بالنفي.

قالت روز: «هذا جنون.» كانت تقصد فكرة أن المال يخص شركة الهواتف. كانت متعبة ومشوشة، ولكن بدأ يراودها شعور مؤقت وساذج من المرح. كان بإمكانها رؤية العملات تنهمر فوقهما كسيول أو كعواصف ثلجية؛ ما أروع الرعونة التي سادت المكان! ويا لها من نزوة لطيفة!

حاولتا عد العملات، ولكنهما ظلتا ترتبكان في العد، فشرعتا بدلًا من ذلك في اللعب بها، بإسقاطها عبر أصابعهما بتباهٍ وفخر. كان وقتًا متأخرًا من الليل طغى عليه العبث واللهو، في المطبخ المستأجر على الجبال، ذلك المكان الذي وُجدت فيه الوفرة والسخاء حيثما لم تكن لتبحث عنها؛ لتتقاطع خيوط الخسارة مع الحظ. كانت واحدة من المرات القليلة، واحدة من الساعات القليلة، التي استطاعت فيها روز أن تقول بحق إنها ليست تحت رحمة الماضي، أو المستقبل، أو الحب، أو أي شخص. وتمنت أن يكون الأمر كذلك بالنسبة لآنا.

كتب لها توم خطابًا طويلًا امتلأ حبًّا ودعابة وتحدث فيه عن القدر. كان خطاب هجر وانسحاب امتلأ شجنًا وارتياحًا من الألم والعذاب، كتبه لها قبل أن يرحل إلى إنجلترا. لم يكن لدى روز أي عنوان له هناك، وإلا لكان من المحتمل أن تكتب له راجية إياه أن يعطيهما فرصة أخرى. فتلك كانت طبيعتها.

سرعان ما انقضت تلك العاصفة الثلجية الأخيرة لذلك الشتاء، مخلِّفة وراءها بعض الفيضان في الأودية. كتب لها باتريك يخبرها بأنه سيأتي في يونيو، بعد انقضاء الدراسة، وأنه سيأخذ آنا لتقضي معه الإجازة الصيفية. قال إنه يرغب في البدء في إجراءات الطلاق؛ لأنه قابل فتاة يريد أن يتزوجها. كان اسمها إليزابيث، وقال عنها إنها إنسانة رائعة متزنة.

وتساءل باتريك إن كانت روز تعتقد أنه قد يكون من الأفضل لآنا أن تستقر في منزلها القديم في العام القادم، في المنزل الذي طالما عرفته، وأن تعود إلى مدرستها القديمة وسط أصدقائها القدامى (كان جيريمي دائم السؤال عنها) بدلًا من التسكع معها في حياتها الجديدة المستقلة. ألا يكون من المحتمل — وهنا فكرت روز أنها سمعت صوت فتاته المتزنة ينطلق من كلماته — أنها تستخدم آنا لتمنح نفسها بعض الاستقرار والاتزان، بدلًا من مواجهة عواقب الطريق الذي اختارته لنفسها؟ بالطبع، والحديث لباتريك، يجب أن تمنح آنا حقها في الاختيار.

أرادت روز أن ترد على خطابه بأنها كانت تود أن تجعل من هذا المكان منزلًا لآنا، ولكنها لم تستطع القيام بذلك في الحقيقة؛ فلم تعد راغبة في البقاء هنا، فقد تلاشى سحر وصفاء تلك البلدة بالنسبة لها، وكان الراتب هزيلًا، بما لن يمكِّنها من تحمُّل نفقات أي شيء سوى هذه الشقة الزهيدة، وربما لن يتسنى لها الحصول على وظيفة أفضل أو حبيب آخر. كانت تفكر في التوجه شرقًا، إلى تورونتو، لتبحث عن عمل هناك مع إحدى المحطات الإذاعية أو التليفزيونية، وربما حتى بعض الأدوار التمثيلية. أرادت أن تأخذ آنا معها، وأن تستقرا مرة أخرى في مسكن مؤقت. كان الأمر مثلما قال باتريك. لقد أرادت أن تعود من أجل آنا، أن تملأ حياتها بآنا، ولم تكن لتفكر أن آنا لن تختار تلك الحياة لنفسها؛ فالطفولة البائسة غير المعتادة التي تتسم بكثرة التجوال وعدم الاستقرار لا تروق كثيرًا للأطفال على الرغم من أنهم سيدَّعون أنهم يقدرونها كثيرًا، لمختلف أنواع الأسباب، فيما بعد.

نفقت السمكة المرقطة أولًا، تبعتها السمكة البرتقالية، ولم تقترح روز أو آنا الذهاب مرة أخرى إلى متجر وولورث حتى يتسنى للسمكة السوداء أن يكون لها رفيق، فقد بدا وكأنها لا ترغب في أية رفقة؛ فقد فرضت سيطرتها الكاملة على حوض السمك بمفردها بعينيها الجاحظتين الواسعتين، ومظهرها الشرير والارتياح الذي بدت عليه.

أخذت آنا على روز عهدًا بألا تلقي بها في المرحاض بعد رحيلها، ووعدتها روز بذلك، وقبل أن تغادر إلى تورونتو توجهت إلى منزل دوروثي حاملة معها حوض السمك لتقدم لها تلك الهدية غير المرغوبة. تقبَّلتها دوروثي بلطف ودماثة، وقالت إنها ستسميها على اسم الرجل الذي قابلته في سياتل، وهنأت روز على الرحيل.

•••

ذهبت آنا لتعيش مع باتريك وإليزابيث، وبدأت في تلقِّي دروس الدراما والباليه؛ فقد كانت إليزابيث تؤمن بضرورة أن يكون للأطفال إنجازات، وأن يظلوا منشغلين. ومنحاها السرير ذا الأربعة أعمدة، وصنعت له إليزابيث ظُلة شفافة ومفرشًا، وصنعت لآنا رداءً للنوم وقبعة تتلاءم معه.

أحضرا هرة صغيرة لآنا، وأرسلا لروز صورة لها وهي جالسة مع القطة على السرير، تبدو عليها ملامح الرزانة والرضا في وسط كل هذه المنسوجات المزدانة بالورود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤