عمدة ليون

حدثت القراء عن اللحظات التي قضيتها مع المسيو هريو في مؤتمر المسيون لاييك،١ وأضيف إلى ذلك أن الجاذبية التي تفيض بها أسارير هذا الرجل المِنطيق حملتني على تعقب أخباره في أذهان الفرنسيين، وكان ممن سألتهم عنه المسيو ڤيڤيان Vivien، وهو ورَّاق مثقف بحيّ السوربون.
الكاتب : كيف صار المسيو هريو، يا سيد فيفيان؟
فيفيان : عاد — كما كان — عمدة ليون!
الكاتب : هذا جواب الشامت، أيها الصديق.
فيفيان : وكيف تنتظر مني ثناءً على هريو، وأنا أفضل عليه دالادييه؟
الكاتب : وما وجه التفضيل؟
فيفيان : إن دالادييه وزير يتكلم حين يجب الكلام، ويسكت حين يحسن السكوت.
الكاتب : وهريو؟
فيفيان : هريو رجل ثرثار، يتكلم كثيرًا، ولا يسكت أبدًا.
الكاتب : إنك لمسرف.
فيفيان : أنا أقول الحق بلا تزيُّد ولا إسراف، إن هريو كان أستاذًا للأدب الفرنسي بكلية الآداب في ليون، ويجب أن تعرف أن رجال الأدب لا يحسنون غير تنميق الحديث!
الكاتب : تأدَّبْ يا مسيو فيفيان، فأنت بحضرة أديب عظيم طبق صيته الشرق والغرب!
فيفيان : ألم أقل لك إن رجال الأدب لا يحسنون غير تنميق الحديث؟!
الكاتب : ولكن ما هي، بالتحديد، المؤاخذة التي تصوِّبُها إلى وزارة هريو؟
فيفيان : هي الإسراف في الأماني والوعود. لقد كان الرجل يَنْثُر الآمال على صدور الناس، ثم يَعْجِز عن تحقيق ما يقول، وليتك تذكر ما وعدَنا ومنَّانا وهو ذاهب إلى أمريكا، ثم لم يفعل شيئًا، على حين نرى الوزير دالادييه يتحفَّظ كل التحفُّظ في القول، ولا تقرأ له تصريحًا سياسيًا إلا رأيت له أثرًا إيجابيًّا، وهذا ما يجب أن يتخلق به الوزراء.
الكاتب : لا يرضيني هذا التحامل على هريو، وهو بالإجماع من أجمل صور الذكاء الفرنسي.
فيفيان : هريو من أذكى الناس كأستاذ، لا كوزير.
الكاتب : وما الفرق بين صور الذكاء في شخصية الوزير وشخصية الأستاذ؟
فيفيان : إن الذكاء في الأساتذة من ضروب البراعة واللوذعية، ولكنه في الوزراء خبرة وتجارب وأعمال … إن ماضي هريو كأستاذ يؤكد لنا أنه لا يصلح للأعمال الإدارية، وما ظنك برجل قضى شبابه بين عُنْف العواطف وطغيان الأحاسيس؟ لقد كانت دروسه في جامعة ليون مثالًا للنَّزَق والطيش، فقد كانت ملتقًى لحسان ليون، وكان بإغراقه في تحليل حياة مدام ريكامييه يجذب إليه وإلى درسه خرائد ذلك الوادي الظليل، وكان الشبان يرشُقُون النوافذ مكايدة للأستاذ المتصابي الذي يحدِّث النواهد عن حياة المرح في أندية باريس.
الكاتب : وما خطر ذلك الماضي الطروب في حياة كهل يتولى الوزارة؟
فيفيان : إنَّ خطر ذلك الماضي عظيم جدًّا، فقد يكفي أن تُقَدَّم إليه شفاعة من فتاة حلوة العينين ليصور الباطل عنده بصورة الحق، وتبدَّل الأرض غير الأرض والسموات!
الكاتب : وهذا أيضًا إسراف!
فيفيان : إنك تغيظني بهذه الكلمة، أنا أعرف هريو جيدًا.
الكاتب : وأنا أيضًا أعرفه.
فيفيان : منذ متى؟
الكاتب : سمعته يخطب في حفلة توزيع الجوائز بالسوربون سنة ١٩٢٧، وأقسم ما رأيت أندى منه صوتًا، ولا أملح نادرة، ولا أعذب بيانًا.
فيفيان : نعم، يا سيدي الأديب، عُدْنا لتنميق الأحاديث!
الكاتب : اسمع، يا فيفيان، لقد كان الرجل يومئذ وزيرًا للمعارف، وكان يبدو لي شابًّا غَضَّ الإهاب، فيا ليت شعري كيف يتغير الرجل في نحو سبع سنين فيعلن في المؤتمر أنه وَدَّع الشباب؟!
فيفيان : سبع سنين حِمْلٌ ثقيل.
الكاتب : وتُغَيِّر الرجل إلى هذا الحد؟
فيفيان : اسأل نفسك، ألم تتغير في سبع سنين؟
الكاتب : قليلًا جدًّا!
فيفيان : أنت تخادع نفسك.
الكاتب : وأنتم تضللون أنفسكم يا أعداء الأدب والفكر والخيال.
فيفيان : ما كنت أحسبك تغضب من مثل هذا الحديث.
الكاتب : أنا لا أغضب لنفسي، فإن الرجل لا يغضب لشخصه إلا حين يُهان، ولن يستطيع ألف من أمثالك أن ينالني بضَيْم أو هوان، ولكني أغضب لهذا الضلال الذي أرى صُوره متشابهة في فرنسا وفي مصر، فقد حدث قبل اليوم أن استقدمت الجامعة المصرية المسيو لوبرتون لتدريس الأدب الفرنسي بكلية الآداب، فأخذ الرجل يدرس مؤلفات ألفريد دي ميسيه، واتفق له في القاهرة ما اتفق للمسيو هريو في ليون، فكانت محاضرات لوبرتون في الجمعية الجغرافية ملتقًى لعرائس النيل، وسمع بذلك رجل متحذلق من أدعياء الأدب والوقار فحضر بعض المحاضرات، ثم خرج يدمدم بهذه الكلمات: «كنت أحسب هذا الرجل جادًّا، ولكني رأيته من الهازلين».
وكانت نتيجة هذا التجمل المبرقع أن عدَلَت الجامعة المصرية عن تجديد عقد المسيو لوبرتون، وحُرم الطلبة من أستاذ عظيم كان يحتل كرسي فيكتور هيجو في السوربون.
فيفيان : أنا لا أقول بإقصاء الأدباء عن مناصب التدريس، ولكني أرى أنهم لا يصلحون للمناصب الوزارية التي تعتمد على ضوء الخبرة ولا ينفع فيها بريق الخيال.
الكاتب : وهذا أيضًا ضلال … إن خصوم الأدباء يصبغون خصومتهم بصبغة المنطق والعقل، وهذا لؤم في الخصومة يتورع عنه نُبَلَاءُ الرجال، أفتظن الأعمال الإدارية، والمناصب الوزارية، لا تصلح إلا برعاية الغَفَلَة المفحَمين الذين يُعْيِيهم إنشاء مقال؟
إن أولئك الصُمَّ المشاعرِ والقلوبِ يُذِيعُون في الناس أن الأدب يفسد موازين العقول، وقد أفلحوا في إذاعة هذه الأراجيف حتى أصبح الأديب يشعر في وطنه بوحشة الاغتراب، وصارت الأمور إلى طوائف من أدعياء الحكمة والسداد لا يقدِّمون ولا يؤخِّرون، وقد تمضي الأجيال والدنيا تحت أذهانهم الكليلة لا تتفتح عن جديد ولا طريف … وليت حملات المتزمِّتين وقفت عند غَمْز أهل الأدب حين يتطلعون إلى المناصب الوزارية، فقد انتقلت إلى ميدان الأدب نفسه: في الصحافة والتدريس، وإني لأذكر أن كلية الآداب بالجامعة المصرية أعلنت عن بعض المناصب؛ فتقدم إليها فريق من الأدباء، وخطر لأحدهم أن يزكي نفسه تزكية أدبية؛ فأرسل إلى مجلس الكلية مجموعة من شعره، فابتسم الأساتذة وهزوا رءوسهم على الطريقة العربية، وهز أحدهم كتفيه على الطريقة الفرنسية، ثم قرروا بالإجماع رفض الطلب المصحوب بتزكية شعرية! … ولو أن ذلك الأديب شفع طلبه بكتاب مطبوع أو مخطوط بَيَّنَ فيه أن (ميزان) أصلها (موزان) وأن الألف في ساج وعاج مجهولة الأصل لرحبوا به وعدوه خليفة سيبويه والخليل!
فيفيان : هذا الكلام يقنعني بأنكم أهل شغب وجدال!
الكاتب : أهذا كل ما تفهمون من الأدب وأعمال الأدباء؟
فيفيان : وهل للأدباء أعمال؟
الكاتب : إن الأدباء هم أصحاب الفضل في جميع الأعمال، وبهم يزدان هذا الوجود.
فيفيان : أتسمح أن أستعير تعبيرك فأقول: هذا إسراف؟!
الكاتب : وأين الإسراف يا مسيو فيفيان؟ أتستطيع أن تتصور دنياك هذه خالية من أعمال الأدباء؟ أتستطيع أن تمحو من الدنيا أثر الدراسات الأدبية والفلسفية والفنية والاجتماعية والتاريخية والتشريعية التي يضطلع بأعبائها فحول الأدب من الواقفين على أسرار النفوس والقلوب والعقول؟ والصحافة يا مسيو فيفيان؟ أتستطيع أن تنكر أن الصحافة في العالم مدينة لرجال الأدب؟ وهل تستطيع اليوم أن تستغني عن هذه القوة الخطيرة التي ترفع وتضع، وتحيي وتميت؟ إن أدباء اليوم هم المسيطرون. والوزراء الذين تتغنى بصمتهم الرزين لا يمشون إلا بوحي من ثرثرة أهل الأدب، ولو وجدتُّ تعبيرًا غير الثرثرة لقدمته إليك، ولكن شاء الله أن نتحكم، وأن نعلن سيادتنا عليكم، ولو بأسوأ الفروض.
فيفيان : تَحَكَّمُوا، إن استطعتم إلى ذلك سبيلًا!
الكاتب : وكيف لا نستطيع؟ هل زرت لونابارك، يا مسيو فيفيان؟
فيفيان : زرته مرات.
الكاتب : وهل رأيت الجيبون؟
فيفيان : رأيته.
الكاتب : ورأيت كيف يلعب على الطريقة الإنسانية؟
فيفيان : الآن فهمت، يا سيد مبارك، أنك رجل خبيث!
الكاتب : انتظر، يا حبيبي، إن الله مع الصابرين، إن أدعياء التجمل والوقار من أعداء الأدب والفكر والخيال يعملون ما يعمل الجيبون، يقفون أولًا موقف الحيرة والذهول أمام أعمال الأدباء، ثم يمضون فيطبِّقونها حرفًا بحرف، وعند انتهاء «اللعبة» يصفقون ليشعروا الجمهور بأنهم من أهل الإبداع، لا من أهل التقليد!
فيفيان : أنتم إذن مروِّضون؟
الكاتب : ليكن ذلك، فالفرق ليس ببعيد بين القِرْد والإنسان، وهما أبناء عمٍّ وخال، فيما يقول أصحاب نظرية التطور من العارفين بأسرار الحيوان.
فيفيان : أخشى أن ننتهي إلى شر، إذا مضينا في هذا الحوار العنيف.
الكاتب : لن يكون إلا الخير، وإن إقناع رجل مثلك لَغُنْمٌ عظيم.
فيفيان : أتحسبني اقتنعتُ؟
الكاتب : تصور أنك اقتنعتَ!
فيفيان : لقد أضجرتَنِي، يا سيد مبارك.
الكاتب : وذلك بعض ما أريد، يا سيد فيفيان!
فيفيان : أنتم إذن محنة لهذا العالم؟
الكاتب : وهل تقبلتم هذه المحنة؟
فيفيان : لم نتقبلها، وإنما احتملناها كارهين.
الكاتب : عرفتَ الآن أننا نتحكم، وأن لنا السيادة عليكم، يا أصحاب الجدِّ الرزين!
فيفيان : كفى، يا سيد مبارك، فقد حان وقت الغداء، وتستطيع أن تذهب فتكمل محاضرتك في حديقة لكسمبور، فهناك بنات ملاح …
الكاتب : بنات في عينك! أمَا لكم شغل إلا تعقب أخبار الأدباء؟
فيفيان : اذكُرني بخير عند صاحبك هريو، أرجوك.
الكاتب : وأنت، اذكرني بشر عند خصوم ذلك الوزير الأديب.
١١ أغسطس سنة ١٩٣٣
١  إشارة إلى مقال صوَّر به الكاتب ما وقع في مؤتمر المسيون لاييك الذي عقد في باريس في يولية سنة ١٩٣٣، وكان الكاتب حضره ممثلًا لأساتذة اللغة العربية بالليسيه فرانسيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤