شاعر النيل

ماذا يحاولُ بعدَك الأدباءُ
نُكبَ اليراعُ ويُتِّمَ الإنشاءُ
وتوعَّرتْ سُبُل الفصيح وأقفَرَتْ
ساحاتُه فرياضُهُ صحراء
لا الوردُ يضحك في الطُّرُوس ولا الصَّبا
تشدو ولا تثمرٌ ولا أفياء
والبلبلُ الصَّداحُ ناحَ ومزَّقَتْ
مِمَّا شجاها طوقَها الورقاءُ
وغدت حُلِيُّ الغيدِ بَعْدَكَ دمعَها
إلا قلائدَ دُرُّهنَّ طِلاء
نَضبَتْ (عُمَانُ) وأصبحتْ لُجَّاتُها
قيعانَ تَصْفِرُ والمَحارُ خلاء

•••

سَلِمَ (الأميرُ) لنا وبورِكَ نورُه
وتهَيَّبَتْ هالاتِه الأرْزاء
إني أخذتُ رثائه لك شاكيًا
والضعفُ يَحْبسُ أدمعي والدَّاء
فسَرَتْ حُمَيَّا البُرءِ بين محاجري
من مُشجِياتٍ ريقُهُنَّ شفاء
ضَمَّدْنَ أحشاءً يُفَجِّرُها الأسى
ولَكَمْ عليكَ تَفَطَّرَت أحشاء

•••

إن زار روضتك الشذِيَّةَ (أحمدٌ)
يُزْهَى به الشعراءُ والحكماء
في موكبٍ فخمٍ عليه من الحِجا
عَبَقٌ ومن وهْج النبوغ بهاءُ
ودنا حبيبٌ والوليدُ فسَلَّمَا
وأبو العلاء ورَحَّبُوا ما شَاءوا
فرَحًا بِأَبْلَج جَزْلُه ورقيقُهُ
ونظيمُه ونثيره العَنْقاء
وبِكلِّ جِيدٍ مِن حُلاهُ لآليءٌ
ولِكلِّ جِيلٍ من نَداه ثراء
فاطْرَبْ فَإِنَّكَ جِئْتَ منزلَ سُؤْدد
زُوَّارُه وضيوفُه العُظماء
واعلَمْ بأَنَّكَ بين أهلِك عندهمْ
وَبأَنَّنَا من بَعدكَ الغُربَاءُ

•••

يا من يلوم على التَّبَتُّلِ حافظًا
خَفِّضْ عليك فإلْفُه العلياءُ
قد عاش يعقد بالثريَّا طَرْفَهُ
وبِهِ تفاخِرُ بدرَها الظلماءُ
فاليومَ حين النومُ زار مُسهَّدًا
ما كان يعرف جفنَه الإغفاءُ
ما فاته النسلُ العظيمُ ونسلُه
ديوانُه وسطيحُ والبؤساءُ

•••

اليومَ تُنشِرُ حافظُا آدابُهُ
أين الملوكُ اليوم والأمراءُ
مُلكُ المواهب خالِدٌ لا ينقضي
حين الأرائكُ والملوكُ هباء
والموسِرون هم النوابغُ وحدَهم
وسواهم العافون والفقراء

•••

أسمعتَ (ذات الخال) من آياتِه
ماذا رأت من سِحرها الحسناءُ
يشكو الغرامَ لها فيُرسِل دمعَه
ساري الغمامِ وتشفِقُ الجوزاءُ
وانظُرْ إلى (عيد الفداء) فإنها
قصرُ القريض ورَوضُه الغنَّاء
(والأمَّتين) فدُونَ شامخ مجدها
يُقْعي الغرورُ وتقبع الخُيُلاء
ماذا أُواجهُ من أشِعَّةِ حافظ
ولهُ الشموس الساطعات فِداءُ
تتساقط الأقمار من هالاتِها
وتزول وهو الكوكب الوضاء
نُعِيَ المُدافعُ عن حياض بلاده
بالمُرْهَفَيْن له النعيم جزاء
فتَعَازت الأقلام فيما بينها
وبكى الحُسام وناحَتِ الهيجاء
لا نَعْدَمُ البُلغَاءَ في شُعرائنا
لكنَّ ليس كحافظٍ بُلغاء
لا نعدمُ الأكفاءَ في ضباطنا
لكنَّ ليس لحافظٍ نُظراء
أدبٌ وإخلاص وظَرفٌ حافظٌ
وشجاعة وسماحةٌ وإباءُ

•••

أجرى فتى السودان عبرةَ جيشه
لم يبقَ للجيش الحزين رجاءُ
منعوه بعد الفتح قائمَ سيفِه
ولو انتضاه لسالت البطحاء
ولَغُودِرَ العلمُ الدخيلُ مُعَفَّرًا
في الرملِ تدفنُ عارَه الأَشْلاءُ
علَمٌ عليه قَسَاوِرٌ من خِدعةٍ
يخْشَى كليلَ نُيوبِها الجُبناءُ
إقدامُهُنَّ تَخَلُّفٌ وُوُثوبُهُـ
ـنَّ تَخَوُّفٌ وزئيرُهُنَّ مُوَاءُ

•••

سهمٌ أصاب النيل في أحشائه
سودانُ مصرَ ومصرُ فيه سواءُ
دَمِيَتْ له أهرامُنا وسهولُنا
ونخيلُنا وسماؤنا الزرقاء
وأصابَ قلبَ الضاد في سودائه
فالمشرقان تفجُّعٌ وبكاء
أَسِيَتْ رُبَى نجْدٍ وناحتْ بَرْقَةٌ
والكُوفتان وتونسُ الخضراء
وشكا الجَوَى لبنانُ والفيحاء
والمَكَّتان وأَجْهَشَتْ صنعاء
فلْيَبْكِ حافظَ عهد ودِّ بلاده
جَنَّاتُها وهواؤها والماء
ولْيَكْتَئِبْ شرق البلاد وغربُها
ولْتَحْزَنِ الخضراءُ والغبراء
ولْيذْكُر الشعراءُ حسنَ بلائه
ووفائه ولْيُطْنِبِ الخُطباء
قَلَّ البكاء له فليس يردُّهُ
سكْبُ الدموع ولا يُعيدُ رِثاءُ

•••

مَنَع السُّلُوَّ وردَّ سلطان الكَرَى
أنَّ الحميمَ ثَوى وعَزَّ لِقاء
مَن كنتُ أمرحُ في كريم خِلالِه
وكأنَّهُنَّ الجنةُ الفيْحاء
ولقد أُرَى والهمُّ ينزلُ ساحتي
وأنا الْمُهَنَّدُ والهمومُ جلاء
فالآن حين انحلَّ عقدُ تَجمُّلي
وتقَسَّمَتْ عزماتيَ البُرَحَاءُ
جادَتْ ثراكَ محمَّدُ الأنواءُ
وسقَتْهُ ضاحكةُ الحُلَى وَطْفاءُ
تحنو عليه بظلِّهَا وبريقها
ويهزُّها الإصباحُ والإمساء
وعلى ولائِك والإخاءِ تَحيَّةٌ
وعلى وفائِكَ رحمةٌ ورضاء
ما هذه الدنيا بدار إقامةٍ
فلْيَسْتَعِدَّ لِتَرْكِهَا النُّزَلاء
كلٌّ يُعافَى في الحياةِ ويُبْتَلى
ويُسَرُّ في أحبابِهِ ويُساء
ما هذه الدنيا بدار كرامةٍ
فلْيحْتَمِل مكروهَها الأحياء
كلٌّ يُفارِقُ أهلَهُ وديارَه
وتُصيبُه في نفسِه الأرزاءُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤