الفصل الرابع

الخطوط التي ورثها الخط العربي

كان سكان العالم الإسلامي قبل أن يفتحه المسلمون يكتبون بخطوط البلاد الأصلية، ويتكلَّمون لغاتها السريانية والآرامية واليونانية في العراق والشام، والقبطية بمصر، والفارسية في بلاد فارس، والتركية في التركستان بما وراء النهر، والبربرية في شمال أفريقيا، فلمَّا جاء الإسلام أخذ العنصر العربي يتغلَّب على عناصرهم، والخط العربي يتغلَّب على خطوطهم، واللغة العربية تتغلَّب على ألسنتهم، والإسلام يتغلَّب على أديانهم، حتى ساد الإسلام عليهم جميعًا، وانتشر الخط العربي بينهم، وعمَّت اللغة العربية البلاد الواقعة غربي دجلة وهي العراق والشام ومصر وأفريقيا والسودان، وصارتْ تُعَدُّ بلادًا عربية وأكثرها مسلمون، وانقرضت الخطوط واللغات التي كانتْ منتشرة فيها إلَّا بقايا قليلة من السريانية في بعض القُرى المتباعدة من الشام والعراق، أمَّا شرقي دجلة بفارس والتركستان والهند فقد ساد الإسلام فيها أيضًا، وانتشرت اللغة العربية بين أهل العلم، ولكن ألسنة البلاد ظلَّتْ حيةً يتفاهمون بها إلى الآن، أمَّا الخط العربي فقد انتشر بالإسلام بين الجميع، وإليك مجمل انتشاره، وذكر الخطوط الذي ورثها في سَيْرِه.

لمَّا انتشر الخط العربي مع الإسلام في جزيرة العرب ورثَ فيها جملة خطوط أو حلَّ محلَّها، أشهرها «الخط المسند» الذي كانت تكتب به اللغة الحِمْيَرية في اليمن، و«القلم النبطي» وكانت تكتب به اللغة النبطية في الشمال، و«القلم الصفوي» وكانت تكتب به الصفوية وغيره، كما ورثت اللغة العربية فيها اللغة الحِمْيَرية واللهجة الحَضْرَمية والقتبانية، وغيرها في جنوبيها، واللغة النبطية١ واللهجات الصفوية والثمودية واللحيانية، وغيرها في شمالها.

ولمَّا انتشر في مصر ورثَ «القلم القبطي» المشتق من القلم اليوناني، كما ورثت اللغة العربية اللغة القبطية فيها، وذلك أنه في سنة ٨٧ﻫ في عهد عبد الله بن عبد الملك أمير مصر من قِبَل الوليد بن عبد الملك نُقِل ديوان مصر من القبطية إلى العربية، وجُعِلت الكتابة في جميع دواوينها باللغة العربية (وبالخط العربي بالطبع)، فبادت القبطية في مصر شيئًا فشيئًا، حتى نسِيَتْها العامَّة القبطية تمامًا، فصارتْ لغةً صناعيةً لا تُستعمل إلَّا في بعض الكنائس القبطية، قال المسيو ماسبيرو في كتابه «تاريخ المشرق»: «وقد استمرَّ استعمال اللغة عند الأهالي مدة عشرة قرون بعد تلاشِي الكتابة بها، ولم يَنْعَدِم اللسان القبطي من أفواه الأمة إلَّا في السنين الأولى من القرن السابع عشر»، وهكذا ورث الخط العربي ولغته في مصر الخط القبطي ولغته، كما ورث في المغرب القلم البربري عند قبائل البربر الشمالية.

fig33
شكل ٤-١: الخط البهلوي الساساني والآرامي.
ولمَّا انتشر في فارس ورث القلم البهلوي٢ كما ورثت اللغة العربية اللغة البهلوية، وكانت هي اللغة الشائعة في إيران إلى وقت الفتح الإسلامي، وهي تُسمَّى أيضًا باللغة الفارسية الوسطى تمييزًا لها عن الفارسية القديمة وعن الفارسية الحديثة التي يتكلَّم بها الفُرس الآن، وقد سبق ذكرها.

ولمَّا انتشر في سوريا ورث جملة خطوط، منها القلم الروماني واليوناني عند الحكومة، والقلم السرياني والسامري، وأضعَفَ القلم العبري عند الأهالي، كما ورثت اللغة العربية فيها اللغة اليونانية واللاتينية الرسميتين واللغة السامرية وغيرها من اللهجات الآرامية الغربية عند الشعب كاللهجة النصرانية الفلسطينية.

ولمَّا انتشر في بلاد الجزيرة والعراق ورث الخطوط الآرامية كالسرياني وغيره، كما ورثت اللغة العربية فيها اللغة السريانية وغيرها من اللهجات الآرامية الشرقية كالآرامية المانوية (لغة أتباع ماني) والآرامية اليهودية البابلية، وعلى الجملة فالخط العربي واللغة العربية ورثا في سوريا والعراق وما يَلِيهما الخطوط واللهجات الآرامية الشرقية والغربية، كما ورثت اللغة الآرامية وخطها من قبلُ كثيرًا من الخطوط واللغات الشرقية القديمة كالخط الفينيقي والخط المسماري الذي كان شائعًا في أكثر الممالك القديمة، وكاللغة البابلية والآشورية والعبرية والفينيقية وغيرها.

ولمَّا انتشر في بلاد الهند ورث فيها الخطوط الهندية المتفرِّعة من الخط الآرامي،٣ وقد كانتْ هذه الخطوط الهندية هي المستعملة في الأصقاع الهندية إلى الفتح الإسلامي، فأخذ الخط العربي في الانتشار هناك حتى تغلَّب عليها وأماتها، كما تغلَّب على الخط الأويغوري عند الأتراك (انظر: [الخط العربي وانتشاره في العالم الشرقي والعالم الغربي: (٣) اللغات التي تُكتَب الآن بالخط العربي: (٣-١) اللغات التركية: Jagatai Turki (ط) التركية الجغتائية]).

فمن كل ذلك يظهر لنا جليًّا ما أشرنا إليه في تمهيدنا السابق، وهو أنَّ اللغة العربية كانت تسير في نموِّها وانتشارها مع فتوحات العرب، فأين حلَّ العرب، حلَّتْ لغتهم، وأبادت اللغة الأصلية للإقليم الجديد كما رأيتَ، وكذلك الخط العربي، فقد كان يسير في انتشاره معَها جنبًا لجنب، ولكنه تجاوَزَها وسار مع الإسلام، فأينَ حلَّ الإسلام حلَّ الخط العربي، وأبادَ خط الإقليم الجديد الإسلامي، وهذه الخصيصة لم تُوجَد إلَّا في اللغة العربية وخطها، وذلك — كما قلنا — بفضل الإسلام، فكم من أمةٍ علا شأنُها في مجتمع الأمم ودوَّخَت البلدان، ولم تَستَطِعْ أن تُقِيم للغتها أو لخطها شأنًا، وبقي هذا الشأن بعدها إلى الآن:

ما علِمْنا لغَيْرِهم مِن لسانٍ
زالَ أهلوه وهْوَ في إقْبالِ
بَلِيَتْ هاشمٌ وبَادَتْ نِزارُ
واللسانُ المبينُ ليس بِبَالِ٤
قال الدكتور جوستاف لوبون Dr. Gustave Le Bon في كتابه «حضارة العرب»:٥ «أهالت القرونُ على العرب غبارَ الزوال، وأدْرَجَتْ حضارتَهم في أكفان التاريخ، فلم يَبْقَ منها إلَّا سيرتُها العَطِرة، وأثرُها الماثِل، ولكنَّ زَوَالَهم هذا لم يكن موتًا سالِبًا للرُّوح، ومُورِدًا للجسدِ مَوَاردَ الفساد والفناء؛ لأنَّ الدِّين واللغة التي قام بها العرب ببثِّهما في أرجاء العالَم، أصبحَتَا لعهدنا الحاضر أكثرَ انتشارًا منهما أيام كانت الحضارة العربية متألِّقةَ السَّنا، فإنَّ اللغة العربية يتكلَّم بها الصادر والوارد، والغادي والرائح، بين مَرَّاكُش والهند، كما أنَّ الدِّين الإسلامي لا يزال نِطاقُه يزداد كل يوم تراميًا إلى أبعَدِ الآفاق والأقطار.»

وهيهات أنْ يتسنَّى ذلك لأحدٍ من الشعوب الحاضرة أو المُقْبِلة، وسرعان ما كانت الجماعات المندمِجة في العرب أو المعتَنِقة للإسلام تتناسَى لغتَها، وتُهمِل خطَّها، وتأخذ عن الإسلام لغتَه أو خطَّه ما خلا بضعةَ أصقاعٍ انتشر فيها الإسلام، ولم يُفسَح للعرب أجلٌ حتى ينشروا فيها لغتهم أو خطهم ليُستعملا فيها لغير الأشياء الدِّينية حتى لا يجعلوا مُستثنًى لهذه القاعدة.

١  نسبة إلى النبط أو الأنباط الذين اتَّسَعَتْ مملكتُهم في أرض الحجاز الشمالية إلى حدود فلسطين ونواحي دمشق، وصارتْ سنة ١٠٥م ولاية رومانية اسمها: Provincia Arabia أي الإيالة العربية، وبقِيَتْ على ذلك إلى ظهور الإسلام، وهم غير النَّبَط أو النَّبيط — كما قال أستاذنا الدكتور نللينو — الذين هم في اصطلاح العرب في القرون الأولى للإسلام اسم أهل الحضر المتكلِّمين باللغات الآرامية الساكنين في الشام، وخصوصًا في بلاد ما بين النهرين.
٢  البهلوي أو الفهلوي نسبة إلى بَهلوْ (فهلا)، وهي البقعة التي فيها همذان وأصفهان وآذربيجان والري وماه نهلاوند وغيرها، وكانت حروف الهجاء البهلوية تتركَّب من ٢٤ حرفًا، وكان له شكلان يُعرَف أحدهما بالبهلوي الساساني، والآخَر بالبهلوي الآرامي (انظر شكل ٤-١)، وله فروع أخرى يختلف كلٌّ منها عن الآخَر كاختلاف الخط الثُّلُث عندنا عن الرُّقعة أو النسخ باختلاف الأعصر أو الغرض منها، فالحرف البهلوي الذي نُقِش على النقود يختلف عن الذي نُقِش على الأحجار، وهذا يختلف عن حرف الكتب، وهكذا، ومن كلمة «بهلوي» اشتُقَّتْ كلمة بهلوان بتخريج لا محلَّ لتفصيله هنا.
٣  يظهر لأول وهلة فرقٌ كبير بين هذه الحروف والحرف الآرامي، ولكن لهم على إثبات اشتقاقها منه (أي من الخط الآرامي) أدلةٌ واضِحةٌ جَلِيَّةٌ لا يَسَعُنا المقام لاستيفائها، فلذلك أبحاثٌ لا محلَّ لها هنا.
٤  لشاعر مصر «أحمد شوقي بك».
٥  G. Le Bon, La Civilisation des Arabes.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤