الفصل الثاني

أصول ومبادئ العلم الجديد

(١) الأصول

تتركز فلسفة فيكو في أهم مؤلَّفاته «العلم الجديد»، ويتناول القسم الأول منه الجانب النظري من العلم الجديد ويتضمَّن ثلاثة موضوعات رئيسية: الأصول والمبادئ ثم المنهج، وقد يخلط المرءُ بين الأصول والمبادئ لاقتراب اللفظَيْن في المعنى، ولكن الواقع أن الأصول تحوي مجموعةً من المسلَّمات أو البديهيات يلتزم بها الباحث أو يفترضها عند دراسته تاريخ تطور الشعوب بصفةٍ عامة والقديمة منها بصفةٍ خاصة؛ فهي القواعد التي يجب أن يقومَ عليها هيكل البناء التاريخي.

أما المبادئ فهي التي اكتشفها العلم الجديد في كل المجتمعات البشرية وتتمثل — كما سنوضح في الجزء الخاص بها — في ثلاثة: الدين، الزواج، دفن الموتى. وأما عن المنهج فقد حدَّد فيكو منهج علم التاريخ بالنسبة لمناهج العلوم الأخرى كالرياضيات والعلوم الطبيعية لاختلافه عن كلٍّ منهما وإن لم يكن التاريخ بعيدًا كل البعد عن العلوم الطبيعية؛ لذا كان المنهج الذي سار عليه هو المنهج الاستقرائي الذي سنتحدث عنه بالتفصيل فيما بعد؛ إذ حاول — كما أشرنا في الفصل السابق — أن يقومَ في التاريخ بدور بيكون في العلوم الطبيعية، وحاول أن يدرس عالم الأمم من خلال البديهيات أو المسلَّمات التي تتألَّف منها هذه الأصول وابتداءً من تلك المبادئ وباستخدام هذا المنهج ليقيم صرح البناء التاريخي.

لقد حاول فيكو وَضْع أصولٍ للعلم الجديد، متشبهًا من الناحية الشكلية بطريقة إقليدس في وضع أصول علم الهندسة، وقدَّم مجموعة من المسلَّمات الفلسفية واللغوية يبلغ عددها مائة وأربع عشرة مسلَّمةً تنطوي على مجموعةٍ من المصادرات والتعريفات، وتتعدَّد موضوعاتُ هذه المسلَّمات وتتشعَّب وتتسم بالتكرار وتتداخل وتتشابك أحيانًا ويشوبها الغموضُ أحيانًا أخرى، وربما كان هذا الغموض سببًا من أسباب عدم فَهْم فيكو في عصره وإغفاله فترةً زمنيةً طويلةً بعد ذلك. وإذا كان قد تم اكتشافه في القرن التاسع عشر، فإن الاهتمام الحقيقي به لم يبدأ بصورةٍ علميةٍ جادَّةٍ إلا في القرن العشرين. ونظرًا لتكرار المسلَّمات وتعدُّد موضوعاتها وتشابكها سنحاول تصنيفها في مجموعاتٍ رئيسيةٍ تبعًا للموضوعات، كما سنحاول وضع عناوين مناسبة لها، والتزامًا بالأمانة العلمية سنقدم مسلَّمات هذه الأصول كما وردَتْ في النص الأصلي وبنفس أرقامها — وإن لم يكن بنفس الترتيب إذ اقتضى الأمر في مواضع قليلةٍ بعض التغيير في ترتيب المسلَّمات — ثم نقوم بالتعليق عليها في الفصول التالية التي تعد تطبيقًا لها، وعلى الرغم من كثرة المسلَّمات وتنوعها إلا أنها تتناول بعض الأفكار الرئيسية الهامة التي يكاد فيكو أن يؤكدها في كل سطرٍ من سطور مؤلفه، وهي الأفكار التي تدور حولها فلسفته بأكملها، أهم هذه الأفكار أن الإنسان هو صانع تاريخه وأنه لا يستطيع أن يعرف إلا ما يصنعه بنفسه، وهذه هي الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها نظرية المعرفة عنده، وتُقابل هذه الفكرة فكرةً أخرى رئيسية لا تقل عنها أهمية وهي فكرة العناية الإلهية التي وجهت البشر بطريقةٍ غير مباشرة؛ فالعلم الجديد يدرس الطبيعة البشرية المشتركة للأمم في ضوء العناية الإلهية، ويكشف عن أصول التنظيمات الدينية وغير الدينية بين الأمم الأممية، وقد كانت البداية التاريخية بداية شعرية؛ فالأشعار والأساطير كانت سجلًّا مدنيًّا لتاريخ الأمم والشعوب، والعلم الجديد يدرس تاريخ الأفكار البشرية ليجد في النهاية أن هناك تاريخًا مثاليًّا أبديًّا مرَّت به كل الشعوب — كلٌّ على حدة — في مرحلة نشأتها ونموِّها وتطورها ونضوجها ثم تدهورها وسقوطها.

تأثر فيكو تأثرًا كبيرًا بما قال به المصريون القدماء من وجود ثلاث مراحل للتاريخ هي المرحلة الإلهية وما تتميز به من لغةٍ سرية مقدسة؛ والمرحلة البطولية وما تتميز به من لغةٍ رمزيةٍ؛ والمرحلة البشرية وما تتميز به من لغةٍ شعبية وهي لغة الرسائل. أضِفْ إلى هذا اهتمامه بالاشتقاقات اللغوية — وليس هذا بغريبٍ عليه وهو عالم اللغويات — وكيف تطوَّرَت اللغات إلى لهجاتٍ وتطور الشعر إلى النثر، وكانت المراحل التي مرَّ بها هذا التطوُّر هي الشواهد التاريخية على عادات العصور الأولى، كانت هذه هي أهم الأفكار الرئيسية التي تناولها فيكو في مسلَّمات علمِه الجديد وإن لم تكن كل أفكاره؛ لأننا سنتعرض لها بالتفصيل في سياق هذا الفصل. ولنبدأ حديثنا عن الأصول بمجموعة المسلَّمات التي تتعلَّق بمعوقات البحث التاريخي في رأي فيكو، وتتناول الأوهام والأخطاء التي وقعت فيها الشعوب كما وقع فيها الباحثون وأصبح من الضروري التخلُّص منها.

(١-١) أوهام الشعوب والباحثين

تأثر فيكو ببيكون فيما ذكره في الجزء الأول من كتابه «الأورجانون الجديد» عن أوهام الفكر، فاعتبر أن المؤرخين عُرضة لأوهام مماثلة حصرها في أربعة وانتقد فيها الآراء القديمة عن مبادئ التاريخ البشري، وهذه الأوهام أو الأخطاء وقعت فيها أمم كاملة كما وقع فيها العلماء والباحثون؛ إذ تصوروا البدايات الأولى للبشرية على ضوء حياتهم وثقافتهم وعصرهم المستنير، وكان من الطبيعي أن يقعَ كلاهما في الخطأ والوهم، وفي هذا المعنى قدَّم المسلَّمات التالية في خصائص العقل البشري وهي المسلَّمات التي ترتب عليها وقوع كلٍّ من الشعوب والباحثين في الخطأ:
  • «العقل الإنساني يجعل من نفسه مقياسًا للحكم على الأشياء جميعًا كلما ضل في الجهل» (مسلَّمة ١).

  • «حكم العقل البشري على الأمور المجهولة والبعيدة على أساس الأمور المألوفة له والقريبة منه» (مسلَّمة ٢).

  • «وقعت الأمم في الخطأ عندما تصور كلٌّ منها — كما يقول المؤرخ ديدروس الصقلي — أن تاريخ العالم بدأ مع بداية تاريخ شعبه وأمته، وأنها سبقت جميع الأمم في اكتشاف أسباب الراحة والترف للإنسان» (مسلَّمة ٣).

  • «وقع الباحثون في نفس الخطأ عندما بالغوا في تصوير الحكمة الفذَّة لبعض الشعوب القديمة»١ (مسلَّمة ٤).

وقد وقع — على حدِّ زعم فيكو — كل من الكلدانيين والسكيثيين والمصريين والصينيين في هذا الوهم، ولا يستثنى من ذلك غير الشعب اليهودي لأنه شعب منقطع الصلة بالشعوب الأخرى؛ فالتاريخ العبري، كما يقول التاريخ المقدس، أحدث عهدًا من التاريخ القديم، وقد استثنى فيكو التاريخ المقدس من دائرة علمه الجديد، وربما لجأ إلى هذا تجنبًا لمشاكل كثيرة كان من الممكن أن يتعرَّض لها لو طرح التاريخ المقدس على مائدة النقد التاريخي، وهنا يجب ألَّا نتجاهلَ الظروف التي عاش فيها؛ فقد كان عصره هو عصر محاكم التفتيش والاستبداد الديني.

وقع الباحثون أيضًا في نفس الخطأ عندما ضخموا أقوال زرادشت وحكمة هرمس مثلث الحكمة، والأشعار الأورفية المنسوبة لأورفيوس، والأبيات الذهبية المنسوبة لفيثاغورس وبالغوا في قيمتها أكثر مما تستحق، ويصدق هذا أيضًا على محاولة العلماء استكناه الأسرار الصوفية في اللغة الهيروغليفية القديمة واستخراج الرموز الفلسفية من الأساطير اليونانية.

(١-٢) الفلسفة وفقه اللغة

يؤكد فيكو على وظيفة الفلسفة ورسالتها في خدمة الجنس البشري، وهنا يظهر تأثره بمثالية أفلاطون؛ إذ سمح للفلاسفة السياسيين وخصوصًا الأفلاطونيين بالانضمام إلى مدرسة علمه الجديد، ويرجع ذلك في رأيه إلى أمورٍ ثلاثة: اعترافهم بالعناية الإلهية، الاعتدال في الانفعالات البشرية والإيمان بخلود الروح وهي — كما سنرى فيما بعد — المبادئ الثلاثة للعلم الجديد. وعلى هذا استبعد فيكو الرواقيين لأنهم يُميتون الجسد ويُحاربون اللذة، كما استبعد الأبيقوريين لأنهم يعتبرون الإحساس هو المعيار، وكلا الاتجاهَيْن في رأيه خاطئ لأن الرواقيين ربطوا أنفسهم بأغلال القدر، كما أن الأبيقوريين تركوا أنفسهم للمصادفة وزعموا أن الروح الإنسانية تموت مع الجسد. نعود إلى الفلسفة والدور الهام الذي تقوم به لتوجيه الشعوب لما هو أفضل فنجد المسلَّمات التالية:
  • «يجب أن تُساهم الفلسفة في الأخذ بيد الإنسان وتوجيهه عندما يضعف ويسقط» (مسلَّمة ٥).

  • «تنظر الفلسفة إلى الإنسان باعتبار ما ينبغي أن يكون عليه؛ بحيث تنفع القلة الضئيلة من الناس، وهم أولئك الذين يتمنَّون أن يعيشوا في جمهورية أفلاطون» (مسلَّمة ٦).

ويضع فيكو التشريع في مقابل الفلسفة. فإذا كانت الفلسفة تنظر إلى الإنسان كما ينبغي أن يكون، فإن التشريع ينظر إلى الإنسان كما هو كائنٌ في الواقع ويحول رذائله إلى فضائل. إن التشريع يصنع السعادة المدنية من الرذائل التي كان يمكن أن تدمر الجنس البشري؛ فالإنسان قادرٌ على أن يُحوِّل غرائزه وانفعالاته الطبيعية إلى فضائل اجتماعية لأنه يملك حرية الاختيار، كما يتَّضح من المسلَّمة الآتية:
  • «ينظر التشريع للإنسان في واقعه بحيث يصبح نافعًا للمجتمع البشري، وهو يحول القسوة والبخل والجشع، وهي الرذائل الثلاث التي تدفع الجنس البشري بأسره، إلى فضائل تقوم عليها الطبقات العسكرية والتجارية والحاكمة، وبهذا يدعم قوة المجتمعات وثرواتها وحكمتها»٢ (مسلَّمة ٧).

ويميز فيكو بين الوعي أو الضمير وبين العلم أو المعرفة؛ فالأول يطلب اليقين المؤكد ووسيلته في البحث عنه هي فقه اللغة، والثاني يطلب الحق ووسيلته الفلسفة، والعلم الجديد يجمع بين الفلسفة وفقه اللغة ويطلب تضامن علماء اللغة والفلاسفة لتحقيقه. ومفهوم علم اللغة لا يقتصر على مفهوم علماء اللغة والنحو وإنما يتسع للمؤرخين والنقاد الذين عكفوا على دراسة لغات الناس وأعمالهم سواءٌ في ملاحظة عاداتهم وشرائعهم التي يتبعونها في بلادهم، أو في حروبهم وسلامهم وأحلافهم وتجارتهم وأسفارهم إلى الخارج.

ويؤكد فيكو أنه إذا كان الفلاسفة يبحثون عن الحقيقة فإنهم لم يدركوا إلا نصف هذه الحقيقة لأنهم أهملوا الرجوع إلى بحوث علماء اللغة، وعلماء اللغة بدورهم لم يبلغوا إلا نصف اليقين لأنهم لم يلجئوا إلى تأمُّلات الفلاسفة ليضفوا مسحة الحقيقة على بحوثهم الواقعية، ولو أنهم فعلوا ذلك لكانوا أكثر نفعًا لمجتمعاتهم ولسبقوا فيكو نفسه في تصوُّر العلم الجديد، والمسلَّمات الآتية تعبِّر عن أفكاره عن المعرفة الإنسانية:
  • «إن الذين لا يستطيعون التوصُّل للحقيقة يحرصون على البحث عن اليقين في الواقع، فكلما عجزوا عن إشباع عقولهم بالمعرفة والعلم اتجهت إرادتهم على أقل تقدير إلى الوعي بكل ما هو يقيني مباشر من أحداثٍ وعاداتٍ وقوانين ومؤسساتٍ اجتماعية» (مسلَّمة ٩).

  • «الفلسفة تتأمَّل العقل لمعرفة الحقيقة، أما علم اللغة فيرتكز على الوعي باليقين، وهو الوعي الذي يأتي من الاختيار الحر للإنسان» (مسلَّمة ١٠).

ويرى فيكو أن ما يؤكد حرية الإنسان هو إحساس البشر بمصالحهم، وهذا الإحساس مشترك بين الجنس البشري كله:
  • «لما كانت حرية الإنسان بطبيعتها غامضة وغير محددة، فإن الذي يؤكِّدها ويحددها هو الإحساس المشترك بين الناس بحاجاتهم ومصالحهم، وهما المنبعان الأساسيان للقانون الطبيعي للشعوب» (مسلَّمة ١١).

  • «إن الحس العام أو المشترك هو حكمٌ بغير تفكيرٍ يشترك فيه أفراد طبقة كاملة أو شعب بأسره أو أمة أو الجنس البشري كله»٣ (مسلَّمة ١٢).

(١-٣) القانون الطبيعي للشعوب

يؤكد فيكو نشأة الحس المشترك للجنس البشري كمعيار علمته العناية الإلهية للشعوب ليحدد اليقين في قانونها الطبيعي، وتصل الشعوب لهذا اليقين بالتعرُّف على وجوه الاتفاق الأساسية التي تتضمَّن فيما بينها — بالرغم من اختلافها في التفاصيل — احترام هذا القانون، ويحسم فيكو الجدل القديم بين أصحاب القانون الطبيعي والقائلين بأن القانون اجتماعيٌّ؛ فالقانون الطبيعي للشعوب نشأ عن العرف أو العادة ولم يُفرض بالقانون، ومحافظة الشعوب على عاداتها أعطى هذه العادات شكل القوانين؛ لأنه ليس هناك شيءٌ أحب إلى البشر من الاعتزاز بعاداتهم. وفي هذا الشأن يستشهد فيكو بعبارة «لديو كاسيوس» تقول: «إن العادة تشبه الملك، والقانون يشبه الطاغية» (مسلَّمة ١٠٤)؛ فالشعوب بطبيعتها ترفض القانون الذي يفرضه الطاغية أو أية قوة خارجية، ولكنها بطبيعة الحال تحتفظ بالقانون الذي فرضَتْه على نفسها؛ لذا كان القانون الطبيعي للشعوب هو قانون فرضَتْه الشعوب على نفسها من خلال عاداتها وتقاليدها وأعرافها.

والطبيعة البشرية التي نشأت عنها هذه الأعراف طبيعة اجتماعية، وبهذا حسم فيكو الخلاف بين القائلين بأن القانون كائن في الطبيعة أي طبيعي، وبين القائلين بأنه كائن في العادات الاجتماعية، وعبَّر عن هذا بالمسلَّمة التالية:
  • «إن الجنس البشري كان منذ بدايته الأولى يحيا حياةً اجتماعية؛ فالإنسان كائن اجتماعي بطبيعته» (مسلَّمة ٨).

  • ويرى فيكو أنه لكي نتناول مذهبًا أو نظرية بالدراسة يجب أن نتتبع البداية الأولى لنشأتها كما يقول في مسلَّمته: «يجب أن تبدأ المذاهب والنظريات من حيث تبدأ الموضوعات التي تتناولها» (مسلَّمة ١٠٦).

فالقانون الطبيعي للشعوب نشأ بطريقةٍ طبيعيةٍ وبدائيةٍ لدى كل الشعوب مع جهل كلٍّ منها بالآخر، وعُرف القانون الطبيعي فيما بعدُ نتيجةً للحروب والسفارات والأحلاف والتجارة، كما عُرف أن له أساسًا مشتركًا في الجنس البشري بأكمله، كما تقول هذه المسلَّمات:
  • «إن نشأة الأفكار المتشابهة عند شعوبٍ مختلفةٍ لا يعرف بعضها بعضًا، لا بد أن يكون لها أساسٌ مشتركٌ من الحقيقة» (مسلَّمة ١٣).

  • «تنشأ التنظيمات الاجتماعية نشأةً طبيعيةً فطريةً مع البشر رغم أنها تختلف أحيانًا في التفاصيل طبقًا للزمان والظروف» (مسلَّمة ١٤).

  • «ترجع طبيعة التنظيمات الاجتماعية وخصائصها إلى أسلوب نشأتها ومولدها وزمن هذه النشأة وظروفها»٤ (مسلَّمة ١٥).

ويستبعد فيكو كل الأفكار القديمة المتعلقة بالقانون الطبيعي، والتي جعلت أصحابها يعتقدون أنه انطلق من إحدى الأمم الأولى ثم انتقل إلى الأمم الأخرى، هذا الخطأ وقع فيه المصريون القدماء والإغريق في ادِّعائهم — على حد قوله — أنهم نشروا الحضارة في العالم، وكان نتيجة هذا الخطأ أن أطلق الخيال عنانه بالقول إن قانون الألواح الاثني عشر انتقل إلى روما من اليونان، ولو كان الأمر كذلك لَكان هذا القانون مدنيًّا ووصل للشعوب الأخرى عن طريق الاتفاقيات البشرية، ولم يكن قانونًا طبيعيًّا ينظم بواسطة العناية الإلهية في كل الشعوب على حدة مع عادات البشر أنفسهم: «القانون الطبيعي للأمم يسير جنبًا إلى جنبٍ مع عادات الشعوب وتقاليدها بدون أن تتخذ أي أمة أمة أخرى نموذجًا لها ودون أي عمد أو تفكير طبقًا للحس المشترك بين البشر» (مسلَّمة ١٠٥).

بذلك يُعارض فيكو القانون الطبيعي لفلاسفة القرن السابع عشر — كما أشرنا في الفصل السابق — بالقانون الطبيعي للشعوب، ويرى فيكو أن من هذه الطبيعة المشتركة للأمم ينبع قاموسٌ عقليٌّ مشترك بين كل الأمم ممثلًا في التراث الشعبي، فاللغات الشعبية — قبل تطوُّرها — شاهدٌ حي على عادات الشعوب الأولى، واللغات وحدها — وخاصة الشعر — قد حفظت عادات الشعوب الأولى وتقاليدها، مثلما حفظت أشعار هوميروس عادات وتقاليد الشعب الإغريقي، وحفظ قانون الألواح الاثني عشر عادات وتقاليد الشعب الروماني؛ فالتراث الشعبي له الفضل في حفظ التاريخ مثلما حفظ التاريخ البطولي لروما، ويؤكد فيكو أن دراسة الحكم والأمثال الشعبية لدى الشعوب الأولى قد أثبتت أن للتراث الشعبي أساسًا مشتركًا لدى كل الشعوب المبكرة، وفي هذا الصدد يقدِّم فيكو هذه المسلَّمات:
  • «الإرث الشعبي له أسسٌ مشتركة بفضلها ظهرت التقاليد للوجود واحتفظت بها شعوب كاملة لفتراتٍ طويلةٍ من الزمن» (مسلَّمة ١٦).

  • «ينبغي أن تكون اللغات الشعبية شواهد عظيمة الشأن عن العادات القديمة التي كانت تُمارسها الشعوب في الوقت الذي نشأَتْ فيه هذه اللغات» (مسلَّمة ١٧).

  • «إن لغة أمةٍ قديمة حافظَت على نفسها كلغةٍ سائدةٍ قبل أن تتطوَّر ينبغي أن تكون شاهدًا كبيرًا على عادات العصور الأولى» (مسلَّمة ١٨).

  • «لو لم يكن قانون الألواح الاثني عشر هو سجل عادات الشعوب اللاتينية لما دوَّنوها في ألواح برونزية ولما اهتموا بها كل هذا الاهتمام الديني وحفظه التشريع الروماني، هذا القانون دليلٌ على القانون الطبيعي للشعوب اللاتينية» (مسلَّمة ١٩).

  • «إذا سلمنا بأن قصيدَتَيْ هوميروس (الإلياذة والأوديسة) تقدمان تاريخًا مدينًا للعادات الإغريقية القديمة، فإنهما ستكونان منجمَيْن عظيمَيْن للقانون الطبيعي للأمم الإغريقية.» (مسلَّمة ٢٠).

  • «عجل الفلاسفة الإغريق بمسار أمتهم في الوقت الذي عاشت فيه أمتهم الإغريقية في المرحلة البربرية المتوحشة، ومنها سرعان ما تقدموا لمرحلةٍ أرقى منها وهي مرحلة التفكير الدقيق بينما حافظوا على أساطيرهم في كلٍّ من المرحلة الإلهية والبطولية، وفي الجانب الآخر نشأَتْ وتطوَّرت عادات الرومان سريعًا مُغفلين تاريخ الآلهة، لكنهم احتفظوا في أقوالهم الشعبية بالتاريخ البطولي» (مسلَّمة ٢١).

  • «يجب أن يكون في طبيعة المؤسسات البشرية لغةٌ عقلية مشتركة بين كل الشعوب تشكل جوهر الأشياء العلمية في الحياة الاجتماعية وتعبِّر عن مظاهر تكيفهم مع الأشياء ويظهر هذا في الأمثال والحكم الشعبية»٥ (مسلَّمة ٢٢).

(١-٤) أصل الجنس البشري

يقدِّم فيكو مجموعةً من المسلَّمات التي تتناول أصل الجنس البشري والتي اعتمد فيها اعتمادًا كبيرًا على التاريخ المقدس؛ ولذلك نجده يفرِّق بين دين العبرانيين الذي أسَّسه الله ودين الوثنيين القائم على الكهانة، كما نراه يقيم الدليل على أن أصل الجنس البشري ينقسم إلى قسمين؛ أولهما: قسم قائم على الكائنات الخرافية وهي الأمم الأممية؛ وثانيهما: قسم قائم على منزلةٍ إنسانيةٍ أرفع قدرًا يمثِّلها العبرانيون. وهذه التفرقة تأتي في رأيه نتيجة التعليم البوهيمي للجانب الأول والتعليم الإنساني للجانب الثاني؛ لذلك رفض التفسير الخرافي الذي قدَّمه الفلاسفة للعمالقة ذوي الأجسام الضخمة وأخذ بتفسير تاسيتوس وقيصر للعمالقة الجرمان بأنها ترجع للتربية البربرية لأولادهم، وهذه مسلَّمات فيكو عن أقدم أنواع التاريخ:
  • «التاريخ المقدس أقدم من كل التواريخ الدنيوية التي انحدرت إلينا لأنه يروي بالتفصيل عن الحالة الطبيعية التي عاش فيها البشر في ظل آباء الأسر لفترةٍ تزيد على ثمانمائة سنة، أي أنه يروي عن حالة الأسر التي نشأَتْ منها الشعوب والمدن في وقتٍ لاحق كما يتفق على هذا كل المُنظِّرين السياسيين» (مسلَّمة ٢٣).

  • «الإله الحق هو الذي أسَّس الديانة العبرية على أساس تحريم الكهانة التي انطلقت منها كل الأمم الأممية» (مسلَّمة ٢٤).

  • «التاريخ الطبيعي — كما بيَّنت لنا الأساطير — أثبت الفيضان الذي غطَّى الأرض» (مسلَّمة ٢٥).

  • «قدم الفلاسفة للعمالقة ذوي الأجسام الضخمة والبشعة تفسيرًا خرافيًّا» (مسلَّمة ٢٦).

  • «بدأ التاريخ اليوناني — وتاريخ كل الأمم الأممية ما عدا الرومان — بدأ بالطوفان والكائنات الخرافية»٦ (مسلَّمة ٢٧).

(١-٥) قانون المراحل الثلاث لتطوُّر الأمم

أخذ فيكو فكرة قانون تطور الأمم من المصريين القدماء في تصورهم لتطوُّر التاريخ عبر مراحل ثلاث: المرحلة الإلهية، المرحلة البطولية، المرحلة البشرية. وتصاحب كل مرحلةٍ لغة خاصة بها؛ فاللغة الهيروغليفية أو السرية المقدسة — كما عند المصريين القدماء — هي لغة المرحلة الإلهية، واللغة الرمزية — كما في أشعار هوميروس — هي لغة المرحلة البطولية، واللغة الشعبية — كما في لغة الرسائل — هي لغة المرحلة البشرية، وبعد دراسة فيكو لحضارات الشعوب القديمة أكَّد أن قانون المراحل الثلاث يمكن اعتباره مسلَّمة من مسلَّمات العقل البشري، فهو حقيقة تاريخية أكدها استقراؤه للتاريخ.٧
  • «انحدرت إلينا من العصور المصرية القديمة فكرتان؛ إحداهما أن المصريين القدماء لخصوا تاريخ العالم السابق في ثلاث مراحل؛ المرحلة الإلهية، المرحلة البطولية، والمرحلة البشرية، أما الفكرة الأخرى فتقول إنه كانت هناك أثناء هذه المراحل ثلاث لغاتٍ وهي الهيروغليفية أو السرية القديمة، واللغة الرمزية وهي خاصَّة بالمرحلة البطولية، واللغة الشعبية أو لغة الرسائل وهي تعبر عن المرحلة البشرية وتقوم على علاماتٍ أو إشاراتٍ اصطلاحية للاتصال وقضاء الحاجات المشتركة» (مسلَّمة ٢٨).

ثم يؤكد فيكو المراحل التاريخية الثلاث التي تبدأ بالمرحلة الدينية، ويوضِّح حقيقةً هامة هي أن كل الشعوب قامَت على أساس الدين وأن التاريخ بدأ بدايةً دينية، فكانت المرحلة الأولى من مراحل تطوُّر التاريخ هي المرحلة الدينية وفيها نشأ الشعر الديني. ويستشهد فيكو على هذا ببضع فقراتٍ من ملحمتَيْ هوميروس فكانت هذه المسلَّمة:
  • «أشار شاعر الإلياذة والأوديسة في خمسة مواضع من ملحمتَيْه إلى لغةٍ أكثر قدمًا يدعوها اللغة الإلهية أو لغة الآلهة» (مسلَّمة ٢٩).

ومن المعروف أن لغة هوميروس كانت لغةً بطولية، وأن شعره من قبيل الشعر البطولي؛ فالشعوب الأولى كانت شعوبًا دينية أسقطت رغباتها وعواطفها وحاجاتها الطبيعية والأخلاقية على أسماء الآلهة كما توضح هذه المسلَّمة التي يستشهد فيها فيكو بالمؤرخ الروماني فارو:
  • «اجتهد المؤرخ الروماني فارو Varro (١١٦–٢٧ق.م.) في جمع ٣٠ ألف اسم للآلهة تلبي الحاجات الطبيعية والأخلاقية للبشر كما تصوِّر الحياة الاجتماعية في العصور المبكرة»٨ (مسلَّمة ٣٠).
ويتتبع فيكو نشأة المرحلة الدينية عند البشر الأولين مبينًا أن الخوف هو المسئول الأول عن إيجاد الآلهة على الأرض، ويربط هذه النشأة بضعف القدرة على التفكير في طفولة البشرية؛ فالدين — وهو أول مبادئ العلم الجديد — يُلقي الضوء على نشأة التاريخ البشري والتنظيمات الاجتماعية. فعندما تتوحَّش الشعوب ولا تقوم لقوانينها قائمة تلجأ إلى قوةٍ أعلى منها وليس هناك ما هو أسمى من الله؛ ومعنى هذا أنه كلما توحش البشر نتيجةً للحروب المشتعلة بينهم بحيث لا تقوم لقوانينهم قائمة فإن الوسيلة الوحيدة لترويضهم هي الدين، والعناية الإلهية هي التي هدَتْ هؤلاء المتوحشين إلى إنسانيتهم وتكوين دولهم، وذلك بأن أيقظت فيهم تصورًا غامضًا للألوهية، وقد كان جهل هؤلاء المتوحشين هو المسئول عن نسبة الألوهية لكائنات أخرى، والجهل خاصية مشتركة بين الشعوب الأولى، فأسقط الإنسان الأول طبيعته الخاصة على طبيعة الأشياء التي يجهلها، ونشأت الميتافيزيقا الشعبية من جهل الإنسان الأول بالطبيعة، ونتج الجهل من ضعف القدرة على التفكير فأطلق الخيال عنانه ونشأ الشعر الديني الذي أضفى العاطفة على الأشياء الجامدة، ومن الجهل تنشأ الدهشة وحب الاستطلاع وهما أصل المعرفة. ومن خصائص العقل البشري أن يتجه للخرافة عندما يشعر بالخوف، وهذه الخرافة تثير الرعب، فكانَتْ بداية الوثنية والتضحية بالقرابين وتقديم ضحايا بشرية وارتباط هذا بالعقائد الوحشية عند البشر المتوحشين الأول، وها هي ذي مسلَّمات فيكو التي ذكرها في هذا الصدد:
  • «إذا نما أي شعب أينما كان — في ظل جيوش عاتية حيث لا تجد القوانين الإنسانية أي مكانٍ لها — كانت القوة الوحيدة هي اللجوء إلى الدين» (مسلَّمة ٣١).

  • «عندما يجهل الإنسان طبيعة الأشياء يجعل من نفسه مقياس كل شيء» (مسلَّمة ٣٢).

  • «تصور الجهلاء للطبيعة هو بمثابة ميتافيزيقا شعبية يحاولون بها أن ينسبوا للإرادة الإلهية أسباب الأشياء التي يجهلونها دون أن يذكروا الوسائل التي تستعين بها الإرادة الإلهية» (مسلَّمة ٣٣).

  • «عندما يصاب العقل بالخوف يميل إلى الخرافة، وهذه خاصة من خصائص العقل البشري» (مسلَّمة ٣٤).

  • «الدهشة ابنة الجهل» (مسلَّمة ٣٥).

  • «كلما ضعفت القدرة على التفكير ازداد الخيال قوة» (مسلَّمة ٣٦).

  • «هدف الشعر هو إضفاء الحس والعاطفة على الأشياء الجامدة» (مسلَّمة ٣٧).

  • «هناك نصٌّ كلاسيكي عن أصل الشرك يقول: إن البشر الأوائل أطلقوا أسماء الآلهة على فضائل متميزةٍ إعجابًا بهم وتقرُّبًا لهم لما يملكونه من قوة» (مسلَّمة ٣٨).

  • «إن حب الاستطلاع — وهو صفة طبيعية موروثة في الإنسان — هو ابن الجهل وأبو العلم أو المعرفة، فعندما توقظ الدهشة عقولنا عند رؤية أي ظاهرة طبيعية نسأل مباشرة: ماذا يعني هذا؟» (مسلَّمة ٣٩).

  • «إن الساحرات يفعلْنَ أشياء تُثير الرعب، وهن يمتلئن بالخوف مما يقمْنَ به من خرافاتٍ فتظهر قسوتهنَّ إلى حدِّ التطرف في تمزيق الأطفال لممارسة سحرهن»٩ (مسلَّمة ٤٠).
هكذا نرى من المسلَّمات السابقة أن الدين نشأ نشأةً طبيعيةً فطريةً مع الإنسان؛ فالخوف هو أول من خلق الآلهة على الأرض، والإنسان هو صانع الدين مثلما هو صانع تاريخه، ولا ندري إذا كانت هذه الأفكار التي انتهى إليها فيكو من بحثه في النشأة الطبيعية للإنسان قد فرضت نفسها عليه فلم يستطع أن يغير فيها، أم أنه انتبه إلى خطورتها فغلَّفها بكثيرٍ من الغموض نظرًا للظروف السياسية والدينية التي عاشها.١٠

(١-٦) الميثولوجيا التاريخية

ثم يقدِّم فيكو مجموعة من المسلَّمات عن البداية التاريخية للمجتمع البشري، وهي بدايةٌ مستمدةٌ من الميثولوجيا التاريخية واختلاط الأساطير القديمة بالدين كأسطورة الخلق والفيضان ونشأة الكون لدى الشعوب القديمة. حدَّد فيكو البداية التاريخية بالطوفان وأقامها على افتراض أن الأجناس الكافرة لأولاد نوح الثلاثة سقطوا في المرحلة الوحشية وطافوا غابات الأرض الواسعة مع الوحوش الضارية وأصبحوا عمالقة، ثم أرعدت السماء بعد الطوفان فشعر العمالقة بالخوف، وتصوروا أن هذا الرعد تعبيرٌ عن غضب الإله من حياتهم البهيمية وممارستهم للجماع في العراء فآووا إلى الكهوف وألجأهم الخوف من الإله الذي دعوه جوبيتر إلى الكهوف. وهنالك بدأ أول شكلٍ من المساكن البدائية الثابتة ومعها نشأت العادات والسلوك الديني الذي يحدِّد سلوك كل فردٍ إزاء الآخرين كما ينظِّم الزواج من واحدة.

لم تكن هناك من قوةٍ إلا قوة الدين التي سادت فترة حكم الآلهة، وتبعتها المرحلة البطولية عند الشعوب الأولى فتصوَّرَتْ هذه الشعوب تصورًا خاطئًا أن الأبطال من أصلٍ إلهيٍّ — كما صورت الأساطير القديمة أن هرقل هو ابن جوبيتر — مما يؤكِّد فكرة فيكو أن الأمم لا يمكن أن تقوم أو تنشأ بدون دين، أي بدون هذا الشعور الفطري الذي تنطوي عليه الطبيعة البشرية، فكل الأمم الأممية لديها آلهة خاصة بها مما يؤكد المسلَّمة التي تنصُّ على أن الأفكار المشتركة تنشأ بين شعوبٍ لا تعرف بعضها بعضًا، وهذا يتضح في المسلَّمات التالية عن نشأة الميثولوجيا التاريخية:
  • «نحن نفترض — وهذا افتراضٌ معقول — أن مياه الفيضان تسرَّبَت منذ مئات السنين إلى الأرض وغمرتها» (مسلَّمة ٤١).

  • «قذف جوبيتر — وكل الأمم الأممية لديها جوبيتر — سهمه فصرع كل العمالقة» (مسلَّمة ٤٢).

  • «كل الأمم لديها هرقل، ابن جوبيتر»١١ (مسلَّمة ٤٣).
ثم يؤكد فيكو أن البشر الأولين في هذه المرحلة الدينية كانوا شعراء لاهوتيين، وأن الشعراء كانوا بمثابة المؤرخين الأول للشعوب البدائية، فكان شعرهم سجلًّا للأحداث التاريخية في عصرهم وكانت البداية التاريخية مزيجًا من التاريخ والأساطير:
  • «كان حكماء اليونان القدامى شعراء لاهوتيين، وقد انتشروا بغير شكٍّ قبل الشعراء البطوليين مثلما كان جوبيتر أبًا لهرقل» (مسلَّمة ٤٤).

  • «يميل البشر بطبيعتهم للاحتفاظ بذكرى القوانين والنظم التي تربطهم بمجتمعاتهم» (مسلَّمة ٤٥).

  • «التاريخ البربري كله كان خرافيًّا في بدايته، والشعر هو الذي سجل هذه البداية» (مسلَّمة ٤٦).

فالتاريخ القديم نوع من اللاهوت، ولكن بعد فترةٍ طويلةٍ تغيَّرت العادات وتغير تبعًا لذلك تفسير الأساطير وفقدَتْ معناها الأصلي وانغمسَتْ في عصور الفساد حتى في العصر السابق لهوميروس. ولكي تبرِّرَ هذه الشعوب عاداتها السيئة ألصقت هذه الصفات بالآلهة فتشوهت بذلك الأساطير، وهذا ما حدَثَ للكاهن والمؤرِّخ المصري مانيتو Mantho١٢ عندما فسَّر كل التاريخ المصري وترجمه وهذَّبه إلى لاهوت طبيعي.

(١-٧) الحكمة الشعرية

يؤكد فيكو على شاعرية الشعوب الأولى ويوضِّح كيف كان البشر الأولون شعراء بالفطرة، ويشبِّه الشعراء بالأطفال فكلاهما لديه خيالٌ قويٌّ وكلاهما يفكر من خلال تصورات خيالية، لم يكن الجنس البشري في طفولته قادرًا على تكوين تصورٍ واضحٍ للأشياء، تمامًا كالأطفال العاجزين عن التجريد؛ لذلك بدأت المعرفة البشرية بالحس ولم تبدأ بالعقل، وتكوَّنت الجمل الشعرية عن طريق الأحاسيس العاطفية، ثم تكونت بعد ذلك الجمل الفلسفية عن طريق التفكير والعقل أو المقولات العقلية؛ ولذلك كانت أكثر اتجاهًا نحو العام وأقرب إلى الحقيقة، أضِف إلى هذا أن كل الفنون الضرورية والنافعة أُبدِعت في العصور الشعرية قبل مجيء الفلاسفة. ويرى فيكو أن لدى العامة نزعةً طبيعيةً لخلق الأساطير على نحو مناسب، وهذه عادةٌ متأصِّلةٌ لدى أي شعب؛ فهو يبتكر لكل إنسانٍ مشهورٍ حكايات تلائم ما جرى له في تلك الظروف.

ويستنتج من هذا ملاحظةً هامةً تتصل بالنظرية الشعرية؛ فالشعراء قد رسموا صورًا ونماذج شعرية بالتصور الخيالي صدقتها الشعوب ونسبت إليها بطولاتٍ خارقة وإن كانت في الواقع المادي بعيدة عن الحقيقة التاريخية، والآن نتابع المسلَّمات التي يثبت فيكو من خلالها الميل الفطري للعقل البشري لخلق الأساطير وإبداع الشعر:
  • «يميل العقل البشري إلى كل ما فيه وحدة ونظام» (مسلَّمة ٤٧).

  • «من طبيعة الأطفال أن أفكارهم عن الرجال والنساء والأشياء التي عرفوها في طفولتهم يقيسون عليها كل الأشياء والرجال والنساء الذين عرفوهم بعد ذلك على أساس المشابهة» (مسلَّمة ٤٨).

  • «نسب المصريون إلى هرمس مثلث الحكمة كل الاختراعات النافعة والضرورية للحياة الإنسانية» (مسلَّمة ٤٩).

  • «إن الشعوب الأولى لديها خيالٌ قويٌّ وكان هذا أساس الخيالات الشعرية عند البشر الأولين» (مسلَّمة ٥٠).

  • «الشعراء شعراء بالفطرة لا بالصنعة» (مسلَّمة ٥١).

  • «يتفوَّق الأطفال في التقليد ليُسلُّوا أنفسهم حتى يصبحوا قادرين على الفهم» (مسلَّمة ٥٢).

  • «كان تفكير البشر الأولين غيرَ دقيق، وكانوا يعتمدون على الشعور قبل أن يبدءوا في التفكير بعقلٍ واضح» (مسلَّمة ٥٣).

  • «إن الأساطير الأولى كانت تلائم الشعوب في طبيعتها وعواطفها وعاداتها» (مسلَّمة ٥٤).

  • «هناك نصٌّ كلاسيكي يقول بأن النظرية اللاهوتية للمصريين القدماء كانت مزيجًا من التاريخ والأساطير، فنشأت الأجيال بعد ذلك تخجل منها، ولكن بالتدريج تُرجمت إلى معنًى صوفي» (مسلَّمة ٥٥).

  • «إن المؤلفين القدامى من شرقيين ومصريين وإغريق ولاتين، وحتى في عودة البربرية ممثلة في اللغات الأوروبية للعصور الوسطى، كانوا شعراء»١٣ (مسلَّمة ٥٦).
ويرى فيكو أن مبادئ اللغات والحروف تكمن في حقيقة أن الأمم الأممية الأولى كانت شعوبًا شاعريةً وذلك بحكم الضرورة الطبيعية. وهو يؤكِّد أن هذا هو المفتاح الأساسي للعلم الجديد؛ لأننا مع تمدُّن طبيعتنا في العصر الحديث لا نستطيع أن نتخيَّل ولا نستطيع أن نفهم الطبيعة الشعرية للشعوب الأولى إلا بعناءٍ مضنٍ؛ فالبشر الأولون كانوا يتحدثون بالأساطير والحكايات الخرافية، وكانت الأمم الأولى مفتقرةً إلى القدرات العقلية، فمن الطبيعي أن تكون عواطفها جياشةً ومشاعرها قوية، وهناك مصدرانِ لكل تعبيرٍ شعري: الفقر في اللغة، والحاجة إلى التفسير والإفهام. وتطور اللغات يسير جنبًا إلى جنب مع تطور المجتمعات البشرية، ففي عصر الآلهة كانت اللغة خرساء تعبِّر بالأفعال والأشياء نفسها التي ترتبط بعلاقات طبيعية بالأفكار التي كانوا يحاولون التعبير عنها، ثم بدأَت الشعوب تتلعثم بالغناء الذي درب ألسنتهم على النطق، فكان النطق بكلماتٍ من مقاطع واحدة. أما في عصر الأبطال فقد ظهرت اللغة الشعرية التي اعتمدَت على الاستعارات والتشبيهات والمقارنات والاستعانة بالصور الحسية والوصف الطبيعي للأشياء.١٤

هكذا نجد أن التطوُّر الطبيعي للتنظيمات البشرية جعل اللغة تبدأ بالشعر ثم تستقر في النثر، وهذا ما يشهد عليه تاريخ الشعراء القدامى وتطور الأوزان الشعرية من الأوزان البطيئة إلى الأوزان السريعة، غير أن التطوُّر قد جعل اللغة في العصر البشري تستخدم كلمات تواضع عليها الناس؛ فهي اللغة التي صاغوها بإرادتهم وعبرت عن التحالفات الشعبية والحكومات الملكية على السواء، وهي كذلك اللغة التي ثبت الشعب فيها معاني القوانين التي تسري على النبلاء مثلما تسري على العامة من الناس بعد أن كان النبلاء قديمًا، في الأمم الأممية، يحتفظون بالقوانين في لغةٍ سريةٍ كشيءٍ مقدس، وكان هذا سببًا طبيعيًّا لسرية القوانين لدى أعضاء مجلس الشيوخ الروماني إلى أن قامت الحريات الشعبية.

ويوضح فيكو كيف أن الأفكار واللغات تطوَّرت في خطواتٍ متشابهة، وأن الأمم بدأَتْ بلغة شعرية ثم جاءت اللغة النثرية بعد ذلك، كما سيتضح في المسلَّمتَيْن ٦١، ٦٢، وفيكو لا يلقي الضوء على بدايات اللغات وحدها بل على بدايات الحروف التي يئس علم اللغة القديم من العثور عليها؛ إذ اعتقد علماء اللغة أن اللغات كانَتْ أسبقَ في الوجود من الحروف، بينما الواقع أن الحروف واللغات توءمان ولدا وسارا معًا بسرعةٍ عبر المراحل الثلاث. ويهتم فيكو اهتمامًا بالغًا بدراسة أتيمولوجيا (اشتقاق) اللغات (أي دراسة الكلمة وتاريخها) كما سيتضح في مسلَّمة ٦٥ وكما سنرى في الفصول التالية، ونتابع قراءة المسلَّمات عن تطور اللغات فنجده يقول فيها:
  • «اللغة الخرساء تعبِّر بالأفعال والإيماءات والأشياء نفسها التي ترتبط بعلاقاتٍ طبيعيةٍ بالأفكار التي يحاول البشر التعبير عنها» (مسلَّمة ٥٧).

  • «اللغة الخرساء تُعبر بالغناء عن أصواتٍ ليس لها شكل والتلعثم بالغناء يعلم ألسنتهم (أي البشر) النطق» (مسلَّمة ٥٨).

  • «يعبر البشر بالأغنية عن عواطفهم الجياشة كما نلاحظ في حالات الحزن العميق الفرح» (مسلَّمة ٥٩).

  • «يجب أن تبدأ اللغات بكلماتٍ من مقاطع واحدة» (مسلَّمة ٦٠).

  • «القصيدة البطولية هي أقدم أشكال القصيدة، والسبوندي هو أبطؤها وسنرى أن القصيدة البطولية كانت أصلًا من البحر السبوندي»١٥ (مسلَّمة ٦١).
  • «القصيدة العمبقية تكون أقرب إلى النثر، والبحر العروضي يكون أسرع على نحو ما وضعه هوراس Horace» (مسلَّمة ٦٢).
وتتطور الأفكار في خطواتٍ مشابهةٍ لتطوُّر اللغات؛ فقد بدأ كلاهما بالحس وتكشف هذه الأفكار عن أنواع التنظيمات البشرية وتطورها، بل ويعد العلم الجديد هو تاريخ الأفكار البشرية — على حد تعبير فيكو نفسه — كما تؤكد ذلك المسلَّمات التالية:
  • «يميل العقل البشري بطبيعته لأن يرى نفسه مجردًا من المضمون ليفهم نفسه بالتفكير العقلي المجرد» (مسلَّمة ٦٣).

  • «نوع الأفكار لا بد أن يتبعه نوع المؤسسات الاجتماعية أو الأنماط السلوكية» (مسلَّمة ٦٤).

  • «تتابعت النظم الاجتماعية على هذا النظام فبدأت بالغابات ثم الأكواخ ثم القرى والمدن وأخيرًا الأكاديميات العلمية»١٦ (مسلَّمة ٦٥).
وهذا التتابُع للمؤسسات البشرية يعدُّ نموذجًا لتاريخ تطور معاني الكلمات في اللغات المختلفة، فنلاحظ أن معظم كلمات اللغة اللاتينية ذات أصولٍ مشتقةٍ من الحياة في الغابات أو الريف، ونأخذ على سبيل المثال كلمة Lex التي كان معناها في البداية قطف أو جمع شجر البَلُّوط ثم اشتق منها كلمة ilex وهي شجرة البَلُّوط، وتطوَّرت الكلمة في الحياة الريفية فأصبح معناها مجموعة من الخضروات، وفي فترةٍ لاحقة وقبل أن تُكتشف الحروف العادية اقتضَت الطبيعة المدنية استعمالها بمعنى مجموعةٍ من المواطنين أو البرلمان العام أو مجلس شعبي عام؛ لأنها تعني التجمع نفسه، وأخيرًا كانت كلمة legere تعني تجميع حروف الكتابة بجانب بعضها، أي تجميع الحروف في كلماتٍ وتجميع الكلمات في جمل، وهذا ما تم في الأكاديميات العلمية التي كانت آخر شكلٍ من أشكال تطور التنظيمات البشرية ويمثل قمة التطوُّر، ثم يرتد هذا التطوُّر ويتردى في الانحلال إلى أن يسقط.

(١-٨) التاريخ المثالي الأبدي

ينتهي فيكو إلى وضع مبادئ تاريخ مثالي أبدي مرَّت به كل أمةٍ في نشأتها وبنائها وتطورها ونضوجها ثم تدهورها وسقوطها، أي أن هذا التاريخ الأبدي يتتبع كيف نشأت الأمة، وكيف تطوَّرت أشكال الحكم فيها ونضجت ثم كيف تدهورت بالتدريج وسقطت. ونظرية التاريخ المثالي الأبدي هي لبُّ فلسفة فيكو التاريخية وهي النظرية التي قام عليها مذهبه التاريخي. وسوف نتناول هذه النظرية بالتقييم في الباب الثالث، ونكتفي في هذا المكان بتتبُّع كيف نشأت المجتمعات البشرية الأولى من الحاجات الضرورية للإنسان، ثم كيف اتجه الإنسان إلى كل ما هو نافع، ثم أخذ يلتمس الراحة وبدأ يسعى وراء الملذات، ثم انغمس في الترف إلى حد التدهور إلى أن سقطت التنظيمات البشرية.

ويقرر فيكو مبدأ سياسيًّا هامًّا وهو أن نشأة التنظيمات السياسية ترجع لطبيعة الشعوب بحيث توافق هذه التنظيمات طبيعة الشعوب المحكومة؛ ولهذا تطوَّرت أشكال الحكم لدى الأجناس البشرية الأولى ومرت بمراحل ست أو أنواع ستة: النوع الأول (السيكلوب) كان ضروريًّا في المرحلة الأسرية وضرورة وجود فرد واحد يخضع له الآخرون. النوع الثاني الذي يتصف بالزهو والغرور (مثل أخيل) كان ضروريًّا لبناء النظم الأرستقراطية على قاعدة النظام الأسري. النوع الثالث الذي يتصف بالشجاعة (مثل أرستيدس) كان ضروريًّا لفتح الطريق للحرية الشعبية. النوع الرابع (مثل الإسكندر وقيصر) لإقامة ملكيات أو إمبراطوريات جديدة. النوع الخامس (مثل تيبرس) كان ضروريًّا لإقرار هذه الإمبراطوريات واستقرارها. النوع السادس (مثل نيرون وكاليجولا) لتدميرها … ويلخِّص فيكو مبادئ التاريخ المثالي في المسلَّمات التالية:
  • «شعر البشر الأولون بالحاجات الضرورية فبحثوا عن الأدوات النافعة، ثم اتجهوا إلى أساليب الراحة، ثم انغمسوا في الترف ليُسعدوا أنفسهم، وأخيرًا أصابهم الجنون فضيَّعوا ثروتهم وفقدوا جوهرهم الحقيقي» (مسلَّمة ٦٦).

  • «كانت طبيعة الشعوب الأولى في البداية قاسية وتدرجت من الخشونة إلى الاعتدال والرقة وأخيرًا إلى الانغماس في اللذات أو التحلل» (مسلَّمة ٦٧).

  • «ظهرت الأجناس البشرية الأولى في أشكال غريبة (مثل السيكلوب) ثم أجناس تتصف بالزهو والغرور (مثل أخيل) ثم الشجاعة (مثل أرستيدس) ثم أجناس حقَّقت نصرًا شعبيًّا ومجدًا حقيقيًّا (مثل الإسكندر وقيصر) ثم أجناس يغلب عليها طابع التأمل (مثل تيبرس) وأخيرًا الانغماس في الملذات والجنون (مثل نيرون وكاليجولا)» (مسلَّمة ٦٨).

  • «يجب أن تتكيف الحكومات أو تطابق وتوافق طبيعة المحكومين»١٧ (مسلَّمة ٦٩).
ويفسر فيكو نشأة نظم الحكم في الشعوب الأولى مبتدئًا بالنظم الملكية وهي أول شكل من أشكال الحكم في العالم، فبعد أن استقرَّ الجنس البشري في الأرض واحترف الناس الزراعة وكوَّنوا الأسر، وأصبح لهم طقوس عبادة وإله يعبدونه. كان آباء الأسر هم الملوك والحكماء الذين يتلقَّوْن التكهنات من الآلهة ويبلِّغونها لأسرهم وهذا ما تؤكده المسلَّمات التالية:
  • «بدأت كل الأمم بطقوس العبادة، أي عبادة إله معين، وكان آباء الأسر هم الحكماء المطلعون على نبوءات الآلهة، وكانوا يبلغون أسرهم بالقوانين الإلهية.» (مسلَّمة ٧٢)

  • «يقضي التراث الشعبي بأن أول من حكم العالم ملوك» (مسلَّمة ٧٣).

  • «إن الشعوب تنتخب أكثر الناس جدارة» (مسلَّمة ٧٤).

  • «إن الملوك في العصور الأولى كانوا حكماء؛ ولذا اشتاق أفلاطون إلى العصور القديمة التي كان فيها الفلاسفة ملوكًا أو كان الملوك فلاسفة» (مسلَّمة ٧٥).

  • «إن الشكل الأول لكل حكومات العالم القديم كانت حكومات ملكية»١٨ (مسلَّمة ٧٦).
ثم يقدم فيكو مجموعةً من المسلَّمات التي تقوم على افتراض أساسي لتفسير نشأة التجمُّعات البشرية Commonwealths؛ فبعد أن طاف العمالقة كما ذكرنا في غابات الأرض الواسعة وأرعدت السماء لأول مرة بعد الطوفان، لجأ بعض العمالقة إلى الكهوف ودفعهم الخوف من الإله إلى نظام الزواج من امرأة واحدة، وكونوا أسرًا واستقروا في الأرض وزرعوها وظل باقي العمالقة في تجوالهم البهيمي خارجين عن القانون، وبعد مرور حقبةٍ طويلةٍ من الزمن لجأ هؤلاء العمالقة إلى الأراضي المزروعة لآباء الأسر لطلب الحماية والاستقرار، فاتخذهم الآباء كأتباع أو عبيد للأرض يفلحونها. وبمرور الزمن بدأ هؤلاء العبيد في التمرُّد، فتحالف الآباء ووحَّدوا أنفسهم في تنظيماتٍ لمواجهة عبيد الأرض الثائرين، وأقرُّوا لهم بنوعٍ من الإقطاع الريفي كسبًا لطاعتهم، وسمى رؤساء التنظيمات أنفسهم ملوكًا وواجهوا هؤلاء العبيد المتمردين، وأصبحت السلطة العائلية لآباء الأسر — التي لا يمكن أن نفهمها إلا على أنها كانت نوعًا من إقطاعات النبلاء — خاضعة للقوى السياسية لهذه التنظيمات الحاكمة. وأصبحت التجمعات البشرية أرستقراطيةً من تلقاء نفسها؛ إذ نشأ النظام الأرستقراطي عن ضرورةٍ ملحة هي الضرورة التي فرضها عبيد الأرض على آباء الأسر، ويقدِّم فيكو هذا الفرض لتفسير نشأة التجمعات البشرية، ويدعونا إلى التسليم بأنه صحيحٌ لأنه فرض بسيط وطبيعي، ولأن الآثار السياسية المترتبة عليه لا حدَّ لها، وإذا لم نسلم به فلن نفهم كيف نشأت سلطة الدولة من سلطةٍ أخرى ولا كيف تمخَّضَت السلطة الإقطاعية العامة عن الإقطاع الخاص، ولا كيف تألَّفت الجماعة من تنظيمٍ يضم عددًا قليلًا يصدر أوامره وأغلبية من العامة تخضع لهذه الأوامر. ولنقرأ الآن المسلَّمات التي تتناول نشأة التجمعات البشرية:
  • «يجب أن نسلم أن بعض الناس الخارجين عن القانون انسحب منهم مجموعةٌ من الأقوياء وكونوا أسرًا وزرعوا الأرض، وبعد فترةٍ طويلةٍ من الزمن جاء باقي الخارجين عن القانون ليعيشوا في نفس الأرض المزروعة لآباء الأسر» (مسلَّمة ٧٠).

  • «العادات الفطرية لا تتغير كلها دفعة واحدة، وإنما تتغير تدريجيًّا وتستغرق فترات طويلة من الزمن» (مسلَّمة ٧١).

  • «إنَّ أسماء الأسر ترجع إلى عبيد الأرض الذين أطلقوا على الأسر أسماءها» (مسلَّمة ٧٨).

  • «لا يمكن أن نتصوَّر قيام اتحادات قبل وصول أولئك اللاجئين الذين جاءوا للآباء لكي ينقذوا حياتهم وتعهدوا بزراعة الأرض ردًّا لهذا الصنيع»١٩ (مسلَّمة ٧٩).
هكذا نشأ المجتمع الأرستقراطي الإقطاعي ومنح النبلاء إقطاعات من الأرض كانت أول قانون زراعي في العالم، وانقسم المجتمع إلى طبقتَيْن طبقة نبلاء وطبقة عبيد، وأقسم النبلاء على العداء الأبدي للعامة فنشب الصراع الطبقي. وكان النبلاء هم الأبطال المحاربون ولهم وحدهم شرف البطولة، كما كانوا حريصين دائمًا على ألَّا تنال العامة هذا الشرف. ويوضِّح فيكو كيف ينشب الصراع البطولي في الحكومات الأرستقراطية التي كانت تفتقر إلى القانون المدني الذي ينظِّم العلاقات بين الأفراد، وهذا يبين قسوة النبلاء تجاه العامة مما يتجلَّى بوضوحٍ في التاريخ الروماني حيث كانوا يلقون بهم في أهوال الحروب ويغرقونهم في الديون والفوائد ويضربونهم بالسياط على أجسادهم العارية فيدفعون الثمن سخرة في العمل. وتحليل فيكو للصراع الطبقي يقوم على أمور ثلاثة: طموح طبقة العامة للمشاركة في الحقوق المدنية والقوانين التي كان يتمتع بها الآباء؛ إصرار الآباء على الاحتفاظ بهذه الحقوق داخل طبقتهم؛٢٠ حكمة المشرعين في تفسير تلك القوانين ومد منفعتها شيئًا فشيئًا وتعديلها لما يستجد من حالاتٍ أخرى. وهذه هي المسلَّمات عن نشأة النظام الأرستقراطي والنظام الإقطاعي كضرورةٍ تطلبتها الحياة المدنية:
  • «كان طبيعيًّا أن يتجه المجتمع البشري بعد ذلك للنظام الإقطاعي الذي يقوم على المقايضة؛ لأنهم رأَوْا فيه أفضل المنافع والفوائد التي يتطلَّعون إليها في الحياة المدنية» (مسلَّمة ٨٠).

  • «من صفات الأقوياء أن ما كسبوه بالقوة لا يتخلون عنه بسهولةٍ أو لا يترددون في الدفاع عنه، وإنما يتخلون عن جزءٍ منه عندما تقتضي الضرورة وبالتدريج وفي أضيق الحدود الممكنة» (مسلَّمة ٨١).

  • «كل الشعوب القديمة كان لها أتباع أو عبيد للأرض» (مسلَّمة ٨٢).

  • «إن قانون الإقطاع الريفي (الذي يقر للعبيد بجزءٍ من الأرض) هو القانون الزراعي الأول في العالم؛ لأننا لا نستطيع على الإطلاق أن نتصوَّر نظامًا آخر يُعطي أقل من هذا القدر» (مسلَّمة ٨٣).

ويستدل فيكو على صحة رأيه بنصٍّ هامٍّ من كتاب السياسة لأرسطو، يتحدث فيه عن أشكال الدول ويذكر الممالك البطولية التي كان فيها الملوك يطبقون القوانين في الداخل ويقودون الحروب في الخارج، كما كانوا في نفس الوقت هم رؤساء الكهنة في الطقوس الدينية.
  • «من كتاب السياسة لأرسطو: إن الجماعات القديمة لم يكن لديها قوانين لمعاقبة العدوان على الأشخاص، أي لم يكن لديها قانون يحمي الأشخاص من الظلم الواقع عليهم، لقد كان هذا هو أسلوب الشعوب البربرية؛ لأن الشعوب في بدايتها كانت في حالة توحش ولم تستطع بعد أن تنظم عاداتها تنظيمًا قانونيًّا» (مسلَّمة ٨٥).

  • «نص آخر ورد في سياسة أرسطو يقول: إن الحكومات القديمة تبين أن النبلاء يُقسِمون على أن يكونوا أعداء دائمين لعامة الناس» (مسلَّمة ٨٦).

  • «إنَّ الحكومات الأرستقراطية لا تميل للحروب لكيلا تجعل العامة جنودًا محاربة» (مسلَّمة ٨٧).

  • «حافظت الحكومات الأرستقراطية على ثروة النبلاء لأن هذه الثروة عنصرٌ من عناصر قوة هذه الطبقة» (مسلَّمة ٨٨).

  • «الشرف هو أسمى وأنبل الحوافز للشجاعة في الحروب» (مسلَّمة ٨٩).

  • «لا بد للشعوب في أوقات الحرب أن تستبسل أو أن تسلك سلوك الأبطال إذا أرادت أن تنال الشرف في أوقات السلام» (مسلَّمة ٩٠).

  • «إن صراع الطبقات من أجل الحصول على نفس الحقوق من أقوى العوامل على تقوية الدول» (مسلَّمة ٩١).

  • «إن الضعفاء يريدون القوانين، والأقوياء يقاومونها، وأصحاب الطموح يشجعونها ليكسبوا أتباعًا لهم» (مسلَّمة ٩٢).

ويستمر الصراع الطبقي وتظل العامة تتطلع للمساواة في الحقوق المدنية وحقوق الشرف مع طبقة النبلاء إلى أن يضطر النبلاء للخضوع لسلطة القانون، فتتكوَّن الجمهوريات الشعبية الحرة وتقوم المساواة بين النبلاء والعامة في الحقوق المدنية، وتبدأ العامة في سن القوانين ثم تضع نفسها فوق القانون فتسود الفوضى ويعم الاستبداد والطغيان وتنهار نظم الحكم الشعبية فيضطر كلٌّ من النبلاء والعامة إلى الخضوع لسلطة رجلٍ واحدٍ ينصب نفسه ملكًا وتعود نظم الحكم الملكية، ويصور فيكو هذا في المسلَّمات التالية:
  • «كان الطريق مفتوحًا أمام العامة لإشباع نهمها في الحصول على حقوق الشرف والمناصب الكبيرة؛ لذلك نشأت الحروب الأهلية في الداخل والحروب العدوانية في الخارج» (مسلَّمة ٩٣).

  • «تزداد الحرية الطبيعية شراسةً كلما دافع الفرد عن ملكيته الشخصية» (مسلَّمة ٩٤).

ويستشهد فيكو بالتاريخ الروماني في تصوير الصراع الطبقي وتطوُّر نظم الحكم فيه (مسلَّمة ٩٥):
  • «إن الناس تتطلع للمساواة وترفض حالة الخضوع، هكذا كان سلوك طبقة العامة في الحكومات الأرستقراطية الرومانية التي تحوَّلت بفضل هذا السلوك إلى جمهورياتٍ شعبيةٍ حرة، ثم حاول الأفراد أن يتفوقوا على بعضهم البعض ففسدت الجمهوريات الشعبية وتحوَّلت إلى جمهورياتٍ يتسلَّط عليها بعض الأفراد. وأخيرًا حاولَت العامة أن تخضع القوانين لسيطرتها فنشأت الفوضى، وهذه الحالة هي أسوأ حالات الطغيان إذ يكثر عدد الطغاة، وعند هذا تشعر العامة ببؤسها فتسترد وعيها وتحاول أن تنقذ نفسها بالخضوع لسيطرة فرد واحد، وفي هذه الحالة يسود القانون الملكي الطبيعي الذي حاول به تاسيتوس أن يبرِّر الملكية الرومانية تحت سيطرة أغسطس.» ويجمل فيكو هذا الصراع مرةً أخرى في (مسلَّمة ٩٦) فيقول: «بفضل الحرية الطبيعية التي لا تخضع لقانون تحلُّل النبلاء من كل الالتزامات والقيود عندما بدأ تأسيس المجتمعات الأولى على أساس أسري، فنشأت الحكومات الأرستقراطية التي كانوا هم سادتها، ثم اضطر النبلاء أن يتساووا مع العامة في الأعباء والقوانين بعد أن أجبرهم العامة على الخضوع لسلطة القانون. وعلى هذا استقر وضع النبلاء في الجمهوريات الشعبية، ولكنهم مالوا بصورةٍ طبيعيةٍ إلى الخضوع لسلطة رجلٍ واحدٍ لكي يضمنوا لأنفسهم حياة مريحة وكان هذا هو حالهم في ظل الملكية.»٢١ ولا شك أننا نُلاحظ في مسلَّمة ٩٤ نوعًا من التنبؤ بما قاله روسو والاشتراكيون الأوائل وما أكَّده ماركس بعد ذلك من أن الملكية الخاصة هي أصل الشراسة والعدوان والاستعباد، أي تتحول الحرية الطبيعية في الإنسان إلى شراسةٍ كلما مس أحدٌ أملاكه الشخصية.

(١-٩) أثر الجغرافيا في تأسيس الشعوب

استعان فيكو بعلم الجغرافيا لدراسة الطبيعة المشتركة للأمم ليُبيِّن كيف أن العامل الجغرافي له أثرٌ كبير في تأسيس الشعوب؛ إذ عاش البشر في البداية داخل الجبال ثم انتقلوا إلى السفوح والسهول وأخيرًا عاشوا على شواطئ البحار. ويستشهد فيكو بنصٍّ من أفلاطون يؤيِّد به صحة رأيه ويوضِّح أن البشر في كل العصور يبدءون حياتهم داخل الجبال ثم بالتدريج ينتشرون في السهول. ويستدل كذلك بأمثلةٍ من التاريخ القديم عن تأسيس مدينة صور داخل البلاد، ثم نقلها إلى شاطئ البحر إلى أن جاء الإسكندر ونقلها إلى اليابسة، ومن هذا المنطلق واعتمادًا على التاريخ العبري يُبرهن فيكو على قِدم الشعب اليهودي الذي أسسه نوح في بلاد ما بين الرافدين وأبعد بلاد العالم المأهول بالسكان بعيدًا عن البحر؛ ولذلك فهم أقدم الشعوب، ويحاول فيكو أن يُثبت صحة هذا بتأكيده أنه قد تأسَّست هناك أول دولة ملكية من الآشوريين التي حكمت الكلدانيين الذين نشأ بينهم الحكماء الأوائل في العالم ومنهم زرادشت.

ولا يفوتنا أن نأخذ على فيكو هذه الغلطة التاريخية التي وقع فيها؛ لأن أول حكومةٍ ملكية ظهرت في العالم نشأَتْ في ظل الحضارة المصرية القديمة كما أثبتت الحفريات في القرن التاسع عشر، وإن كنا نلتمس له العذر لأن علم الحفريات لم يتقدَّم ويزدهر إلا في القرن التاسع عشر؛ ولذا لم تتوفر الدراسات الكافية — في عصره — عن الحضارات القديمة. ولنتابع المسلَّمات لنرى أثر العامل الجغرافي في تأسيس الشعوب.

  • «عاش البشر — بعد الطوفان — فوق الجبال ثم نزلوا للسفوح، وبعد عصور طويلة وجدوا في أنفسهم الشجاعة للاقتراب من شواطئ البحار» (مسلَّمة ٩٧).

  • «هناك فقرة لأفلاطون٢٢ يقول فيها: إن البشر بعد الطوفان المحلي (أوجيجن وديكلبينوت) عاشوا في كهوفٍ فوق الجبال، وهؤلاء هم العمالقة السيكلوب الذين يتعرَّف أفلاطون عن طريقهم على أول رؤساء الأسر الذين ظهروا في العالم، ثم انحدروا على جانبي الجبال وأخيرًا نزلوا للسهول» (مسلَّمة ٩٨).
  • «يقول التراث الشعبي إن صور أُسِّست داخل البلاد ثم نُقلت إلى ساحل البحر الفينيقي وانتقلت بعد ذلك إلى جزيرةٍ قريبةٍ إلى أن نقلها الإسكندر الأكبر إلى اليابسة»٢٣ (مسلَّمة ٩٩).
واستنادًا إلى علم الجغرافيا أيضًا يفسِّر فيكو أسباب هجرة الشعوب تحت حكم الضرورة كالتجارة وكسب العيش وتحقيق الثروة … إلخ. لقد حاول أن يوضح كيف ضلَّت سلالة أبناء نوح الثلاثة في حياة رعوية بهيمية؛ إذ أرغمتهم الضرورة على الهرب من الوحوش الكاسرة بحثًا عن الماء والغذاء وملاحقة النساء، ثم وجدوا أنفسهم مشتتين على الأرض بعد أن أرعدت السماء لأول مرة بعد الطوفان. ولو أن هذه الأمم الأممية حافظت على إنسانيتها مثل الشعب اليهودي لبقوا مثله في قارة آسيا الممتدة الواسعة، ولكن الضرورة الملحَّة هي التي أرغمَتْهم على الهجرة، وهجرة الشعوب تثبتها المستعمرات كالتي أنشأها الإغريق على ساحل أيونيا أو على الساحل الجنوبي في إيطاليا والمستعمرات الرومانية المتأخرة … إلخ. ويمكننا بهذا أن نتتبع تاريخ الشعوب التي أسست مستعمرات في بلاد غريبة على فتراتٍ تاريخيةٍ متتالية. وفيكو كعالم لغويات يستدل على ذلك من اشتقاق بعض الكلمات والأسماء من أصولٍ أجنبيةٍ مختلفةٍ عن جذورها الأصلية، فعلى سبيل المثال سُميت نابولي في البداية بكلمة Sirena مما يدل على أن السريان أو الفينيقيين (أول بحارة في العالم) هم أول من أسَّس فيها مستعمرةً تجارية، ثم تغير الاسم إلى Parthenope وهي كلمة إغريقية من العصر البطولي، ثم سُميت أخيرًا Neapolis وهي كلمة من اللغة الإغريقية الشعبية تعني المدينة الجديدة، مما يدل على أن الإغريق قد وصلوا إليها ليقيموا علاقاتٍ تجارية معها.

ويرى فيكو أن الشعوب المغلقة على نفسها لا بد أن تُفتح إما بواسطة غزوٍ خارجي أو بالتجارة مع الأجانب، وهو يضرب أمثلةً على ذلك من التاريخ القديم عندما فتح بسماتيك مصر للكاريبيين والأيونيين الإغريق، ومن العصر الحديث عندما فتح الصينيون بلادهم للتجارة مع الغرب، ونُتابع الآن مسلَّمات فيكو في هجرة الشعوب.

  • «تحت ضغط ضرورات الحياة تخلَّى الإنسان عن أرضه، التي هي بالطبع عزيزة عليه، ولكنه تركها مضطرًّا ليشبع نهمه في تحقيق الغنى عن طريق التجارة، أو ليحافظ على ما كسبه» (مسلَّمة ١٠٠).

  • «كان الفينيقيون هم أول بحارةٍ في العالم القديم» (مسلَّمة ١٠١).

  • «كانت الأمم في المرحلة البربرية مغلقة على نفسها، فإما أن تُفتح من الخارج بواسطة الحروب أو تُفتح طواعيةً للتجارة مع الأجانب» (مسلَّمة ١٠٢).

  • «الفرض الذي يجب التسليم به هو أن مستعمرةً إغريقيةً أُقِيمت على شواطئ اللاتيوم، ثم انتزعها الرومان ودمَّروها وظلَّت هذه المستعمرة مدفونةً في ظلام العصور القديمة. وإذا لم نسلم بهذا فلن نفهم ما يحكيه التاريخ الروماني عن شخصياتٍ مثل هرقل أو عن الأركاديين والفريجيين في منطقة لاتيوم، ولن نفهم ملاحظة تاسيتوس٢٤ في حولياته بأن حروف الهجاء الرومانية تُشبه الحروف اليونانية القديمة»٢٥ (مسلَّمة ١٠٣).

(١-١٠) تطور القوانين مع تطور العقل البشري

ثم يذكر فيكو مجموعةً من المسلَّمات عن تسلسل نسب الآلهة، ويؤكد أن العشائر الأولى للمجتمع البشري أو الأمم الأولى نشأَتْ قبل المدن الكبرى؛ ولهذه الأمم الصغيرة آلهتها الخاصة بها وكانت تدعى آلهة آباء الأسر. وبعد ظهور المدن نشأَت الأمم الكبيرة وكان لها أيضًا آلهتها. ومن تتبُّع فيكو لتسلسل نسب الآلهة أثبت أن عددهم اثنا عشر إلهًا في كل الأمم الأممية:
  • «نشأت الأمم الأولى قبل إنشاء المدن وكانت تسمى بيوت النبلاء القديمة، ومن هذه الأمم الأولى أو العشائر الصغيرة كون رومولوس مجلس الشيوخ» (مسلَّمة ١٠٧).

  • «وفقًا للتقسيم السابق، هناك آلهةٌ كانوا آباء الأسر في الأمم الأولى قبل تأسيس المدن، ووفقًا للثيوجونيا الطبيعية فإن عدد الآلهة في كل الأمم الأممية كان يبلغ اثني عشر إلهًا»٢٦ (مسلَّمة ١٠٨).

ثم يتعرَّض فيكو لمجموعةٍ من المسلَّمات التي يقدم فيها آراءه عن القانون المدني والقانون الطبيعي؛ فالقانون الطبيعي أسسته الشعوب من خلال عاداتها الطبيعية والبسيطة، ثم أضفى الفلاسفة على القانون الطبيعي صورةً أكمل عن طريق العقل، أي أنهم تمَّموا بالعقل ما بدأَتْه الأمم الأممية بالعادة والعرف، ولكن الفلاسفة لم يظهروا إلا بعد ألفَيْ سنة من نشأة الأمم الأممية.

ويؤكد فيكو أن العناية الإلهية هي التي حددت القانون الطبيعي للشعوب؛ لأن الأمم عاشَتْ قرونًا طويلةً وهي عاجزةٌ عن فَهْم الحق وعن فَهْم فكرة القانون الطبيعي التي وضحها الفلاسفة فيما بعد. وسمحت العناية الإلهية بأن تتمسك الأمم بقوانينها المدنية، بل أن تتمسك بحَرْفية هذه القوانين مهما ثبتت قسوتها عند تطبيقها، وقد حرصت العناية الإلهية بهذا على أن تُحافظ على وجود الأمم وبقائها وهذا ما أغفله — في رأي فيكو — فقهاءُ القانون الطبيعي؛ ولهذا أخطئوا جميعًا في مذاهبهم لأنهم تصوَّروا أن الأمم الأممية قد فهمت فكرة القانون الطبيعي منذ نشأتها الأولى دون أن يُدركوا أن هذه الفكرة لم تتضح بشكلٍ كاملٍ إلا بعد تطوُّر العقل البشري وبعد ظهور الفلاسفة لدى هذه الأمم بعد ألفَيْ سنةٍ من نشأتها فأخذوا يُبلورون فكرة القانون الطبيعي بشكلٍ كاملٍ عن طريق العقل. والقانون المدني وضعه الأذكياء من البشر الذين صاغوا المنفعة صيغةً قانونية؛ ولذلك فهذا القانون لا يفهمه إلا قلةٌ من البشر من ذوي المعرفة والذكاء، أما الشعوب ذات الأفكار المحدودة فقد فهمت القانون على أنه الالتزام الشديد بالصياغة الدقيقة للكلمات التي وضعها الحكماء طبقًا لما هو ضروريٌّ لحفظ الجنس البشري. وهذا ما تُعبِّر عنه المسلَّمات التالية:
  • «البشر ذوو الأفكار المحدودة يفهمون القانون على أنه ما تُعبِّر عنه الكلمات» (مسلَّمة ١٠٩).

  • «النص الذي ذكره أولبيان Ulpian عن مفهوم القانون المدني لا يعرفه إلا قلةٌ من الناس من ذوي الخبرة والمعرفة والذكاء، وهؤلاء يستطيعون الحكم على ما هو ضروريٌّ للحفاظ على المجتمع البشري، أي أن القانون المدني ليس قانونًا طبيعيًّا» (مسلَّمة ١١٠).
  • «يقين القوانين يظل غامضًا بالنسبة للعقل ولا تسنده إلا سلطة التقاليد ويتعذَّر على العقل أن يفهمه؛ ولهذا فإن القوانين تطبق مهما كانت صارمةً لاستنادها إلى سلطة التقاليد» (مسلَّمة ١١١).

  • «إن الأذكياء من البشر يعتقدون أن ما تُمليه المنفعة هو القانون» (مسلَّمة ١٢٢).

  • «الجانب الحق من القوانين نوعٌ من الضوء الذي يُضفيه العقل الطبيعي عليها؛ لذلك كثيرًا ما يستعمل المشرعون كلمة حق مرادفة لكلمة عدل» (مسلَّمة ١١٣).

  • «إن القانون الطبيعي في نظر العقل البشري المتطور هو في الواقع تطبيقٌ للحكمة على المنفعة العملية؛ لأن الحكمة بمعناها الأشمل ليسَتْ إلا علم استخدام الأشياء وَفْق طبيعتها»٢٧ (مسلَّمة ١١٤).

كانت هذه هي مسلَّمات العلم الجديد التي قدمها فيكو والتي يجب أن يسلم بها كل باحثٍ في عالم الأمم لتكون الأساس العلمي والنظري في بناء الهيكل التاريخي، أو بمعنًى آخر هي صورة العلم الجديد.

ولكن هناك بعض المغالطات التاريخية في هذه المسلَّمات، وقد أوضحنا منها في ثنايا هذا الفصل الغلطة التاريخية الخاصة بنشأة النظم الملكية في العالم وكيف أنها بدأَتْ في مصر، ومنها أيضًا أن التاريخ بدأ بالطوفان، فهل هذه هي البداية التاريخية الحقة؟ من المؤكد أن بداية التاريخ البشري كانَتْ قبل هذا الزمان، ولكن لم تتوفر المعلومات التاريخية عن هذه الفترة وبالتالي فهو تاريخ مجهول؛ لذلك بدأ فيكو التاريخ من الطوفان لكونه واقعة تاريخية منها يستطيع أن يجمع الخيوط حول بداية التاريخ البشري من الأساطير والتراث الشعبي ونشأة اللغات.

من الواضح تأثُّر فيكو بأفلاطون في بحثه عن نظام أبدي دائم للأشياء؛ فقد قال فيكو بتاريخ مثالي أبدي يحكم مسار الأمم في مولدها وتقدمها ونضجها ثم تدهورها وسقوطها. ويرى برييه أن الأمر عند فيكو ليس كما هو عند كوندورسيه وكونت مسألة قانون يصوغ تقدمًا أو تطورًا لا محدودًا للبشرية في مجموعها، وإنما هو مسألة قانون مثالي تشارك فيه كل أمةٍ مستقلةٍ عن الأمة الأخرى على مدى تطورها؛ فالتاريخ الروماني من العصور الأسطورية الملكية حتى نهاية الإمبراطورية على يد البرابرة مثل على هذا الكل المتكامل، وهو مثال لتاريخ أي أمةٍ بحيث إن مراحله المتتابعة يمكن أن توجد في أي أمةٍ أخرى، أي أن الزمان يسير في شكلٍ دوري يدور ثم يعود على نفسه ليبدأ التاريخ من جديدٍ مع كل أمة، وهنا يردِّد فيكو النظرة المألوفة عند كلٍّ من أفلاطون وأرسطو والرواقيين الذين كانت لديهم نفس الفكرة عن الزمان.٢٨

(٢) مبادئ العلم الجديد

يضع فيكو مبادئ علمه الجديد مفترضًا عدم وجود كتب على الإطلاق، رافضًا كل ما قدمه علماء اللغة والفلاسفة من أفكارٍ بدَتْ له مشوشة ومضطربة لسببَيْن:
  • (أ)

    غرور الباحثين الذين يتصوَّرون أن كل ما يعرفونه كان معروفًا منذ بداية العالم؛ ولهذا لا نستطيع أن نلجأ إلى أبحاث الفلاسفة فحسب.

  • (ب)

    غرور الشعوب التي يتصور كلٌّ منها أن تاريخ العالم بدأ مع بداية تاريخ شعبه وأمته؛ ولذلك لا نستطيع الاعتماد على ما كتبه علماء اللغة وحدهم عن تاريخ هذه الشعوب.

ولكن وسط الظلام والغموض الذي يكتنف الشعوب القديمة يشرق نور الأبدية، إن العالم التاريخي من صنع البشر، وهذه هي الفكرة الرئيسية في فلسفة فيكو. والتاريخ ليس من صنع القدر ولكن من صنع العقل ولهذا فلا بد أن نجد مبادئ التاريخ في تحولات عقلنا البشري نفسه، ويتعجب فيكو تعجبًا شديدًا من اتجاه كل الفلاسفة الجادِّين لدراسة العالم المادي الطبيعي الذي هو من صنع الله وهو وحده القادر على معرفته معرفةً تامة، بينما أهملوا البحث في عالم التاريخ البشري وكانوا كالعين التي ترى كل شيء خارجها وتحتاج لمرآةٍ لترى نفسها.

ولما كان الإنسان هو صانع التاريخ فلا بد أن تكون هناك تنظيماتٌ أساسيةٌ وافق عليها كل البشر، ومن هذه التنظيمات ستخرج المبادئ العامة الخالدة التي وجدت في كل الشعوب. هذه المبادئ الأساسية التي يراها فيكو تتلخَّص في ثلاثة: الدين أو العقيدة، الزواج وما يرتبط به من تحكُّمٍ في الانفعالات، دفن الموتى وما يرتبط به من خلود الروح البشرية.

تتبع فيكو أصول النظم الاجتماعية للأمم وردها إلى هذه المبادئ الثلاثة محاولًا أن يبين أن بقاء الحضارة متضمن فيها أو نابع منها، ثم استخرج من هذه النظم الثلاثة سائر النظم الحضارية المتطورة. لقد لاحظ أن كل الشعوب، بربرية كانت أو مدنية، لها عاداتٌ بشريةٌ ثابتة بالرغم من تباعدها في المكان والزمان؛ فهي جميعًا تتفق على ديانةٍ ما، وهي بلا استثناء تحتفل بطقوس الزواج وتدفن موتاها. وحتى الشعوب الموغلة في التوحُّش نجد لديها الأفعال البشرية التي تحتفي بها وتصاحبها طقوس مقدسة مثل شعائر الدين والزواج ودفن الموتى. اتخذ فيكو من هذه العادات الثلاث مبادئ أساسيةً لعلمه الجديد واعتبرها الأصل في الحس المشترك بين الشعوب؛ ولذلك ارتفعت في رأيه إلى مرتبة القداسة لأنها هي التي تعصم الشعوب من الارتداد إلى حالة التوحُّش.

والمبدأ الأول يُعارض فيه فيكو بعض الرحالة المحدثين الذين يروون عن شعوبٍ في البرازيل وجنوب أفريقيا ليس لديها أية معرفةٍ عن الله، كما يعارض زعم المفكر الفرنسي بايل Bayle (١٦٤٧–١٧٠٦م) «أن الشعوب يمكنها أن تعيش حياةً عادلةً بغير حاجةٍ للنور الإلهي.» وقول المؤرخ الهلينستي بوليبيوس (٢٠٠–١٢٠ق.م.): «إنه إذا كان هناك فلاسفة في العالم فهناك عدلٌ مستمدٌّ من قوة العقل لا من قوة القوانين ولا حاجة للأديان في العالم.» يعارض فيكو هؤلاء جميعًا بقوله إن كل أمةٍ تؤمن بديانةٍ ما، وهناك أربع ديانات هي: العبرانية، والمسيحية، وكلاهما يؤمن بألوهية عقلٍ لا متناهٍ حر أي يؤمن بالله، والأمم الأممية أو الوثنية تؤمن بتعدُّد الآلهة، وكل إلهٍ منها مؤلَّف من جسمٍ وعقل. وأخيرًا الديانة الإسلامية التي تؤمن بإلهٍ واحد. وحيثما وُجدت الأديان وُجدت التشريعات والقوانين التي تنظِّم المجتمع البشري. ويدلِّل فيكو على صدق مبدئه بأن الرواقيين والأبيقوريين قد أخفقوا في تصوُّر تشريعٍ قانونيٍّ ينظم المجتمع البشري لأن فلسفتهما كانت حتميةً وقدرية. وإذا كانت الرواقية تقول بعناية إلهية فهي عناية ترتد إلى «اللوجوس» الكوني الذي يدبر نظام الكون من داخله، ويستمد فيكو الدليل الذي يؤيد حججه من أن التشريع الروماني يجعل من العناية الإلهية تشريعه الأول.

والمبدأ الثاني وهو الزواج وما يرتبط به من انضباط العواطف والتحكم في الانفعالات يؤكد أن جميع الشعوب آمنت بأن الالتقاء بين الرجل والمرأة لا يمكن أن يتمَّ بدون طقوسٍ وإلا عُدَّ سلوكًا بهيميًّا منحطًّا، وانتهاكًا للطبيعة البشرية، وخروجًا على القانون.

والمبدأ الثالث والأخير وهو دفن الموتى يؤكده أن ليس هناك شعب لا يدفن موتاه، هذا المبدأ هو الأصل في تأكيد إنسانية الإنسان. ويكفي أن نتصور الجثث البشرية ملقاة على الأرض نهبًا للطيور الجارحة والوحوش الكاسرة، ولو افترضنا إمكان هذا لكانت عادة وحشية في مدنٍ خلَتْ من الإنسانية والتحضر. ويستشهد فيكو بقول المؤرخ الروماني «تاسيتوس» (من حوالي ٥٥م إلى حوالي ١٢٠م) أن هناك اعتقادًا ساد الأمم الأممية وهو اعتقادهم بأن أرواح الموتى الذين لم يتم دفنهم تبقى قلقة هائمة حول أجسادها؛ فالأرواح إذن لا تموت بموت الأجساد؛ لذلك ارتبط مبدأ دفن الموتى بخلود الروح البشرية وأصبح تعبيرًا عن وحدة الجنس البشري.

بهذه المبادئ يكون فيكو قد قدَّم الجانب النظري من فلسفته التاريخية متضمنًا عناصر العلم الجديد وأصوله، ولا شك أن مبادئ العلم الجديد هي المبادئ التي تبين حدود العقل البشري وتتلخص كما ذكرنا فيما يأتي: الدين، الزواج، دفن الموتى. فإذا أضفنا إليها المعيار الذي يستخدمه العلم الجديد وهو أن القاعدة التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية هي ما يتفق جميع البشر أو معظمهم على أنه عدل وصواب، كانت تلك المبادئ كما قلنا تعبيرًا عن حدود العقل البشري، ومن يتعدى هذه الحدود فهو يتعدى الحدود البشرية.

(٣) المنهج

يؤكِّد الباحثون أن أهمية فيكو ترجع إلى المنهج أكثر مما ترجع إلى المذهب؛ فقد حدَّد القواعد التي يجب اتباعها لدراسة أصول التنظيمات الاجتماعية البشرية، وإذا كان قد عارض المنهج الرياضي لديكارت إلا أنه لم يرفضه لذاته ولكن رفض تطبيقه في مجال التاريخ، وحدَّد منهج علم التاريخ بالنسبة لمنهجي الرياضيات والعلوم الطبيعية، ولم يكن تحديد فيكو لمنهج علم التاريخ أو موضوعه وليد نظرةٍ نقديةٍ لمناهج وموضوعات العلوم الأخرى فحسب، بل أسهمت عدة علومٍ في تشكيل نظرتِه إلى منهج علم التاريخ وموضوعه أهمها دراسته للغويات؛ فالاشتقاقات اللغوية تكشف عن أسلوب الحياة والتفكير لدى شعبٍ ما، والتعرف على طريقة تفكير شعبٍ ما أو أسلوب حياته يستلزم دراسة اللغة وتتبع التطوُّر الذي طرأ عليها خلال عصور التاريخ. ولقد أفاد من الفلسفة نزعتها الكلية الشمولية؛ فالمظاهر المختلفة للحياة الاجتماعية في مرحلةٍ ما من مراحل التاريخ إنما تتداخل وتتشابك وتشكل نموذجًا مترابطًا ترابطًا باطنيًّا؛ ومن ثم ينبغي دراستها بنظرة فلسفة شمولية.

ويعتمد فيكو في منهجه على مسلَّمته الأساسية «يجب أن يبدأ الموضوع من حيث تبدأ المادة التي يتناولها» ولهذا يجب أن نعود مع علماء اللغة والفلاسفة إلى البدايات الأولى للإنسانية عندما كانت في حالة توحش، أي يجب التوفيق بين فقه اللغة والفلسفة؛ لذلك يقيم منهجه على الأدلة الفلسفية والأدلة اللغوية معًا، ويبدأ بالأدلة الفلسفية ثم يتبعها بالأدلة اللغوية لتكون أدلة واقعية تؤيد الأدلة التي اهتدى إليها بالتأمل والتفكير. وتنقسم الأدلة الفلسفية إلى أدلة لاهوتية وأدلة منطقية، ويبدأ بالأولى فيؤكد ضرورة البدء من فكرة الإله التي لم يفتقر إليها الإنسان الوحشي الذي لم تكن هناك وسيلةٌ للحد من توحشه أو ترويضه إلا فكرة الخوف من إله معين. هذه الفكرة تبين أن الإنسان سقط في اليأس وتطلَّع إلى قوةٍ أعلى منه لتُنقذه، ولا توجد قوةٌ أسمى من الطبيعة سوى الله. ولقد كان هذا هو النور الذي ألقَتْه العناية الإلهية على جميع البشر، أي أن أفكار الإنسان الأول كانت مصحوبةً بالاضطراب والانفعال، وفكرة الألوهية هي التي أضفت على تفكيره الطابع الإنساني وحوَّلت انفعالاته الحيوانية إلى أفكارٍ بشرية؛ لذلك يجب أن نبدأ من الميتافيزيقا الشعبية التي نجدها عند الشعراء القدامى لنجد كيف أن فكرة الألوهية كانت قوةً دافعةً لحرية الإرادة البشرية ومكنتها من التحكُّم في انفعالات الجسد وحركاته.

وإذن فالفكرة الجوهرية التي تحدد منهج البحث عند فيكو وتجعل منه الرائد الحق للأبحاث التاريخية الحديثة هي ضرورة التوفيق بين فقه اللغة وبين الفلسفة، أي أنه يُبرهن بالمقابلة والموازنة — كما يقول برييه في كتابه تاريخ الفلسفة٢٩ — على الأسانيد المستمدة من الأمم المختلفة (من مصر وبلاد اليونان وروما على سبيل المثال) ووحدة قانون التطوُّر في كل أمة من هذه الأمم. ويضيف برييه أنه إذا كان فلاسفة العقل لا يعترفون بشيءٍ واحدٍ بين البشر سوى العقل الذي يفترضون أنه مشتركٌ بين الجميع وأن ما هو خيالٌ وانفعالاتٌ فهو سبب الفرقة بين البشر، فإنهم ينقلون هذا العقل عن طريق الفكر إلى فجر البشرية لعجزهم عن تكوين فكرةٍ عن الأشياء البعيدة والمجهولة؛ من ثم يتصورونها على نمط الأشكال التي يعرفونها. وقد حاول فيكو أن يقلب هذه الآراء معتمدًا على فقه اللغة؛ وذلك لكي يثبت أن بين البشر وحدةً لا تقوم على العقل؛ بل أن هناك حسًّا مشتركًا أو حكمًا بغير تأمل يمكن أن نجده عند كل الطبقات وكل الشعوب بل والجنس البشري بأكمله؛ فالأفكار الواحدة تنشأ في نفس الوقت عند شعوبٍ بأكملها يجهل بعضها البعض، وهناك قوانين واحدة أو مشتركة بين الأمم لا تنبع من العقل.

ويؤكد منهج العلم الجديد دور العناية الإلهية كحقيقة تاريخية؛ فتطور الإنسان والمجتمع يكشف عن منطق يعلو على الوعي والرغبات الفردية، كما يؤكد وجود عقل مدبر هو العناية الإلهية، وهي في رأي فيكو لا تعمل بقوة القوانين وإنما تعمل من خلال عادات البشر وتقاليدهم؛ فالبشر بحكم طبيعتهم الإنسانية يسعون دائمًا إلى مصلحتهم الخاصة، وعندما عرف الإنسان الزواج حرص على مصلحته في نفس الوقت الذي حرص فيه على مصلحة أسرته. وكذلك كان شأنه في التنظيمات الأخرى التي تتجاوز الأسرة كالمجتمع بمعناه الضيق والمجتمع البشري بمعناه الواسع. لقد وجهته العناية الإلهية دون أن يشعر إلى هذه التنظيمات الاجتماعية.

ويميز فيكو بين نوعَيْن من العناية الإلهية: (أ) العناية الإلهية المتعالية المباشرة التي عبَّرَت عن نفسها في أعمالٍ تاريخية خاصة وفريدة، وهذه مقصورة على الشعب المختار. (ب) العناية الإلهية الباطنة أو الكامنة في التاريخ التي تعمل وفق قوانين موحدة وتستخدم وسائل طبيعية وبسيطة مثل العادات البشرية نفسها وهي ما كانت تمتلكه كل الأمم الأممية، ويتعارض النوع الأول (المباشر المتعالي) مع فاعلية البشر؛ فهي هنا قد صنعت تاريخ البشر عن طريق الرسالات السماوية، أما النوع الثاني فهو لا يتعارض مع الفاعلية البشرية التي اتبعت وسائل بسيطةً وطبيعيةً كالعادات البشرية، وإن كانت العناية الإلهية هي التي توجهه أيضًا ولكن بطريقٍ غير مباشر. لقد تركت البشر يتبعون قوانين موحدة ويستخدمون وسائل بسيطةً فكانت أفعالهم البشرية هي التي تصنع التاريخ وتُضفي معنًى على التاريخ، ويقابل هذا التعارض. (أ) استثناء التاريخ العبري المسيحي من نطاق الدائرة التي يختصُّ بها العلم الجديد. (ب) تصور عالم الأمم باعتبار أن له أصولًا عديدةً مستقلةً بحيث يتمثل أو يتجسَّد في كل أمةٍ نفس التاريخ المثالي الأبدي.

ويزعم فيكو أنه لم يلجأ إلى فكرة العناية الإلهية ليبرر إمكان قيام العلم الجديد، وإنما هو افتراضٌ أساسي يقوم عليه هذا العلم كما هو أحد وجوهه الرئيسية، بحيث أمكنه أن يصف العلم الجديد بأنه «لاهوت عقلي مدني عن العناية الإلهية.» ويهمنا هنا في حديثنا عن منهج العلم الجديد أن نتبين كيف طبق فيكو منهجه اللغوي واستفاد منه في تحليل فكرة العناية الإلهية؛ فهو يوجه أنظارنا إلى معنى الألوهية Divinitas الذي يدل من ناحية اشتقاقه الأصلي على معنيين: (أ) الاطلاع على الغيب الكامن في المستقبل. (ب) والاطلاع على الأسرار الخفية في الضمائر؛ فالعناية الإلهية وجَّهت البشر دون علمهم بل على الرغم منهم إلى حفظ المجتمع البشري وتأسيس التنظيمات الاجتماعية.

كانت هذه هي الأدلة اللاهوتية التي يكملها فيكو بأدلةٍ أخرى منطقيةٍ أولها: أن البحث في أصول التنظيمات البشرية في عالم الأمم سواءٌ أكانت دينية أو غير دينية يجب أن يتوقَّف عند بداياته الأولى ويحدد الأصول التي لا توجد أصول أسبق منها. وثانيها: تفسير طبيعة التنظيمات البشرية عن طريق التحليل الدقيق لأفكار البشر وخاصة أفكارهم عمَّا هو ضروري ونافع للحياة الاجتماعية البشرية؛ لأن الضرورة والمنفعة هما المصدران الأساسيان للقانون الطبيعي للأمم؛ ولهذا يحلو لفيكو أن يصف علمه الجديد بأنه تاريخ الأفكار البشرية أو ميتافيزيقا العقل الإنساني. وقد بدأ هذا التاريخ أو بدأت هذه الميتافيزيقا العقلية عندما بدأ البشر يفكِّرون بطريقةٍ إنسانيةٍ لا عندما بدأ الفلاسفة يفكِّرون في أصول البشر.

ولا بد أن نلاحظ هنا أن فيكو قد توصل لمبادئه عن طريق استقراء الحس البشري المشترك الذي أدَّى إلى التنظيمات البشرية ولم يعتمد على كتابات المؤرخين والفلاسفة الذين يقدر أنهم ظهروا بعد تأسيس الأمم الأممية بألفَيْ سنة على الأقل. وقد حرص منهج العلم الجديد على تحديد جغرافية الأفكار البشرية وتاريخها لكي يكون هذا التاريخ يقينيًّا، كما طبَّق أسلوبًا نقديًّا جديدًا تناول به مؤسسي الشعوب الأولى. ومعيار هذا النقد وفقًا للمسلَّمة الثانية عشر هو أن العناية الإلهية هي التي علمت كل الشعوب الحس المشترك بينها جميعًا.

وهكذا يصور العلم الجديد التاريخ المثالي الأبدي عبر الزمان، هذا التاريخ الذي تسير بمقتضاه تواريخ كل الشعوب من نشأتها وتطورها ونضوجها إلى تدهورها ثم سقوطها. والمبدأ الأول الثابت يفترض أن الإنسان هو الذي صنع عالم الأمم، وأن التاريخ يكون أكثر يقينًا عندما يرويه صانع الأحداث نفسها، وهكذا ينطبق على هذا العلم ما ينطبق على علم الهندسة وهو أنه يقوم على أساس ما وضعه من مبادئ. ومع ذلك فإن التاريخ بمفهوم العلم الجديد أكثر واقعية من علم الهندسة؛ لأن التنظيمات الاجتماعية والأحداث الإنسانية أكثر واقعية من النقط والخطوط والسطوح والأشكال، والواقع أن هذه الفكرة البسيطة الرائعة تعتمد على نظرية فيكو في المعرفة، وهذه النظرية البسيطة بدورها تؤكد أننا لا نعرف أو لا نعلم إلا ما نصنعه نحن بأنفسنا.

كانت هذه هي الأدلة الفلسفية التي لا بد أن تسبق الأدلة اللغوية، أما هذه الأخيرة فتقوم على عدة نقاط: تتفق الأساطير، من ناحية، مع التنظيمات التي يدرسها العلم الجديد اتفاقًا مباشرًا وطبيعيًّا، وسيكشف العلم الجديد أن الأساطير تواريخ مدنية للشعوب التي كانت بطبيعتها شعوبًا شاعرية، كما تتفق الأساليب والتعبيرات البطولية من ناحيةٍ أخرى مع هذه التنظيمات. ويتعهد العلم الجديد بدراسة هذه التعبيرات البطولية بكل ما تحمله من صدقٍ في الإحساس ومن خصائص التعبير. وقد استفاد فيكو، كما يقول كولنجوود٣٠ في كتابه فكرة التاريخ، من الخرافات والأساطير. ذلك لأن آلهة الديانات القديمة تمثل في صورة نصف شاعرية صرح الأوضاع الاجتماعية لهؤلاء الذين صوروا آلهتهم هذا التصوير، وقد كانت الأساطير هي الأسلوب الذي اتخذته العقلية البدائية التخيلية للتعبير عن أشياء كانت العقلية المفكرة تلجأ إلى التعبير عنها في صياغة القوانين المدنية والأخلاقية، ومع ذلك فهو لا يسلم بصدق هذه الروايات تسليمًا حرفيًّا وإنما يعدُّها استذكارًا لسلسلة من الحقائق المختلطة ببعضها البعض.

وتتفق التنظيمات مع اشتقاقات اللغات الأصلية، فالعلم الجديد يدرس الكلمات من حيث دلالتها على تاريخ التنظيمات الاجتماعية بحيث يبدأ بمعانيها الأصلية ويتتبع تطورها الطبيعي. وهنا يلتزم فيكو بالأفكار التي شرحها في الأصول في المسلَّمتيْن ٦٤، ٦٥ وتنص المسلَّمة الأولى — وهي تكفي وحدها لتأكيد نزعته المثالية — على أن نوع الأفكار لا بد أن يتبعه نوع المؤسسات الاجتماعية أو الأنماط السلوكية. وتنص المسلَّمة الثانية على أن تتابع النظم الاجتماعية على هذا النظام يعد نموذجًا لتاريخ تطور معاني الكلمات في اللغات المختلفة. فالملاحظ أن معظم كلمات اللغة اللاتينية ذات أصولٍ مشتقةٍ من الحياة في الغابات، ثم تطوَّرت في الحياة الريفية، وأخيرًا اقتضَت الطبيعة المدنية تطوُّرًا آخر في استعمال اللغة. ومعنى هذا كله أن فيكو قد التزم بالأفكار التي يسير بمقتضاها تطور تاريخ اللغات.

وقد قام العلم الجديد بفحص «القاموس العقلي» للتنظيمات الاجتماعية للبشر، وهذه التنظيمات كما أكدت الأصول واحدة في جوهرها عند كل الأمم وإن تعددت أشكال التعبير اللغوي (كما تنصُّ على ذلك مسلَّمة ٢٢: يجب أن يكون في طبيعة المؤسسات البشرية لغةٌ عقلية مشتركة بين كل الشعوب تشكِّل جوهر الأشياء العملية في الحياة الاجتماعية وتعبر عن مظاهر تكيفهم مع الأشياء، ويظهر هذا في الأمثال والحكم الشعبية).

والعلم الجديد يميز الحق من الباطل عن طريق دراسته للمأثورات الشعبية التي بقيَتْ ثابتة خلال أزمانٍ طويلة وعند شعوبٍ بأكملها مما يدل على أنها تصدر عن مصدر حقيقي مشترك؛ فالآثار المتبقية من العصور القديمة (وهي التي لم يلتفت إليها العلم حتى عهد فيكو ولم ينتفع بها لأنها كانت متناثرة ومشوهة) سوف تلقي أضواءً هامة إذا التفت العلماء إليها ونسَّقوها ووضعوها في مكانها وجمعوا أجزاءها المبعثرة. وهنا يتضح اهتمام فيكو بعلم الآثار الذي لم يكن قد اتضحت معالمه بعد ولم يزدهر إلا في القرن التاسع عشر. إن البحث في أصول التنظيمات الاجتماعية هو الذي سيثبت أنها هي الأسباب الضرورية التي نجمت عنها كل الأحداث التاريخية أو ترتبت عليها.

ويرى فيكو أن الأدلة اللغوية تكشف لنا بطريقةٍ واقعيةٍ عمَّا كشفه لنا التأمل الفكري في التاريخ، فبحثه اللغوي في أصل التنظيمات الاجتماعية سيؤيد بطريقةٍ طبيعيةٍ ما توصل إليه من قبل بطريقةٍ فكريةٍ وفلسفية، وبذلك يحقِّق صدق منهج بيكون الذي عبَّر عنه بكلمة «فكِّر وانظر» أي أن الدراسة اللغوية ستقدِّم أدلةً واقعيةً تؤيد الأدلة الفلسفية التي اهتُدِيَ إليها بالتفكير.

والواقع أن قيمة منهج فيكو تتجلَّى في أنه شق طريقًا جديدًا لم يسبقه إليه أحد؛ فهو لا يبحث في وثائق الماضي إلا عمَّا يمكن أن تقدِّمه لنا من تاريخ الذين صنعوها ومعتقداتهم. وقد كان منهجه منذ البداية منهجًا متكاملًا لأنه يدرس تاريخ البشرية دراسة استقرائية — كاستقراء بيكون للطبيعة — كما يبحث مراحل تطوُّره بدلًا من تأليف فروض مصطنعة عنه. والمادة التي يستخدمها فيكو في هذا الاستقراء عن الماضي البعيد هي التراث الأسطوري الشعبي الذي يسجل — مهما كانت أشكاله ومهما حرف الواقع — التاريخ القديم للشعوب؛ ولهذا نراه يرجع للأشعار القديمة مثل أشعار هوميروس والتشريعات البدائية مثل قانون الألواح الاثني عشر. ومهما يكن من رأي فيكو في أصالة هذه المادة فيجب أن ننتبه للروح التي اختارها بها وكيف أن تفكيره يعدُّ من هذه الناحية تفكيرًا متقدمًا على التأملات المجردة في عصر النهضة؛ إذ أسقط من حسابه كل الوثائق التي يصور المؤرخون في القرن السادس عشر أنها تكشف لنا عن التاريخ القديم كالتنبؤات الكلدانية والقصائد الأورفية والأبيات الذهبية المنسوبة لفيثاغورس، ولعل مما يكشف عن أصالة تفكير فيكو أنه تسلَّح بفكرةٍ مؤداها أن أصول التاريخ البشري قليلةٌ وغامضةٌ وفظة؛ ولهذا رفض علمًا مزعومًا مكونًا من ألغاز، كما رفض المنهج الرمزي الذي يفسر الأساطير ليستخرج منها تاريخ العقل.

١  Vico; New Science; p. 8–19.
٢  Ibid; p. 19-20.
٣  Ibid; p. 21.
٤  Ibid; p. 22.
٥  Ibid; p. 23–25.
٦  Ibid; p. 26-27.
٧  وربما تكون هذه إجابة على السؤال الذي طرحه الأستاذ الدكتور حسن حنفي في مقاله عن «فلسفة التاريخ عند فيكو» المنشور بمجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بفاس، صفحة ٤٩ من المقال: هل هذه المراحل بديهية، أم حقيقة تاريخية من اكتشاف المصريين؟ أم أنها استقراء تاريخي لتطوُّر الشعوب؟
٨  Vico; New Science; p. 27.
٩  Ibid; p. 28-29.
١٠  انظر الفصل السابق.
١١  Vico; New Science; p. 30-31.
١٢  مانيتو كاهن مصري قديم عاش في القرن الثالث ق.م. وله كتاب عن تاريخ مصر لم يبقَ منه سوى شذرات. قسَّم التاريخ المصري إلى دول، وعمل قائمةً بأسماء الملوك المصريين وكتبها باليونانية وكان عليمًا بالهيروغليفية.
١٣  Vico; New Science; p. 31–34.
١٤  سنتعرض بالتفصيل لنظرية فيكو عن نشأة اللغات وتطورها في حديثنا عن المنطق الشعري في الفصل الثاني من الباب الثاني.
١٥  السبوندي وزن شعري قديم استخدمه الإغريق والرومان ويتركب من أربعة أزمنة وطولين وترجع تسميته إلى الاحتفالات الطقوسية.
١٦  Vico; New Science; p. 34–36.
١٧  Ibid; p. 37.
١٨  Ibid; p. 38.
١٩  Ibid; p. 37–39.
٢٠  تحليل فيكو للصراع الطبقي فيه سبق الماركسية في فكرتها الأساسية عن صراع الطبقات كما سنرى في الباب الثالث من هذا البحث.
٢١  Vico; New Science; p. 39–44.
٢٢  القوانين، الكتاب الثالث، ٦٧٧ (عن فيكو).
٢٣  Vico; New Science; p. 44-45.
٢٤  عن فيكو (١١ فصل ١٤).
٢٥  Vico; New Science; p. 45–47.
٢٦  Ibid; p. 49.
٢٧  Ibid; p. 50-51.
٢٨  Bréhier; É; Historire de la philosophie; Tome II; p. 367.
٢٩  Ibid; p. 368-369.
٣٠  كولنجوود، فكرة التاريخ، ص١٤٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤