الفصل الرابع والعشرون

ودق جرس التلفون بمنزلي في مصر الجديدة وأنا قاض بمحكمة الأزبكية سنة ١٩٢٦، وإذا المتكلم صديقي الدكتور طه حسين يطلب إلي مقابلته، وذهبت لمقابلته فإذا هو يعرض على أن أكون مدرساً بكلية الآداب، فترددت قليلا ثم قبلت، لنفوري من القضاء وحبي للتدريس، وذهبت إلى الكلية حيث قصر الزعفران الآن، فوجدت شيئًا جديداً علي، لا هو كالأزهر ولا هو كمدرسة القضاء. أساتذة كأنهم عصبة أمم، هذا إنجليزي وهذا فرنسي وهذا بلجيكي وهذا ألماني وقليل من الأساتذة المصريين، وليس فيهم معمم إلا أنا، وعميد الكلية بلجيكي، والطلبة أحرار، يحضرون الكلية أو لا يحضرون، ويحضرون الدرس أو لا يحضرون. وأقسام الكلية متشعبة: قسم للفلسفة يتزعمه الفرنسيون، وقسم للإنجليزية يتزعمه الإنجليز، وقسم للغات القديمة، وقسم للجغرافيا، وآخر للتاريخ … الطلبة موزعون على الأقسام، ومن الطلبة عدد كبير يقضي سنة في كلية الآداب إعداداً لكلية الحقوق، وقد قضيت زمًنا حتى أفهم كل ذلك، وأحسست أن الجو مبعثر، ليس هناك ارتباط وثيق بين الطلبة بعضهم وبعض ولا الأساتذة بعضهم وبعض، لا كالذي كنت أرى في مدرسة القضاء، وأن الدراسة كالحرب المائعة؛ فتبعثر الأقسام في الدراسة وتبعثر الأساتذة في الجنسية جعل نسيج الكلية مهلهلا، وأقرب معنى حدث في نفسي أنني في أزهر بقبعة، ولذلك لم آلف هذه الأوضاع إلا بعد عهد طويل. وصدمني أول أسبوع أنني أحسست حركة تذمر بين العميد البلجيكي والأساتذة لأسباب لا أدريها، وجاءتني بعد ذلك عريضة موقع عليها من بعض المدرسين والأساتذة يعلنون فيها ثقتهم بالعميد لميزاته وكفايته، فلم أشأ أن أوقع عليها لأن الثقة إنما تبنى على المعرفة وأنا لم أعرفه — وإدارة الكلية في يد مجلس لها، ولست عضواً في المجلس إذ لا يكون عضواً إلا أستاذ أو مساعد أستاذ، أما مدرس مثلي فلا، فكان امتناعي عن التوقيع سبباً في امتعاض العميد مني وتقديره لي معاً، وأخذت أهيئ نفسي للبيئة الجديدة على مضض حتى فهمت الأوضاع واستقامت الأمور. وكان الطلبة كلهم ذكوراً ليس فيهم فتاة. وشاهدت مرة ثلاث بنات في قسم الفرنسية علمت أنهن نصف مصريات، أبوهن طبيب مصري كبير١ وأمهن ألمانية، فساءلت نفسي: هل أعيش حتى أرى طالبات مصريات صميمات في الكلية؟..! ولكن الزمن كان أسرع مما توقعت، فامتلأت الكلية بالبنات بعد قليل.

ها أنذا أطلق كتب الفقه، وأعود إلى كتب اللغة والأدب والنحو، ودرست في أول سنة درسين: درساً أقرأ فيه الكامل للمبرد ودرساً أقرأ فيه البلاغة. ومن قديم لم تعجبني البلاغة العربية، فبحثت في المكتبة الإنجليزية عن كتب في البلاغة فأنا أقرؤها وأقارن بينها وبين ما كتب في البلاغة العربية وأختار خيرهما وأوفق بين مصطلحاتهما، وأكثر ما كنت أكره الدراسة في الفصول الكبيرة العدد لطلبة كلية الحقوق فأشعر إذ ذاك أني أدرس في الهواء لا رابطة بيني وبين الطلبة، ولا أستطيع الإشراف عليهم إشراًفا جدياً، ولا أتبادل معهم عواطفهم ولا أحسن توجيههم لكثرة عددهم، ولهذا تخلصت من هذا الدرس أسرع ما يمكن وجهدت أن أدرس في فصول محصورة لعدد محصور.

وقبل بدء الدراسة في السنة التالية دارت مناقشة طويلة بيني وبين صديق لي أستاذ في كلية الحقوق.٢ قال يوماً: لماذا تصر على لبس العمامة؟ والعمامة رمز لرجل الدين ولست الآن رجل دين. إنما أنت تعلم اللغة العربية والأدب العربي كما يعلم الفرنسي اللغة الفرنسية والأدب الفرنسي، وهذه أمور مدنية لا دينية، ثم إن لبسك العمامة في وسط كله برانيط وطرابيش يجعلك غريباً في بيئتك إلخ ما قال. وقد فكرت في الأمر طويلا فهذا الذي قال حق، ولكن إلف العمامة وإلف الناس لي معمماً أخجلني من التغيير، فما زال يلح علي وما زلت أطيل التفكير حتى ملت إلى رأيه. وشجعني على هذا ما كنت ألاقيه في لبسي العمامة من عناء، فعامة الناس في مصر، ولاسيما في المدن، يجلون العمامة ظاهراً ولا يجلونها باطنا، ويوقرون الطربوش غالبا ويستخفون بالعمامة غالباً. ويتغلغل في نفوسهم مبدأ مقرر، وهو أن صاحب الطربوش يحترم إلا إذا ظهر عكس ذلك. وصاحب العمامة يحتقر إلا إذا ظهر عكس ذلك، وكم حدث لي من فصول كرهت من أجلها العمامة؛ ذهبت إلى فندق مرة فقال لي صاحبه ليس عندي مكان خال، وإذا بمطربش يأتي بعدي فيخلق له المكان، وأذهب مرة إلى مكتب البريد فأقف أنا ومطربش أمام الشباك وقد أتى المطربش بعدي، فيقدمه رجل البريد علي ويجيب طلبه فأثور وأطالبه بالعمل بالترتيب. وأتهيأ مرة لركوب الدرجة الأولى في الترام فيقول لي الكمساري: تعال هنا — مشيراً إلى الدرجة الثانية — فتلك الدرجة الأولى. وأذهب مرة إلى كازينو في ضاحية من ضواحي الإسكندرية ومعي صديق مطربش فيسمح له بالدخول وأمنع فأعود معه مكتئباً خجولا، وهكذا وهكذا. كل هذا رجح عندي رأي صديقي فذهبت إلى الخياط وفصلت بدلتين وشريت طربوشاً. وعدت إلى هذا النوع من اللباس بعد سبع وعشرين سنة منذ كنت تلميذا في مدرسة أم عباس.

وقد كنت نسيت رباط الرقبة كيف يكون، فكنت ألجأ إلى من يربطه لي إلى أن تعلمته، وانتهزت فرصة افتتاح الدراسة في العام الجديد يربطه لي إلى أن تعلمته، وانتهزت فرصة افتتاح الدراسة في العام الجديد فذهبت مطربشاً وكنت أتعثر في مشيتي في الشارع وفي الكلية خجلا من الناس، ومنهم من يستحسن ومنهم من يستهجن.

وقالت لي سيدة إنجليزية زوج صديق لي: إني كنت أفضل لبسك العمامة. فقلت لها: لك الحق وإنما تفضلين العمامة على النمط الذي تفضلين به الطرف القديمة في خان الخليلي على مخازن البيع في شارع فؤاد. وعلى كل حال كنت بذلك أكثر اندماجا في الوسط الجامعي وأشد انسجاماً.

وتعلمت من هذا الوسط أن ميزة الجامعة عن المدرسة هي البحث، فالمدرسة تعلم ما في الكتب والجامعة تقرأ الكتب لتستخرج منها جديداً، والمدرسة تعلم آخر ما وصل إليه العلم والجامعة تحاول أن تكتشف المجهول من العلم، فهي تنقد ما وصل إليه العلم وتعدله وتحل جديداً محل قديم، وتهدم رأياً وتبني مكانه رأياً، وهكذا؛ هذه وظيفتها الأولى والأخيرة، فإن لم تقم بها كانت مدرسة لا جامعة. هذا ما فهمته في السنة الأولى من تدريسي في الجامعة — فهمته مما سمعته عن أساتذة من الأجانب قاموا ببحوث مختلفة جديدة كل في فرعه، ومن مخالطتي في الجامعة لبعض المستشرقين أتعرف منهم ما يعملون، ومن قليل من الأساتذة المصريين يتبعون خطتهم ويسيرون على منهجهم؛ لذلك بدأت في هذه السنة أجرب حظي في البحث، فاخترت درساً من الدروس أبحث فيه عن المعاجم اللغوية: وكيف تكونت أول مرة، وطريقتها في جمع الكلمات، وتطورها في العصور المختلفة وتغير أساليبها على تعاقب العصور، والأخطاء التي وقعت فيها وحاجتنا إلى معجم جديد وما ينبغي أن يكون عليه هذا المعجم، وأخذت في ذلك سنة كاملة كانت بدء تجربتي في البحث، أعقبها بحث آخر قصير في عكاظ والمربد وتصويرهما حسبما جاء في الكتب وأثرهما في اللغة والأدب.

وكان ذلك تمهيداً لمشروع واسع في البحث وضعناه نحن الثلاثة الدكتور طه حسين والأستاذ عبد الحميد العبادي وأنا، خلاصته أن ندرس الحياة الإسلامية من نواحيها الثلاث في العصور المتعاقبة من أول ظهور الإسلام، فيختص الدكتور طه بالحياة الأدبية والأستاذ العبادي بالحياة التاريخية وأختص أنا بالحياة العقلية. فأخذت أحضر الجزء الأول الذي سمي بعد «فجر الإسلام»، وصرفت فيه ما يقرب من سنتين فرسمت منهجه ورتبت موضوعاته، وكنت إذا وصلت إلى موضوع أجمع مظانه في الكتب، وأقرأ فيه ما كتب على الموضوع وأمعن النظر، ثم أكتبه مستدلا بالنصوص التي عثرت عليها حتى أفرغ منه، وأنتقل إلى الموضوع الذي بعده وهكذا. وكانت أكثر الأوقات فائدة الإجازة الطويلة التي تبلغ أكثر من خمسة أشهر، إذ كنت أجمع الكتب التي يظن أنها تبحث في الموضوع وأحملها على دفعتين أو ثلاث إلى مائدة وضعتها في حديقتي خلف بيتي في مصر الجديدة، وأبدأ العمل في الساعة الثامنة صباحاً وأجلس على كرسي أمام الكتب أقلبها وأستخرج نصوصها وأستخلص من كل ذلك ما أكتبه إلى الساعة الواحدة، جلسة واحدة أنسى فيها نفسي وأنسى كل شيء حولي، وهكذا أفعل في أيام العمل التي لا يكون علي فيها دروس في الجامعة حتى ينتهي الجزء. وقد تم هذا الجزء الأول من فجر الإسلام في آخر سنة ١٩٢٨، ولقد لقيت من حسن استقبال الناس لهذا الجزء وتقديرهم له واهتمامهم به نقداً وتقريظاً ما شجعني على المضي في هذه السلسلة، وقد عاقت زميلي عوائق عن إخراج نصيبهما، فاستمررت أنا في إخراج ضحى الإسلام، في ثلاثة أجزاء وترقيت في منهج التأليف في ضحى الإسلام، فقد رتبت موضوعاته التي تستغرق ثلاثة أجزاء وأحضرت ملفات كتبت على كل ملف اسم الموضوع، ملف عليه اسم المعتزلة وآخر الخوارج، وثالث أثر الجواري في الأدب، ورابع الثقافة الهندية.. إلخ. ثم أحضرت أمهات الكتب التي تبحث في هذه الموضوعات كالأغاني والحيوان للجاحظ وكتب ابن قتيبة ورسائل الجاحظ وكتب ابن المقفع ونحو ذلك أقرؤها كلها فإذا وصلت إلى نص يتعلق بالمعتزلة كتبت في ورقة صغيرة مغزى النص ورقم الصفحة في الكتاب ووضعتها في ملف الموضوع، وهكذا حتى أفرغ من هذه الكتب كلها، وهذا دور التحضير، فإذا جاء دور الكتابة استخرجت ملف الموضوع وأعدت النظر في الجذاذات ورتبتها حسب الترتيب المنطقي وفكرت فيها وبدأت أكتب، وكلما عنت فكرة جديدة رجعت إليها في مظانها، حتى ينتهي الموضوع، فأنتقل إلى ما بعده وهكذا، وعلى هذا النمط أخرجت الجزء الأول والثاني والثالث من ضحى الإسلام في نحو سنتين. وهكذا تخصصت في (الإسلاميات).

وإلى جانب ما درسته في هذه الموضوعات درست بعض الكتب الأدبية كطبقات ابن سلام. وطبقات الشعراء لابن قتيبة.

وعلى أثر قراءتي كتابا في اللغة الإنجليزية في النقد الأدبي استحسنت الموضوع وفكرت في تدريسه، أستعين على ذلك بما وقع في يدي من الكتب الإنجليزية وما أعرفه مما كتب في اللغة العربية كالموازنة بين أبي تمام والبحتري، والوساطة بين المتنبي وخصومه، ونقد الشعر ونقد النثر لقدامة، وظللت سنين أدرس هذا الموضوع وأكتب فيه مذكرات وكانت هذه أول دروس باللغة العربية للنقد الأدبي في كلية الآداب.

١  هو المرحوم الدكتور على إبراهيم حسن.
٢  هو الدكتور السنهوري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤