الفصل الثالث

الهلينية

إذا كان الجزء الأول من القرن الخامس ق.م. قد شهد اليونانيين يُحاربون الغزاة الفرس، فإن الجزء الأول من القرن الرابع قد أثبت أن إمبراطورية الملك العظيم (ملك فارس) كانت عملاقًا يرتكز على أقدام من الفخار. ألم يثبت «زينوفون» أن جماعة صغيرة من الجند اليونانيين الذين أحسن تدريبهم وقيادتهم تستطيع الصمود في وجه جبروت الفرس، حتى في أرضهم ذاتها؟

وبحلول عهد الإسكندر الأكبر، انتقل العالم اليوناني إلى مرحلة الهجوم، وخلال عشر سنوات قصار من ٣٣٤ إلى ٣٢٤ق.م. انهارت الإمبراطورية الفارسية تحت أقدام الغازي المقدوني الشاب، وأصبح العالم كله، من اليونان إلى باكتريا،١ ومن نهر النيل إلى السِّند خاضعًا خلال فترة قصيرة من الزمان لحاكمٍ واحد هو الإسكندر، الذي كان ينظر لنفسه على أنه حامل مِشعل الحضارة اليونانية، على الرغم من أنه كان في نظر اليونانيين أنفسهم مجردُ قائد مقدوني منتصر. والواقع أن الإسكندر لم يكن فاتحًا فحسب، بل كان مستعمرًا أيضًا؛ فحيثما حملته جيوشه كان يُؤسِّس مدنًا يونانية تُدار شئونها بأساليب يونانية، وفي مراكز الحياة اليونانية هذه كان المستوطنون الإغريق أو المقدونيون الأصليون ينصهرون مع السكان المحليِّين. وكان الإسكندر يُشجِّع مُواطنيه المقدونيين على الزواج من النساء الآسيويات، ولم يجد غضاضة في أن يُمارس بنفسه ما كان يحض عليه، ولكي تكون النسب محفوظة، فقد اتخذ من أميرتَين فارسيَّتَين زوجتَين له.
على أن إمبراطورية الإسكندر كانت من حيث هي دولةٌ شيئًا عارضًا زائلًا. فبعد موته توصل قواد جيوشه آخر الأمر إلى تقسيم مناطق الإمبراطورية إلى ثلاثة أجزاء؛ فوقع الجزء الأوروبي أو الأنتيجوني٢ من الإمبراطورية في فترة تَزيد قليلًا عن المائة العام في أيدي الرومان، وتفككت أوصال المملكة الآسيوية أو السيلوسية Seleucid،٣ واستولى عليها الرومان في الغرب والبارثيون Parthians٤ وغيرهم في الشرق. أما مصر البطلمية فقد أصبحت رومانية في عهد أغسطس، غير أن الفتح المقدوني أحرز مزيدًا من النجاح من حيث هو ناقلٌ للمؤثرات اليونانية. فقد أخذت الحضارة اليونانية تصب في آسيا، وأصبحت اللغة اليونانية هي لغةَ الثقافة في كل مكان، وتطورت بسرعة فأصبحَت هي اللغةَ الشائعة للتبادل التِّجاري، تمامًا كما حدث للُّغة الإنجليزية في العقود الأخيرة. وهكذا فإن الإنسان في حوالي عام ٢٥٥ق.م. كان يستطيع أن يتكلم اليونانية من بوابة هرقل حتى نهر الكنغ.٥

وهكذا أصبح علم الإغريق وفلسفتهم، والأهم من ذلك فنُّهم، يُمارِس تأثيره على الحضارات الشرقية القديمة، وتشهد الآثار الباقية من العملات والأواني والمباني والتماثيل، وكذلك المؤثرات الأدبية إلى حدٍّ أقل على هذا الغزو الثقافي، وبالمثل فإن الشرق مارس تأثيرًا جديدًا على الغرب، ولكن هذا التأثير كان أقربَ إلى التراجع والانتكاس؛ إذ يبدو أن ما استحوذ على خيال اليونانيين أكثر من أي شيءٍ آخر في ذلك الحين كان التنجيم البابلي. وهكذا كان العصر الهلينستي، برغم كل ما فيه من توسُّع علمي وثقافي، أشدَّ إيغالًا في الخرافة من العصور الكلاسيكية بكثير. وهذا أمر يحدث مثله في عصرنا هذا وأمام أعيننا، فعندما كنت شابًّا كان التنجيم مقتصرًا على قلة من المختلين المهووسين، أما اليوم فإن هذا المرض قد أصبح له من القوة ما يكفي لإقناع المهيمنين على الصِّحافة الشعبية بأن يُخصِّصوا أعمدة لما تُضمِره النجوم. وربما لم يكن ذلك بالأمر المستغرب؛ ذلك لأن العصر الهلينستي بأسره كان حتى مجيء الرومان غيرَ منضبط ولا مستقرٍّ ولا آمن، وكانت جيوش المرتزقة التي تنتمي إلى الجماعات المتنازعة تَعيث فسادًا في المناطق الريفية من آنٍ لآخر، أما المدن الجديدة التي بناها الإسكندر فكانت تفتقر سياسيًّا إلى استقرار المستعمرات الأقدمِ عهدًا، التي كانت تجمعها روابطُ تقليدية بوطنها الأم، وكانت الجو العامُّ في ذلك العصر يفتقر إلى الشعور بالأمان، إذ كانت إمبراطورياتٌ جبارة قد زالت، وكان خلفاؤها يتقاتلون على السيطرة في جوٍّ متقلب. وهكذا فإن تقلب الأحوال قد انتقل إلى نفوس الناس بطريقةٍ لا لبس فيها ولا غموض.

أما من الوجهة الثقافية، فقد انتشر التخصص على نحوٍ متزايد، وعلى حين أن كبار الشخصيات في العصر الكلاسيكي كانوا يستطيعون بوصفهم أفرادًا في دولة المدينة، أن ينتقلوا بين موضوعاتٍ شتى، حسبما تقتضيه الظروف، فإن باحثي العالم الهلينستي كانوا يقتصرون على ميدانٍ واحدٍ محدد. وانتقل مركز البحث العلمي من أثينا إلى الإسكندرية، وهي أنجحُ مدن الإسكندر الجديدة، وملتقى العلماء والكُتَّاب من كافة أرجاء العالم. فكان الجغرافي إراتوسثنيس خلال بعض الوقت أمينًا عامًّا لمكتبة الإسكندرية الكبرى، كما كان إقليدس يُعلِّم الرياضيات، وكذلك فعل أبولونيوس، على حين أن أرشميدس قد تعلَّم هناك. أما من الوجهة الاجتماعية فإن أساس الحياة المستقرة قد تزعزع بنمو عدد العبيد بين السكان، ولم يكن في استطاعة الأحرار أن يُنافِسوا العبيد بسهولة في الميادين التي اعتادوا العمل فيها، ومن هنا كان الشيء الوحيد الذي يُمكِنهم أن يفعلوه هو أن يُصبِحوا جنودًا مرتزقة، آمِلين أن يشتركوا في غزوةٍ تُتيح لهم الثراء عن طريق السلب والنهب، وعلى حين أن اتساع نطاق التأثير اليوناني قد علَّم الناس مُثلًا عليا أوسع نطاقًا مما تعلَّموه في دولة المدينة، فلم يكن هناك رجلٌ أو قضية لهما من القوة ما يجعل البقايا المبعثرة لعالم الإسكندر تلتفُّ حولهما.

ولقد أدى الإحساس المتأصل بانعدام الأمان إلى الإقلال من الاهتمام بالشئون العامة، وإلى هزالٍ عام في الكيان العقلي والأخلاقي، وإذا كان اليونانيون القدماء قد تهاوَنوا في المشاركة في مشاكل عصرهم السياسية، فإن يونانيِّي العصر الهلينستي قد تهاونوا على نفس النحو، وفي النهاية كان على الرومانيين، بما عُرِف عنهم من عبقرية التنظيم، أن يصنعوا من الفوضى نظامًا، وأن ينقلوا حضارة اليونان إلى العصور التالية.

وبانتهاء العصر الذهبي لدول المدن، أُصيبَ العالَم اليوناني بهبوطٍ عام في نضارته وحيويته، والواقع أنه إذا كانت هناك صفة بارزة يشترك فيها كل الفلاسفة الأثينيين الكبار، فهي موقفهم الإيجابي المقبل على الحياة؛ فلم يكن العالم في نظرهم مكانًا سيئًا للعيش، والدولة يمكن الإحاطة بجميع أطرافها في لمحةٍ واحدة.

وقد اتخذ أرسطو من هذه الصفة — كما رأينا — واحدة من صفات مدينته المثلى، غير أن التوسُّع المقدوني أدى إلى زعزعة هذه النظرة السعيدة الراضية، وانعكس ذلك في كل الاتجاهات الفلسفية السائدة في تلك الأيام على صورةِ تشاؤم شامل وإحساس بانعدام الأمان. أما الشعور بالثقة الذاتية، الذي كان يتملَّك المواطنين الأرستقراطيين من أمثال أفلاطون، فقد اختفى إلى غير رجعة.

ويُمكن القول بمعنًى معين إن موت سقراط كان هو الحدَّ الفاصل في الثقافة اليونانية. صحيح أن أعمال أفلاطون ستظهر بعد ذلك، غير أننا نشعر بالفعل بأننا بدأنا نهبط إلى وديان الثقافة الهلينستية، وبدأ يظهر في الفلسفة عددٌ من الحركات الجديدة؛ أُولاها ترتبط مباشرةً بأنتيسثنيس، وهو أحد تلاميذ سقراط، ويرتبط اسم أنتيسثنيس بإحدى المفارقات في التراث الإيلي، وهي المفارقة التي تقول إن من المستحيل إصدارَ أحكام ذاتِ معنًى؛ فإما أن تقول: أ هي أ، وهو حكم صحيح، ولكنه لا يستحق أن يُقال، وإما أن تقول: أ هي ب، ولما كانت ب ليست هي أ، فلا بد أن يكون الحكم باطلًا، فلا عجب إذن أن يفقد أنتيسثنيس ثقته بالفلسفة، ويعتزل في أُخرَيات أيامه حياةَ الطبقة العليا التي كان يحياها، ويعيش الحياة البسيطة للناس العاديِّين، وقد تمرَّد على عادات عصره، وكان يتمنى أن يعود إلى حياةٍ بدائية لا تشوبها شائبةٌ من أعراف المجتمع المنظِّم وقيوده.

وكان من تلاميذه ديوجين Diogenes الذي كان مُواطِنًا لسينوبي، وهي مستوطنة يونانية على شاطئ الأوكسين Euxine، ومنه استمدت الحركة الجديدة طابَعَها، وقد عاش ديوجين حياة تُماثِل حياة الكلب في بدائيتها، مما أكسبه لقب «الكلبي Cynic»، وتقول الأسطورة إنه عاش في حوض، وإن الإسكندر جاء مرة ليزور هذا الرجل المشهور، فسأله أن يُبدِيَ أية رغبة وسوف يُحقِّقها له، فكان الجواب: «لا تحجب عني النور»، وقد بلغ من إعجاب الإسكندر به أنه رد قائلًا: «لو لم أكن الإسكندر لكنتُ ديوجين».
وكان جوهر التعاليم الكلبية هو الانصراف عن المتع الدنيوية، والتركيز على الفضيلة بوصفها الشيءَ الوحيد الجدير بأن نمتلكه، ومن الواضح أن هذه إحدى الأفكار الموروثة عن مذهب سقراط، غير أنها تُمثِّل ردَّ فعل سلبيًّا إلى حدٍّ ما على أحداث العالم. صحيحٌ أنه كلما ضعفَت روابط المرء بالعالم قلَّ احتمال إصابته بالأذى أو خيبة الأمل، غير أن مثل هذه المنابع لا يُتوقَّع منها أن تُلهِم المرء أي شيء يَزيد عن ذلك، ولقد تحول المذهب الكلبي بمُضيِّ الوقت إلى تراثٍ قوي واسع الانتشار، وأصبح له في القرن الثالث ق.م. تأييدٌ شعبي واسع في جميع أرجاء العالم الهلينستي. وبالطبع فإن كل ما يعنيه ذلك هو أن شكلًا متدهورًا من التعاليم الكلبية أصبح يُعبِّر بصدقٍ عن الأوضاع الأخلاقية للعصر، وكان ذلك نوعًا من الموقف الانتهازي من الحياة، يغترف منها بكِلْتا يدَيه إن كان هناك ما يُؤخَذ، ولكنه لا يشكو في أوقات العسر، ويستمتع بالحياة حين يمكن الاستمتاع بها، ولكنه يَقبل صرف الدهر بغير اكتراث. ومن هذا التطور للمذهب اكتسبت كلمة cynical معناها المذموم، غير أن الكلبية من حيث هي حركة فلسفية لم يكن فيها من الاستقلال والتلقائية ما يكفي لكي تستمرَّ بذاتها، وإنما أدمج مضمونها الأخلاقي في المدرسة الرواقية، التي سنتحدث عنها بعد قليل.

وهناك نتاجٌ آخر، مختلفٌ إلى حدٍّ ما لفترة التدهور الفلسفي هذه، هو حركة الشكاك، وإذا كان اسم هذه الحركة مُستمَدًّا من مجرد الشك أو الارتياب، فإن المذهب بوصفه فلسفة يرتفع بالشك إلى مرتبة العقيدة الراسخة؛ فهو يُنكِر أن يكون في وُسعِ أي شخص أن يعرف أي شيء معرفة يقينية، ولكن المشكلة بالطبع هي أن المرء يود أن يعرف من أين جاء الفيلسوف الشكَّاك بهذه المعلومة.

فكيف يعرف أن الأمر كذلك إذا كان موقفه يُنكِر صراحةً إمكان المعرفة؟ إن هذا قد يصبح منطقيًّا بمجرد أن نُحوِّل طابع الشك في آرائنا إلى مبدأ، أما إذا كان الهدف من هذا الشك هو أن يُذكِّرنا بفائدة الحذر، فإن هذا وضع صحي لا حرج عليه.

ولقد كان أول الفلاسفة الشُّكاك هو بيرون Pyrrho من بلدة إليس Ellis، الذي طاف العالمَ مع جيوش الإسكندر، ولم تكن التعاليمُ الشكاكة شيئًا جديدًا؛ لأننا رأينا الفيثاغوريين والإيليين من قبل يُثيرون الشكوك حول إمكان الثقة في الحواس، على حين أن السفسطائيين استحدثوا مفاهيمَ مُماثِلة اتخذوها أساسًا لنسبيتهم الاجتماعية والأخلاقية، غير أن أحدًا من هؤلاء المفكرين لم يجعل من الشك في ذاته قضيةً رئيسية، وعندما كان كُتَّاب القرنَين السابع عشر والثامن عشر يتحدثون عن الفلاسفة البيرونيين، كانوا يقصدون شكاكًا من هذا النوع، أما بيرون نفسُه فلا نكاد نعرف عنه شيئًا، غير أن تلميذه تيمون Timon يبدو أنه أنكر إمكان الوصول إلى المبادئ الأولى للاستنباط. ولما كان التفسير الأرسطي للبرهان العلمي يرتكز على المبادئ الأولى، فقد كان ذلك هجومًا خطيرًا على أتباع أرسطو، وهذا هو السبب الذي جعل مدرسية العصور الوسطى تُعادي الفلسفة البيرونية إلى هذا الحد. أما العرض الذي قدمه سقراط لمنهج الفرض والاستنباط فلا يتأثر بهجوم الشكاك، وهكذا فإن إحياء العلم في القرن السابع عشر كان يتباعد عن أرسطو، ويعود إلى أفلاطون.

وبعد أن مات تيمون في عام ٢٣٥ق.م. لم يعد مذهب الشك بدوره مدرسةً مستقلة، وإنما اندمج في الأكاديمية، التي ظلت تتمسك بطابعٍ من الشك قرابة مائتَي عام، وكان ذلك بطبيعة الحال تشويهًا للتراث الأفلاطوني، صحيحٌ أننا نجد عند أفلاطون فقرات لو انتُزِعَت من سياقها لبدَت وكأنها دعوةٌ إلى التخلي عن أية محاولة للتفكير البنَّاء، ويتمثل ذلك في الألغاز الجدَلية في محاورة «بارمنيدس»، غير أن الجدل عند أفلاطون ليس أبدًا غايةً في ذاته، ولا يمكن تحريفه بمعنًى شكًّا إلا إذا أُسيء فَهمُه على هذا النحو. ومع ذلك ففي عصر كانت الخرافات قد بدأت تُغرِقه، يمكن القول إن الشكاك قد أدَّوْا خدمة جليلة بوصفهم فاضحين لهذه الخرافات، ولكنهم في الوقت ذاته كان يُمكن أن يُقرِّروا ممارسة بعض الطقوس الخرافية دون أن يشعروا داخليًّا بأنهم ملتزمون بها. وهذا الموقف السلبي الكامل هو الذي جعل حركة الشك، بوصفها مذهبًا تتجه إلى أن تجعل من مُعتنِقيها جيلًا يُعرِب عن ازدرائه بغير حماس، ويتميز بالذكاء أكثر مما يتميز بالسداد.

وخلال القرن الأول ق.م. عاد مذهب الشك ليصبح مرةً أخرى تراثًا مستقلًّا وإلى هذا المذهب الشكِّي المتأخر ينتمي لوسيان Lucian المفكر الساخر في القرن الثاني الميلادي، وسكستوس إمبريقوس Sextus Empiricus الذي ظلت أعماله باقية. غير أن مِزاج العصر كان يحتاج آخر الأمر إلى نسق من المعتقدات أكثر تحديدًا، وأبعثَ على الراحة والاطمئنان. وهكذا فإن نمو النظرة القطعية الجازمة أخذ يطغى على فلسفة الشك.
إن المرء حين يُقارن بين التأملات الفلسفية للعصر الهلينستي ونظائرها في التراث الأثيني العظيم وفي الفلسفات السابقة له، لا بد أن يَلفت نظرَه موقفُ التراخي والعناء الذي يُميِّز عصر التدهور؛ فقد كانت الفلسفة في نظر المفكرين القدامى مُغامَرةً تحتاج إلى يقظة الرائد وشجاعته. وصحيح أن الفلسفات اللاحقة بدورها يمكن أن يُقالَ عنها إنها اقتضت من مُمارسيها شجاعة، غير أن هذه أصبحت شجاعة الاستسلام والتحمُّل بصبر، بدلًا من ذلك الإقدام الجريء الذي يتميز به المستكشف، فقد أصبح الناس في ذلك العصر الذي تهاوت فيه أركان المجتمع القديم يلتمسون الأمان، وإذا لم يتيسَّر لهم الحصولُ عليه بسهولة، جعلوا من الصمود للمصاعب التي لا يمكن تجنُّبها فضيلة. ويظهر ذلك أوضحَ ما يكون في المدرسة الفلسفية لأبيقور Epicurus.

وُلِد أبيقور في عام ٣٤٢ق.م. لأبوَين أثينيَّين، وعندما بلغ الثامنة عشرة انتقل من ساموس إلى أثينا، ثم رحل بعد وقتٍ قصير إلى آسيا الصغرى، حيث بهرَته فلسفة ديمقريطسن. وبعد أن تجاوز سن الثلاثين بقليل أسس مدرسة كان مقرها أثينا منذ عام ٣٥٧ق.م. حتى وفاته في عام ٢٧٠ق.م، وكانت المدرسة أشبهَ بجماعةٍ صغيرة تعيش في بيته وأرضه، وتسعى بقدر الإمكان إلى الانعزال عن صخب الحياة الخارجية ونزاعاتها، وقد ظلت الأمراض تُداهم أبيقور طوال حياته، فتعلم كيف يتحملها دون أن يشكو. وهكذا كان الهدف الرئيسي لمذهبه هو بلوغَ حالة من الطمأنينة لا يُعكِّر صفوها شيء.

إن الخير الأسمى عند أبيقور هو اللذة، ولولاها لكانت الحياة السعيدة مستحيلة، وتشمل اللذات التي كان يعنيها، ملذات الجسم وملذات العقل معًا. أما الأخيرة فقوامها تأمُّل الملذات الجسمية، وهي ليست أسمى من الأولى بأيِّ معنًى حقيقي، ومع ذلك فلما كانت لدينا سيطرة أكبر على اتجاه أنشطتنا العقلية، فإننا نستطيع إلى حدٍّ ما أن نختار موضوعات تأملنا، على حين أن انفعالات الجسم تُفرَض علينا إلى حدٍّ بعيد، وهنا تكمن الميزة الوحيدة للملذات العقلية، وتبعًا لهذا الرأي فإن الإنسان الفاضل يحصر همه في السعي إلى ملذاته.

هذه النظرية العامة تؤدي إلى ظهور مفهوم للحياة الخيرة يختلف كلَّ الاختلاف عن مفهوم سقراط وأفلاطون، ويتجه كليةً إلى الابتعاد عن الفاعلية والمسئولية، وبطبيعة الحال فإن سقراط كان ينظر بالفعل إلى حياة التأمل العقلي على أنها أفضل حياة على الإطلاق. غير أن ذلك لم يكن يعني عنده الانعزالَ والعزوف، بل إن من صميم واجبات الصفوة أن يقوموا بدورٍ فعال في إدارة دفة الشئون العامة.

كذلك كان أفلاطون متشبِّعًا بقوةٍ بهذا الإحساس بأداء الواجب.

فالفيلسوف الذي خرج من الكهف ينبغي أن يرجع ويُساعد على تحرير أولئك الذين لا يملكون ما يملكه من نفاذ البصيرة، وكان اقتناعه هذا هو الذي دفعه إلى القيام بمغامراته في صقلية. أما عند أبيقور فلا يتبقى شيء من فاعلية الحياة ونشاطها. صحيح أنه يُميِّز بين اللذات الإيجابية والسلبية، ولكنه يعطي الأولوية للثانية، أما اللذة الإيجابية فتُمارَس في السعي إلى غاية تنطوي على لذة، بدافع الرغبة في الشيء الذي نفتقر إليه، وما أن يتم بلوغ الهدف، حتى تتحقق لذة سلبية في غياب أية رغبة أخرى، إنه انتشاءٌ تخديري بحالةٍ من الاكتفاء والتشبُّع.

وفي وُسع المرء أن يَفهم أن هذا النوع من أخلاق الحذر والفطنة كان مطلوبًا في عصرٍ يُعاني من انعدام الاستقرار واليقين في الحياة.

أما من حيث هو إيضاح لطبيعة الخير، فهو بلا شك أُحادي الجانب إلى أبعدِ حد؛ فهو يُغفِل، من بين ما يُغفله، أن غياب الرغبة أو الشعور الشخصي سمة للسعي الإيجابي إلى المعرفة بالذات، ولقد كان سقراط على حقٍّ تمامًا حين ذهب إلى أن المعرفة خير؛ ذلك لأن السعي المتجرِّد إلى الفَهم هو الذي يجعلنا نصل إلى ذلك النوع من اليقظة المنزَّهة التي كان يبحث عنها أبيقور.

غير أن مزاج أبيقور الشخصي أدى به إلى أن يكون أقلَّ اتساقًا مما توحي به آراؤه الأقربُ إلى التقشف؛ فقد كان يُقدِّر الصداقة فوق كل شيءٍ آخر، على الرغم من أن الصداقة لا يمكن أن تُعَد — كما هو واضح — ضمن اللذات السلبية، أما أن كلمة «الأبيقوري» أصبحت تُستخدَم علامة على حياة الترف والمتعة، فذلك يرجع إلى أن قدرًا كبيرًا من الافتراء قد حل بأبيقور على أيدي معاصريه من الرواقيين وخلفائهم، الذين استنكَروا ما بدا لهم أنه نظرة إلى الحياة مُفرِطة في المادية لدى الأبيقوريين. وهذا رأي يزداد خطؤه وتضليله وضوحًا إذا أدركنا أن مجموعة الأبيقوريين كانت تحيا بالفعل حياة متقشِّفة.

لقد كان أبيقور ماديًّا بمعنى أنه كان يؤمن بالمذهب الذري عند ديمقريطس، غير أنه لم يأخذ بالرأي القائل إن حركة الذرات تحكمها قوانينُ صارمة؛ ففكرة القانون — كما أوضحنا من قبل — مستمدة في الأصل من المجال الاجتماعي. ولم تُطبَّق على أحداث العالم الطبيعي إلا فيما بعد، والدِّين بدوره ظاهرةٌ إجماعية، ومن هنا فإن هذَين الاتجاهَين الفِكريَّين يتلاقيان في قولهما بمفهوم الضرورة.

فالآلهة هي المشرِّعة النهائية للقوانين، وهكذا فإن أبيقور في رفضه للدِّين اضطُرَّ إلى استبعاد قانون الضرورة الصارم بدوره. وعلى ذلك فإن الذرات عند أبيقور يُسمَح لها بقدرٍ معينٍ من الاستقلال التلقائي، وإن كانت أية عملية معيَّنة ما إن تبدأ في الحدوث، حتى يُصبِح مجراها التالي مُتمشيًا مع القوانين كما هي الحال عند ديمقريطس.

أما عن النفس، فإنها لا تعدو أن تكون نوعًا من المادة تختلط جزيئاته بالذرات المكوِّنة للجسم. ويُفسَّر الإحساس بأنه تصادم انبعاثات من الأشياء مع ذرات النفس، وحين يحل الموت تفقد ذرات النفس تماسكها مع الجسم وتتبعثر، فتظل باقيةً بوصفها ذرات، ولكنها لا تعود قادرة على الإحساس، وعلى هذا النحو يُثبِت أبيقور أن الخوف من الموت أمرٌ يتنافى مع العقل؛ لأن الموت ذاتَه ليس شيئًا يمكننا أن نُجرِّبه، وعلى الرغم من أنه كان يعارض الدين بشدة، فإنه لم يرفض فكرة وجود الآلهة، غير أن وجودها لا يَزيد حياتنا خيرًا أو شرًّا؛ ذلك لأن الآلهة ذاتها تُمارِس المبادئ الأبيقورية بكل شغف، ومن ثَم فهي لا تكترث بمشاكل البشر، ولا تفرض ثوابًا أو عقابًا.

ومجمل القول إن من واجبنا أن نسلك سبيل الحرص والاعتدال بهدف بلوغ حالة من التوازن الذي لا يُعكِّره شيء، وهو أرفع اللذات، ومن ثم فهو الخير الأسمى.

على أن الأبيقورية، على خلاف المدارس الأخرى، لم تصنع تراثًا علميًّا، وقد ظلت اتجاهاتها الفكرية التحررية، ومعارضتها للممارسات الخرافية، تلقى احترامًا بين صفوةٍ مختارة من الطبقات العليا في أوائل عهد الإمبراطورية الرومانية، على الرغم من أن الرِّواقية أخذت تحلُّ محلَّها بالتدريج، حتى على المستوى الأخلاقي، ولا يظهر بعد ذلك في التراث الأبيقوري إلا اسم واحد مشهور هو اسم الشاعر الروماني لوكريتيوس Lucretius، الذي عاش من عام ٩٩ حتى عام ٥٥ق.م؛ إذ قدَّم لوكريتيوس عرضًا للمذهب الأبيقوري في كتابٍ شعري مشهور اسمه «في طبيعة الأشياء De rerum natural»، أما أقوى الحركات الفلسفية تأثيرًا من بين المذاهب التي ازدهرَت في العصر الهلينستي فهي الرواقية. ولقد كانت الرواقية مذهبًا أضعفَ ارتباطًا بأرض اليونان الأصلية من المدارس الأثينية الكبرى؛ ولذلك كان البعض من أشهر مُمثِّليها شرقيين، وفيما بعدُ كانوا من الرومان الغربيين، وكان مؤسِّس الحركة فينيقيًّا قبرصيًّا اسمه زينون، لا نعرف تاريخ مولده بالضبط، ولكنه يقع خلال النصف الثاني من القرن الرابع ق.م، وقد انتقل في شبابه أولًا إلى أثينا؛ لمتابعة الأعمال التِّجارية لأسرته، وهناك ظهرت ميوله الفلسفية، فتخلى عن التجارة وأنشأ بعد مدة مُدارَسة خاصة به، وكان من عادته أن يُحاضِر في رواق بويكيلي Stoa Poikile، وهو ممر مسقوف ومصبوغ بألوانٍ متعددة، ومن هنا جاء اسم المذهب الرواقي Stoicism استمرت الفلسفة الرواقية زهاء خمسة قرون، وخلال هذه المدة طرأت على تعاليمها تغيراتٌ كبيرة، غير أن ما يَجمع الحركةَ كلها هو تعاليمها الأخلاقية التي ظلت على ما هي عليه طوال الوقت. ويرجع أصل هذا الجانب في الرواقية إلى الطريقة السقراطية في الحياة، وهكذا كانت الفضائل التي يُقدِّرها الرواقيون هي الشجاعة في مواجهة الخطر والألم، وعدم الاكتراث بالأوضاع المادية. وكان هذا التأكيد لأهمية قوة التحمل والتنزه هو الذي أضفى على كلمة «الرواقي» معناها الحديث.

إن الرواقية — من حيث هي نظرية أخلاقية — تبدو نظامًا صارمًا لا لون له، إذا ما قُورِن بنظريات العصر الكلاسيكي، غير أنها نجحت من حيث هي مذهبٌ في اجتذاب محدَّد من الأتباع يفوق ما اجتذبه مذهب أفلاطون وأرسطو، ومن الجائز أن تأكيد أفلاطون للمعرفة بوصفها الخير الأسمى لم يكن يُقبَل بسهولة بين أناس كانوا منغمسين في الحياة العملية. وعلى أية حال فقد كان الذهب الرواقي هو الذي استحوذ على خيال الملوك والحكام الهلينستيين. أما مسألة إن كان هذا يكفي لتحقيق آمال سقراط في أن يُصبِح الفلاسفة ملوكًا والملوك فلاسفة، فهذا أمر مشكوك فيه.

ولم يتبقَّ لنا شيء من أعمال الرواقيين الأوائل إلا على شكل شذرات، وإن كان من الممكن تكوينُ فكرة معقولة عن تعاليمهم عن طريق تجميعها، ويبدو أن اهتمام زينون كان أخلاقيًّا في المحل الأول، ومن المسائل الرئيسية التي ظلت تَشغَل الاهتمامَ طوال عهد الفلسفة الرواقية مشكلةُ الحتمية وحريةِ الإرادة، وهي مسألة فلسفية كبرى ظلت تحتفظ بقدرٍ من الحيوية جعلها موضوعًا لاهتمام الفلاسفة عبر العصور حتى يومنا هذا؛ ففي رأي زينون أن الطبيعة خاضعة بدقة لحكم القانون، ويبدو أن نظريته الكونية قد استلهَمَت آراء الفلاسفة السابقين لسقراط أساسًا؛ فقد كان زينون يرى، مثل هرقليطس، أن المادة الأصلية هي النار، ومنها تنفصل العناصر الأخرى بمُضيِّ الوقت، وذلك على نحوٍ يُشبِه نظريات أنكساجوراس إلى حدٍّ ما. وفي النهاية يحدث حريق شامل، ويعود كل شيء إلى النار الأصلية، وتبدأ الأمور كلها سيرتَها من جديد، كما في نظرية الدورات عند أنبادقليس، أما القوانين التي يسير العالم في مجراه وفقًا لها فتَصدُر عن سُلطة عليا تحكم التاريخ في كافة تفاصيله؛ فكل شيء يحدث من أجل هدف معين على نحوٍ مقدَّر مقدمًا. أما الفاعلية العليا أو الإلهية فلا تُعَد شيئًا خارجًا عن العالم، وإنما هي تسري فيه كالماء حين يتسرب في الرمال. وهكذا فإن الله قوة كامنة يحيا جزءٌ منها داخل كل كائن بشري، وقد أصبح هذا الاتجاه في التفكير مشهورًا في العصر الحديث بفضل الكتابات الفلسفية لاسبينوزا الذي تأثر بالتراث الرواقي.

وأسمى خيرٍ هو الفضيلة التي يكون قوامها هو العيش في وَحْدة مع العالم، ولكن ينبغي ألا نتصوَّر هذه الفكرة على أنها تحصيلُ حاصل، على أساس أن كل ما يوجد لا بد أن يكون في وحدة مع العالم، بل إن المقصود هنا هو توجيه إرادة الشخص، بحيث تمتزج بالطبيعة بدلًا من أن تُعارِضَها، أما النعم الدنيوية فلا تُعَد ذاتَ قيمة كبيرة؛ فقد يَحرِم طاغيةٌ إنسانًا من كل الأشياء الخارجية التي يملكها، بل حتى من الحياة، ولكنه لا يستطيع أن يَسلبه فضيلته، التي هي مِلكٌ له مُتأصِّل فيه، يستحيل انتزاعه منه، وهكذا نصل إلى النتيجة القائلة إن الإنسان حين يرفض المطالب الزائفة للخيرات الخارجية تُصبِح حريته كاملة؛ لأن فضيلته التي هي وحدها الشيءُ الجدير بالاهتمام، لا يُمكِن أن يُؤثِّر فيها أي ضغط خارجي.

وعلى الرغم مما تُثيره هذه الآراء من إعجاب بوصفها قواعدَ لحياةٍ كريمة، فإن في المذهب أخطاءً خطيرة من حيث هو نظرية أخلاقية؛ وذلك لأنه إذا كان العالم يحكمه القانون، فلا جدوى من أن تعظ الناس بأن الفضيلة تعلو على كل شيء، إذ إن السبب الوحيد الذي جعل الفضلاء فضلاء هو أن الأمور كان ينبغي أن تكون على هذا النحو، وكذلك الحال في الأشرار، وماذا نقول عندئذٍ عن الألوهية التي تُدبِّر للشر مقدمًا؟ إن الاقتراح الذي تَقدَّم به أفلاطون في أحد مواضع «الجمهورية»، والقائل إن الله هو فاعل الخير وحده في العالم، لن يُجدِيَ هنا فتيلًا. يُمكننا أن نُوجِّه اعتراضاتٍ مماثلةً إلى اسبينوزا وليبنتس٦ اللذَين يُحاولان تجنب الصعوبة بالقول إن العقل البشري عاجزٌ عن إدراك ضرورة الأشياء ككل، على حين أن كل شيء مرتَّب على أفضل نحو في أحسن عالمٍ ممكن.

ولكن بغضِّ النظر تمامًا عن الصعوبات المنطقية في النظرية، فيبدو أن هناك أخطاءً واقعية واضحة؛ ذلك لأن من حقنا أن نخشى ألا يكون البؤسُ بوجهٍ عام مؤديًا إلى رفع شأن الفضيلة أو إعلاء الروح، وفضلًا عن ذلك فإن مِن الاكتشافات الباعثة للأسى في هذا العصر التقدمي الذي نعيش فيه أنَّ مِن الممكن باستخدام المهارة اللازمة تحطيمَ إرادة أي شخص تقريبًا مهما كانت صلابةُ مَعدِنه، ولكن الأمر الذي تصدق فيه الرواقية بحق هو إدراكها أن الفضيلة من حيث هي خير داخلي، أهمُّ بمعنًى ما من كل ما عداها. فمن الممكن دائمًا أن نُعوِّض بقدرٍ معين ما يضيع من الممتلكات المادية، أما إذا فقد المرء احترامه لذاته، فإنه ينحطُّ إلى ما دون مستوى البشر.

أما أول عرض منهجي للمذهب الرواقي فيُقال إنه يرجع إلى كريسبوس Chrysippus ٢٠٧–٢٨٠ق.م، وإن كانت مؤلَّفاته لم يبقَ منها شيء. في هذه المرحلة كان الرواقيون يُبْدون اهتمامًا أكبر بالمنطق واللغة، فصاغوا نظرية القياس الشرطي والانفصالي، واكتشفوا علاقة منطقية هامة تُسمَّى في المصطلح الحديث بالتضمُّن (أو اللزوم) المادي، تلك هي العلاقة بين القضيتَين في الحالة التي لا تكون فيها الأولى صادقة والثانية كاذبة. فلنتأمَّل القضية: «إذا هبط البارومتر (مقياس الضغط الجوي) نزل المطر»، هنا نجد العلاقة بين عبارة «هبط البارومتر» وعبارة «نزل المطر» علاقةَ لزوم مادي.

كذلك اخترع الرواقيون مصطلحاتٍ للنحو الذي أصبح لأول مرة على أيديهم ميدانًا للبحث العلمي المنظم؛ فأسماء الحالات النحوية اختراع رواقي، وقد وصلت الترجمات اللاتينية لهذه الحالات إلى اللغات الأجنبية الحديثة عن طريق النحويين الرومان، وما زالت تستخدم حتى اليوم.

ولقد اكتسبت التعاليم الرواقية مكانةً قوية في روما بفضل الجهود الأدبية للفيلسوف شيشرون Cicero الذي درس على الفيلسوف الرواقي بوزيدونيوس Posidonius، وكان هذا الإغريقي القادم من سوريا قد قام بأسفارٍ كثيرة، وأسهم في ميادينَ متعددة، منها ميدان الفلك الذي تحدثنا عن بحوثه فيه من قبل، ومنها ميدان التاريخ الذي واصل فيه أعمال المؤرخ بوليبيوس Polybius. أما موقفه الفلسفي فكان فيه جانبٌ من تراث الأكاديمية القديم، في وقتٍ كانت فيه الأكاديمية ذاتها قد أصبحت خاضعة لتأثير الشكاك كما ذكرنا من قبل، وعلى الرغم من أن مُمثِّلي الرواقية المتأخرين كانوا من الوجهة الفلسفية أقلَّ أهمية، فقد بقيت لنا كتاباتُ ثلاثة منهم كاملة، كما أننا نعرف معلومات كثيرة عن حياتهم. ورغم أن أوضاعهم الاجتماعية كانت تتفاوت بشدة، فإن فلسفاتهم كانت متشابهةً إلى حدٍّ بعيد، هؤلاء هم: سنكا Seneca عضو مجلس الشيوخ الروماني الذي كان ينحدر من أصل أسباني، وإبكتيتوس Epictetus العبد اليوناني الذي أُعتِق في عهد نيرون، وماركوس أوريليوس Marcus Aurelius الإمبراطور الذي ينتمي إلى القرن الثاني الميلادي، وكلهم كتبوا مقالاتٍ أخلاقيةً تسري فيها الروح الرواقية.
وُلِد سنكا عام ٣ق.م. أو حوالي ذلك، وكان ينتمي إلى أسرة أسبانية ميسورة الحال، انتقلت إلى العيش في روما، ومارس العمل السياسي حتى احتل منصبًا وزاريًّا، ولكن الأقدار تربَّصَت له في عهد كلاوديوس Claudius، الذي كانت شخصيته ضعيفة، ورضَخ لرغبة زوجته ميسالينا Messalina حين طلبت إليه أن يَنفيَ سنكا عام ٤١ ميلادية. ويبدو أن سنكا، الذي كان عندئذٍ عضوًا في مجلس الشيوخ، قد مارس قدرًا زائدًا من الحرية في انتقاد سلوك الإمبراطورة التي كانت بدورها تسلك في حياتها بطريقةٍ أكثر تحررًا مما ينبغي، والتي انتهت حياتها على أية حالة نهاية مفاجئة بعد بضع سنوات، وتزوج كلاوديوس بعدها من أجريينا Agrippina التي أنجبت له نيرون. وفي عام ٤٨ ميلادية استُدعِيَ سنكا من منفاه في كورسيكا؛ لكي يتولَّى تربية وريث العرش الإمبراطوري. غير أن الأمير الروماني لم يكن يُبشر بأي خير بالنسبة إلى الجهود التربوية التي بذلها الفيلسوف الرواقي. ومع ذلك فإن سنكا ذاته كان بعيدًا كل البعد عن نوع الحياة المتوقع من شخصٍ يعظ الناس بالأخلاق الرواقية، فقد جمع ثروة طائلة اكتسب معظمها عن طريق إقراض النقود إلى سكان بريطانيا بأرباحٍ ضخمة. ومن الجائز أن هذا كان أحدَ أسباب التذمُّر الذي أدى إلى التمرد في الولاية البريطانية، ولكن البريطانيين — ولله الحمد — يحتاجون الآن، لكي تتولد لديهم عقلية ثورية، إلى ما هو أكثرُ من أسعار فائدة عالية. وعندما أصبح نيرون أكثرَ استبدادًا وجنونًا عاد إلى اضطهاد سنكا مرة أخرى، وفي النهاية طلب إليه أن ينتحر بدلًا من أن تُوقَّع عليه عقوبة الإعدام، ففعل ذلك بالطريقة التي كانت سائدة في ذلك الحين، وهي قطع شرايينه. وهكذا يمكن القول إن طريقة موته كانت متمشِّية مع فلسفته، على الرغم من أن حماته لم تكن في عمومها متسمة بالطابع الرواقي.

أما إبكتيتوس فكان يونانيًّا، وُلِد حوالي عام ٦٠ ميلادية، ويُذكِّرنا اسمه ذاتُه بأنه كان عبدًا؛ لأن معنى الاسم هو الشخص المقتنى. ولقد ترك فيه سوء المعاملة الذي تعرَّض له خلال سنواته الأولى آثارًا دائمة هي رِجل عرجاء، واعتلال عام في صحته.

وعندما اكتسب إبكتيتوس حريته، بدأ يقوم بالتدريس في روما حتى عام ٩٠ ميلادية، حين طرده دوميتيان Domitian، ومعه رواقيون آخرون؛ لأنهم كانوا ينتقدون حكم الإمبراطور الإرهابي، ويُشكِّلون قوة معنوية تقف في وجه العرش الإمبراطوري، وقضى سنوات حياته الأخيرة في نيكوبوليس Nicopolis في الشمال الغربي لليونان، حيث تُوفِّي حوالي عام ١٠٠ ميلادية، وبفضل تلميذه أريان Arrian حفظت لنا بعض أحاديث إبكتيتوس، وفيها نجد الأخلاق الرواقية معروضة بطريقةٍ تتمشَّى إلى حدٍّ بعيد مع ما أوضحناه من قبل.
وإذا كان إبكتيتوس قد وُلِد عبدًا، فإن آخر الكُتَّاب الرواقيين العظام كان، على العكس من ذلك، إمبراطورًا. فقد عاش ماركوس أوريليوس ما بين عام ١٢١ وعام ١٨٠ ميلادية، وتبنَّاه عمه، أنطونينوس بيوس Antoninus Pius الذي كان من أكثر أباطرة الرومان تحضرًا، كما يوحي بذلك لقبه الأخير (الذي يعني: التقي). وقد خلفه ماركوس أوريليوس على العرش في عام ١٦١ ميلادية، وقضى بقية حياته في خدمة الإمبراطورية، وكان الزمن الذي عاش فيه زمنَ اضطرابات طبيعية وعسكرية، وانشغل الإمبراطور دومًا بكبح جماح القبائل البربرية الذين أخذت غاراتهم على حدود الإمبراطورية تُهدِّد سيادة روما. وعلى الرغم من أن حمل المنصب كان ثقيلًا عليه، فقد رأى من واجبه أن يضطلع به، ونظرًا إلى أن الدولة كانت مهددة بأخطار خارجية وداخلية، فقد اتخذ من الإجراءات ما يساعد على حفظ النظام، فاضطهد المسيحيين، لا بدافع الشر، بل لأن رفضهم لعقيدة الدولة كان مصدرًا للشقاق. ولعله كان في ذلك على حق، وإن كان الاضطهاد في الوقت ذاته هو دائمًا علامة على ضعف من يُمارسه؛ فالمجتمع الواثق من نفسه، المستقر بثبات، لا يحتاج إلى اضطهاد الخارجين عنه.
ولقد وصل إلينا النص الكامل لكتاب «التأملات Meditations» لماركوس أوريليوس، وهذه التأملات هي يوميات من الخواطر الفلسفية سُجِّلت بقدر ما كان يسمح الوقت، خلال لحظات الراحة التي كان الإمبراطور يختطفها اختطافًا من وسط مهامه الحربية، ومشاغله في إدارة الشئون العامة. ومن الجدير بالذكر أن ماركوس أوريليوس على الرغم من اعتناقه للنظرية الرواقية العامة في الخير، كان يحمل آراء عن الواجب الاجتماعي أقرب إلى روح أفلاطون. فلما كان الإنسان كائنًا اجتماعيًّا، فإن من واجبنا أن نقوم بدورنا في الشئون السياسية العامة، ويؤدي ذلك على الصعيد الأخلاقي إلى تأكيد الصعوبة المتعلقة بحرية الإرادة والحتمية، التي أشرنا إليها من قبل؛ فقد رأينا أن الفضيلة أو الرذيلة لدى الإنسان هي، حسَب الموقف الرواقي العام، مسألةٌ شخصية لا تأثير لها على الغير، أما في ضوء الموقف الاجتماعي فإن الصفات الأخلاقية لكل شخص يمكن أن يكون لها تأثير واضح جدًّا على كل شيءٍ آخر.

ولو كان الإمبراطور قد نظر إلى واجباته بطريقةٍ أقل تشددًا لازداد الشقاق بلا جدال بالنسبة إلى ما كان موجودًا من قبل. على أن الرواقية لم تستطع قط أن تهتدي إلى حل مقنع لهذه الصعوبة.

أما فيما يتعلق بمسألة المبادئ الأولى، التي كانت مشكلة تخلَّفَت من عصر أفلاطون وأرسطو، فقد وضع الرواقيون نظرية في الأفكار الفطرية، التي هي نقاط بداية بديهية وواضحة بذاتها، يمكن أن تبدأ بها العملية الاستنباطية. وقد أصبح هذا الرأي سائدًا في فلسفة العصور الوسطى، كما قال به بعض أصحاب المذهب العقلي من المحْدَثين؛ إذ إنه يُعَد حجر الزاوية من الوجهة الميتافيزيقية في المنهج الديكارتي. وقد كان المذهب الرواقي، في تصوره للإنسان، أكرمَ من نظريات العصر الكلاسيكي؛ فأرسطو — كما ذكرنا من قبل — قد ذهب إلى حد الاعتراف بأن اليوناني ينبغي ألا يكون عبدًا لأي واحد من مواطنيه، أما الرواقية فإنها ذهبت إلى أن الناس جميعًا، بمعنًى معيَّن، متساوون، وكانت في ذلك تسير على هَدْي الممارسة التي اتبعها الإسكندر، وإن كان الرق قد انتشر خلال عصور الإمبراطورية على نطاق أوسع مما كان في أي عهدٍ مضى. وفي ضوء هذا الاتجاه الفكري، أدخلت الرواقية التمييز بين القانون الطبيعي وقانون الأمم، والمقصود بالحق الطبيعي هنا ما يكون من حق الإنسان بناءً على طبيعته البشرية وحدها. ولقد كان لنظرية الحقوق الطبيعية بعضُ التأثيرات النافعة على التشريع الروماني؛ لأنها خففت من محنة أولئك الذين حُرِموا من أن يكون لهم مركز اجتماعي بالمعنى الكامل. وقد أُعيدَ إحياء هذه النظرية لأسبابٍ مماثلة، في الفترة التالية لعصر النهضة الأوروبية، وذلك خلال الصراع ضد فكرة حقوق الملوك الإلهية.

وعلى الرغم من أن اليونان كانت هي ذاتها المركز الثقافي للعالم، فإنها لم تتمكن من الاستمرار بوصفها أمة حرة مستقلة. ومن جهة أخرى فإن التقاليد الثقافية اليونانية قد انتشرت طولًا وعرضًا، وخلَّفَت آثارًا دائمة، وذلك في الحضارة الغربية على الأقل؛ فقد اصطبَغ الشرق الأوسط بالصِّبغة اليونانية بفضل تأثير الإسكندر، أما في الغرب فقد أصبحت روما حاملة لواء التراث اليوناني.

كان أول اتصال بين اليونان وروما هو ذلك الذي حدث عن طريق المستعمرات اليونانية في جنوب إيطاليا، ولم يترتب على حملات الإسكندر تعكيرٌ للأوضاع في البلاد التي تقع غرب اليونان.

ففي بداية العصر الهلينستي، كانت القوتان الكبيرتان في المنطقة هما سراقوزة وقرطاجة، وكلتاهما سقطَت في أيدي الرومان خلال القرن الثالث؛ نتيجةً للحربين الأوليَين في الحرب البونية Punic.

وخلال هذه العمليات العسكرية ضمَّت أسبانيا، وقد شهد القرن الثاني غزو اليونان ومقدونيا، ثم نشبت حرب «بونية» ثالثة انتهت بتدمير شامل لمدينة قرطاجة في عام ١٤٦. وفي العام نفسِه لقيت كورنثة نفس المصير على أيدي الجحافل الرومانية، على أن عمليات التدمير هذه، التي كانت تتسم بقسوة متعمدة، كانت هي الاستثناء، وقد وجدت من ينتقدونها في ذلك العصر، كما في العصور التالية. ومن هذه الناحية يمكننا أن نقول إن عصرنا الحاضر يعود بسرعة إلى العصور البربرية.

وخلال القرن الأول ق.م. أُضيفَت آسيا الصغرى وسوريا ومصر وبلاد الغال إلى الأقاليم الرومانية، بينما بريطانيا في القرن الأول الميلادي. ولم تكن هذه الغزوات المتعاقبة نتيجةَ تعطشٍ إلى المغامرة فحسب، بل لقد أملاها البحث عن حدود طبيعية يمكن الدفاع عنها دون صعوبة كبيرة في وجه إغارات القبائل المعادية التي تعيش وراء هذه الحدود، وقد أمكن بلوغ هذا الهدف في السنوات الأولى للإمبراطورية؛ إذ كانت أراضي روما تُحَدُّ من الشمال بنهرَين كبيرَين، هما الراين والدانوب، ومن الشرق بالفرات والصحراء العربية، ومن الجنوب بالصحراء الكبرى، ومن المغيط بالمحيط. وفي هذا الإطار عاشت الإمبراطورية الرومانية في سلام واستقرار نسبيَّين خلال القرنَين الأوَّلَين بعد الميلاد.

وكانت روما قد بدأت سياسيًّا بوصفها دولةً مدينة مشابهة من نواحٍ كثيرة لنظائرها في اليونان. ومرت بفترة أُحيطَت بالأساطير حكَمها خلالها الملوكُ الإتروسكيون Etruscan، أعقبتها جمهورية تسودها طبقة حاكمة أرستقراطية كانت تسيطر على مجلس الشيوخ (الأعيان). ومع نمو حجم الدولة وازدياد أهميتها، حدثت تغيرات دستورية في اتجاه الديمقراطية، وفرضت هذه التغييرات نفسها عليها. صحيحٌ أن مجلس الشيوخ ظل يحتفظ لنفسه بسلطاتٍ كبيرة، ولكن المجلس الشعبي أصبح يُمثَّل بلجانٍ كلها لها صوت في شئون الدولة، كذلك أصبح منصب القنصل في النهاية متاحًا لأشخاص من أصولٍ غير أرستقراطية. غير أن الغزو والتوسع أدَّيا إلى اكتساب الأسر الحاكمة ثروات هائلة، على حين أن صغار الملاك طُرِدوا من الأرض باستخدام قوة عمل العبيد في الأراضي الزراعية ذات المساحة الضخمة التي كان يحوزها مُلَّاك غير مقيمين. وهكذا أصبحت السيادة المطلقة لمجلس الشيوخ، ولم يُكتَب النجاح لحركة ديمقراطية شعبية قادها جراكي Gracchi قرب نهاية القرن الثاني ق.م. كما أدت سلسلة من الحروب الأهلية في نهاية الأمر إلى إقامة الحكم الإمبراطوري. وأخيرًا نجح أوكتافيان Octavian ابن يوليوس قيصر بالتبنِّي، في إعادة النظام، ومُنِح لقب «أغسطس Ougustus» (الممجد)، وحكم بوصفه إمبراطورًا، وإن كان قد احتفظ شكليًّا بالمؤسسات الديمقراطية.

ولقد ظلت الإمبراطورية الرومانية تعيش — على وجه العموم — في سلام طَوال ما يقرب من مائتَي عام بعد موت أغسطس في عام ٤١ ميلادية. صحيح أنه قد ثارت بعض القلاقل الداخلية، وحدثت اضطهادات، ولكنها لم تكن ذاتَ أبعاد تُؤدِّي إلى زعزعة أركان الحكم الإمبراطوري. وهكذا كانت الحروب تُشَن على طول الحدود، على حين أن روما كانت تحيا حياة هادئة منظَّمة.

وفي النهاية أخذ الجيش ذاته يعمل على استغلال قوَّته، التي كان يستخدمها في الحصول على الذهب مقابل منحه التأييد للحاكم.

وعلى هذا النحو أصبح الأباطرة يرتقون العرش بتأييدٍ من الجيش، ويَسقطون بمجرد سحب هذا التأييد، وقد أمكن تجنب الكارثة لفترةٍ ما بفضل الجهود الدائبة التي بذلها ديوكليتيان Diocletian (٢٨٦–٣٠٥) وقسطنطين Constantine (٣٣٧–٣١٢)، ولكنهما اتخذا تدابيرَ للطوارئ أدى بعضها إلى زيادة سرعة التدهور، وكان يُحارِب في صف الإمبراطورية أعدادٌ كبيرة من المرتزقة الألمان، وقد تبين في النهاية أن هذا كان واحدًا من عوامل سقوطها. وبمضيِّ الوقت أصبح الأمراء البرابرة، الذين تدرَّبوا على فنون الحرب خلال خدمتهم في الجيوش الرومانية، يعتقدون أن مهاراتهم التي اكتسبوها حديثًا يمكن أن تجلب مكسبًا أكبر إذا ما استُخدِمَت لتحقيق مصالحهم الخاصة بدلًا من مصلحة سادتهم الرومان. وهكذا سقطت مدينة روما في أيدي القوط بعد فترةٍ قصيرة لا تتجاوز مائة عام. ومع ذلك فقد بقي شيء من التراث الثقافي الماضي عن طريق تأثير المسيحية، التي أصبحت في عهد قسطنطين هي العقيدةَ الرسمية للدولة. فبقدر ما اعتنق الغزاة هذا الدين، استطاعت الكنيسة أن تحتفظ إلى حدٍّ ما بمعارف الحضارة اليونانية، أما الإمبراطورية الشرقية فكان مصيرها مختلفًا؛ إذ فرض المسلمون عليها عقيدتهم، ونقلوا التراث اليوناني إلى الغرب من خلال حضارتهم الخاصة.
لقد كانت لروما حضارة تكاد تكون كلها مستعارة؛ إذ كان العالم الروماني في فنونه وعماراته وآدابه وفلسفته يُحاكي النماذج اليونانية العظيمة مع تفاوت في حظه من النجاح. وبرغم ذلك فإن هناك ميدانًا واحدًا نجح فيه الرومان حيث أخفق اليونانيون، بل والإسكندر ذاته. ذلك هو ميدان الحكم على نطاقٍ واسع بما فيه من قانون وإدارة، في هذا الميدان كان لروما بعضُ التأثير على الفكر اليوناني؛ فقد رأينا من قبل أن يونانيِّي العصور الكلاسيكية كانوا في المسائل السياسية عاجزين عن تجاوز المثُل العليا لدولة المدينة. أما روما فكانت رؤيتها أوسع، وفرض هذا نفسه على المؤرخ بوليبيوس Polybius، وهو يوناني وُلِد حوالي عام ٢٠٠ق.م. وسقط في أسر الرومان، وكان بوليبيوس، شأنه شأن بانايتيوس Panaetius الرواقي، ينتمي إلى حلقةٍ من المثقفين كانت تتجمع حول سكيبيو Scipio الأصغر، ولكن باستثناء هذا التأثير السياسي لم يكن في استطاعة روما أن تُقدِّم شيئًا يُمكنه أن يُلهِم المفكرين اليونانيين أفكارًا جديدة. ومن جهةٍ أخرى فإن اليونان وإن تكن قد تحطَّمَت من حيث هي دولة، كانت منتصرة في الميدان الثقافي على غُزاتها الرومان. فقد كان الرومان المثقفون يتكلمون اليونانية، مثلما كان المثقفون الأوروبيون حتى عهدٍ قريب يتكلمون الفرنسية. وكانت الأكاديمية في أثينا تجتذب أبناء الطبقة الرومانية العليا، وفيها تعلم شيشرون. وهكذا فإن المعايير اليونانية كانت تُطبَّق في كل مجال، وكانت نواتج روما في نواحٍ كثيرة مجردَ نسخة باهتة لأصول يونانية. وكانت الفلسفة الرومانية بوجهٍ خاص عقيمةً في التفكير الأصيل.

ولقد أسهم طابع النقد والتشكيك الذي اتسم به التراث اليوناني، مقرونًا بالانهيار الذي حدث في العصور الهلينستية، في التخفيف من صرامة الفضائل الرومانية القديمة، وخاصةً عندما تدفقت على البلاد ثرواتٌ هائلة نتيجةً للتوسع فيما وراء البحار.

صحيحٌ أن التأثير الإغريقي الأصيل قد تناقصت قوَّته، وأصبح مُركزًا في أفرادٍ قلائل، وخاصة بين الطبقة الأرستقراطية في مدينة روما.

ولكن العناصر غير الإغريقية في الحضارة الهلينستية أخذت تزداد قوة بمُضيِّ الوقت؛ فقد كان الشرق كما لاحظنا من قبل يُقدِّم عنصرًا من التصوف كان في مجمله أقلَّ سيطرة في الحضارة اليونانية، وعلى هذا النحو تسربت إلى الغرب المؤثراتُ الدينية الوافدة من بلاد ما بين النهرَين ومن مناطقَ أخرى مجاورة، وأدت إلى حركة تلفيقية نشطة، خرجَت منها المسيحيةُ ذاتها ظافرةً في نهاية الأمر. وفي الوقت ذاته شجع التيار الصوفي على انتشار شتى أنواع المعتقدات والممارسات الخرافية. وأخذت القوى اللاعاقلة تزداد رسوخًا كلما قل رضاء الناس عن نصيبهم في هذه الحياة الأرضية، وكلما تضاءلت ثقتُهم في قدراتهم الخاصة. صحيح أن الإمبراطورية قد تمتعت بقرنَين من السلام، ولكن عهد السلام الروماني Pax Romana لم يكن عصرَ نشاط عقلي بنَّاء. فكانت الفلسفة، بقدر ما يُمكن أن يُقال إنها كانت موجودة، تسير في التيار الرواقي. أما في الجانب السياسي فقد كان ذلك يُمثِّل تقدمًا بالقياس إلى النزعة الإقليمية التي كان يتسم بها كبار المفكرين الكلاسيكيين؛ إذ إن الرواقية كانت تدعو إلى الإخاء بين البشر. ونظرًا إلى أن روما قد أصبحت هي حاكمةَ العالم المعروف عندئذٍ طوال قرون عدة، فإن هذه الفكرة الرواقية قد اكتسبت أهمية ملموسة، ولكن الإمبراطورية كانت بالطبع تنظر بدورها إلى العالم الخارجي عن حدودها بنفس الترفع الذي كان يمكن أن تنظر به دول المدينة اليونانية إليه. صحيح أنه كانت هناك بعض الاتصالات بالشرق الأقصى، غير أنها لم تكن تكفي لكي تُقنِع المواطن الروماني بأن هناك حضاراتٍ عظيمةً أخرى لا يمكن استبعادها ببساطة على أنها أجنبية أو بربرية. وهكذا فإن روما، مع كل ما كانت تتسم به من اتساع أفق الرؤية، كانت مُعرَّضة لنفس الغرور الذي اتسم به أسلافها الثقافيُّون اليونان، بل إن الكنيسة المسيحية ذاتها قد ورثت هذه الرؤية المشوهة؛ لأنها أطلقت على نفسها اسم «الكاثوليكية» أي الشاملة أو العالمية، على الرغم من أنه كانت توجد في الشرق عقائدُ أخرى عظيمة لم تكن مذاهبها الأخلاقية تقل تقدمًا عن المسيحية؛ فقد كان الناس لا يزالون يحلمون بحكومة وحضارة عالميَّتَين.

وهكذا فإن أعظم دور قامت به روما كان نقل ثقافة أقدمَ من ثقافتها وأرفعَ منها. وقد تحقق ذلك بفضل العبقرية التنظيمية للحكام الرومان، والتماسك الاجتماعي للإمبراطورية. وما زالت بقايا شبكة الطرق الواسعة في كافة أرجاء الأقاليم الرومانية تشهد بعظمة هذه القدرة التنظيمية. فقد أتاح التوسُّع الروماني لجزء كبير من أوروبا أن يُصبِح وحدةً ثقافية واحدة، برغم الاختلافات القومية والعداوات التي نشبت في عصورٍ لاحقة، وحتى الغزوات البربرية لم تتمكن من تحطيم هذا الأساس الثقافي إلى الحد الذي يستحيل إصلاحه. أما في الشرق فإن تأثير روما كان أقلَّ دوامًا؛ وذلك بسبب الحيوية الهائلة التي اتسم بها العرب المسلمون الفاتحون.

وعلى حين أن الغُزاة في الغرب قد اندمجوا في تراث يدين بالكثير لروما، فإن الشرق الأوسط كله تقريبًا قد اعتنق عقيدة الفاتحين.

ولكن الغرب يدين للعرب بقدرٍ كبيرٍ من معرفته باليونانيين، وهي المعرفة التي نقلها إلى أوروبا مفكرون مسلمون، وخاصةً عن طريق أسبانيا.

وفي بريطانيا التي ظلت رومانية لمدة ثلاثة قرون، يبدو أن الغزوات الأنجلوسكسونية قد أدت إلى انفصال كامل عن التراث الروماني، وترتب على ذلك أن التراث الروماني العظيم في مجال القانون، الذي ظل باقيًا في جميع أرجاء أوروبا الغربية الخاضعة لحكم روما، لم ترسخ أقدامه في بريطانيا، وما زال القانون العام الإنجليزي حتى يومنا هذا أنجلوسكسونيًّا. ولهذه المسألة نتيجةٌ جديرة بالملاحظة في ميدان الفلسفة؛ ذلك لأن الفلسفة المدرسية في العصور الوسطى ترتبط بالقانون ارتباطًا وثيقًا، وكان علم التفسير الفلسفي يسير جنبًا إلى جنب مع الممارسة الشكلية الصارمة للتراث الروماني القديم. أما في إنجلترا حيث كان التراث القانوني الأنجلوسكسوني هو السائد، فإن الفلسفة ظلت في معظم الأحيان تحتفظ بطابَعٍ أكثر تجريبية حتى في ذروة العصر المدرسي.

ولقد اقترنت الاتجاهات التلفيقية التي كانت في ظل الإمبراطورية تُمارِس تأثيرها في ميدان الدين، بتطور مماثل في الفلسفة؛ فقد كان التيار الرئيسي للفلسفة رواقيًّا بوجهٍ عام في العهد الأول من الإمبراطورية، على حين أن المذاهب الأفلاطونية والأرسطية الأكثر تفاؤلًا قد استُبعِدَت، ولكن بحلول القرن الثالث برز تفسير جديد للأخلاق القديمة في ضوء المذهب الرواقي، وهو تطور يتمشى إلى حدٍّ بعيد مع الأوضاع العامة للعصر. وأصبح هذا المزيج بين نظرياتٍ مختلفة يُعرَف باسم الأفلاطونية الجديدة، التي قُدِّر لها أن تُمارِس تأثيرًا كبيرًا على اللاهوت المسيحي، فهي بمعنًى ما جسر يمتد من العالم القديم إلى العصور الوسطى، بها انتهت فلسفة القدماء، ومنها بدأ الفكر الوسيط.

وقد ظهرت الأفلاطونية الجديدة في الإسكندرية ملتقى طرق الشرق والغرب؛ ففيها كانت توجد مؤثرات دينية فارسية وبابلية، وبقايا الشعائر المصرية القديمة، وطائفة يهودية قوية تُمارس عقيدتها الخاصة، وفرق مسيحية، ويُضاف إلى هذا كلِّه خلفية عامة من الحضارة الهلينستية. ويقال إن مؤسس المدرسة الأفلاطونية الجديدة هو أمونيوس ساكاس Ammonius Saccas، الذي لا يُعرَف عنه إلا القليل، ولكن أهم تلاميذه كان أفلوطين (٢٠٤–٢٧٠) الذي هو أعظم الفلاسفة الأفلاطونيين الجدد. وقد وُلِد في مصر، ودرس في الإسكندرية حيث عاش حتى عام ٢٤٣.
ونظرًا إلى اهتمام أفلوطين بعقائد الشرق وتصوفه، فقد سار في ركاب الإمبراطور جورديان Gordian الثالث في حملة ضد الفرس، غير أن هذه المهمة لم تنجح؛ إذ كان الإمبراطور شابًّا تُعوِزُه الخبرة، وكانت تصرفاته تُثير سخط أفراد جيشه، غير أن مثل هذه النزاعات كانت تُحَلُّ في ذلك الحين بالطريقة الحاسمة، وهكذا لقي القيصر الشابُّ مصرعه قبل الأوان على أيدي أولئك الذين يُفترَض أنه قائدهم، وعلى أثر ذلك فر أفلوطين عام ٢٤٤ من بلاد ما بين النهرَين، التي كانت مسرحَ الجريمة، واستقر في روما، حيث عاش وقام بالتدريس حتى نهاية حياته. وقد بُنِيَت كتاباته على مذكرات من الدروس التي كان يُلقيها في سنواته الأخيرة، وأشرف على تحريرها تلميذه فرفوريوس Porphyry الذي كان يميل إلى الفيثاغورية. ونتيجة لذلك فقد اصطبغَت أعمالُ أفلوطين كما وصلتنا بصبغةٍ فيها شيء من التصوف، ربما كان سببها هو المشرفَ على التحرير.
وتحمل أعمالُ أفلوطين الباقيةُ اسم «التساعيات Enneads»؛ إذ يتألف كلٌّ منها من تسع كتب، وهي تتسم بطابعٍ أفلاطوني عام، وإن كانت تفتقر إلى اتساع نطاق أعمال أفلاطون وحيويتها؛ إذ تكاد تقتصر كلها على نظرية المثل وبعض الأساطير الفيثاغورية. ويجد المرء في أعماله قدرًا من الانعزال عن العالم الواقعي، وهو أمر لا يُثير الدهشة حين يعرف المرء حالة الإمبراطورية في ذلك الحين؛ ذلك لأن المرء لا بد أن يكون متبلدَ الحس تمامًا، أو قويَّ الإرادة إلى حدٍّ غير عادي، حتى يحتفظ بحالةٍ من الرضا الدائم إزاء القلاقل السائدة في ذلك العصر. وهكذا فإن نظرية المثُل تنظر إلى عالم الحس، وما فيه من مظاهر التعاسة على أنه غير حقيقي تصلح تمامًا لإقناع الناس بقَبول مصيرهم.
ولقد كانت النظرية الأساسية في ميتافيزيقا أفلوطين هي نظريته في الثالوث، الذي يتألف من الواحد، والعقل (النوس) والنفس، بهذا الترتيب في الأولوية والاعتماد، ولكن علينا أن نلاحظ قبل أن نَعرِض لهذا الموضوع أن هذه النظرية، برغم كل ما كان لها من تأثير على اللاهوت المسيحي، لم تكن هي ذاتُها مسيحية، بل كانت أفلاطونية جديدة. ولقد كان هناك فيلسوف معاصر لأفلوطين، درس على أستاذه نفسِه هو أوريجين Origen، الذي كان مسيحيًّا، وقال أيضًا بنظرية في الثالوث، وضعَت بدورها الأطراف الثلاثة على مستوياتٍ مختلفة، فاستحقَّت الإدانة فيما بعدُ بوصفها هرطقة. أما أفلوطين الذي كان تفكيره يقع خارجَ نطاق المسيحية فلم يكن مُعرَّضًا لمثل هذه الإدانة، وربما كان هذا هو السببَ الذي جعل تأثيره يظل أعظم حتى عهد قسطنطين.

إن «الواحد» في ثالوث أفلوطين يُشبِه إلى حدٍّ بعيد الفلَك الواحد عند بارمنيدس، الذي لا يُمكِننا أن نقول عنه أكثر من أنه «يوجد».

أما تقديم أي وصف آخر له، فيعني أنه قد تكون هناك أشياء أخرى أعظم منه. ويتحدث أفلوطين عن هذا الواحد أحيانًا، وكأنه هو الإله، وأحيانًا أخرى على أنه «الخير» على طريقة محاورة «الجمهورية». غير أنه أعظم من «الوجود»، حاضر في كل مكان، وليس في مكان شامل، ولكنه لا يُعرَف، وأفضل ما يُمكِن أن يفعله المرء إزاءه هو أن يصمت بدلًا من أن يقول أي شيء، وهنا نرى بوضوحٍ تأثير التصوف؛ ذلك لأن المتصوف بدوره يلوذ وراء حاجز الصمت والعجز عن الاتصال، ونستطيع أن نقول إن عظمة الفلسفة اليونانية تَكمُن آخرَ الأمر في اعترافها بالدور الأساسي للكلمة «اللوجوس». وهكذا فإن الفكر اليوناني، على الرغم من وجود بعض العناصر الصوفية فيه، كان في أساسه مُضادًّا للتصوف.

والعنصر التالي في ثالوث أفلوطين هو ما يُسمِّيه بالعقل أو النوس، وهي كلمة يكاد يكون من المستحيل إيجاد ترجمة مطابقة لها، والمقصود هنا شيء يُشبِه الروح، لا بمعنًى صوفي، بل بمعنًى عقلي. وخير سبيل إلى إيضاح العلاقة بين النوس والواحد، هو استخدام تشبيه.

فالواحد أشبهُ بالشمس التي تبعث نورها الخاص، وعندئذٍ يكون النوس هو ذلك النورَ الذي يرى به الواحدُ ذاتَه. ويمكن بمعنًى معين أن نُشبِّهه بالوعي الذاتي، وحين نستخدم أذهاننا في الاتجاه الذي يبعدنا عن الحس يُمكِننا أن نصل إلى معرفة النوس، ومن خلاله إلى «الواحد» الذي يُعَد النوس صورة له. وهنا نجد نظيرًا لفكرة الجدل في جمهورية أفلاطون، حيث يُقال إن عمليةً مماثلة تُؤدِّي بنا إلى رؤية صورة الخير.

أما العنصر الثالث والأخير في الثالوث، فيُسمَّى بالنفس التي تتَّصف بطبيعةٍ مزدوجة؛ فهي في جانبها الداخلي تتجه إلى أعلى، صوب النفوس، أما مظهرها الخارجي فيهبط بها إلى عالم الحس، الذي تكون خالقة له. والواقع أن نظرية أفلوطين تنكر مذهب «شمول الألوهية Pantheism»، وذلك على خلاف الطريقة الرواقية في التوحيد بين الله والعالم، وتعود إلى رأي سقراط، ولكن على الرغم من أنها تنظر إلى الطبيعة على أنها صادرة عن النفس، وهي في حالة هبوطها، فإنها لا ترى الطبيعة شرًّا، كما فعل «الغنوصيون Gnostics»، بل إن صوفية أفلوطين تعترف اعترافًا تامًّا بأن الطبيعة جميلة، وبأنها خيِّرة بوصفها تعبيرًا عن نظام الأشياء كما ينبغي أن يكون. على أن الصوفية المتأخرين لم يُشاركوا أفلوطين هذه النظرةَ السخية إلى الطبيعة، وكذلك فعل الدعاة الدينيون، بل والفلاسفة أنفسُهم؛ فقد غلَب عليهم طابعُ الانصراف إلى الحياة الأخرى، حتى أصبحوا يلعنون الجمال والمتعة بوصفهما انحطاطًا وشرًّا، وإنه لمن المشكوك فيه إلى أبعدِ حدٍّ أن تلقى هذه التعاليم القاسية استجابةً من أي شخص فيما عدا المتعصبين المهووسين. ومع ذلك فإن عقيدة القبح المعكوسة هذه ظلت سائدة طوال قرون عديدة، ويمكن القول إن المسيحية تنطوي في صورتها الرسمية على الفكرة الغريبة القائلة إن اللذة آثمة.

أما في موضوع الخلود، فقد أخذ أفلوطين بالرأي الذي عرض في محاورة «فيدون». إذ يقال إن نفس الإنسان ماهية، ولما كانت الماهيات أزلية فلا بد أن تكون النفس أزلية، وهذا يُوازي رأي سقراط القائل إن النفس تدخل ضمن إطار الصور، ومع ذلك فقد تضمنت نظرية أفلوطين عنصرًا أرسطيًّا مُعينًا. فعلى الرغم من أزلية النفس، فإنها تتجه إلى الاندماج في النفوس، ومن ثَم فإنها تفقد طابعها الشخصي، حتى لو لم تكن تفقد هُويتها.

ها نحن الآن قد وصلنا إلى نهاية العرض الذي قدمناه للفلسفة القديمة، وخلال هذا العرض مرَرْنا بما يقرب من تسعة قرون، من عصر طاليس حتى عصر أفلوطين. وإذا كنا قد حددنا خط التقسيم على هذا النحو، فهذا لا يعني أنه لم يكن هناك مُفكِّرون لاحقون يمكن النظر إليهم على أنهم ينتمون بحق إلى تراث القدماء؛ فهذا الانتماء يَصدُق بمعنًى معين على الفلسفة كلِّها في واقع الأمر. ومع ذلك فمن الممكن إدراكُ حالات انقطاع رئيسية في تطور التراث الثقافي، من هذه الحالات تلك النقطة التي بلَغَتها الفلسفة مع أفلوطين؛ فمنذ ذلك الحين أصبحت الفلسفة في الغرب على الأقل منطويةً تحت جناح الكنيسة، وظلت هذه الحقيقة قائمة حتى مع وجود استثناءات، مثل بويتيوس Boethius، وفي الوقت ذاته فإن مِن المفيد أن نُذكِّر أنفسنا بأنه عندما سقطت روما، استمر في المناطق الشرقية، تحت حكم بيزنطة أولًا ثم في ظل الحكم الإسلامي، تراثٌ فلسفي مُتحرِّر من الروابط الدينية (المسيحية).

إن المرء حين يعود بأنظاره إلى الإنجازات الفلسفية للعالم القديم، يشعر بالانبهار إزاء القوة غير العادية التي أبداها العقل اليوناني في إدراكه للمشكلات العامة.

وإذا كان أفلاطون قد قال إن بداية الفلسفة تكمن في الحيرة، فإن هذه القدرة على التعجب والدهشة قد توافرت لدى اليونانيين الأوائل بدرجةٍ غير عادية، والواقع أن الفكرة العامة للبحث والتمحيص هي من الاختراعات اليونانية الكبرى التي أضْفَت على العالم الغربي طابَعَه الخاص. وبطبيعة الحال، فإنَّ مِن غير المستحب في جميع الأحوال أن يُجرِيَ المرء مقارناتٍ بين ثقافاتٍ مختلفة، ولكن المرء لو شاء أن يُلخِّص الحضارة الغربية في جملةٍ واحدةٍ قصيرة، لأمكن القول إنها مبنيَّة على نزوع أخلاقي إلى بذل الجهد العقلي، وهو نزوع يوناني في المحل الأول.

أما السمة الأخرى الحيوية للفلسفة اليونانية، فهي أنها تستهدف العلانية أساسًا؛ فحقائقها، على النحو الذي وُجِدت عليه، لا تدَّعي لنفسها هالةَ العصمة من الخطأ، ومنذ البداية أبدت تلك الفلسفة اهتمامًا كبيرًا باللُّغة والاتصال. صحيح أنها تنطوي أيضًا على بعض العناصر الصوفية، وذلك منذ أقدم عهودها، تتمثل في ذلك التيار الصوفي الفيثاغوري الذي يمتد طوال مجرى الفلسفة القديمة.

غير أن هذه الصوفية هي في واقع الأمر خارجة عن البحث العقلي ذاتِه. فهدفها هو في الواقع توجيهُ أخلاق الباحث نفسه، ولم يُصبِح للتصوف دورٌ أهمُّ من ذلك إلا عندما دب الانحلال، فالتصوف كما قلنا عند مناقشتنا لأفلوطين مضادٌّ لروح الفلسفة اليونانية.

ومن أبرز المشكلات التي واجهت المفكِّرين القدامى بحِدَّة تَفوق مواجهة المحدَثين لها بكثير أن الفلاسفة اليونانيين الأوائل لم يكونوا يرتكزون على دعامة من التراث الماضي، على حين أننا اليوم نستطيع أن نعود دومًا إلى هذا التراث، فنحن نستمد الجانب الأكبر من مصطلحنا الفلسفي والعِلمي والتكنولوجي من مصادرَ كلاسيكية، وكثيرًا ما يفوتنا أن نَقدُرَ أهميتها حقَّ قدرِها. أما بالنسبة إلى الباحث اليوناني فقد كان لزامًا عليه أن يبدأ كلَّ شيء من البداية، وأن يصطنع طرقًا جديدة للتعبير، وينحت مصطلحاتٍ فنيةً جديدة، بُنِيَت على أساس المادة التي تُقدِّمها لغة الحديث اليومي، فإذا بدا أحيانًا أن طريقتهم في التعبير غير موفقة، فلا بد أن نتذكر أنهم كانوا في أحيان كثيرة يتلمسون طريق التعبير عن أنفسهم في وقتٍ كانت فيه الأدوات اللازمة ما تزال في طور الإعداد. ولا بد للمرء من جهد عقلي لكي يعود بذهنه إلى تصوُّر موقف كهذا، هو في الواقع أشبهُ بموقف الإنجليز الذين يجدون أنفسهم مُضطرِّين إلى التفلسف بلغة أنجلوسكسونية، منفصلة عن اليونانية واللاتينية. وكان لا بد أن ينقضي اثنا عشر قرنًا منذ العصر الذي وصلنا إليه حتى عهد إحياء المعرفة، وظهور العلم الحديث على أساس العودة إلى المصادر القديمة، وربما كان من قبيل إضاعة الوقت أن نتساءل: لماذا كان ينبغي أن تَحدث فترةُ توقف النمو هذه؟ لأن أية محاولة للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن تكون مُفرِطة في التبسيط، ومع ذلك فمن الصحيح بلا شك أن مُفكِّري اليونان وروما لم ينجحوا في تطوير نظرية سياسية صالحة للتطبيق.

وإذا كان سبب إخفاق اليونانيين هو نوع من الغرور الذي ولَّدَته قدراتهم العقلية المتفوقة، فإن الرومان أخفقوا بسبب افتقارهما إلى الخيال فحَسْب. ويتمثَّل هذا الجمود الذهني على أنحاء شتى؛ من أبرزها العمارة الضخمة في عصور الإمبراطورية. فمن الممكن أن نرمز للفرق بين الروح اليونانية والروح الرومانية عن طريق تأمل معبد يوناني في مقابل كنيسة رومانية، وسنجد عندئذٍ أن التراث العقلي اليوناني قد تحول على أيدي الرومان إلى شيءٍ أقلَّ رقةً ورشاقةً بكثير.

لقد كان التراث الفلسفيُّ اليوناني في أساسه حركةَ تنوير وتحرر؛ ذلك لأنه يستهدف تحرير العقل من نير الجهل، والتخلصَ من الخوف من المجهول عن طريق تصوير العالم على أنه قابل لأن يُعرَف بالعقل. وكانت أداة هذا التراث هي اللوجوس (العقل أو الكلمة)، وهدفه هو السعي إلى المعرفة في إطار مثال الخير. ولقد نظروا إلى البحث المنزَّه على أنه غير أخلاقي، يوصل الناس إلى الحياة الصالحة بدلًا من أن يصلوا إليها عن طريق الأسرار الدينية. وإلى جانب تراث البحث العقلي، نجد نوعًا من النظرة المتفائلة التي تخلو من المشاعر الزائفة؛ ففي رأي سقراط أن الحياة التي لا تخضع للنقد لا تستحق أن تُعاش، وفي رأي أرسطو أن المهم ليس أن يعيش الإنسان طويلًا، بل أن يعيش جيدًا. ومن الصحيح أن جانبًا من هذه النضارة قد فُقِد في العصور الهلينستية والرومانية، عندما توطدَت أقدام مذهبٍ رواقي كان وعيه بذاته أقوى. ولكن يظل من الصحيح أيضًا أن أفضل ما في التكوين العقلي للحضارة الغربية يرجع إلى تراث المفكرين اليونانيين.

١  مملكة قديمة في جنوب غرب آسيا، تنتمي إلى الإمبراطورية الإيرانية، وهي على الأرجح أصل إقليم «باختيار» الحالي (المترجم).
٢  نسبة إلى خليفة الإسكندر الذي كان يحكم هذا الجزء.
٣  نسبة إلى أسرة من الحكام اليونانيين تعاقبَت على حكم هذا الجزء.
٤  شعب قديم كان يسكن إقليمًا في جنوب شرقي بحر قزوين، وهو من الشعوب الإيرانية.
٥  أي من جبل طارق حتى الهند (المترجم).
٦  أعتقد أن الجمع بين اسبينوزا وبين ليبنتس في حكمٍ واحد من هذا النوع فيه قدر كبير من عدم الإنصاف للأول؛ ذلك لأن كلَّ ما قاله المؤلف بعد ذلك ينطبق على ليبنتس وحده، الذي ألف كتابًا مستقلًّا ينفي فيه وجود الشر في ظل العناية الإلهية Theodicee، أما اسبينوزا فكانت هذه المشكلة غير قائمة أصلًا بالنسبة إليه؛ لأنه رفض تشبيه الألوهية بالإنسان، ولم يكن يؤمن بأن لكلمة الشر أو الخير معنًى على المستوى الكوني المطلق (المترجم).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤