الرسالة الحادية عشرة

من الجسمانيات الطبيعيات في مسقط النطفة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وكَفى، وسَلامٌ على عِباده الذين اصطفى، آلله خيرٌ أمَّا يُشرِكون.

(١) فصل

اعلم أيها الأخ البار الرحيم — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن الحكمة الإلهية دبرت والعناية الربانية قدَّرت مكْث كل واحد وكل حادث في الكون زمانًا معلومًا، وهو مقدار ما تفيض الأشكال الفلكية قواها كل واحدة بحسب قبول أشخاص ذلك النوع من الكائنات التي تحت فلك القمر لا يعلم تفصيلها إلا الله — عزَّ وجلَّ، ولكن نذكر منها طرفًا ليكون دليلًا على الباقي.

من ذلك مكث الإنسان في الرحم من يوم مسقط النطفة إلى يوم خروج الجنين يوم الولادة ثمانية أشهر ٢٤٠ يومًا الذي هو المكث الطبيعي، وأما الذي يزيد على هذا المقدار وينقص عنه، فلعللٍ وأسباب يطول شرحها، ونريد أن نذكر تأثيرات الكواكب السبعة في النطفة وفي الجنين واحدًا واحدًا وشهرًا شهرًا ليكون قياسًا على سائر المواليد من الحيوانات والحوادث والكائنات، وقبل ذلك نحتاج أن نذكر أحوال الكواكب السبعة ذكرًا مجملًا، إذ كانت هي العلل الموجبة لاختلاف أحوال الكائنات.

واعلم يا أخي بأن كل كوكب فله في فلكه، أعني فلك تدويره، أربعة أحوال، ومن الشمس أربعة أحوال، ولفلك تدويره في فلك الحامل أربعة أحوال، وفي فلك البروج أربعة أحوال، فتلك ستة عشر حالًا جنسية، فإذا ضُربت في مِثلِها كانت مائتين وستة وخمسين حالًا نوعية، فإذا ضربت ذلك في ثلاثمائة وستين درجة كانت اثنين وتسعين ألفًا ومائة وستين حالًا شخصية.

فأما تفصيل أحوال الكواكب في أفلاك تداويرها فهي أن تكون صاعدة إلى ذرواتها أو هابطة من هناك أو راجعة أو مستقيمة، وأما أحوالها من الشمس فهي أن تكون مقارنة لها أو مقابلة لها أو مشرقة منها أو مغربة.

وأما أحوال أفلاك التداوير في الأفلاك الحاملة فهي أن تكون مراكزها في الأوج أو في الحضيض أو صاعدة من الحضيض إلى الأوج أو هابطة من الأوج إلى الحضيض.

وأما فلك البروج فهي أن تكون ذاهبة من الهبوط إلى الشرف أو من الشرف إلى الهبوط أو تكون في البروج الشمالية أو الجنوبية أو في المعوجة أو في المستقيمة أو يكون عرضها وميلها في الجنوب أو في الشمال أو يكون عرضها في الجنوب وميلها في الشمال أو عكس ذلك، وكل هذه الأحوال تختلف تأثيراتها في الكائنات بحسب الأزمان والأماكن والأجناس والأنواع اختلافًا كثيرًا لا يُحصِي عددَه إلا الله — عزَّ وجلَّ — ولكن نذكر طرفًا منه.

واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن جميع الكائنات التي تحت فلك القمر ثلاثة أجناس، وهي الحيوانات والنبات والمعادن، وهي الأصول المحفوظة في الهَيُولَى صورتها.

وأما الأنواع فهي أقسامها المتفرِّعة منها، وأما الأشخاص فهي أعيانها التي هي دائمة في الكون والفساد والسيلان، وأما هيولاها فهي الأركان الأربعة التي هي: النار والهواء والماء والأرض، وأما الصانع الفاعل لها فهي النفس الكلية الفلكية السارية في محيط الأفلاك بإذن خالِقها وباريها ومصوِّرها، وأما الكواكب فهي كالأدوات للصانع، ذلك تقدير العزيز العليم.

(٢) فصل في كيفية اعتبار أفعال الطبيعة في الأركان الأربعة وتأثيرات النفوس وفي المولدات الكائنات تحت فلك القمر

اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأنك إذا دخلت أسواق المُدُن ونظرتَ بعينَيْ رأسك إلى الصناع البشريين ورأيتَهم كيف يعملون صنائعهم في الهَيُولَى الموضوعة لهم كما بيَّنَّا في رسالة الصنائع العملية، فينبغي أن تنظر عند ذلك إلى القوى الطبيعية التي هي نفوس جزئية منبثَّة من النفس الكلية الفلكية السارية في الأركان التي هي لها كالهَيُولَى الموضوعة، وإلى أشخاص الحيوان والنبات والمعادن التي هي مصنوعاتها، وإلى الكواكب التي هي كالأدوات لها، فلعلك تُبصِر بنور عقلك وترى بصفاء جوهر نفسك القوى الروحانية السارية في هذه الأجسام، وتُعايِن كيفية أفعالها فيها وبها ومنها فتعرف عند ذلك نفسك؛ لأنها واحدة منها.

واعلم بأن مثل الأركان الأربعة التي هي الأمهات في جوف الفلك كاللَّبَن في الوعاء وحركات الكواكب من محيط الأفلاك كالمخض به، والكائنات عنها كالزبدة المجتمعة من لطائفها.

ثم اعلم أنه إذا تمخَّضت الأركان من تحريك الأشخاص الفلكية لها، واجتمع من لطائف زبدتها شيء وشَخَص وامتَازَ عن البسائط ربطت به في الوقت والساعة قوة من قوى النفس الكلية الفلكية في أي مكان كان ذلك الشيء من البر والبحر والهواء والنار في أي وقت كان من الزمان وتشخص تلك القوة وتمتاز عن سائر القوى لتعلُّقها بتلك الزبدة واختصاصها بتلك الجملة، فعند ذلك تُسمى تلك القوة نفسًا جزئية، وعند ذلك تقع الإشارة إلى تلك الجملة؛ لأنها حادث كائن حيوانًا كان أو نباتًا أو معدنًا.

واعلم يا أخي أنه لا بد من أن يكون ذلك الوقت وتلك الساعة درجة طالعة من أفق المشرق من الفلك على أفق تلك البقعة التي حدثت تلك الزبدة هناك، ويكون شكل الفلك ومواضع الكواكب على هيئة ما يصور من أصحاب الأحكام في زائجات المواليد والتحاويل والمسائل، فعند ذلك يُضاف إلى تلك القوة قوى روحيات سائر الكواكب، وتجذب معها تلك الزبدة المواد المشاكِلة لها، ويكون قبولها بحسب ما في طباع أشخاص أنواع ذلك الجنس من الأفعال والأخلاق والخواص حيوانًا كان أو نباتًا أو معدنًا.

أمثال ذلك: أنه إذا جرت نطفة الإنسان التي هي زبدة دم الرجال واجتمعت في الإحليل عند حركة الجماع بعدما كانت منبثَّة في أجزاء الدم متفرقة في خلل البدن وخرجت من الإحليل وانصبَّتْ في الرحم واستقرَّت هناك ربطت بها في الوقت والساعة قوى من قوى النفس النباتية السارية في جميع الأجسام النامية التي هي أيضًا قوًى من قوى النفس الطبيعية السارية في جميع الأركان الأربعة والتي هي أيضًا قوة منبثة من النفس الكلية الفلكية السارية في جميع الأجسام الموجودة في العالم، كما بيَّنَّا في رسالة معنى قول الحكماء: إن الإنسان عالَم صغير والعالَم إنسان كبير.

فصل في أن للنفس النباتية سبع قوًى

ثم اعلم يا أخي أن للنفس النباتية سبع قوًى فعالة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصوِّرة، وأن أول فعلها عند استقرار النطفة في الرحم هو جذبها دم الطمث إلى الرحم وإمساكها لها هناك وهضمها.

ثم اعلم يا أخي بأنه إذا جذبت هذه القوة الدم إلى هناك أخفته حول النطفة وأدارته عليها كما يدور بياض البيض حول محِّها، فيكون عند ذلك حول النطفة كالمحة ودم الطمث حولها كالبياض، ثم إن حرارة النطفة تسخن رطوبة الدم فتنضجها، فتسخن وتنعقد تلك الرطوبة، فتصير علقة كما ينعقد اللبن الحليب من الأنفحة، وتستولي عند ذلك على تلك الجملة قوى روحانيات زُحَل، وتَبقَى في تدبيراتها بمشاركة قوى روحانيات سائر الكواكب شهرًا واحدًا ثلاثين يومًا سبعمائة وعشرين ساعة كما ذكر ذلك في كتب أحكام النجوم بشرح طويل، ونريد أن نذكر من ذلك طرفًا ليكون دستورًا لما أن نتكلم فيما بعد.

واعلم يا أخي بأن ابتداء تدبير النطفة إنما صار لزُحَل من أجل أنه أعلى الكواكب السيارة فلكًا مما يلي فلك الكواكب الذي هو مكان الجواهر الشريفة ومنصبُّ القوى الروحانية ومعدن النفس القدسية ومستقر الأرواح الخَيِّرة ومبدأ القوى العقلية والملائكة العلامة المفكِّرة والأجرام النيِّرة الشفَّافة، ومن هناك تنزل الملائكة بالوحي والتأييد والأنباء والخير والبركات، وإلى هناك يُصعَد بالأعمال الصالحة وإليه يُعرَج بأرواح المؤمنين وأنفس الأخيار من عباده الصالحين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، كما بيَّنَّا في رسالة البعث والقيامة.

فانتبه يا أخي من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، واستعدَّ للرحلة من هذه الدار، وتزوَّد فإن خير الزاد التقوى، فلعل نفسك توفَّق إلى الصعود إلى هناك فتُجازَى بأحسن الجزاء؛ لأن مِن هناك وُرُودها إلى هذا العالم وإلى هناك يكون مرجعها ومستقرُّها، كما بيَّنَّا في رسالة الأدوار والأكوان.

ثم اعلم يا أخي بأنه ما دام التدبير لزحل إلى تمام شهر ثلاثين يومًا، فإن تلك العلقة تكون باقية بحالها غير مختلطة ولا ممتزجة، بل جامدة متمسكة جارية إليها المواد لغلبة برد زحل وسكونه وثقل طبيعته إلى أن يدخل الشهر الثاني ويصير التدبير للمشتري الذي فلكه يتلو فلك زحل، وتستولي عليها قوى روحانيته، فيولد عند ذلك في تلك العلقة حرارة، وتسخن ويعتدل مزاجها، ويختلط الماءان ويمتزج الخلطان ويعرض لتلك الجملة حركة مثل الاختلاج والارتعاش والهضم والنضج، فلا تزال هذا حالها ما دامت في تدبير المُشتَرِي إلى تمام شهرين، ثم يدخل الشهر الثالث ويَصير التدبير للمِرِّيخ الذي يلي المُشتَرِي في الفلك، وتستولي على تلك العلقة قوى روحانيته ويشتد اختلاجها وارتعاشها ويتولد فيها فضل حرارة وسخونة وتصير تلك العلقة مضغة حمراء، فلا تزال تتقلب حالًا بعد حال من النضج والاستحكام بمشاركة قوى روحانيات سائر الكواكب للمِرِّيخ إلى تمام ثلاثة أشهر، ثم يدخل الشهر الرابع ويصير التدبير للشمس رئيسة الكواكب وملكة الفلك وقلب العالم بإذن الباري — جلَّ ثناؤه.

(٣) فصل في كيفية حال الجنين في الشهر الرابع

واعلم يا أخي بأنه إذا دخل الشهر الرابع من مسقط النطفة وصار التدبير للشمس، واستولت على المضغة قوى روحانياتها نفخت فيها روح الحياة وسرت فيها النفس الحيوانية؛ وذلك لأن الشمس هي رئيسة الكواكب في الفلك ونفسها هي روح العالم بأسره وهي المستولية على الكائنات التي دون فلك القمر وخاصة على مواليد الحيوانات ذوي الرحم وأشد اختصاصًا بمواليد الإنس، وذلك أن جرمها في العالم بمنزلة جرم القلب في البدن وسائر أجرام الكواكب والأفلاك بمنزلة أعضاء البدن ومفاصل الجسد، وسريان قوى روحانياتها في العالم كسريان الحرارة الغريزة المنبثَّة من القلب السارية في أعضاء البدن.

وأما سائر قوى روحانيات الكواكب فهي لها كالجنود والأعوان والخدم، كل ذلك بإذن الباري — جلَّ ثناؤه — وذلك تقدير العزيز العليم فتبارك الله أحسن الخالقين.

ثم اعلم يا أخي أنها بمسيرها في حدود الكواكب في البروج وشدة إشراق نورها وسريان قوى روحانياتها تحطُّ من الفلك إلى عالَم الكون والفساد الذي تحت فلك القمر من قوى روحانيات الكواكب والأفلاك والبروج في كل يوم ساعة في درجة ودقيقة ألوانًا من التدبير والتأثير غير ما في يوم آخَر وساعة أخرى لا يبلغ فهم البشر كنه معرفته، ولكن نذكر من ذلك طرفًا ليكون قياسًا على ما قلناه ودليلًا على ما أوضحناه ووصفناه، وذلك أنه إذا سقطت نطفة في الرحم، فلا بد أن تكون الشمس في درجة من برج من الأبراج فإذا بلغت بمسيرها أربعة أشهر من مسقط النطفة إلى آخر البرج الرابع، وقد قطعت من الفلك ثلث الدور، وهو من المسافة بمقدار ما بين شرفها إلى بيتها تكون قد استوفت طبائع البروج النارية والترابية والهوائية والمائية.

وعند ذلك تكون قد اختلطت الطبائع من الأركان الأربعة في تركيب بنية الجنين، واعتدل المزاج، وانتقشت الصورة، وأنشئت الخلقة، وظهرت أشكال العظام، وركبت المفاصل، وتهندم التركيب، والتفَّتِ الأعصاب على المفاصل، وامتدَّت العروق في خلل اللحم، وظهرت البنية مخلَّقة وغير مخلَّقة.

(٤) فصل في كيفية الجنين في الشهر الخامس

اعلم يا أخي بأنه إذا دخل الشهر الخامس وسارت الشمس إلى البرج الخامس المسمَّى بيت الولد الموافق طبيعته للبرج الذي كان فيه يوم مسقط النطفة، وصار التدبير للزهرة الساعد الأصغر وصاحبة النقش والتصاوير، واستولى على المخلَّقة قوى روحانياتها استتمت الخِلْقة، واستكملت البنية، وظهرت صورة الأعضاء، واستبان رسم العينين، وانشق المنخران، وانفتح الفم وثقب الأذنين ومجرى السبيلين، وتميزت المفاصل، ولكن الجنين يكون مجموعًا منضمًّا منقبضًا كأنه مصرور في صرة ركبتاه مجموعتان إلى صدره ومرفقاه منضمَّان إلى حقويه، وهو منكس رأسه على ذقنه وعلى ركبتيه، وكفَّاه على خدَّيْه، وهو شبه نائم محزون.

فلو رأيتَه يا أخي لرحمتَه لضِيق مكانِه وضعف أحواله، ولكنه لا يحس بما هو فيه رفقًا من الله — تعالى — بخلقه ولطفًا بهم، وتكون سُرَّته متصلة بسُرَّة أمِّه تمتص الغذاء منها إلى يوم الولادة، ويكون وجهه إن كان ذكرًا مما يلي ظهر أمه، وإن كان أنثى فعكس ذلك.

فانظر يا أخي في هذا الفعل وتفكَّر فيما ذكرنا، فلعل نفسك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، فترى بعين قلبك هذا الصانع الحكيم كما رأيتَ بعينَيْ رأسِك مصنوعاته، ولا تتبع سبيل الذين لا يعلمون.

واعلم يا أخي بأن كثيرًا من الحيوانات تتوالد في هذه المدة المذكورة مثل الغنم والظباء وبعض السباع وكل حيوان لا يحتمل الحمل والكَدَّ.

ومنها ما يتأخَّر ولادتها إلى تمام ستة أشهر وتسعة أو عشرة أو اثني عشر لأغراض أخرى قد بيَّنَّاها في رسالة الحيوان، ونحن نذكر في فصل آخَر من هذه الرسالة ما الغرض في تأخير ولادة الإنسان إلى تمام ثمانية أشهر ومكث الجنين في الرحم إلى الشهر التاسع.

(٥) فصل في كيفية حال الجنين في الشهر السادس

ثم اعلم أنه عند دخول الشهر السادس يصير التدبير لعُطَارد، وتستولي عليه قوى روحانياته، فيتحرك عند ذلك الجنين في الرحم ويركض برجليه ويمد يديه ويبسط جوارحه ويضطرب ويحس بمكانه ويفتح فاه ويحرك شفتيه ويتنفس من منخريه ويدير لسانه في فيه، فيكون تارةً متحركًا وتارةً يسكن وتارةً ينام وتارةً يستيقظ، فلا يزال ذلك دأبه إلى أن يتم الشهر السادس ويدخل الشهر السابع، ويصير التدبير للقمر، وتستولي عليه قوى روحانياته فيربو لحم الجنين حينئذٍ وتسمن جثته وتنتصب قامته وتشتد أعضاؤه وتصلب مفاصله وتقوى حركته ويحس بضيق مكانه، ويطلب التنقل والخروج، فإن قُدِّر له ذلك بما يوجب أحكام النجوم بأسباب يطول شرحها وخروجها على المجرى الطبيعي، وكان الجنين كاملًا عاش وتربَّى وعُمِّر، وإن بقي هناك إلى أن يدخل الشهر الثامن وتدخل الشمس بيت الموت ويرجع التدبير إلى زُحَل من الرأس فتستولي عليه قوى روحانياته عرض للجنين ثقل وسكون وغلب عليه البرد والنوم وقلة الحركة، فإن ولد في هذا الشهر كان بَطِيء النشوء ثقيل الحركة قليل العمر، وربما كان ميتًا، وإذا دخل الشهر التاسع وانتقلت الشمس إلى البرج التاسع بيت النقلة والأسفار ورجع التدبير إلى المُشتَرِي السعد الأكبر واستولت عليه قوى روحانياته واعتدل المزاج وقويت روح الحياة ظهرت أفعال النفس الحيوانية في الجسد؛ لأن الشمس تكون قد استوفت طبائع البروج المثلثات النارية والمائية والهوائية والترابية مرتين في الثمانية الأشهر.

وقد سارت الشمس في فلك البروج مائتين وأربعين درجة، وهذه المسافة مقدار ما بين بيتها إلى شرفها التاسع من بيتها المتفقين في طبيعة واحدة، وتكون أيضًا في هذه المدة قد قَبِلَتْ طبيعة الجنين قوى روحانيات الكواكب المنحطة من الفلك مرتين بمسير الشمس في البروج المثلثات مرة إلى البرج الخامس ومرة إلى البرج التاسع، كما تقدم ذكرها، ويبقى مرة أخرى كما نبين بعد هذا الفصل، ويكون الذي يبقى للشمس إلى أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها وقت مسقط النطفة أربعة أبراج ومائة وعشرين درجة إلى تمام الدور.

فإذا خرج الجنين بعد ثمانية أشهر استأنف العمر في الدنيا لكل درجة سنة الذي هو العمر الطبيعي وهو المقدار الذي بقي للشمس إلى أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها يوم مسقط النطفة ليستوفي الإنسان طبائع البروج مرة ثالثة حتى يتم ويكمل.

وأما الذي يزيد وينقص عن هذا المقدار فلأسباب وعلل يطول شرحها، وهي مذكورة في كتاب أحكام النجوم ومكث الأجنة وأعمار المواليد، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في رسالة العلل والمعلولات، ولكن نذكر من ذلك طرفًا ليكون دليلًا على ما وصفنا.

واعلم يا أخي بأن الكائنات التي تحت فلك القمر تبتدئ من أنقص الحالات وأدْوَنها مترقِّية إلى أتمِّها وأفضلها، ويكون ذلك في مر الزمان والأوقات؛ لأن طبيعتها لا تقبل فَيْض أشخاص فلكية دفعة واحدة، ولكن شيئًا بعد شيء على التدريج كما يقبل المتعلم الذكي من الأستاذ الحاذق.

واعلم بأن فيضات الكواكب من محيط الأفلاك متصلة نحو مركز الأرض في دائم الأوقات، ولكنها مفننة الألوان متغايرة الأشكال، وذلك بحسب مواضعها من أفلاكها وموازاتها من فلك البروج وحدودها كما نبين بعد هذا الفصل.

واعلم يا أخي بأن الحكمة الإلهية والعناية الربانية قد جعلت لكل كائن من الموجودات تحت فلك القمر مقدارًا من الوجود والبقاء معلومًا مقدرًا أو يكون ذلك بمقدار دور شخص من الأشخاص الفلكية، كما بينَّا طرفًا منه في رسالة ماهية الطبيعة، ولكن نذكر من ذلك أيضًا ها هنا مثالًا واحدًا من الأشخاص الإنسانية، وذلك أن نطفة الإنسان إذا سقطت في الرحم فإن مكثها الطبيعي إلى أن تقبل صورة الإنسانية أربعة أشهر بمقدار ما تسير الشمس أربعة أبراج مائة وعشرين درجة، وتستوفي بمسيرها طبائع البروج والمثلثات مرة واحدة، فعند ذلك يبقى الجنين إلى يوم الولادة أربعة أشهر أُخَر، وهو مقدار ما تسير الشمس أربعة أبراج مائة وعشرين درجة، وتستوفي بمسيرها طبائع البروج المثلثات مرة أخرى، وبذلك يبقى لها أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها يوم مسقط النطفة مائة وعشرين درجة، فيستوفي المولود العمر الطبيعي في الدنيا مائة وعشرون سنة لكل درجة بقيت للشمس سنة.

واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن أفعال الكواكب وتأثيرات قوى روحانياتها في الأربعة الأشهر الأول تكون مصروفة إلى تأسيس بنية الجسد وتكوين أعضائه المختلفة وسريان قوى النفس النباتية، وذلك أن لكل عضو من الجسد مثل القلب والكبد والدماغ والمعدة والرئة والطحال والأمعاء والعروق والأعصاب والعظام والعضلات والمخ والجلد وما شاكلها خلقة خلاف ما لعضو آخر، ولكل خلقة تركيب ولتركيبه أخلاط ولتلك الأخلاط أمزجة، ولتلك الأمزجة طبائع مختلفة في الكمية، وفي الكيفية من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة خلاف ما للآخر كما ذكر ذلك في كتاب التشريح بتطويل، وكما ذكرنا ذلك في كتاب طبائع الأغذية ودرجات قواها، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في رسالة النبات، وللنفس النباتية في كل عضو فعل طبيعي خلاف ما في عضو آخر كما بيَّنَّا في رسالة نشوء الأنفس الجزئية.

(٦) فصل في أن بنية الجسد وتركيب أعضائه يتم في أربعة أشهر

اعلم يا أخي أن بنية الجسد وتركيب أعضائه يتم في هذه الأربعة الأشهر؛ لأن الشمس التي هي رُوح العالَم في هذه المدة بمسيرها في أربعة أبراج المثلثات تكون قد حطَّتْ طبائع تلك الأبراج من محيط الأفلاك إلى عالم الكون والفساد الذي دون فلك القمر، وتكون قد سَرَتْ قوى روحانيات الكواكب التي فوق الأرض في بنية الجسد، وركزت في مراكزها، كما بيَّنَّا في رسالة أفعال الروحانيات، وعلة أخرى أيضًا أن في هذه الأربعة الأشهر تكون قد اجتمعت من مادة بنية الجسد ما تحتاج إليه الطبيعة الفاعلة، وذلك يوم مسقط النطفة؛ إذ تكون تلك المادة هناك مجتمعة؛ لأن الطبيعة كانت تدفعها إلى خارج البدن في أيام الحيض، فإذا استقرَّتِ النطفة في الرحم جذبت عند ذلك تلك المادة إلى نفسها كما تجذب نار السراج الدهن بالفتيلة إلى نفسها، وكما يجذب حجر المغناطيس الحديد إلى نفسه، فإذا حصل ذلك الدم حفَّ حول النطفة كما يحفُّ بياض البيضة حول محِّها، ثم إن حرارة النطفة تسخن ذلك الدم وتجمده كما تفعل الأنفحة باللبن الحليب، وهو أول فعل يكون من قوى روحانيات زُحَل في النطفة؛ لأن مِن خاصَّة أفعاله إمساك الصورة في الهَيُولَى والسكون والثبات.

وأما تأثيرات الكواكب من البروج في الأربعة الأشهر الثانية فتكون مصروفة إلى تتميم بنية الجسد وإحكام خِلْقة الأعضاء لكيما تسري فيها قوى النفس الحيوانية، ويُمكِنها إظهار أفعالها.

وذلك أن الشمس في هذه المدة بمسيرها في الأبراج المثلثات الأُخَر تحطُّ تلك القوى مرة أُخرَى، فإذا تمَّتِ البنية واستحكمت الخلقة سرت فيها قوى النفس الحيوانية، ونقلت تلك الجملة من الرحم إلى فسحة هذا العالم، واستوفت به تدبيرًا آخَر أربع سنين لكيما تكمل البنية، وتستحكم الصورة، ويمكن أن تسري فيها القوى الناطقة وتَظهَر أفعالها فيها، وذلك أن تلك القوات الروحانية تصرف تأثيراتها وأفعالها إلى تربية المولود وأحكام إدراك الحواس محسوساتها ثم ترد النفس الناطقة وينطلق لسان المولود بالعبارة عن معاني تلك المحسوسات وتمييزها.

(٧) فصل في أن الكواكب لا يمكن أن تفعل تأثيراتها في شهرين ولا ثلاثة

واعلم يا أخي أنه لا يمكن أن تفعل هذه الكواكب هذه الأفعال والتأثيرات في شهرين ولا ثلاثة إلى ما هي عليه الآن كما بيَّنَّا، ونضرب لذلك مثلًا محسوسًا من مصنوعات البشر كيما يُتصوَّر مصنوعات الطبيعة.

ذلك أن البناء إذا أراد بناء دار، فإنه يصرف أولًا همَّتَه وأفعالَه مدة ما في تأسيس البناء ورفع الحيطان وإقامة الأعمدة وعقد الأبراج وتسقيف البيوت ليتبيَّن أولًا رسم الدار ويتمم البيوت والممرات والمجالس، وهذه مدة تكوين الدار وإيجادها، ثم يصرف عنايته وتدبيره بعد ذلك في تتميمها من تعليق الأبواب والشبابيك ونصب البازير وتزيين السطوح وتجصيص الحيطان، وتزويق السقوف والنقوش، وما شاكلها من التتميم، ثم يبقى بعد ذلك كمال الدار، وهو أن تُفرَش وتُعلَّق الستور وتُملأ الخزائن من الأموال والأثاث، ويسكنها رب الدار ويتمتع إلى حين.

فهكذا يجري يا أخي أمر تركيب جسد الإنسان واقتران النفس معه من يوم مسقط النطفة وتعلق النفس بها إلى يوم يموت الجسد، وهو أن تفارق النفس الجسد ويدفن في التراب، وهذه المدة هي بمقدار دَوْر واحد من أدوار تلك الأشخاص الفلكية كما بيَّنَّا في رسالة الأدوار والأكوان.

فلا ينبغي لك يا أخي أن تتوهم أو تظن أن هذه الكواكب والأفلاك والبروج التي ذكرنا أفعالها وتأثيراتها في تركيب الجسد الإنساني هي آلات وأدوات للباري — جلَّ ثناؤه — يخلق بها الإنسان، بل إنما هي آلات وأدوات للنفس الكلية الفلكية، وهذه النفس هي عبدٌ مُطيع للباري — تعالى — فقد أيَّدها بالعقل الكلي الذي هو مَلَك من ملائكته المقرَّبين: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ»، كما ذكر في كتابه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وآله، وستعلم يا أخي حقيقة هذه الأسرار والمرامي إذا انتبهتَ لنفسك من نوم الغفلة، واستيقظتَ من رقدة الجهالة، وارتفعتَ في المعارف الربانية، وارتَضْتَ في العلوم الإلهية إذا بعثتَ يوم القيامة، وشاهدتَ ملكوت رب العالمين، ووقفتَ على جبل الأعراف مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

وإذ قد فرغنا من ذكر تأثير الكواكب في النطفة مجملًا فنزيد أن نذكر طرفًا من تأثيراتها في كل شهر وتردادها في أفعالها إذا كان بعضها في بيوت بعض وحدودها.

واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن للأشخاص الفلكية الموجودات التي تحت فلك القمر من الحيوان والنبات والمعادن، وفي كل جنس منها تأثيرات مختلفة بحسب قبول كل نوع منها، ولكل نوع من تلك الأجناس تأثيرات مفننة بحسب أماكنها المختلفة، ولها في كل شخص من أشخاص تلك الأنواع تأثيرات متباينة بحسب قبولها في أزمان مختلفة في طول أعمارها لا يُشبِه بعضها بعضًا، ولا يبلغ فهم البشر كُنْهَ معرفتها، ولا يعلمها إلا الله — تعالى — ولكن نذكر منها مثالًا واحدًا ليكون قياسًا على الباقية، ونجعل المثال من شخص إنسان واحد، ونذكر فنون تأثيراتها فيه من يوم تسقط النطفة إلى يوم الولادة مدة تسعة أشهر ذكرًا مجملًا؛ إذ كان شرحها يطول، ثم نذكر فصلًا آخَر في فنون تأثيراتها فيه من يوم الولادة إلى يوم يموت، وهو آخِر العمر الطبيعي سنة سنة بقول وجيز؛ ليكون قياسًا على سائر المواليد من الكائنات تحت فلك القمر، فنقول: اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن تأثيرات الكواكب تختلف في الكائنات من جهات شتَّى تارةً منها من جهة اختلاف أحوالها في أفلاكها من الصعود إلى أوجاتها، أو من جهة النزول من هناك إلى الحضيض، وتارةً من جهة العرض والميل في الجنوب والشمال، وتارةً من جهة نسبتها إلى الشمس من التشريق والتغريب والرجوع والاستقامة والوقوف، وتارةً من جهة كونها في موازنة بعضها ببعض، وتارةً من جهة اختلاف مسامتها لبقاع الأرض وانحرافاتها منها في الأوتاد وما يليها أو ما يزول عنها، وتارةً من جهة اختلاف الشتاء والصيف والربيع والخريف والليل والنهار، وساعاتهما وأوائل الشهور وأواخرها وما شاكل ذلك، يعرف اختلاف هذه الأحوال أهل المَجَسْطي.

وأما اختلاف تأثيراتها في هذه الأحوال فيعرفها أصحاب الأحكام الذين يتكلمون على أحكام المواليد.

وأما معرفة كيفية وصول قوى الأشخاص الفلكية إلى هذه الأشخاص السفلية، فيعلمها الربانيون الناظرون في علم النفس، وقد بيَّنَّا طرفًا منها في رسالة أفعال الروحانيات.

(٨) فصل في كيفية تأثيرات الكواكب

واعلم يا أخي أن هذه الأشخاص الفلكية لما كانت موضوعة بعضها من بعض على النسبة الموسيقية من ثلاثة أنواع أحدها نسبة أعظام بعضها عند بعض، والآخَر نسبة أبعاد مراكزها بعضها من بعض، ومن الأركان الأربعة، وكذلك الثالث نسبة حركاتها في سرعة وإبطاء، فمِن أجْل ذلك إذا عرضَتْ لها تلك الحالات المختلفة التي تقدَّم ذكرها في الفصل الأول اختلفتْ مناسباتها، فعند ذلك تختلف تأثيراتها في الكائنات بحسب اختلاف النسبة كما تختلف أصوات الموسيقى ونغماتها عند طول الأوتار وقصرها ودقتها وغلظها وسرعة حركات المضراب وإبطائها، فتختلف عند ذلك تأثيراتها في نفوس المستمعين بحسب اختلاف طبائعهم وآرائهم وأخلاقهم كما بيَّنَّا طرفًا من ذلك في رسالة الموسيقى.

فصل في أن الموجودات التي دون فلك القمر

واعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن الموجودات التي دون فلك القمر كلها موضوعة لقبول تأثيرات الكواكب، ولكن لما كانت جواهرها مختلفة اختلف قبول تأثيراتها، وهي كثيرة الأنواع لا يُحصِي عددَها إلا الله — جلَّ ثناؤه — ولكن يجمعها كلَّها جنسان: جواهر جسمانية وجواهر روحانية، فالجسمانية هي أجسام الأركان الأربعة ومولداتها الكائنات منها من المعادن والنبات والحيوان، والجواهر الحيوانية هي نفوس الحيوانات أجمع.

فصل في فنون تأثيرات الكواكب

واعلم يا أخي بأن فنون تأثيرات الكواكب في هذه الأجسام كثيرة لا يحصي عددها إلا الله — عزَّ وجلَّ — وقد ذكرنا طرفًا منها في رسالة الطبيعة، وطرفًا في رسالة الآثار العلوية، وطرفًا في رسالة الحيوانات، وطرفًا في رسالة الأكوان والأدوار، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفًا من تأثيراتها مما يخص الإنسان، أما في مزاج بنية جسده أو في طبع أخلاق نفسه كيف تكون تلك التأثيرات، ولأي علة تختلف أخلاق النفوس وطباعها، فإنها من أعجب تأثيرات الكواكب، وأشرف أفعالها، وأدق أسرارها، وألطف دلالاتها، ونريد أن نشرح طرفًا منها ليتضح ما قلنا، ويُفهَم ما وصفنا، ولكن نحتاج أولًا أن نذكر خواصَّ طِبَاعها وأعراض وحداتها، ثم نذكر كيفية تأثيراتها وعجائب دلالاتها فنقول: اعلم يا أخي — أيَّدك الله وإيَّانا برُوح منه — بأن كل كوكب في الفلك فإن الباري قد جعله لأمر ولغرض أقصى، فزُحَل هو كوكب الثبات والوقوف، خلقه الله — جلَّ ثناؤه — لتنبثَّ من جرمه القوى الروحانية، فتَسرِي في الموجودات لإمساك الصور في الهَيُولَى وثباتها وبقائها ودوامها، ولولا وجود زُحَل وكونه في الفلك لما تماسكت صورة في الهَيُولَى، وثبتت خِلْقة في مادة طرفة عين إلا سالتْ وذابتْ واضمحلَّتْ، يَعرِف صحة ما قلنا وحقيقة ما وصفنا العلماء الراسخون في علم الهيئات العارفون بحقائق الموجودات وكيفية نظام العالم، وماهية أسرار الخلقة.

واعلم يا أخي بأن زحل دليل الشهر الأول من مسقط النطفة كما وصفنا قبل، فإذا كان سليم المناحس والأحوال المذمومة سلمت تلك النطفة من الآفات العارضة بإذن الله تعالى، وهكذا حكم الحامل لتلك النطفة، فإذا كان بخلاف ذلك كان بالعكس.

مثال ذلك: أنه متى كان زحل صاعدًا في فلكه مستقيمًا في سيره في حدِّ نفسه من البرج والدرجة، فإن تلك النطفة تكون مرتفعة إلى أعلى بطنها، خفيف عليها حملُها، سليمة من الأوجاع والأعلال.

وإن كان في حدِّ المُشتَرِي كانت فرحانة بحملها حسنة الظن بربها مستقيمة السلامة والتمام.

وإن كان في حد المِرِّيخ تكون نشيطة في أعمالها مستعجلة في أمورها، وإن كان في حد الزُّهَرة تكون المرأة مسرورة بحملها مستبشرة بولادتها، وإن كان في حد عُطَارد فإنها تكون عارفة بوقت حملها حاسبة لأيام شهورها.

وإن كان زحل هابطًا في فلكه راجعًا في مسيره مذمومًا في أحواله كان الأمر بخلاف ما وصفنا، ثم يدخل الشهر الثاني فيصير التدبير للمشتري بإذن الله — عزَّ وجلَّ — وهو كوكب الاعتدال، وعلة صحة المزاج في الكائنات، وسبب النظام والترتيب في الموجودات، وهو دليل العقل في الإنسان والفهم والتمييز والعلم والروية والفقه والدين والورع والتُّقَى والعدل والإنصاف والعفَّة والزهد، وما شاكل هذه من الخصال المحمودة في الدين.

وبالجملة كل خصلة يحتاج إليها صاحب الناموس في وضعه الشريعة وإجرائه السنة في الملة، وما يحتاج إليه أتباعه وأنصاره من الخلفاء والأئمة والعلماء والفقهاء والقضاة والعُبَّاد والزُّهَّاد، وبالجملة كل مَن يخدم في الناموس ويعاون فيه من ولاة الأمور وحكام الدين والشريعة.

فإذا كان المُشتَرِي صاعدًا في فلكه مستقيمًا في سيره محمودًا في أحواله انعجن في تلك المادة المجتمعة في الرحم، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة قبول هذه الخصال المقدَّم ذكرُها، إن قدَّر الله لها التمام والكمال.

فإن كان المُشتَرِي في حدِّ نفسِه من البروج والدرجة تكون تلك الخصال كلها وأحوالها مصروفة بهِمَّة نفسِه إلى أمور الدين والشريعة وأحكام الناموس، وتكون نفسه ملهمة من ربِّها أو بمَلَك من الملائكة، فيتكلم بالحكمة شبه النبوة، ويدعو الناس إلى الله، وإلى الدار الآخرة.

وإن كان المُشتَرِي في حدِّ زُحَل يكون المولود بعيد الغور غائص العلم يأتي بالعلامة والمعجزات.

وإن كان في حد المِرِّيخ يكون ذلك بالقهر والقوة والغلبة والجلادة.

وإن كان في حد الزُّهَرة يكون دعاؤه للناس بالرفق واللين والموعظة الحسنة.

وإن كان في حد عُطَارد يكون ذلك الكلام والحجاج والخصومة والجدال، وتكون هذه الخصال كلها أو أكثرها حقًّا وصوابًا ومقبولة جارية على السداد متى كان المُشتَرِي مقبولًا من رب بيته ومثلثته، وَمَن يُشاركه من الكواكب في تقاسيم أوقاته.

فإن كان المُشتَرِي غير مقبول في موضعه من أرباب حظوظه يكون ذلك وأكثره بحِيَل وعكس وتمويه ومخاريق، ويعرف صدق ما قلنا وصحة ما ذكرنا أصحاب أحكام النجوم والراسخون في العلم منهم.

وإن كان المُشتَرِي في الشهر الثاني هابطًا في فلكه أو راجعًا في مسيره مذمومًا في أحواله، فإن المولود يكون بَطِيء الذهن قليل الفهم بليدًا لا يفكر في شيء من الأمور إلا ما يَرَى ويسمع، أو يباشره بحواسه، مثل البهيمة لا تعرف إلا الأكل والشرب والنكاح، أو يتعلَّق بأمر المعاش في الحياة الدنيا، ويكون عن أمر الآخرة من الغافلين، إلا ما يُعلَّم ويُلقَّن تقليدًا وإيمانًا وتسليمًا.

ثم يدخل الشهر الثالث ويصير التدبير للمِرِّيخ، وهو ينبوع الحرارة والإسخان والنضج في الكائنات، وهو دليل الشجاعة والجسارة والصلابة والبسالة والتشمير والأنفة والحمية وما شاكلها من الخصال والأخلاق والطباع مما يحتاج إليه قادة الجيوش وأصحاب الحروب ومَن يتبعهم ويخدمهم ويعاشرهم.

فإن كان المِرِّيخ صاعدًا في فلكه مستقيمًا في سيره محمودًا في أحواله انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة التهيؤ والقبول لهذه الخصال، إنْ قدَّر الله لها التمام والكمال.

فإن كان المِرِّيخ في حدِّ نفسه من البرج والدرجة تكون تلك الخصال والأخلاق مصروفة أو أكثرها بهِمَّة نفسه إلى القتال والحروب والمبارزة ومباشرة الأقران وطلب الغلبة بالقهر والأنفة من الانقياد للغير والإذعان له.

وإن كان المِرِّيخ في حدِّ زُحَل اختلط مزاجهما واتحدت قوتاهما، وظهرت تلك الخصال المِرِّيخية من صاحبها بالتثبُّت والأناة والصبر والتوقف وقلة العجلة مع الحقد والغضب والمكر والحيلة والأنفة من العار والفرار.

وإن كان المِرِّيخ في حدِّ المُشتَرِي اختلط مزاجهما، واتحدت قوتاهما، وظهرت أفعال تلك القوى والأخلاق والخصال بعقل وروية ومعرفة بمواقع الإقدام وطلب العدل والإنصاف والكفِّ عن الغدر والظلم.

وإن كان المِرِّيخ في حد الزُّهَرة اختلط مزاجهما، واتحدت قوتاهما، ويكون ذلك الأمر سبب الشهوات وعشرة النساء والحرم والحمية والافتخار والخيلاء والمباهاة والتعرُّض للتلف.

وإن كان المِرِّيخ في حدِّ عُطَارد اختلط مزاجهما، واتحدت قوتاهما، وظهرت تلك الخصال بدهاء وأدب وفطنة ومراوغة وحقد وسرعة حركة وإصابة لحيلة.

وإن كان المِرِّيخ هابطًا في فلكه أو راجعًا في سيره أو منحوسًا في أحواله كان ذلك المولود جبانًا مهانًا ذليل النفس صغير الهمة محتملًا للذل والهوان كالنساء والصبيان.

ثم يدخل الشهر الرابع ويصير التدبير للشمس بإذن الله — تعالى — التي هي النَّيِّر الأعظم قلب الفلك وينبوع النور وفائض الضياء والإشراق ومقر روح العالم المنبثَّة من جرمها قوى النفس الكلية الفلكية السارية في الموجودات وهي أجمع دليل للمُلْك والرياسة في الإنسان، وكبر النفس وعلو الهمة والعز والسلطان والعظمة والجلال والقوة والشدة والتدبير والسياسة.

وبالجملة كل خصلة وخُلُق يحتاج إليها الملوك والرؤساء وأتباعهم في تدبيرهم وسياستهم، فإذا كانت صاعدة في فلكها أو كانت في بيتها أو شرفها أو أَوْجِها بريَّة من المناحس والأحوال المذمومة انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في طبع تلك الجملة، إنْ قدَّر الله لها بالتمام والكمال محبة الرياسة وكبر النفس وعلو الهمة.

وإن كان في حدِّ زُحَل من البرج والدرجة، وامتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما كان المولود كبير النفس، قويَّ البنية، عالِيَ الهِمَّة، رابط الجأش، شديد العزيمة، صابرًا في الأعمال، بعيدَ الغَوْر، متمسِّكًا بما يَملِك، حافظًا لما يعلم، ثابت الرأي، حازمًا في الأمور، وما شاكل ذلك من الأخلاق والطباع والخصال.

وإن كانت في حدِّ المُشتَرِي، وامتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما كان المولود إنْ قدَّر الله له التمام والكمال متهيِّئ النفس لقبول خصال المُلْك والنبوة جميعًا، وهي فضائل الإنسانية والأخلاق الملكية والمعارف الربانية والعلوم الإلهية.

وإن انفكَّ مولوده لبرج القران أو بطابع القران أو بأحد أوتاد لها عند استئناف أحد الأدوار كان ذلك المولود النبي المبعوث في ذلك الدور والإمام للناس في ذلك الزمان.

فأما كيفية مبعثه وآياته ومعجزاته وكتابه بأي لغة يكون وإلى أي أمة يبعث من الناس، وكيف أحكام شريعته ومفروضات سنته وسيرة أمته وتصرف أحوالهم، فيحتاج إلى شرح طويل، وهو مذكور أو أكثره في كتب القرانات وأدوار الألوف.

فإن كانت الشمس في حدِّ المِرِّيخ امتزجت طبيعتاهما، واتحدت قوتاهما، وصار طبع المولود وأخلاق نفسه ممتزجة من طبيعتهما متهيئة لقبول تأثيراتهما في أيام حياته وطول عمره.

وعلى هذا القياس إذا كانت في حد الزُّهَرة وعُطَارد امتزجت طباعهما واتحدت قواهما، وصارت نفس المولود متهيئة لقبول تأثيراتهما وأخلاقه مركبة وممتزجة من طباعهما وتأثيراتهما مما يطول شرحه.

وبعضها مذكور في كتب أحكام التحاويل، ويَعرِف صحة ما قلنا وحقيقة ما ذكرنا الناظرون في تلك الكتب والباحثون عن هذا العلم.

وإن كانت الشمس على خلاف ما وصفنا من صلاح أحوالها في الفلك أو كانت على النسبة الأدون كان المولود صغير النفس والهمة قليل القبول للفضائل الإنسانية والأخلاق الملكية والمعارف الربانية والعلوم الإلهية والهمم الربوبية.

ثم يدخل الشهر الخامس ويصير التدبير للزهرة دليل النقش والتصاوير والشكل، والدلِّ، والغنج، والتِّيه، والحُسْن، والزينة، والجمال، والبهجة، والعيش، والطبيعة، والشهوات، واللذَّة، والسرور، والغبطة.

وبالجملة كل خصلة وفضيلة تريد الحياة والبقاء وطول العمر، ومن أجلها في الدنيا والآخرة جميعًا.

فإن كانت الزُّهَرة صاعدة في فلكها مستقيمة في مسيرها محمودة في أحوالها انعجن في تلك المادة بإذن الله، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة مَحَبَّة هذه الخصال وشهوتها في غاية ونهاية.

فإن كانت في وجهها من البرج كانت صورة الجسد بيضاء درية اللون، مشوبة بحمرة أو صفرة، فيه جعدة الشعر وغنجه، جميل المنظر حسن العينين، حلو المنظر صحيح الوجه والعين، سوادها أكثر من البياض، مكلثم الوجه، صغير الحاجبين، مدور الرأس، حسن العنق، دقيق الشفتين، كثير لحم الخدين، قصير الأصابع، غليظ الساقين، ربع القامة، دقيق البشرة، أكحل وأشهل.

وإن كانت في حدها أيضًا كان المولود مقبول الجملة خفيف الروح حسن الأخلاق جيد الطبع حسن العشرة جيد المعاملة.

وإن كانت في وجه زحل من البرج والدرجة كانت صورة الجسد غليظ الشفتين ضخم العينين جعد الشعر مختلف الأسنان مشقق الرجلين قوي البنية هيوب المنظر إحدى عينيه خلاف الأخرى بالصغر أو بالكبر أو اللون أو الحركة أو الشكل، وإن تكن الزُّهَرة أيضًا في حد زحل من البرج، والدرجة يكون المولود شديد العشق والمحبة ثابت المودة، ذا وفاء وعهد وأمانة، قليل الغدر والخيانة، ضابطًا لنفسه صبورًا.

وإن كان في وجه المُشتَرِي من البرج والدرجة، فإن بنية الجسد تكون معتدلة المزاج متناسبة الأعضاء، ويكون حلو الشمائل أبيض اللون إلى السمرة عظيم العينين الحدقة أدكن الشعر كثَّ اللحية حسن الهيئة ناتئ الوجنتين غليظ الأرنبة معتدل اللحم والقد والقامة نظيف البشرة متهلل الوجه.

وإن كانت أيضًا في حد المُشتَرِي من البرج والدرجة وامتزجت طبيعتهما واتحدت قوتهما كان المولود خيِّرًا بالطبع حسن الأخلاق محمود الخصال عادل السيرة حسن العشرة متصفًا في المعاملة صادقًا في المودة، وربما أديبًا صحيح الاعتقاد مستقيم المذهب مثل أخلاق الملائكة.

فإن كانت الزُّهَرة هابطة في فلكها أو راجعة في مسيرها أو مختلفة أحوالها نقصت سعادته لأسباب يطول شرحها مذكورة في كتب الأحكام والمواليد والتحاويل.

ثم يدخل الشهر السادس ويصير التدبير لعُطَارد صاحب العلوم والمعارف والحسِّ والشعور والآداب والحِكَم والحركات والصنائع والنطق والبيان والكلام والفصاحة والتمييز والفطنة والقراءة والنغمة والرياضات والحكمة، وهو أخو المُشتَرِي الصغير، كما أن الزُّهَرة أخت المِرِّيخ، والقمر أخو زُحَل، والشمس أبوهم.

فإن كان عُطَارد صاعدًا في فلكه، مستقيمًا في مسيره، صالحًا في أحواله، انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة قبول العلوم والمعارف والنظر والبيان.

فإن كان عُطَارد في حدِّه من البرج والدرجة تصير نفس ذلك المولود بإذن الله — سبحانه — ذكية وقلبه حيًّا وذهنه صافيًا وفهمه حادًّا وخاطره سريعًا ومعارفه دقيقة وعلومه بديعة وبيانه فصيحًا.

فإن كان في حدِّ زُحَل امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وكان المولود إنْ قدَّر الله له بالتمام والكمال دقيق النظر في العلوم بعيد الغور في البحث غائص الفكر في المعارف ثقيل اللسان في البيان عسر العبارة عما في نفسه من المعاني.

وإن كان عُطَارد في حدِّ المُشتَرِي صارت همة نفس المولود بإذن الله — سبحانه — في علم الدين وكلامه وأقاويله أكثرها في أمر الورع وأحكام الشرع ومواعظ الناموس ووصف العدل وبيان الخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر المعاد ووصف أحوال الآخرة والمنقلب بعد الموت عند فراق النفس الجسد الذي هو الغرض الأقصى في رباط الأنفس الجزئية بالأجساد البشرية، كما بيَّنَّا في رسالة البعث والقيامة.

وإن كان عُطَارد في حدِّ المِرِّيخ امتزجت طبيعتهما واتحدت قوتهما، وصارت نفس المولود متهيِّئة لقبول تأثيراته، وتكون همة نفسه أكثرها في الكلام في الخصومات والجدل، ووصف الحروب، ويكون لَسِنًا متكلِّمًا عجولًا في خطابه سريعًا في جوابه، كثير الزلل والخطأ سريع المراجعة، وربما كان شاعرًا أو خطيبًا أو قاضيًا أو مناظرًا أو مجادلًا.

وإن كان عُطَارد في حدِّ الزُّهَرة امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وصارت نفس المولود متهيئة لقبول تأثيراتهما، وتكون أكثر همة نفسه الكلام في وصف محاسن أمور الدنيا ونعت شهواتها ووصف لذاتها بالأشعار والغناء والألحان والنغمات والإيقاعات الموزونة والحركات المنتظمة.

وإن كان عُطَارد هابطًا في فلكه راجعًا في مسيره أو مذمومًا في أحواله كان المولود سِكِّيتًا أو أخرس أو بليدًا أو معتوهًا.

ثم يدخل الشهر السابع، وينتهي مسير الشمس إلى البرج السابع المقابل لموضعها الذي كان عند مسقط النطفة، ويصير التدبير للقمر النَّيِّر الأصغر نظير الشمس في المنظر، المخالِف في المخبر، المتوسط بين العالَمَيْن، الآخِذ من طبايع الكواكب فيضَها من العالَم العلوي، الفائض المؤدِّي تلك الفيضات والخيرات إلى العالَم السفلي.

فإن كان القمر عند ذلك صاعدًا في فلكه زائدًا في نوره سريعًا في مسيره بريًّا من المناحس انعجن في تلك المادة، وانطبع في ذلك المزاج، وانغرس في تلك الجملة، ذلك الفيضان الذي يؤدِّيه القمر من هناك إلى هذا العالم، وصارت نفس المولود متهيئة لقبول سائر تأثيرات الكواكب بحسب الحال التي عليها القمر من الخمسة والعشرين حالًا المذكورة في كتاب مدخل النجوم.

وإن كان القمر في منزلته أو شرفه أو في أوْجِه أو في ميله أو وجهه كان المولود إن قدَّر الله — عزَّ وجلَّ — بالتمام والكمال مسعودًا في أكثر أحواله محمودًا في أكثر أموره في الدنيا والآخرة جميعًا.

وإن كان القمر في حد عُطَارد امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتاهما، وكان المولود ممزوج الطبائع مختلفها متفنن الشمائل متلون الأخلاق متنقلًا في الآراء والمذاهب متداخلًا في الأمور المشاكِلة، متشابكًا في الأمور الدنيوية قليل الثبات فيها، سريع التغير عنها، كثير التنقل فيها، سهل الانقياد، سريع البلوى، مواتيًا لهوى نفسه، متباعدًا عن إخوانه.

وإن كان القمر في حدِّ زُحَل كانت الأمور التي وصفنا بالضد مما ذكرنا، وكان المولود في أكثر أحواله ثابتًا قليل التغير والتنقل إلا بعد عسر وشدة.

وإن كان القمر في حد الزُّهَرة وكان المولود ذكرًا امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وكان الظاهر على المولود شمائل الذكور، والباطن شمائل الإناث.

وإن كان المولود أنثى كان ظاهرًا على شمائله طبائع الأنوثة وباطنه طبائع الذكور، وإن يكن القمر في حد المِرِّيخ امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتهما، وكان ظاهر المولود عليه شمائل العامية وأخلاق نفسه مِرِّيخية، وظاهر أحواله عامية ومذاهبه مذاهب صيدية.

وإن كان القمر في المُشتَرِي امتزجت طبيعتهما، واتحدت قوتاهما، وكان المولود في أكثر أحواله معتدلًا بين الطرفين، متوسطًا في الأمور الدنيوية والأخروية جميعًا.

وإن قدر الله — سبحانه — أن يولد في هذا الشهر عاش وتربَّى وكان له عمر، وإن بقي إلى أن يدخل الشهر الثامن رجع التدبير إلى زحل من الرأس، ويكون زحل رديء الحال.

وتدخل الشمس البرج الثامن بيت الموت، ويغلب على الجنين برد طبيعة زُحَل وسكونه، فإن وُلد في هذا الشهر كان قليل العمر، أو ربما لا يتربَّى ولا يعيش.

ثم يدخل التاسع بيت الأسفار والنقلة، ويصير التدبير للمشتري من الرأس كما سنبين بعد.

فصل في أن مكث الجنين في الرحم إنما هو لكي تتم البنية

قد تبيَّن مما ذكرنا أن مكث الجنين في الرحم تسعة أشهر، إنما هو لكيما تتم البنية وتستكمل الصورة وتفيض عليها قوى الأشخاص الفلكية، ولو أمكن تتميمها وتكميلها في يوم واحد لما تُركتْ هناك يومَيْن، ولو أمكن في شهرين.

وقد يَعرِف كل عاقل أن مَن يولد غير تامِّ البنية ولا كامل الصورة لا ينتفع في هذه الدنيا ونعيمها، ولا يتلذذ ولا يتمتع بلذاتها على التمام والكمال، ولم يَزَلْ شقيًّا منغَّص العيش مبتلًى كالزَّمْنَي والمفاليج والناقصي الخلقة الغير تامِّي الصورة.

فهكذا الحكم والقياس في الدار الآخرة بعد الموت، وذلك أن الإنسان إنما يترك في هذه الدنيا مقدار ما يمكنه تتميم أحوال نفسه مع الجسد كما ذكر ذلك في كتب الطبيعة والحكمة وتكمل فضائلها بالكون في الدنيا، كما ذكر في كتب النبوة.

فإذا فارقتِ النفس الجسد عند الموت الذي هو ولادة ثانية انتفعت بالحياة في الدار الآخرة، ويمكنها الصعود إلى ملكوت السموات كما قال المسيح عليه السلام: «مَن لم يولد ولادتين لا يَلِج في ملكوت السماء.»

وقد أوصى الأطباء بالوالدين وأمروا الحوامل من النساء بالرفق بأنفسهن في حركاتهن وتصرفاتهن باعتدال وبوسائط بلا إفراط ولا تقصير، كيما يسلم الجنين من الآفات العارضة هناك، ويخرج الطفل سالمًا إلى هذه الدنيا، ويتربَّى ويَعِيش وينتفع بالحياة، وهكذا وصية الأنبياء — عليهم السلام — وواضعي الناموس الذين هم أطباء النفوس للأمم المبعوثين إليها فيما فرضوا في أحكام الدين والشرائع والسنن للناس من اجتناب المحارم والمحرمات والشبهات الممرضة للنفوس المهلكة لها بالانهماك وتجاوز الحد والمقدار في تناولها من غير وجوهها المحلِّلة لها، كل ذلك لكيما تَسلَم نفوسهم من آفات هذه الدنيا الغدَّارة المكَّارة المُهلِكة لأولادها بعد تربيتها لهم، وكما أن الأشخاص لو ساعدوا الطبيب فيما أمر وبيَّن من جهة مأكولاتهم ومشروباتهم في حالة الصحة والمرض يستفيدون وبمخالفتهم ذلك ينحرف مزاجهم، أما الصحيح فإلى المرض، وأما المريض فإلى طول المرض وإلى الهلاك، كذلك ها هنا الأنبياء هم أطباء النفوس وسبب الهدى وطريق المعاش، فمَن مال عمَّا أَمَروا به وانحرف عما وضعوا وبيَّنوا، فقد ضل وأضل عن سواء السبيل.

(٩) فصل في أن الاستغراق في الشهوات يُنسِي الآخرة

ثم اعلم أن الاستغراق في الشهوات في هذه الدنيا يُنسي الإنسان أمر الآخرة ويشككه وييئسه منها، كما قال قائلهم في هذا المعنى:

هي الدنيا وقد وعدوا بأُخرى
وتسويف الظنون من السوام

وقيل أيضًا في هذا المعنى شعرًا:

خذوا بنصيب من نعيم ولذة
وكلٌّ وإنْ طال المدى يتصرَّم

وقال آخَر وقد كان ساهيًا من أمر الآخرة:

ما جاءنا أحد يُخبِّر أنه
في جنة مَن مات أو في نار

وأشعارهم كثيرة في مثل هذه الظنون والشكوك والحيرة التي وقعوا فيها عقوبة لهم عندما تركوا وصية ربهم، ونصيحة أنبيائهم، واتباع علمائهم والحكماء فيما يدعونهم إليه، ويُرغِّبون فيه من نعيم الآخرة، ويأمرونهم به من الزهد في الدنيا، وينهَوْنهم عنه من الغرور بشهواتها وعاجل حلاوتها.

(١٠) فصل في أن كل مولود لا بد أن تكون درجة طالعه من المشرق

واعلم أن كل مولود تحت فلك القمر في البَرِّ كان أو في البحر أو في الهواء أو في التراب أو في الماء في وقت ولادته لا بد من أن تكون درجة طالعة من المشرق على أفق تلك البقعة، ولا بد أيضًا من أن يكون كوكب من السبعة السيارة متوليًا على تلك الدرجة الطالعة يُسمى النير، وهما دليل المولود وما تنصرف به الأحوال وتجري به الأمور في مستقبل عمره إلى تمام سنة، ثم إن السنة الثانية يصير التدبير فيها لدرجة أخرى مما يتلوها بالطلوع والمستولي عليه، ثم السنة الثالثة للدرجة الثالثة والمستولي عليها، وعلى هذا القياس يجري الأمر إلى آخر العمر الطبيعي، ويتصرف المولود في الأحوال، وتجري به الأمور بحسب حالات تلك الدرجات والمستولي عليها من الكواكب مذكور، ذلك كله في كتب أحكام المواليد بشرح طويل.

(١١) فصل في أن لكل نوع من الحيوانات عمرًا طبيعيًّا

واعلم يا أخي بأن الله — جلَّ ثناؤه — قد جعل بواجب حكمته لكل نوع من الحيوانات عمرًا طبيعيًّا معلومًا، ولأجَله وقتًا معلومًا، ولعمره أجلًا مقدرًا لا يتجاوزه ولا يقصر عنه إذا جرى على الأمر الطبيعي لا يعلم تفصيل ذلك إلا الله عز وجل.

وأما العمر الطبيعي الذي جعله الله للإنسان فمائة وعشرون سنة كما بيَّنَّا علته قبل هذا الفصل.

وأما الأعمار لبعض الناس الزائدة عن هذا المقدار والناقصة عنه، فلأسباب شتى وعلل عدة يطول شرحها، ولا يعلم تفصيلها إلا الله — عزَّ وجلَّ — فنريد أن نتكلم عن أحوال الإنسان في طول عمره الطبيعي وَنَصِف كيفية مجاري أموره وتصاريف أيامه إذا جرت على الأمر الطبيعي مذ يوم ولادته إلى تمام خمس وسبعين سنة وما يزيد على ذلك إلى تمام مائة وعشرين سنة.

(١٢) فصل في أن لكل مولود من الحيوان أبوَيْن من الفلك

واعلم يا أخي بأن لكل مولود من الحيوان أبوين في الفلك كما أن له والِدَيْن في الأرض أحدهما دليل عمره يُسمى كدخداي أي رب البيت، والآخر يُسمى هيلاج أي ربة البيت، فإن كانا مسعودين عند ولادته عاش المولود بخير عمرًا طويلًا، وإن كانا منحوسين فبالعكس من ذلك، وإن كان الكدخداي مسعودًا والهيلاج منحوسًا كان المولود طويل العمر فقيرًا سيئ الحال، وإن كان الهيلاج مسعودًا والكدخداي منحوسًا كان المولود حسن الحال غنيًّا قصير العمر.

فأما علة قصر العمر عن المقدار الطبيعي فهو أن تكون عطية الكدخداي يسيرة، فإذا فَنِيَت وبلغت درجة المسير إلى مركز النحوس وساعاتها مات المولود فجأة أو بأعلال وأمراض وأسباب شتى لا يعلم ذلك إلا الله — عزَّ وجلَّ — الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.

(١٣) فصل في المتفق عليه بين أهل صناعة التنجيم

ثم اعلم يا أخي بأنه متفق بين أهل صناعة التنجيم في أحكام المواليد أنه من يوم الولادة إلى تمام أربع سنين شمسية يكون الطفل في تدبير القمر صاحب النمو والزيادة والنشوء، وتُشاركه سائر الكواكب في التدبير، كل واحد سبع تلك المدة التي تُسمى سِنِي التربية فتتصرف الأحوال بالطفل من التربية والنمو والزيادة والصحة والسلامة والعز والكرامة والأعلال والأمراض والبؤس والهوان واللذة والألم بحسب ما توجب تلك المدبرات في هذه السنين، مذكور شرح ذلك في كتب تحاويل سِنِي المواليد.

ثم يصير في تدبير عُطَارد ثلاث عشرة سنة وهو صاحب النطق والحركة والتعاليم والآداب والتمييز والفهم، وتشاركه في التدبير سائر الكواكب كل واحد سبع هذه المدة.

وكل ما انتهى التدبير إلى واحد منها ظهرت في المولود الأخلاق والأفعال المشاكلة لتلك القوى التي انعجنت وامتزجت وانغرست في جبلته في الرحم، وهو جنين كما يظهر زهر النبات وحبوبها ونَوْر الشجر وثمارها وروائحها وألوانها وطعومها عند بلوغها وتمامها وكمالها ونضجها بحسب ما في طباعها وأشباحها.

ثم يصير المولود في تدبير الزُّهَرة ثماني سنوات وهي صاحبة الحُسن والزينة والشهوات واللذة والرغبة في النكاح والحرص على السفاح، وتشاركها في التدبير سائر الكواكب كل واحد منها سبع هذه المدة.

فيَظهَر من المولود في هذه المدة الرغبة في التزوج والنكاح وطلب الشهوات والتمتع باللذات ومحبة الزينة والحسن والجمال والحرص على جمع الأموال واتخاذ المنازل والدار والدكان والضيعة والبستان والمباهاة والمفاخرة مع الأتراب والأقران باتخاذ الجواري والغلمان والانهماك في الشهوات إلى مدة ما.

ثم يَصِير في تدبير الشمس صاحبة العز والرياسة والتدبير والسياسة عشر سنوات.

ويَظهَر من المولود الكدخدائية في المنزل وتربية الأولاد، وتأديب الأهل والجيران، ومراعاة أمر الأقرباء والإخوان، وطلب العز والسلطان والرفعة والعلو والشرف في المنزلة وما شاكل ذلك.

وهذه الخصال والأخلاق والأفعال التي يحتاج إليها الملوك والرؤساء ودهاقنة القرى وساسة الجماعات، وتشاركها في التدبير سائر الكواكب كل واحد سبع هذه المدة.

ثم يَصِير في تدبير المِرِّيخ سبع سنوات وهو صاحب الحزم والعزم والشجاعة والمواهب والطلب والعطاء والإقدام والحمية والإنصاف والعزة.

وبالجملة كل خصلة وخُلُق وسجية لا بد منها لساسة الأمور وقادة الجيوش ورعاة الجماعات ومدبِّري المُلْك والناموس جميعًا وتشاركه سائر الكواكب في التدبير كل واحد سبع هذه المدة، فتمتزج طبائعها وتتحد قواها وتظهر أفعالها مشاركة لسائر الكواكب، لا يعلم تفصيل ذلك إلا الله والراسخون في علم النجوم، وقليل ما هم.

ثم يَصِير المولود في تدبير المُشتَرِي اثنتي عشرة سنة، وهو صاحب الدِّين والوَرَع والتوبة والندامة والزهد والعبادة والرجوع إلى الله — جلَّ ثناؤه — بالصوم والصلاة والصدقة والاستغفار وطلب الآخرة والرغبة فيها والتزود للرحلة من هذه الدار الفانية إلى دار القرار الباقية، ويشاركه سائر الكواكب كل واحد سبع هذه المدة، فتمتزج طبائعها وتتحد قواها، وربما ظهرت أفعالها متناقضة من أجل القوى المتضادة.

وذلك أن الإنسان العاقل ربما حصل في هذه المدة متجاذبًا بين أمرين اثنين متضادين، وذلك أن الزُّهَرة إذا استوتْ بدلالتها بشركة المِرِّيخ على أحوال المولود دلت له على الرغبة في الدنيا والحرص على شهواتها ولذاتها، فيزيد المِرِّيخ قوة ونشاطًا وعُطَارد لطفًا ورفقًا وحيلة وزحل ثباتًا ووقوفًا وصبرًا، والقمر زيادةً ونموًّا، والشمس عزًّا ورفعةً وبالضد من هذه كلها، أما المُشتَرِي وطباعه إذا استولى على الإنسان العاقل بدلالته بشركة زُحَل على أحوال المولود، دلَّ له على الزهد في الدنيا وقلة الرغبة في شهواتها ولذاتها وشدة الرغبة في الآخرة والحرص على طلبها، ويزيد المِرِّيخ قوة ونشاطًا في الطلب، ويزيده عُطَارد لطفًا ورفقًا وحيلة، وتزيده الزُّهَرة رغبة وشهوة واستحسانًا وتزيينًا، ويزيده زحل صبرًا في العبادة وثباتًا على التوبة، وتزيده الشمس نورًا وهداية وكبر نفس وتسلية وتلطفًا عن الدنيا الدنية، ويزيده القمر أتباعًا وأعوانًا على ما هو عليه.

فإن اجتهد الإنسان وفعل ما رُسم في الشريعة من لزوم أحكامها ومفروضاتها، وعمل بما وُصف في الفلسفة، وصبر عليه مدة ما، فعمَّا قليل يخفُّ عليه كلُّ ما هو فيه من تجاذب الطبيعتين المتضادتين، إلى أن يَصِير التدبير إلى زُحَل بعد إحدى عشرة سنة وهو صاحب السكون والهدوء والكسل وجمود نيران الشهوات الجسمانية وذهاب القوى الحيوانية واسترخاء الأعصاب وذبول الآلات الجسدانية ووقوف الحواس عن مباشرة المحسوسات.

ثم لا يمكن للنفس إظهار الأفعال، ولا تناول اللذات، فعند ذلك تقلُّ رغبته في هذه الدنيا وينقطع طمعه في المقام في عالم الكون والفساد.

ثم يجيئه الموت الطبيعي على التدريج إذا انطفأت الحرارة الغريزية من البدن وانسلَّتِ الروح الحيوانية من الجسد كما ينطفئ السراج ويذهب الضوء إذا فَنِيَ الدهن واحترقت الفتيلة.

فإن كان الإنسان قد ارتاض فيما مضى من عمره، وتعلَّم علمًا من العلوم وأدبًا من الآداب، أو صناعة من الصنائع، أو تديَّن بمذهب من الآراء، أو عمل عملًا من الأعمال يهدي به إلى طريق الآخرة وأمر المعاد، فإنه يُرجَى لتلك النفس أن تهتدي إلى الرجوع إلى عالَمِها النفساني ومحلِّها الروحاني واللحوق بأبناء جنسها الذين مَضَوْا قبلَها ووصلوا إلى هناك وتخلَّصوا من دركات عالَم الكون والفساد، وحريق نيران الآلام والأسقام والأمراض والجوع والعطش والبرد والحر والتعب والكد والعناء والفقر ومشقة الأعمال المتعِبة، والأفعال السمجة القبيحة، وحرارة الحرص، والرغبة، والشهوات المردية، والعادات الرديئة، والأخلاق الوحشية، والجهالات المتراكمة، والأعمال السيئة، وما يلحق أهلها من العبادات والمباغضات فيما بينهم، ومن حسد الجيران، وعداوة الأقران، وجور السلطان، ووساوس الشيطان، ونكبات الزمان، ونوائب الحدثان.

فإن قال قائل من المنكِرين لأفعال الكواكب وتأثيراتها في هذه الكائنات، أو فكَّر متعجِّب في كيفية انطباع تلك القوى في مزاج الجنين، وانغراس تلك الطباع في جبلته، وكيف يكون ظهور أفعالها بعد الولادة، فليعتبر أفعال الدرياقات والمراهم والشربات، وكيف تَظهَر أفعال تلك العقاقير والأدوية مفردة ومركبة بعد جمعها واختلاطها وعجنها وطبخها واتخاذ أجزائها، وتأليف قواها، وكيف يقصد كل قوة ودواء إلى عضو مخصوص ومرض معروف وعلة بعينها فيُزيلها، ويؤثِّر فيها بإذن الله.

أو فليعتبر أصوات الموسيقار ونغمات الألحان كيف تتألَّف وتتحد ويحملها الهواء إلى مسامع الآذان ويبلغها إلى صميم الدماغ، ويوصل معانيها إلى ما في طباع النفوس.

ثم كيف يظهر من كل حيوان أو إنسان تأثيرات مختلفة من الفرح والسرور والضحك والحزن والبكاء والغم والهم والشجاعة والجبن والسخاء والبخل، أو النشاط والحركة، أو النوم أو الهدوء والسكون، أو تذكار شيء قد أنساه الدهر والتسلي عن مصيبة قريبة العهد، وما شاكل هذه التأثيرات في النفوس من استماع أصوات الموسيقار ونغمات الألحان مما لا خفاء فيه على كل عاقل معتبر، فإذا خَفِيَتْ على المتفكِّر كيفية هذه التأثيرات في النفوس ولم يَفهَمْها، فلا ينبغي أن يُنكِر تأثيرات الكواكب في النفوس من أجْل أنه لا يفهم معانِيَها، ولا يتصور كيفيتها؛ لأنها أخْفَى وأدقُّ وألْطَف من هذه.

(١٤) فصل في أن لكل قاصد غرضًا

واعلم يا أخي أن الله — جلَّ ثناؤه — قد جعل لكل قاصد غرضًا ما، ولغرض كل قاصد نهاية ما، وقدَّر لصاحب كل غرض في قصده طريقة وُسْطَى بين الزيادة والنقصان، فكون الجنين في الرحم زمانًا لغرض ما ومكثه ثمانية أشهر طريقة وسطى بين الزيادة والنقصان.

وهكذا أيضًا كونه في الدنيا زمانًا ما لغرض ما، وعمره الطبيعي الذي جعل للإنسان هو مائة وعشرون سنة طريقة وسطى بين الزيادة والنقصان، فأما الذي يزيد على هذين المقدارين وينقص عنهما، فلِعِلَل وأسباب شتَّى يطول شرحها.

ولكن إن كنتَ تريد أن تعلم أنه إذا زاد مكث الجنين على ثمانية أشهر نقص من عمره الطبيعي الذي هو مائة وعشرون سنة، فاعرف الأصل والْزَم القانون الذي ذكرناه، وهو أن كل كائن وحادث في هذا العالم الذي تحت فلك القمر من وقت حدوثه وكونه إلى وقت فنائه وبواره هو من المدة التي هي مقدار دورة واحدة من أدوار الأشخاص الفلكية العالية كما بيَّنَّا في رسالة الأكوان والأدوار.

وقد ذكرنا قبل هذا الفصل بأن من مسقط النطفة إلى يوم الموت من المدة إذا جرى مكثه وعمره على الأمر الطبيعي هو مقدار دورة واحدة من أدوار الشمس.

وذلك أنه إذا مكث الجنين في الرحم ثمانية أشهر ثم ولد، فإن الذي يبقى للشمس من المسير إلى أن تعود إلى الدرجة التي كانت فيها يوم مسقط النطفة أربعة أبراج مائة وعشرين درجة، فيستأنف المولود العمر في الدنيا لكل درجة سنة، فإن مكث تسعة أشهر فالذي يبقى له ثلاثة أبراج تسعون درجة، ويستأنف المولود العمر تسعين سنة، فإن مكث عشرة أشهر فالذي يبقى له برجان ستون درجة، فيستأنف المولود العمر ستين سنة، فقد تبيَّن بهذا المثال، وعلى هذا القياس أن كل ما زاد في المكث نقص في العمر.

فأما الذي يوجد بالتجربة أن جنينًا مكث عشرة أشهر، وعاش مائة وعشرين سنة أو مكث تسعة أشهر أو مات لأقل من ستين سنة، فلعِلَل وأسباب خارجة عن الأمر الطبيعي يطول شرحها.

وعلى هذا المثال يجري حكم سعادة المواليد، وذلك أن الله — عزَّ وجلَّ — قد جعل لكل مولود قَدْرًا من السعادة في الدنيا، وقسَّمها قسمين: قسمًا جعل منه لطول العمر، وقسمًا لرغد العيش وربما يزيد لأحد المواليد في عمره، وينقص من رغد عيشه، وربما يزيد لآخر في رغد عيشه وينقص من عمره، فمِن أجْل هذ ترى كثيرًا من سعداء أبناء الدنيا الرغدي العيش يكونون قصيري الأعمار، وترى كثيرًا طويلي الأعمار ناقصي رغد العيش.

ومما يُحكَى أن مَلِكًا رأى شيخًا في داره كبيرًا سقَّاء، فقال له: كم تعدُّ من الخلفاء؟ فقال له: كثير، فقال له شبهَ المتعجِّب: ما بالكم تطول أعماركم وتنقص أعمارنا؟! فقال له السقاء: لأن أرزاقكم تجيئكم مثل أفواه القِرَب، وأن أرزاقنا تجيء مثل قَطْر المطر.

فاستحسن الملك قوله، وضحك وأمر له بجائزة حسنة أغناه بها، ثم فقده بعد قليل، فسأل عنه فعرف بموته، فقال: صدق، لما جاء الرزق مثل أفواه القرب قصر عمره.

وهكذا أيضًا الحكم والقياس قد جعل الله لكل إنسان حظًّا من السعادة وقسطًا من النعيم، وقسمها قسمين، فجعل قسطًا في الدنيا وقسطًا في الآخرة كما ذكر، فقال عزَّ مِن قائلٍ: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، وقال: وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، فمقدار ما يدخل الإنسان حظه من النعيم، والتلذذ في الدنيا، فبذلك المقدار ينقص حظه من نعيم الآخرة، وإلى هذا المعنى أشار بقوله — تعالى — في عتابه للمسرفين: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، وقال سبحانه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ.

وحُكِيَ أيضًا قول الربانيين العارفين حقيقة ما نقول حين قالوا لقارون: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ؛ وذلك لأنهم عَلِموا بأن نصيبه من الدنيا هو مقدار ما يقدمه لآخرته، ولا يتمتع به كله في الدنيا، وقد قال تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى الذي ذكرنا، فلا تغترَّ يا أخي بما تَرَى مِن حال المُتْرَفين في الدنيا، وما يتنعَّمون من النِّعَم والتلذذ مع عصيان الله وإعراضهم عن الآخرة وتركهم ذكر المعاد، فعما قليل سيَفنَى ما هم من نعيم الدنيا، ويُحضَرون للآخرة فيكونون من فقرائها وأشقيائها كما ذكر الله — تعالى — فقال: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، وذلك أنهم ظلموا أنفسهم باستعجالهم راحة الدنيا، وإعراضهم عن الآخرة وعصيانهم عنها، وتركهم الاستعداد لها، ولم يسعَوْا في خلاص نفوسهم وفكاك رقابهم منها، ولا جرم أنهم سيعلمون أي منقلب ينقلبون، وكفى بهذا وعيدًا وتهديدًا! وإن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألْقَى السمع وهو شهيد، وقد تبيَّن بما ذكرنا أن مكث الجنين في الرحم مدة ما إنما هو لكي يتم الجسد وتستكمل صورة البدن والغرض من ذلك أن المولود ينتفع بالحياة الدنيا بعد الولادة.

وكذلك أيضًا قد قال الحكيم: إن مكث الإنسان العاقل الذي هو تحت الأمر والنهي إما بموجب العقل أو بطريق السمع بأوامر الناموس ونواهيه، وفي طول عمره الطبيعي مدة ما إنما هو لأن تتم فضائل النفس، وتستكمل أخلاقها المختلفة ومعارفها الربانية بالتأمل والبحث في النظر والسعي والاجتهاد في العمل، كما ذُكر في حدِّ الفلسفة أنها التشبه بالإله، بحسب طاقة الإنسانية، أو بما رُسم في الناموس من الوصايا والأوامر والنواهي، كل ذلك لكيما تستكمل النفس فضائل الملائكة فيها.

والغرض من هذا كله هو أن يمكنها ويتهيأ لها الصعود إلى عالَم الأفلاك والدخول في سَعَة السموات والكون هناك مع أبناء جنسها وأهل ملتها من القرون الخالية الذين مَضَوْا على سُنَن الديانات النبوية والمناجاة الفلسفية الحكمية والآداب الملكوتية، واللحوق بهم في درجاتهم والمكث هناك متنعمة متلذذة فرحة مسرورة أبد الآبدين ودهر الداهرين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، وإليهم أشار بقوله سبحانه: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ.

(١٥) فصل في أن أكثر الناس لا يعيشون أعمارًا طبيعية

اعلم يا أخي أن الله — جلَّ ثناؤه — لما علم بأن أكثر الناس لا يعيشون أعمارًا طبيعية على التمام، ولا يُترَكون في الدنيا زمانًا طويلًا تُهذَّب فيه نفوسُهم وتُستكمَل فضائلهم، لَطَفَ بهم من أجل ذلك، وبعث إليهم الأنبياء والرسل واضعي النواميس بالوصايا والأوامر والنواهي والسنن الزكية والشرائع المَرْضِيَّة إذا استعملوها على نحو ما رُسم لهم من السيرة العادلة استتمَّتْ فضائل نفوسهم، وتهذَّبتْ أخلاقهم، وإن كانوا قصيري الأعمار، كما ذكر الله — تعالى — فقال: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا، وقال النبي صلى الله عليه وآله: «مَن أخلص العبادة لله — تعالى — أربعين صباحًا شَرَحَ الله صدره بنوره، وفتح قلبه للإيمان، وأطلق لسانه بالحكمة، ولو كان أعجميًّا أغلقًا»، فهذا هو حكم نفوس البالِغين الذين تحت الأمر والنهي.

وأما حكم نفوس الأطفال والمجانين فهي تنجو بشفاعة الآباء والأمهات والأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.

وإذ قد تبيَّن لك يا أخي ما الغرض من المكث في الرحم مدة ما، وما الغرض من المكث في الدنيا مدة ما أيضًا، فبادِرِ الآن وتشمَّر وتزوَّد فإن خيرَ الزاد التقوى، وشدَّ وسطك للرحيل من الدنيا الفانية إلى دار القرار الباقية قبل فناء العمر وتقارُب الأَجَل، فقد أعذر مَن أنذر كما قال الله تعالى: فبَعَث لله النبيِّين مُبشِّرين ومُنذِرين وأنزَلَ معهم الكتابَ والميزان، يعني العدل لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أن يقولوا يوم القيامة ما جاءنا من رسول، ولا كتاب، وكانت أعمارنا ناقصة قصيرة وآجالنا قريبة، فارجعنا نعمل صالحًا غير الذي كنا نعمل.

الناس نيام، وإذا ماتوا انتبهوا، فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة قبل أن تُفارِق الأوطان، وتدخل في النيران، وقبلَ أن يُنادِيَ المنادي قد شَقِيَ فلان وسَعِدَ فلان، وفَّقك الله وإيانا للسداد، إنه رءوف بالعباد.

(تمَّت رسالة مسقط النطفة ويتلوها رسالة قول الحكماء.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤