تقديم

مُقدِّماتُ الكُتب مُمِلَّة، ولكنها ضرورية. إن الكاتب فيها أشبهُ بربِّ البيت الذي يُمسِك بيد قارئه وينتقلُ به بين حُجرات مَسكنه وهو يقول: هذه حُجرة المكتب، وهذه غُرفة النوم. إلى أن يصل إلى الصالون فيجلس معه ليكمل اعتذاره؛ فالأثاث قديم، وسيُحاول تجديده إذا سَمحَت الظروف، وحجرة المكتب مُهمَلة ومملوءة بالعناكب والتراب، ربما لأن الزوجة تكره الكُتب وتَلعَنُ سِيرتَها كلَّ يوم، وحُجرة الأطفال ملأى بالملابس واللُّعَب المُتناثِرة، وقد يكون السبب أن المدارس اليوم لا تُعلِّم النظام! وهكذا يمضي صاحبُ البيت في تقديم الحساب للضيف، كما يمضي المُؤلِّفُ في تقديم الحساب للقارئ، فيطلب منه العَفْو عن أخطائه، ويَعِدُه بإصلاحها في المستقبل. وللقيام بهذا الواجب المُضْنِي والضروري معًا أقول لكَ يا ضيفي وقارئي:

هذا الكتاب يضُم مجموعةً من المقالات التي كتبتُها في السنوات العشر الماضية، وكانت ثَمرةَ رِحلةٍ قضَيتُها في صُحبةِ كُتَّابٍ وشُعراءَ أحببتُهم وتَعلَّمتُ منهم. ولن أُحاوِل الاعتذارَ لكَ عن كلٍّ منها على حِدَة؛ فسوف تعرف بنفسكَ جوانبَ القصورِ أو التقصيرِ فيها. ولن أحاول كذلك أن أُحدِّثكَ عن ظروف كتابتِها؛ فالحديثُ عن النفس مملٌّ وثقيل، وإنما أُحِب أنْ أقولَ إنها وإن بدَت مُشتَّتةً أو متناثرةً في ظاهرها، فهي تَنبُع في حقيقتها وغايتها من عاطفةٍ واحدة؛ تلك هي عاطفةُ الحب — ولماذا نخجل من الكلمة؟ إنها من أنبل كلمات اللغة، فلنُكرِّرْها ثانيةً إذن — الحُب الذي أحسستُ به وأنا أقرأُ لهؤلاء الكُتَّاب، والحُب الذي مَدَّ يدي إلى القلم لأكتُبَ عنهم. وليس معنَى هذا أنها تخلو من روح الجِد والصبر والحياد الذي تَتميَّز به الدراسات الأكاديمية؛ فسوف ترى بنفسكَ كيف أنَّني لم أدَّخِر جهدًا في الالتزام بما يقتضيه المنهج الأكاديمي من عَناء، ولكن معناه أنها تصدُر عن العاطفة وتتَّجِهُ إلى العاطفة. ومن حَقِّ القارئ عليَّ أن أعترفَ له بأنني لم أستطِعْ أن أكون أكاديميًّا، على الرغم من أنني — من الناحية الشكلية على الأقل! — قد سِرتُ في الطريق الأكاديمي إلى نهايته. ولا أظن أن في الاعتراف بهذه العاطفة ما يُخجِل الكاتبَ أو يَجعلُه يطلُب الصفحَ من قارئه؛ فالمهم هو أن يُحِسَّ بصدقها، أما أن تكون ذاتيةً أو شخصيةً فهو يطمع ألَّا يكون هذا ذنبًا يُلامُ عليه أو تهمةً تُوجَّه إليه!

وليس من قبيل الصُّدفة أن يكون عنوان هذه المقالات هو «البلد البعيد»؛ فمع أنه مُستمَدٌّ من إحدى المقالات التي تتحدَّث عن شخصيةٍ من أحب الشخصيات التي قابلَها الكاتب في أدب جوته — بل لعلها من أحب الشخصيات التي التقَى بها فيما عَرفَه إلى اليوم من الأدب العالمي — وهي تلك الفتاة المسكينة التي يقتلُها الشوقُ الغامض إلى بلدٍ غامضٍ بعيد، إلا أنه يرجو أن يصدُق كذلك في التعبير عن الشوق الذي يُحِسُّ به نحو الحب والسلام في نفسه وفي العالم. ولا أظن أن في الاعتراف بهذا الشوق الغامض ما يحملُه مرةً أخرى على الاعتذار. صحيح أنه شوقٌ رومانتيكي — على الرغم من سُوء سُمعة هذه الكلمة! — ولكن لماذا نَتنكَّر له أو نتعالى عليه؟!

دُوِّنَت هذه المقالاتُ في أوقاتٍ أحسَّ فيها الكاتبُ بضرورةٍ باطنةٍ للإنتاج الفني. كان الصراع بين الاتجاه العلمي وبين الخَلْق الفني يُمزِّقه، وكان يُحاوِل على الدوامِ أن يجدَ ذلكَ التوازُن العسير الذي يُوفِّق بينهما، وكلما استَغرقَ في الدراسة أو الترجمة، انفَجَر شيءٌ في باطنه فدفَعَه إلى كتابة القصة أو المسرحية القصيرة (ترى لماذا توقَّف؟) ثم لا يلبث هذا الشيء أن تنطفئ شرارته التعِسَة ليَغرقَ من جديد في الدراسة أو الترجمة، وهو يعلم تمامًا أن القليل الذي حقَّقه في الاتجاهَين شيءٌ ضئيل لا يستحق الذكر. غير أنه يُحب أن يُسجِّل حالةَ صراعٍ عاناه وربما شاركَه فيها الكثيرون، كما يرجو ألَّا تخلُوَ هذه المقالات في نهايةِ الأمر من لمسةِ الفن. ومن يدري؟ فقد تكون المقالة الفنية هي الطريق الوسَط الذي يمكنُه تحقيقُ التوازُن العسير المنشود بين أكاديميةٍ جافَّة وإبداعٍ طليق.

سيلتقي القارئ في هذه الصفحات بالشاعر، والكاتب المسرحي، والمُصلح الثائر، والمُفكر العبوس، وسيتجول في مُتحفٍ خيالي يضُم لوحاتٍ مُتعدِّدة تفترق عن بعضها في ملامح الوجه والتعبير، ولكنها تشترك في عذابٍ واحد وكبير. وقد يفتقد بينها هذا الكاتب أو ذاك، وقد يضايقه أن شاعرًا واحدًا — وهو جوته — قد فاز كعادته بنصيب الأسد؛ أي بما يُقارِب نِصفَ حَجم الكتاب! ومن السهل أن أُبرِّر هذا الاختيار لسببٍ أو آخر، وأعلِّل إيثاري الشعر — كَنْز الفقراء الذي فقدتُه! — على غيره من الفنون، ولكن هذه الحجج لن تقدم أو تؤخر؛ فالعاطفة وحدها هي التي نفخَت شِراعَ قاربي الصغير في رِحلتِه الصغيرة، والعاطفةُ وحدَها هي المسئولة عن الشواطئ التي رسا عليها والجُزُر التي لجأ إليها، والمغامرات المضحكة أو المحزنة التي تورَّط فيها! فإذا دعَوتُكَ أن تُشاركني الآن هذا القارب وتُمسِك بالمجداف الذي أُقدِّمه لك، فلن أنسى أن أبتهل إلى السماء أن تحفظكَ من مخاطر الموج والرياح، وتُقدِّر لك بهجة الرحلة دون عذابها، فتعودَ منها بغير أن تأسَفَ على الوقت الذي أضَعتَه في قراءة هذا الكتاب، أو تَندمَ على الثمن الذي دفعتَه فيه!

عبد الغفار مكاوي
القاهرة في يناير سنة ١٩٦٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤