الفصل الرابع

المنظر الأول

(حول ديار بني ثقيف، في قرية من قرى الجن، حيث اجتمعت طائفة منهم للحفاوة بقيس وهو يهيم على وجهه ضالًّا في الفلوات، وبينهم شاب منهم في شكل إنسي جميل الثياب يتردى الحرير من فرعه إلى قدمه، وعلى رأسه عقالان من الحرير المحلى بالذهب، هو الأموي شيطان قيس — الجميع ينشدون ويرقصون)

نشيد الجن :
هذا الأصيلُ كالذَّهبْ
يسيلُ بالمرأَى العجبْ
على الوهادِ والكُثُبْ
الرقصُ يبعثُ الطربْ
هلمَّ يا جنَّ العربْ
هلمَّ رَقصةَ اللَّهَبْ
إذا مشَى على الحطبْ
نحنو بنو جهَنَّمَا
نغلِي كما تغلي دَمَا
نثور في الأرضِ كما
ثارَ أبونا في السما
نحن بنو الجبارِ
العلَمِ المنارِ
إبليسَ بِكرَ النار
يا عزَّ من لهُ انتمى
نحن الرُّعُودُ القاصفهْ
نحن الرياحُ العاصِفهْ
والظلماتُ الزاحِفَهْ
عرمرَمًا عرمرَمَا
لنا وما لنا صُوَرْ
نرى ونسمَعُ البشر
ولا يَرَوْنَ من حضَرَ
منا ومن تكلما
نقول حينَ نصطدمْ
بسادةٍ أو بِخَدم
صمم صمم صمم صمم
عمًى عمًى عمًى عمَى
هبيد :
فيمَ اجتمعْنا هَهنا؟
يا عضْرَفُوتُ ما الخبر؟
عضرفوت :
لا أدرِ … تلك ضجةٌ
حضرتُها فيمن حضَرْ
فسل أخاك عَسَرًا
هبيد :
ماذا هناك يا عسَرْ؟
عسر :
نحن مسوقونَ إلى
ما ليسَ ندرِي كالبقرْ
الأموي :
بني الجنِّ في أرضِكم عابِرٌ
من الإنسِ يرسُفُ في ضُرِّهِ
فغالوا بهِ واعلموا أنه
فتًى نبَّه الشِّعْرُ من قدرِه
هبيد :
وأينَ تُرَى هو؟
آخر :
ماذا يكون
الأموي :
وماذا يُهمُّك من أمره
ألم تعلموا أن لي صاحبًا
من الإنس أحكُمُ في شعرِه
هبيد :
أجل أنت تُوحِي له ما يقولُ
وتقذفُ ما شئت في فكرِه
الأموي :
إذن فاعلموا أنه عاشق
تملَّأَتِ البيدُ من ذكره
عاصف :
وأعلم أن الهوى واحد
حوى المستهامين في أسْره
وأن التي سحرت قلبَه
مدلَّهةُ القلب من سحره
الأموي :
وإني لأكْفُلُ ليلى له
وأصرِفُها عن هوى غيرِه
سَهِرْتُ على طُهر ليلى الزمانَ
ولم أغمِضِ العينَ عن طُهْرِهِ
صرَفتُ عن الحب حتى الزواَج
وما قدَّسَ اللهُ من سِره
ولو أنَّ عيني تَشقُّ القبور
سهِرْت على الحبِّ في قبره!
عضرفوت :
ومن يكون
الأموي :
قيس
عضرفوت :
من قيس؟
عاصف :
وهل يخفَى القمرْ!
الشاعرُ الذي سحر
والساحر الذي شَعَر
حَنْجَرَةٌ لنا وترْ
منها وللإنس وتر
هبيد :
وما لنا يا عضرفوتُ
ولِفتيان البشرْ؟
وما لقِينا منهمو
ومن أبيهم غير شر!
عضرفوت :
بني الجنِّ اسمعوا أبِكم زكامٌ
جني :
ولِمْ؟
عضرفوت :
نَتَنَتْ لعَمركُمو الجواءُ
آخر :
وما في الجو؟
عضرفوت :
ريحٌ آدميٌّ
ففيه نَتانةٌ وله ذَكاءُ
إذا البشريُّ مرَّ عليَّ يومًا
فقَد مرَّت عليَّ الخُنْفَساءُ
جني :
أجل بعداوة البَشَرِ ابتُلِينا
وطال بها التبرُّمُ والعَناء
مضى بالكبر إبليسٌ أبونا
وكلُّ تراثِ آدمَ كبرياء
يَعيب رجالُهم فيقال عبنا
وتَدْفِنُ عارَهَا فينا النساء
وإن عَجزَ المطبب قال داءٌ
من الجنِّي ليس له دواء
وإن قَفَزَتْ صغارهمو فزلَّت
فمنا معشرَ الجنِّ البلاء
وخِفنا من أذاهم فاحتجبنا
فما عصم الحجاب ولا الخَفاء
وكم متعوذٍ بالله منا
تعوذ الأرضُ منه والسماء!
عضرفوت :
وقد نشكو من الناس التجني
وننسى ما جناه الأنبياء
جني :
أرُسْلُ الله أيضًا من عِدانا؟
عضرفوت :
أجل هم في عداوتنا سَواءُ
بنى فخمًا سليمانٌ وضخمًا
ولولا الجنُّ ما نهضَ البناء
بنينا تدمرَ الكبرى بأيدٍ
فهلْ تدرونَ ما كان الجزاء؟
جني :
وما كان الجزاء؟
آخرون :
أَبِنْ
عضرفوت :
عذابٌ
وسجن ما لمدَّته انقضاءُ!
فتَحْتَ المَاءِ
جني :
تحتَ الماءِ
عضرفوت :
عانٍ
عليهِ طلاسم وعليه ماءُ!
وفي جوف القماقم لو علِمْتُم
آخرون :
وماذا في القماقم؟
عضرفوت :
أبرياءُ!
جني :
ومن ذا زجَّهُم فيها
عضرفوت :
أميرٌ
علينا لا يُرَدُّ له قضاء
نبيٌّ فهو عدلٌ حيثُ يَقضِي
ومَلْكٌ فهو يفعلُ ما يشاء!
عاصف :
قيس يا قومُ منكمو
ليس قيسٌ من البشر
جني :
قيس منَّا وإنما
في بني عامرٍ ظهر
آخر :
إنني قد رأيتُه
يتفلَّى على الشجر
ثالث :
وسمعناهُ قد عوى
عَوَّةَ الجِنِّ واستتر
رابع :
أنا أيضًا رأيته
ركِبَ الظبيَ في السفر
عاصف (متطلعًا) :
تعالَوْا فانظروا

(يتطلع الجميع إلى حيث ينظر)

جني :
ماذا؟
آخر :
عجيبٌ
عضرفوت :
نرى شبحًا يُدحرِجُه الفضاءُ
أقيسٌ ذا؟
عاصف :
نعم هو فاستعدُّوا
فقد وجب التحفزُ واللقاء
هبيد (لجني آخر) :
تأمَّلْ قيسًا المُضنَى تجدْه
من الذَّوَبان أصبح كالخيَالِ
الآخر :
لقد ضلَّ الطريقَ أما تراهُ
يُصفِّق باليَمين وبالشِّمال؟
وقد قَلَبَ الثيابَ عليه نَهْجًا
على عاداتِهم عند الضلال

(يظهر قيس فيلتفون حوله وينشدون)

سلامٌ مَلِك الحبِّ
وسلطانَ المُحبينا
وأهلًا وعلى الرحبِ
لقد شُرِّفَ وادينا
أتى الجنُّ من الوادي
يُحيُّونَك بالورد
حدا ركبَهم الحادي
إلى ناديك من بُعْدِ

(يتلفت قيس ذات اليمين وذات الشمال)

رَب إلى أين انتهت بيَ السُّرى
وأيَّ وادٍ أنزلتَني يا تُرى
عسايَ في الشامِ لعلِّي جُزْتُهُ
أو أنا بالطائِفِ أو أين أنا؟
وهذه المُسُوخُ حولي جِنَّةٌ
أم عمَلُ الوهم وتهويلُ الكَرى
لا، أنا صاحٍ

(يتحسس جسمه)

هذه رِجلِي وذِي
يدي وتلك مُقلتي يَقظَى تَرَى
ولِمَ لا أُومِنُ بالجن وأَنْ
تكون للجنَّة كالناسِ قُرى؟
لا أدَّعي معرفةً بعالَمٍ
ظاهرُهُ أكثرُ منه ما اختفى

(يمسح جبينه ويعيد النظر والتطلع)

تلك منَ الجنِّ لعَمري شِرْذِمَهْ
وهذه خيلهمو المُسَوَّمَهْ
نعامة كالفرَس المُطهَّمَهْ
وأرنبُ مُسْرَجَةٌ ومُلْجَمَه
وقُنْفُذٌ وظَبيةٌ وشَيْهَمَهْ
يا عجبًا كلَّ العجبْ!
الجنُّ مني عن كَثَبْ
سودٌ دقاقٌ في العيونِ
كالدُّخَانِ في الحطبْ
يخرجُ من أفواهها
ومن عيونِهَا اللهبْ
من كل مَن جال بقَر
نيْه وصال بالذَّنَبْ
الجان :
نَبِيَّ الحبِّ لا تَخش
أذًى أو شِرَّةً منَّا
عَطفْتَ الطيرَ والوحشَا
فلِمْ لا تَعطِفُ الجِنَّا؟
وسَلْ حسَّان والأعشى
وشيطانَيْهِمَا عَنَّا
الأموي :
تركتُ ورائي الشامَ لم أنتفعْ به
ولا هو من شوقي القديم شفاني
وعدتُ إلى نجدٍ أقاسي صبابتي
ووجدي كأني ما بَرِحْتُ مكاني
تركتُكِ ليلى فانفجرتِ لياليا
مؤلفةَ الأشكالِ جِدَّ حِسان
فلم يَخْلُ سيْري منك يومًا ولا السُّرى
ولم يخلُ من تمثالِكِ القمران
على كل أرض من هواكِ سوارحٌ
ملأنَ سبيلي أو مَلَكن عناني
(وأجهشتُ للتوْباد حين رأيتُه
وكبر للرحمنِ حين رآني)
(وأذريْتُ دمعَ العينِ لما عَرَفْتُهُ
ونادى بأعلى صوتِه فدعاني)

(يدنو منه قيس ويتأمله)

قيس (لنفسه) :
يا ويحَ عيني ما ترى؟
وويحَ أُذْني ما تَعي!
وأين عقلي؟ غاب عني
اليومَ أو عقلي معي؟
الشعر لي مُذ قلتُه
من شفتي لم يُسمَع
من ذا الذي أوْحَى به
لذا الغلام المُدَّعي؟

(يقترب من الشاب ويأخذ في انتقاده)

عقالان يَمانيَّانِ
مِنْ وَشْيٍ وعِقْيَانِ
يُضِيئَانِ كلَمْحِ الشمس في جلدةِ ثعبان
وأين الشَّفَقُ الأحمَرُ من مطرَفِكَ القاني؟
وقد تقرُب في الروْ
عَةِ من أملاك غسَّان
وقد تبلُغُ في الشعر إلى رقةِ حسَّان
فما شأنك يا هذا؟
الأموي :
وما يَعنيكَ من شاني
قيس :
أرى سارِق أشعارٍ
جريئًا ما له ثانِ
فقد يُسطَى على بيتٍ
وقد يُسرَق بيتانِ
ولا يَنْتَحِل الإنسان
أبياتًا لإِنسان
وما أنشَدْتَ من شعرٍ
فمن صنعي وإحساني
ولم أهتفْ به بعدُ
ولم تَسْمَعْه أُذنان
فمَن أَنت ومِن أين
أتتْ أُذْنبْك ألحاني؟
الأموي :
أنا الملقي عليك الشعرَ مِن آنٍ إلى آن
أنا الهاجس والشيطان
قيس :
لا، لا، لستَ شيْطاني

(ثم يناجي نفسه)

أجل سمِعتُ باسم شيطاني ولكن لم أرَه
أبي وأمي حدَّثا
ني في الليالي خبرَه

(يعود إلى خطاب الأموي مترددًا)

ألستَ أنت الأمويّ؟
الأموي :
لا تخَفْ أن تذكرَه
قيس :
ما أنت إلا صورةٌ
في عصبي مصوَّرَهْ
وعبثٌ لو كان عقلي حاضرًا لأنكره
قيس (وهو ينكت الأرض بعود) :
ويحي أقيسٌ واحد
أم نحن قيسان هنا؟
وأيُّنا الشاعر هذا
الأمويُّ أم أنا؟
أم الذي بي وبه
من عَبَثِ السحر بنا؟
أم أنا مجنون عَليَّ حبُّ ليلى قد جنى
الأموي :
قيس
قيس :
لبيكَ قيس
الأموي :
ما أنا قيس
قيس :
من إذَن؟
الأموي :
قلتُ إنِّنِي شيطانُهْ
قيس :
قيس من آدمٍ فما أنت منه
الأموي :
أنا من قيس عامر وجدانُهْ
قيس :
أنت وجدانيَ؟ استعذتُ بربي
منك
الأموي :
لا تستعذ به جل شانُهْ!
هكذا شاء: كلُّ شاعرِ قومٍ
عبقريِّ اللسان نحن لسانه
قيس (مشيحًا بوجهه ومطرقًا) :
يا عجَبا أصبحَ بالجنِّ لسانِي يعمُرُ!
وصرتُ ينْهَى مارِدٌ
على فَمِي ويأمرُ
ما للسانِي لا يطولُ؟
ما له لا يقصرُ؟
يا ليت شعري كيف لا
يخرُجُ منه الشرَرُ؟
الأموي (واضعًا يده على كتف قيس) :
علامَ قيس فيم أنت مُطرِقٌ مفكِّرُ؟
في خبري
قيس :
أجل وما
صدقْتَ فيما تُخبرُ
ليس لساني ماردًا
إن لساني بشَرُ
الأموي :
قل وحدَك الشعرَ إذنْ!
قيس :
تظنُّني لا أقْدِرُ؟
الأموي :
جرِّبْ إذَنْ قلْ أرِنا
يا قيسُ كيف تَشْعُر!
قيس :
وما تُحبُّ
الأموي :
قريةُ الجنِّ
وهذا المنظَرُ
أليس فيما أنت راءٍ
قيسُ ما يؤثِّر؟
قيس :
إسمع إذن يا أمويُّ!
الأموي :
إنني أنتظر
قيس :
وجوهٌ تَصوّرُ، وفضاءٌ يزهرُ، ورمال في مطارح البصر تزخَرُ،
وقريةٌ تموجُ بالجنِّ كأنها عَبْقَرْ!
الأموي (ضاحكًا) :
قه قه! تعالَوْا واضحكوا!

(تضحك جماعة من الجن)

قيس (في غضب) :
قه قه … أمِنِّي تسخَرُ؟
الأموي :
ما هكذا يا شاعرَ البيدِ البيوتُ تُكْسرُ
جني آخر :
إنك لا تَنْظُمُ يا قيس
ولكنْ تنثُرُ!
الأموي :
ما لك قيسُ مفحَمًا
هذا لعمري الحَصَرُ!
لا يُفحَم الشاعرُ لكن
يُفحم الشُّوَيْعِرُ
ما لك كالعُودِ الذي
أدبرَ عنه الوتَرُ؟
ما للقوافي الآنساتِ
منكَ قيسُ تنفُرُ؟
كيف ترى لسانَكَ الـ
آن
قيس :
عليه حجرُ!
أنتَ على مشاعري
وشعريَ المسيْطِرُ!
إن غبت غاب خاطري
وإن حضرتَ يحضُرُ
الأموي :
الآن لا تُنكرُنِي قيسُ
وكنت تُنكِر!
عجِبْتَ كيف تختفي الجنُّ
وكيف تظهرُ
يا قيسُ هذا عالمٌ
طِينتُه التَّجَبُّرُ
تطغَى على رائدها
صحْراؤه وتغمُرُ
وغاية المُمْعِنِ في
نظامِهِ التحيُّرُ
مهما علِمت عنه فالذي جهِلْتَ أكثَرُ!
قيس :
يا أخَا الجنِّ لئن
كنتَ أخًا لي وخليلا
أنا في أعماءِ أرض
لا أرى فيها السبيلا
الأموي :
أين تبغِي قيس؟
قيس :
ليلى
كن إلى ليلى الدَّلِيلَا
الأموي :
مِلْ يمينًا يا أبا المهديِّ ثم امشِ قليلًا
تَجد المنزلَ والما
ءَ الذي يَشفي العليلا

(ينطلق قيس آخذًا يمينه مهرولًا)

المنظر الثاني

(في حي بني ثقيف بالطائف حيث ترى دار ورد على بعد قليل — ورد مضطجع على الرمل، وبجانبه رفيق من رفاقه — يقترب قيس من الخباء مناجيًا نفسه)

قيس :
إن قلبي لمخبري
أن هاتيكَ دارُها
أنا بالطائف الذي
قرَّ فيه قرارها
في ثقيف تنقلي
وثقيف ديارها
ما لساقي جَرَرْتُهَا
فتعايى انجرارُها
ولقلبي يقول لي
قد تدانى مزارُها
كيف لا أهتدي لليلى وفي القلب نارها
ليت ليلايَ نُبِّئَتْ
أنني اليومَ جارها

(يتبين وردًا وصاحبه)

عجبٌ! هُديتُ الدارَ بعد ضلالة
ما كان شيطاني عليَّ كذوبَا
هذي منازلُها وذلك بعلُها
بعثَتْ إليَّ ديارُ ليلى الطِّيبا
هذا غريمي وردُ أشقر كاسمه
أتُراه أُلبس جلدَه مقلوبا!
ما بالُه افترش الأديم كأنه
بغلٌ يُعَفِّر في التراب جنوبا!
رفيق ورد :
ورد أرى من المدَى القريبِ
شخصًا يدبُّ نحونا كالذيب
على خُطاه خَشيةُ المُريبِ
ورد :
لِمْ لا تقولُ خيرة الغريب
لعلَّه ابنُ سبيلٍ
يمرُّ بالحي مَرَّا
إني أراه سقيمًا
يجرُّ ساقَيْه جرَّا

(ينهض من رقدته قلقًا)

الرفيق :
عرفتَ مَن
ورد :
قيسٌ
به الغرامُ أضرَّا
الرفيق :
قيس؟
ورد :
أجل
الرفيق :
كيف أفضَى
إليك؟ كيف تجرَّا
ورد :
دعني وقيسًا وشأني
لعل في الأمر سرَّا

(ينصرف الرجل ويتلاقى ورد وقيس)

قيس :
أهذا ورد بني ثَقِيفٍ؟
ورد :
نعم الوردُ ينبتُ في رُباهَا
قيس :
وَلِمْ سُمِّيتَ وردًا لم تُلَقَّبْ
بقُلَّامِ العشيرة أو غَضاها!
ورد (في سكون وحلم) :
وما ضرَّ الورودَ وما عليها؟
إذا المزكومُ لم يَطْعَمْ شذاها
قيس :
(بربَّك هل ضممْتَ إليك ليلى
قُبَيْلَ الصبح أو قَبَّلْتَ فاها؟)
(وهل رفَّتْ عليك قرونُ ليلى
رفيفَ الأُقْحَوَانَةِ في نداها؟)
ورد (بعد فترة وسكون) :
نعم ولا يا قيس
قيس :
بل
لا بدَّ من لا أو نعمْ
ورد :
هبْهَا نعمْ يا قيسُ هل
مع الحلال من تُهَمْ؟
المرْءُ لا يُسأل: هل
قبَّل أهله؟ وكم؟
أجل لقد قبَّلْتُها
من رأسها إلى القدم
قيس (غاضبًا) :
تلك لعمري قُبلةُ الحُمَّى
بلاءٌ وسقمْ!
أو قُبلةُ الذئبِ إذا الذئـ
ـبُ على الشاة جَثَمْ

(يتراجع قليلًا وكأنما يحدث نفسه)

قلبي يقول ليَ: لا!
يا صِدْقَهُ فيما زعم!
ورد :
إذن تعالَ قيسُ واسمعْ في أناةٍ وكرمْ
لا تجعلنَّ الغضبَ الجَائرَ بيننا الحَكَمْ
إسمع حديثي إنه
ما خطَّ مثلَه القلم
وسرُّه لا الأهلُ يد
رون به ولا الخدَم
أنا الذي ظُلِمْتُ قيس لا أنا الذي ظَلَمْ
ألِيَّةُ وما عليَّ
لك يا قيس قسَمْ
كم مرَّتِ الليلةُ بي
والليلتان لم أنَمْ
منذُ حوت داريَ ليلى ما خلوْتُ من ندَم
كانت إطافتي بها
كالوثنيِّ بالصَّنَم
وربما جئتُ فِرا
شَها فخانتني القدم
كأنها لي مَحْرَمٌ
وليس بيننا رَحِم
شعرُك يا قيسُ جنى
عليَّ هذا واجترَم
هيَّبَها فامتنعتْ
كأنها صيدُ الْحَرَمْ
وهَبتُها للحبِّ والشعرِ وقيسٍ والألم
قيس :
وَلْكن تعالَ سَرِيَّ ثقيفٍ
أبِنْ ليَ ما لم تُبَيِّنْ تعالَ
تقولُ لَقِيتَ بشعري الشقاءَ
وجَرَّ عليك بياني الوبالَا
لقد قلتَ قولًا فأوْجزتَه
فبالله إلا شرحت المقالَا
ورد :
إذن أَصغِ قيس
قيس :
قل الصدقَ وردُ
ورد :
وهل كان لي الصدقُ إلا خلالَا
فلولاك ما اخترتُ إلا ثَقِيفًا
ولم أُلق للعامريَّات بالَا
ذهبتُ بشعرك منذ الشبابِ
أغنِّي القِصار وأروي الطِّوالَا
أرى بين ألفاظِه ظِلَّ ليلى
وألمحُ بين القوافي الخيالَا
فلما رُدِدْتُ وقيل القصائد
والعشقُ بين المحبَّيْن حالا
خرجتُ إلى حيِّها خاطبًا
ولم أدَّخِرْ دون مسعايَ مالا
بنيْتُ بها فتَهَيَّبْتُهَا
وأيُّ امرئٍ هاب قبلي الحلالا
فشِعرُك يا قيسُ أصل البلاء
لقيتُ به وبليلى الضلالا
كساها جمالًا فعُلِّقْتُهَا
فلما التقينا كساها جلالا
إذا جئْتُها لأنالَ الحقوق
نهتْنِي قَدَاستُها أن أَنالا
أمْسِكْ أبا المهدي!

(يستحيل كلامه إلى همس، إذ تبدو ليلى على باب الخباء)

أُنْظُرْ هذه
ليلى علينا طلعتْ من الخبا

(ثم ينادي بصوت متهدج)

ليلى تعالَيْ أسرعي، قيسٌ أتى
ليلى هَناكِ، من تحبِّين هنا
قيس :
أمازحٌ يا وردُ قل أنت أم
تَسخَرُ مني أم تُرَى تَهزَا بنا؟
ورد :
بل قلتُ جِدًّا لم أقلْ مُهازلًا
قيس (هامًّا بالذهاب إليها) :
إذن فدعْها لا تُجَشِّمْها الخُطا
ورد (وليلى تقترب) :
إِسمعْ أبا المهديِّ همسَ خطوها
كأنه وَطْءُ الغزال في الحصا
دعوتُ فاهتمَّتْ ولو لم أدْعُها
لوَجَدتْ ريحَك من أقصى مدى
قيسُ تثبَّتْ واستَعِدَّ، هي ذي
أتتْ، فلا يذهبْ بلُبِّك اللقا
الآن امضي لسبيلي
قيس :
بل أقِمْ
إلبثْ أعِنِّي، إنني خُرتُ قُوَى
ورد :
قيسُ أرى الموْقف لا يجمعُنا
أنت حبيبُ القلب والزوجُ أنا
يا لكما مني ويا لي منكما!
نحن الثلاثةُ ارتطمنا بالقضا

(ينصرف وتقبل ليلى على قيس)

قيس :
ليلاي، ليلى القلب
ليلى :
قيس ما لي
دارتْ بي الأرضُ وساء حالي؟
قيس :
فداك ليلى مهجتي ومالي
من السَّقام ومن الهزالِ
تعاليْ اشكي لي النوى تعالِي
ألقِي ذراعيْك على خيالِ

(تصافحه بشوق)

ليلى :
أحقٌّ حبيبَ القلب أنت بجانبي
أحلمٌ سرى أم نحن منتبهان؟
أبعد تراب المهد من أرض عامِرٍ
بأرض ثقيفٍ نحن مغتربان؟
قيس :
حنانيْك ليلى، مل لخلٍّ وخِلِّه
من الأرض إلا حيث يجتمعان
فكلُّ بلاد قرَّبتْ منك منزلي
وكلُّ مكانٍ أنت فيه مكاني
ليلى :
فما لي أرى خدَّيْك بالدمع بُلِّلا
أمِنْ فرَحٍ عيناكَ تبتدران
قيس :
فداؤكِ ليلى الروحُ من شرِّ حادثٍ
رماكِ بهذا السُّقْم والذَّوبان
ليلى :
تراني إذن مهزولةً قيس؟ حبَّذا
هُزالي ومَن كان الهُزالُ كساني
قيس :
هو الفكرُ ليلى، فيمن الفكر؟
ليلى :
في الذي
تجنَّى
قيس :
كفاني ما لقيتُ كفاني
ليلى :
أأدركتَ أن السهمَ يا قيسُ واحدٌ
وأنَّا كليْنا للهوى هدفان؟
كلانا قيسُ مذبوحٌ
قتيلُ الأبِ والأمِّ
طعينان بسكِّينٍ
من العادة والوهم
لقد زوِّجتُ ممَّن لم
يكن ذوْقي ولا طَعْمي
ومن يكبُرُ عن سنِّي
ومن يصغُرُ عن علمي
غريبٌ لا من الحيِّ
ولا من وَلد العمِّ
ولا ثروتُه تَربِي
على مال أبي الجَمِّ
فتنحن اليومَ في بيت
على ضِدَّيْن مُنْضَمِّ
هو السجنُ وقد لا ينطوي السجنُ على ظلم
هو القبرُ حوى ميَتَيْن جاريْن على الرُّغم
شتيتيْن وإن لم يَبعُدِ العَظْمُ من العَظم
فإن القربَ بالرُّوحِ
وليس القربُ بالجسم
قيس :
تعاليْ نعِشْ يا ليلَ في ظل قَفْرَةٍ
من البيد لم تُنقَل بها قدمان
تعاليْ إلى وادٍ خَلِيٍّ وجَدْوَلٍ
ورنَّةِ عُصفورٍ وأيْكَةِ بان
تعالي إلى ذكرى الصِّبا وجنونه
وأحلام عيشٍ منْ دَدٍ وأمان
فكم قُبلة يا ليلَ في مَيْعة الصِّبا
وقبلَ الهوى ليست بذات معان
أخذْنا وأعطيْنا إذا البَهْمُ ترتعي
وإذن نحن خلف البَهْم مستتران
ولم نكُ ندري يومَ ذلك ما الهوى
ولا ما يعودُ القلبَ من خفقان
مُنَى النفس ليلى قَرِّبِي فاك من فمي
كما لفَّ مِنقاريْهما غَرِدان
نَذُقْ قُبلةً لا يعرِف البؤسَ بعدها
ولا السُّقْمَ رُوحانا ولا الجسدان
فكلُّ نعيم في الحياة وغبطة
على شفتينا حين يلتقيان
ويخفُقُ صدرانا خفوقًا كأنما
مع القلب قلبٌ في الجوانح ثان

(تنفر ليلى)

ليلى :
وكيف؟
قيس :
ولِمْ لا
ليلى :
لستَ يا قيسُ فاعلًا
ولا لي بما تدعو إليه يدان
قيس :
أتعصِينني يا ليلَ؟
ليلى :
لم أَعْصِ آمري
ولكنَّ صوتًا في الضمير نهاني
ووردُ يا قيس؟ وردٌ ما حَفَلْتَ به
لقد ذَهَلتَ فلم تجعلْ له شانَا
قيس (غاضبًا) :
تعنين زوجَك يا ليلى
ليلى (منكسة رأسها) :
نعم
قيس :
ومتى
أحببْتِ وردًا؟ تُرَى أحببتِه الآنَا!
ليلى :
فيمَ انفجارُكَ؟
قيس :
من كيدٍ فُجِئْتُ به
ليلى :
إني أراك أبا المهدي غيْرانَا
وردٌ هو الزوجُ، فاعلمْ قيسُ أن له
حقًّا عليَّ أؤدِّيه وسلطانَا
قيس :
إذن تحاببتما
ليلى :
بل أنت تظلمني
فما أحبَّ سواك القلبُ إنسانَا
ولستُ بارحةً من داره أبدًا
حتى يُسرِّحَني فضلًا وإحساناَ
نحن الحرائرَ إن مال الزمانُ بنا
لم نشكُ إلا إلى الرحمن بلوانَا
قيس :
بل تذهبين معي!
ليلى :
لا لا أخون له
عهدًا، فما حاد عن عهدي ولا خانا
فتًى كنبْع الصفا لم يختلفْ خلُقًا
ولا تلوَّنَ كالفتيان ألوانا
قيس (متهكمًا) :
أراكِ في حبِّ وردٍ جِدَّ صادقةٍ
وكان حبُّكِ لي زورًا وبهتانًا
ليلى :
قيس!
قيس (صارخًا) :
اتركيني بلادُ الله واسعةٌ!
غدًا أبدِّلُ أحبابًا وأوطانا

(يحاول أن يتركها فتمسك به ليلى)

ليلى :
العقلَ يا قيس!
قيس :
لا خَلِّي الرداءَ دعي

(ثم يفلت منها ويندفع إلى سبيله تاركًا إياها باكية في هيئة استعطاف)

ليلى :
وارحمتاه لقيسٍ عاد ما كانا!
واهًا لقيسٍ وآهِ ما صنعا؟
أكثرَ قيسٌ بلواي والوجعا

(تدخل عفراء)

عفراء عندي
عفراء :
لبَّيْك سيدتي
الصبرَ واستدفعي به الجزعا
ليلى :
لقد سمعتِ الحديث كيف إذن
صبري على ما جرى وما وقعا؟
قلتُ لقيس مقالَ مشفقةٍ
لم يُلقِ بالًا له ولا سمِعا
وقيسُ ذو جِنَّة وإن زعموا
جنونَه مدَّعًى ومصطنعًا
تحير الناسُ في جنون فتًى
لا عقلَ إلا بشعره ولِعا
واللهِ لو جاء في محاسنةٍ
يسألُ وردَ الطلاقَ ما منعا
فوردُ يا عفرَ لا كِفَاء له
مروءةً في الرجال أو ورعا
آه من من السُّقم
عفراء :
ألفَ عافيةٍ
ليلى :
آه من الحادثات
عفراء :
ألفَ لَعَا
ليلى :
أنا عُذريَّة الهوى أحملُ العبْء
وإن ناءَ بالصبابة جهدي
المحبَّات ما بكيْن كدمعي
في الليالي ولا أرِقن كسُهدي
ويح قيسٍ وويحَ لي أي ثارٍ
للمقادير عند قيسٍ وعندي
أتعب الحيَّ داءُ قيسٍ ودائي
وتعايى الدواءُ كُهَّانَ نَجد
لا الحواميمُ تَصرِفُ الجنَّ عنا
حين تُتلَى ولا رُقَى السحر تُجدي
أبقيسٍ وبي هوى عبقريٌّ
يَسلُبُ العقلَ من ذويه ويُردي
عِلَّةُ البيد من قديمٍ وداءٌ
ضاعَ فيه الرُّقى وحار المُفَدِّي
ما سلاحاه حين يقتلُ إلا
من عفافٍ ومن وفاءٍ بعهد
لم تُعَذَّبْ بالحب عذراءُ قبلي
كعذابي ولن تُعَذَّبَ بعدي
عفراء :
هي عذراء؟ ربيَ اشهدْ!
ليلى :
أجلْ
عذراءُ حتى يضمَّني ركنُ لحدي
عفراء :
والذي أنتِ تحتَه
ليلى :
تحت بعلٍ
غير ذي جَفوةٍ ولا مستبدِّ
راعني اللومُ من جميع النواحي
فتواريْتُ في مُروءةِ «ورد»

(يقبل ورد وقد سمع آخر ما تقول)

ربِّ ماذا سمعت؟ ليلى شكورٌ
لك نفسي الفِداءُ يا بنتَ «مهدي»
ليلى :
ورد
ورد :
ليلى
ليلى :
رُحماكَ وردُ وعفوًا
كنتُ أخفي الجوى فأصبحتُ أبدي
ورد :
ما بليلى؟ ماذا أثاركِ ليلى؟
هدِّئي روْعَكِ المُفزَّعَ هَدِّي
ليلى :
الداءُ يا وردُ فيَّ مجتهد
ملتهِمٌ هيكلي وما شبِعا
أصبحتُ لا أشتهي الطعامَ ولا
يَحمَدُ جنبي إليَّ مضطجَعا
قلبي من اليأس حين حلَّ به
أُحسُّ يا وردُ أنه انصدعا
لم يحملِ اليأسَ ساعةً ولقد
كان بما حَمَّلوه مضطلِعا
المتمني بالعيش منتفِعٌ
ولن ترى يائسًا به انتفعا
القدرُ اليومَ والقضاءُ على
حربكَ قيس وحربيَ اجتمعا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤