مقدمة

ما أعظم ما تفعله الحياة بالكائن الذي تسكن فيه، إنها تدفع به دفعًا، ولا بدَّ له أن يستجيب، فإن لم يستجب فما أسرع ما تهجره الحياة ليتحوَّل إلى جماد فتتلقفه الطبيعة لتدفع به إلى الموج يتقاذفه، أو تُلقِي به في فجٍّ عميق لتذروه الرياح إلى مصير مجهول، فمظهر الحياة الأول هو الحركة، لا غنى للحيوان عنها ولا يُوصف إلا بها وبقليل من المظاهر غيرها. وهي فيه منذ الأزل خُلِقت معه فانطبع بها، وهي تنقله على هذه الأرض أذرعًا حينًا، وفراسخ أحايين أخرى على قدر ما يحتاج إلى هذه الحركة.

فمن الإنسان ما لا يستكن أبدًا، أَلَا تراه كلما سمت نفسه ودفع به الطموح اندفع من مكامنه، من دوره الآمنة يومًا، يضرب في الأرض بعصاه لعله واجدًا مستقرًّا أرحم به ينفسح الرزق له فيه، أو ربما يكون هذا السعي من أجل إشباع نفسه لا من القوت، وإنما من أجل المعرفة بالمجهول، فهذا يستهوي من البشر أشجعهم وأعلاهم نفْسًا؛ فذلكم ماركو بولو وماجيلان وابن بطوطة وخريستوف كولمبس وأمندسن وسكوت، لكلٍّ منهم جولات عظيمة كشفت للبشر كثيرًا مما خفي عليهم، وإن كان بعض هؤلاء قد دفع حياته ثمنًا لمخاطراته العديدة في بقاع لم تطأها قدماه من قبلُ وسط قبائل محبة للحرب، ووحوش لا عهد له بها، وميكروبات تهد من كيانه، بل وأجواء تعصف به عصفًا.

ثم أَلَا ترى إلى النمل يسعى ويكد سحابة يومه ليهدأ حينًا في مساكنه، أو إلى العصافير تقضي نهارها متنقلة من فَنَنٍ إلى فَنَن مفتشةً عن الحب أو متطلعة ببصرها إلى السماء والأرض خشيةً من عدوٍّ يتربص بها، ثم إذا هي بعد نهارها تنزوي في أعشاشها إلى صباح مشرق جديد.

ذلكم هو التجوال اليومي، لازم للحيوان لا غنى له عنه، ولا تقعده عنه إلَّا علة قد تقضي عليه، ولكن للحركة في الحيوان مظاهر أخرى، فانظرْ إلى حيوانات السهول والبراري من خيل وظباء، وما أشبه، إنها تتجمع كل حين قطعانًا لا يحصي العدُّ أفرادَها، تهجر مساكنها وأوطانها إلى مساكن أخرى، ثم ترجع الكَرَّة إلى مساكنها الأولى بعد حين.

ومن قبائل بني الإنسان ما يسلك سبيل الحيوان في التَّرْحال، وقصة قريش على ما وردت في القرآن الكريم تذكِّرنا برحلة الشتاء والصيف إلى اليمن والشام، كلما أقبل عليهم البرد القارس أو الحر اللافح ليتاجروا بين البلدين، وهكذا أطعمهم الله من جوعٍ وآمنهم من خوف.

ولكن انظر إلى تلك الأسراب من الطيور في الربيع والخريف خاصة، إنها تحلِّق في الفضاء، وقد انتظمت في صفوف بديعة، تلك الأسراب هي لطيور تسعى، إما في رحلة الشتاء أو في رحلة الصيف، رحلة قد تمتد عشرات الأميال وأحيانًا مئات بل ألوف الأميال؛ تنتقل فيها من أصقاع نائية في الشمال إلى غيرها عند أقصى الجنوب، أو العكس؛ أيْ من الجنوب إلى الشمال. إن بعض هذه الطيور ينتقل في رحلة الشتاء من شمال أوروبا إلى جنوب أفريقيا فيخترق قارتين كبيرتين؛ رحلة طويلة، بل هي شاقة مضنية، وما ينقضي فصل الشتاء في الشمال حتى تعاود تلك الطيور الكَرَّة في رحلة الصيف، من جنوب أفريقيا إلى شمال أوروبا، فتسلك نفس الطريق الذي سلكته من قبل، فلم يُرهبها هذا الطريق، بل هي تُقبِل عليه توَّاقةً إلى الشمال لترجع إليه في تاريخ ثابت.

هاتان الرحلتان اللتان تقوم بهما تلك الطيور مظهر من مظاهر الحركة، ولكنها حركة جد مختلفة عن الحركة التي قدَّمنا لك عنها في التجوال اليومي؛ إنها الهجرة، ومظهر الهجرة في تلك الطيور هو في الرحلتين بين الشمال والجنوب ورجوعًا، لا تظننَّ أنهما هيِّنتان أو أنهما نزهتان كما نقوم نحن بالرحلات في حدود بلد أو بين بلدين، فكَمْ من الطيور القائمة بها تقضي في رحلة أو أخرى، وكم منها ما يضلُّ الطريق فلا يصل أبدًا، إذن ما الذي حدا بتلك الطيور إلى ركوب الصعب في رحلتين شاقتين بين شمال الأرض وجنوبها؟

وليس الطير في سمائه أو الوحش في سهوله وبراريه يتجول أو يهاجر من صقع إلى آخر لسبب أو آخر، سنفصِّله فيما بعد، ولكن الأسماك أيضًا في مياهها لا ترضى بمسكنٍ واحد في نهر أو بحر أو حتى في طبقة معينة من طبقات الماء، بل إنها تتركه إلى غيره، ثم يستبد بها الحنين إليه مرة أخرى، فترجع إليه، وهكذا تروح وتجيء، وهي دائمًا أبدًا لا تستقر إلا حيث تدعوها الحاجة، كما أنها تستجيب إلى الحركة فتنقلها إلى غير مساكنها، وكل ذلك في سبيل هدف، تتحمل في سبيله العناء كل العناء.

ولأنتقل بك إلى إحدى مراتب الحيوان الدنيا، وهي الحشرات، ألم تسمع بأسراب الجراد التي تغزو الأرض بين الحين والحين؟ ألم ترَ سربًا منها؟ لو أنك فعلت فلا بدَّ أنه قد ترك في نفسك أثرًا لا يُمحى! فهو ماحق ساحق يخشاه الإنسان خشيته من الوباء، بل إنه وباء وأدهى سبيلًا، إنه إذا تجمَّع وعلا في الجو يحجب الشمس بملايينه، بل ببلايينه، كأنه لا يلوي على شيء، ولكنه ما يكاد يحط على مساحة منكوبة من الأرض، ضاقت أو اتسعت، إلا تركها قاعًا صفصفًا بلقعًا لا نبت فيها ولا زرع، إن هذا السرب قد دفعت به الهجرة أيضًا كما دفعت بغيره من صنوف الحيوان الأخرى.

نخرج من هذا كله بأن الحركة مظهر من أهم مظاهر الحياة، وأن هذه الحركة تتخذ أشكالًا عدة، فمنها الضرب في الأرض، ومنها التجوال اليومي، كما أن منها التجوال الرتيب في فصول السنة، ومنها الهجرة المنتظمة بين شمال الأرض وجنوبها. ويعالج هذا الكتاب «هجرة الحيوان» حركات الحيوان والطير والأسماك والهوام لتعرف كيف تحدث، وما الذي يدفع بكل منها إلى الهجرة.

وقبل أن أتقدَّم في فصول الكتاب، أودُّ أن أتساءل معك، هل الهجرة معروفة في غير الحيوان من الأحياء، وما غيره سوى النبات؟ فلننظر إلى تلك الأشجار والنباتات التي تثبتت في الأرض بجذورها تضرب بها في أعماقها، هل هي حقًّا لا تنتقل من مكانها بل ثابتة فيه؟ سؤال يبدو لأول وهلة غريبًا شاذًّا، ولكن هلَّا شاهدنا أبدًا من بين ما تذروه الرياح بذورًا تحملها مظلات من زغب خفيف منفوش تطفو بها في الهواء، فيدفع هذا بها بعيدًا عن النبات الذي أنتجها، فينتشر النبات في أوسع مساحة من الأرض! ووسائل النباتات في انتثار بذورها كثيرة، وكلها تهدف إلى توسيع مدى انتشارها على هذه الأرض، فكأن النباتات المثبتة في الأرض الضاربة بجذورها فيها قد احتالت فتجوَّلت وانتشرت كأنها الحيوان الحر الطليق.

وفضل هذه الوسيلة في الانتشار سهل الإدراك، فلو أن النباتات ازدحمت في رقعة ضيقة من الأرض لَمَا وجدَتْ حاجتها من الغذاء، بل قد تختنق وتموت؛ فالخير كل الخير ما فعلته تلك النباتات لنفسها لكي تحفظ أنواعها من الفناء.

وكذلك الحال بالنسبة للحيوانات، إنها تضرب في الأرض تنتشر فيها وتتجول بفضل ما اكتسبت من حرية في الحركة ومقدَّرة على السعي، حتى لا يزاحم بعضها بعضًا، وهي تتكاثر على مرِّ السنين فتزداد ذراريها عدًّا، لو أنها ازدحمت في رقعة ضيقة حيث كانت أسلافها لَدخلت مع هؤلاء في معركة القوت فتقضي على نفسها بنفسها. وتلعب الطبيعة دورًا هامًّا في هذه التحركات، فلا برد مقيم ولا حر مستديم، وإنما هي فصول تتتابع، ومنها ما يقسو على النبات، جامع الطاقة وصانع الغذاء، فعلى الحيوان أن يختار بين طريقين، إما أن يهجر المكان إلى حيث النبات الأخضر أو أن يقضي الفصل كله في خمولٍ وكمونٍ حتى تحيا الأرض بنباتها، وليس لأكثرية الحيوانات القدرة على هذا الخمول فترةً تطول من الزمن، بل إن بضعة أيام من جوع تقضي عليها وتقتلها.

وتغيرات الطبيعة هذه رتيبة لا مفاجأة فيها، بل إن تغيرات الجو وما تصحبها من فصول تأتي تدريجية في أغلب الأحوال، ولكن عنصر المفاجأة في الطبيعة لا يغيب دائمًا، بل العكس هو الصحيح، فكثيرًا ما تزلزل الأرض زلزالها فتغمر الأرض المياه أو تنفجر عن براكين تلقي بالحمم تأكل الأخضر واليابس، أو تقسو في تغيرات الجو حتى يتغير معنى الفصول، فمن صقيع يتراكم ولا يذوب، أو حر تجف معه الحلوق، بل الغدران والعيون، إلى أرض تميد وجبال تدك دكًّا، أو أرض تصاعد فتشمخ عاليًا لتصبح جبالًا رواسيًا، وعندئذٍ على الحيوان أن «يتشكَّل ويوائم الجديد» أو يهجر مساكنه إلى أخرى. وتاريخ الأرض مليء بمثل هذه التغيرات المتتابعة مما كان له أكبر الأثر في تطور الحياة، فظهرت منها أشكال تلو أشكال، بادَ منها الكثير، ولا يزال الباقي يدب ويعيش، هو ما نتعرَّف عليه في الغابات والسهول والصحاري والوديان، ومياه البحر والنهر، وتحت الثرى وبين شقوق الصخور. ولو رجعنا القهقرى مائة مليون من السنين، ولا أقول ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا من تلك المئين من الملايين لَكان هذا العالم الذي نعمره الآن غريبًا علينا، في تضاريس أرضه، بحوره وأنهاره، نباته وحيوانه، ولحسبنا أن الكوكب غير الأرض كوكبنا؛ فالحيوان إذن خاضع لكل تلك المؤثرات والمفاجآت، والطبيعة لا ترحم إلا بالقدر الذي يستجيب به الحيوان لتلك المؤثرات والمفاجآت، فإنْ واءَمَها أبقت عليه، وإنْ تخلَّفَ عنها قضت عليه، وكم من أنواع انقرضت واندثرت ولم تبقَ منها سوى آثارها تدل عليها، فأفسحت الطريق لغيرها الذي استجاب، وهجرة الحيوان ظاهرة عجيبة لجأ إليها كثير من الحيوان فيما يلجأ في مواءمته للبيئة بما فيها من عسر الحياة، حتى يمكن لنفسه في البقاء في معركة لا رحمة فيها ولا هوادة.

وسوف نعالج موضوع الهجرة في أربعة فصول، يعالج كل فصل رتبة من رُتَب الحيوان التي تُعرَف فيها ظاهرة الهجرة، وهي الثدييات والأسماك والحشرات والطيور، وقد قصدتُ أن أختتم الكتاب بالطيور لأهميتها من هذه الناحية، فقد وصلت الهجرة فيها إلى مرتبة عالية من الكمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤