الباب الأول

في الدولة العربية ومصر مدة حكمها، وفيه ثلاثة فصول

الفصل الأول

وفيه مطلبان:

المطلب الأول في ذكر الخلفاء الراشدين

الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين أربعة: أبو بكر الصديق (١١–١٣ﻫ) وعمر بن الخطاب (١٣–٢٣ﻫ) وعثمان بن عفان (٢٣–٣٥ﻫ) وعلي بن أبي طالب (٣٥–٤١ﻫ) بويع لهم بالخلافة الواحد بعد الآخر من بعد وفاة النبي فقاموا بالأمر من بعده على التعاقب مدة ثلاثين سنة نشروا في أثنائها الديانة المحمدية نشرًا عظيمًا، وأوسعوا الدولة الإسلامية اتساعًا غريبًا؛ فقد كانت مدتهم أعظم المدد الإسلامية في تعظيم الدين ونشره بالفتوحات خصوصًا خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه هو الذي فتح معظم فتوحات تلك المدة؛ فإن أبا بكر لقِصَر مدته وخروج معظم قبائل العرب في مبدأ الأمر عن طاعته لم يتمكن إلا من فتوح بلاد العراق وجزء صغير من بلاد الشام، فإنه بعد أن ردَّ القبائل المرتدة إلى الطاعة وأوجد وحدة بلاد العرب على يد خالد بن الوليد وغيره من الأمراء أمر هذا القائد بالمسير إلى بلاد العراق فافتتحها، وتملَّك على الحيرة والأنبار، ثم سيَّره أبو بكر رضي الله عنه من هناك إلى بلاد الشام لمساعدة أبي عبيدة بن الجراح الذي كان أرسله لفتوح تلك البلاد، فافتتحا بعض بلادها، فلما تولَّى الخلافة عمر بن الخطاب أتم فتوحها على أيدي هذين القائدين وذهب بنفسه للمعاهدة مع بطريرق بيت المقدس، ثم افتتح أرض الجزيرة، فصارت حينئذٍ جميع قبائل العرب بدون استثناء أمةً واحدةً خاضعةً لأمير واحد، ثم دخلت جيوشه بلاد أرمينية، ووصلت إلى بلاد القوقاز، وقد سيَّر عمرَو بنَ العاص لفتوح مصر ففتحها، وضم إليها برقة وبلاد النوبة، وأرسل سعد بن أبي وقاص لفتوح بلاد العجم، فوصل العرب إذ ذاك إلى حدود بلاد الهند، ودخل في حوزتهم خراسان وخوارزم، ثم زاد عثمان بن عفان رضي الله عنه على ذلك أفريقية التي افتتحها عبد الله بن أبي سرح عامِلُه على مصر، وجزائر قبرص وكريد وكوس ورودس بالبحر الأبيض المتوسط التي افتتحها معاوية عامله على الشام، فصارت مملكة العرب ممتدة حينئذٍ من حدود بلاد الهند شرقًا إلى البحر الأبيض المتوسط وبلاد أفريقية غربًا، ومن شواطئ نهر جيحون وبحر الخزر شمالًا إلى الأقيانوس الهندي وبلاد النوبة جنوبًا.

هذا ومع عِظم هذه الدولة وما كان عليه هؤلاء الخلفاء من السلطة والشوكة، فإنهم لم يخرجوا عن حالة الزهد والقناعة التي كانوا عليها أيام النبي ؛ فلم يلتفتوا إلى زينة أو فخار أو ثروة، بل استمروا على عيش الكفاف والأخذ بناصر الضعيف والنظر إلى الفقراء والمساكين؛ فإن عمر رضي الله عنه لما سافر من المدينة إلى فلسطين للتملُّك على بيت المقدس لم يصحب معه سوى غلام له، وكان راكبًا على ناقة يتناوبها مع غلامه حاملًا على مقدَّم رحلها حقيبتين مملوءةً إحداهما دقيقًا والأخرى تمرًا، ومعلقًا عليه مزادة ماء، وكان يتصدق من ذلك على من صادفه في طريقه. وقد كان هؤلاء الخلفاء رضي الله عنهم يقضون في الأحكام بغاية الحكمة والعدالة؛ فإنهم كانوا يسوُّون بين الغنى والفقير، والرفيع والحقير؛ يؤيد ذلك ما وقع في أيام عمر رضي الله عنه؛ حيث قال لجبلة بن الأيهم ملك الغسانيين حين اشتكاه إليه رجل: إمَّا أن تُرضِيه بالمال أو يلطمك كما لطمته. فقال له جبلة: ألا يَفضُل عندكم ملك على سوقة؟ قال: كلا، بل كلاهما في الحق سواء. وقد بويع لهم جميعًا بالمدينة فاتخذوها مركزًا لحكومتهم، إلا عليًّا رضي الله عنه؛ فإنه انتقل منها إلى الكوفة ببلاد العراق ليتمكن من إقماع الذين خرجوا عن طاعته، ولم يزل بها حتى قُتل، فبويع لابنه الحسن بها، فلم يلبث أن تنازل عن الخلافة لمعاوية أمير الشام، فانتقلت الخلافة حينئذٍ إلى بني أمية.

المطلب الثاني

في ذكر عمرو بن العاص وفتوح العرب لمصر

قد كان فتوح العرب لمصر في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب؛ فإنه بعد أن عاد إلى المدينة من فتوح بيت المقدس ردَّ معه من جيش الشام عمرَو بن العاص ليُسيِّره إلى مصر، وكان عمرو بن العاص هو الذي يُحرِّض أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على فتوحها، وكانت مصر إذ ذاك تابعةً لمملكة الرومانيين الشرقية التي كان تخت ملكها بمدينة القسطنطينية، وكان عليها عاملان من قِبل هرقل قيصر الرومانيين؛ أحدهما وهو الحاكم على الأقاليم البحرية كان من القسطنطينية ومقيمًا بسكندرية، والآخر وهو الحاكم على أقاليم مصر الوسطى كان يدعى المقوقس ومقيمًا بمدينة منف، وكان يونانيَّ الأصل مصريَّ المولد.

فلما أمر عمر بن الخطاب عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر جهَّز له جيشًا مؤلَّفًا من أربعة آلاف رجل، فسار عمرو بهذا الجيش قاصدًا أرض مصر سنة ١٨ﻫ، فلما بلغ رفح، وهي قرية تبعد عن العريش بعشر ساعات، وصله كتاب من أمير المؤمنين يأمره فيه بالانصراف عن مصر إن لم يكن قد دخلها، فلم يفتحه عمرو بن العاص حتى وصل إلى العريش، ففتحه وتلاه على الجمهور بعد صلاة الفجر، ثم سار حتى وصل إلى مدينة الفرما، فحاصرها شهرًا وتملَّك عليها، ثم تقدَّم إلى بلبيس وتملَّك عليها بعد أن حاصرها نحو شهر أيضًا، وأسَرَ بها أرمانوسة بنت المقوقس، وسيَّرها إلى أبيها مُكرمة في جميع مالها، ثم سار قاصدًا مدينة منف فوصل إلى حصن بابل، وهو حصن على الشاطئ الأيمن للنيل، بينه وبين الجبل المقطم في الشمال الشرقي لمنف، متصل بجزيرة الروضة بواسطة جسر من الخشب، كما أن هذه الجزيرة متصلة بالشاطئ الغربي بواسطة جسر آخر، وكان المقوقس قد تحصَّن فيه بعساكر المصريين لمقاومة العرب، فنزل عمرو برجاله فيما بين الحصن والجبل المقطم، وأخذ في المهاجمة عليه مدة فأبطأ عليه فتحه، فكتب إلى الخليفة يستمدُّه فأمدَّه بأربعة آلاف عليهم أربعة من القواد؛ وهم الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وعُبادة بن الصامت ومَسْلَمة بن مَخْلَد أو خارجة بن حذافة، على القولين، وشدَّد الحصار على الحصن، فلما رأى المقوقس إقدام العرب وصبرهم على القتال ورغبتهم فيه، خاف أن يَظْهَروا على رجاله، فعمد برجاله إلى باب الحصن الغربي على ضفة النيل، وعبَروا على الجسر إلى الجزيرة تاركين نفرًا قليلًا في الحصن، أما العرب فقد تسوَّروا الحصن، وفي مقدمتهم الزبير بن العوام، فهرب مَن بقي فيه، فنزل الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه، وتملَّكوا على الحصن بعد أن حاصروه سبعة أشهر، ثم عمدوا إلى الجسر فتعقَّبوا القبط إلى الجزيرة، فسار هؤلاء إلى منف عاصمة ولايتهم، وبعد أن عبَروا النيل رفعوا الجسر عنه فتوقَّف العرب عن تعقُّبهم؛ حيث لم يستطيعوا عبور النيل، فأخذ المقوقس حينئذٍ في مكاتبة عمرو بأمر الصلح، فبعث إليه عمرو عشرة أنفار في مقدمتهم عُبادة بن الصامت للمخابرة معه على أن يقبلوا واحدةً من ثلاث: إما الإسلام أو الجزية أو الجهاد، ثم اجتمع عمرو والمقوقس وعقدوا معاهدة الصلح على أن يُعطى للمصريين الأمان على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، وهم يدفعون الجزية للمسلمين.

ولما تم التعاهد بين المسلمين والقبط هاجر جميع من كان بين هؤلاء من الروم ملتجئين إلى الإسكندرية، أما عمرو فعزم على النزول على الإسكندرية، وكانت محصَّنة تحصينًا عظيمًا، وبها كثير من العسكر، فأمر عسكره بالرحيل إليها، فبينما هم يحملون للمسير وإذا بعمرو قد أُخْبِر بأن زوج يمامٍ قد باض على خيمته وأشرفَ على الفقس، فأمر عمرو بترك المخيمة قائمةً إلى حين رجوعه من فتوح الإسكندرية، ثم سار قاصدًا هذه المدينة، فحاصرها المسلمون أشهرًا وهم لا يتمكنون من فتحها لشدة تحصينها، ثم ضَيَّق عمرو الحصار عليها حتى التزم المحاصَرون بعقد الصلح بعد مدافعة شديدة، فسلَّموا المدينة بعد حصارها أربعة عشر شهرًا، فدخل عمرو مدينة الإسكندرية في أول يوم جمعة من شهر المحرم سنة ٢٠ هجرية وقت صلاة الجمعة، ثم كتب لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب يُخبره بفتوحها وما تحتوي عليه، فكتب إليه عمر يهنئه بالظفر، وولَّاه عاملًا على الديار المصرية، فوضع الحرس الكافي في الإسكندرية، ورجع إلى الموضع الذي كان ترك فيه خيمته وعسكر هناك بجيوشه على شاطئ النيل، فبنت العسكر في أول الأمر حول الخيمة أكواخًا صغيرة، ثم شيَّدت الأمراء ورؤساء الجيوش قصورًا مشيدة، فتكوَّن من مجموع هذه المباني مدينة عظيمة سُمِّيت بالفسطاط، ومعناه الخيمة؛ حفظًا لذكر الحادثة التي كانت سببًا في تأسيسها، فجعلها عمرو عاصمة مصر، واتخذها مركزًا لإقامته، وبنى بها جامعه الموجود باسمه في مصر العتيقة الآن، وتفرَّغ حينئذٍ لترتيب الحكومة، فقسم مصر إلى مقاطعات، وجعل على الإسكندرية المقوقس، وعلى الوجه القبلي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وتولَّى بنفسه صلات خراجها، وكان قد جعل على كل فرد من الأهالي دينارين جزيةً، خلا الشيوخ والنساء ومَن لم يبلغ الحُلُم، فجبى من الأموال سنويًّا ١٢ مليون دينار، وقد أمره عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن يحفر خليجًا من الفسطاط إلى البحر الأحمر لسهولة النقل إلى مكة والمدينة، فحفره وسماه خليج أمير المؤمنين، ولم يزل عاملًا على مصر حتى عزله عثمان بن عفان سنة ٢٦ هجرية، وولَّى مكانه عبد الله بن أبي سرح، فثقَّل الضرائب على الأهالي حتى وصلت إلى ١٤ مليون دينار سنويًّا، ثم تولَّى عليها قيس بن سعد ثم محمد بن أبي بكر من قِبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم عاد إليها عمرو سنة ٣٨ هجرية من قِبل معاوية، فلم يزل واليًا عليها حتى مات سنة ٤٣ هجرية.

الفصل الثاني

وفيه مطلبان:

المطلب الأول في الدولة الأموية

أقامت هذه الدولة إحدى وتسعين سنة (٤١–١٣٢ هجرية) تحت حكم أربعة عشر خليفة؛ أولهم معاوية بن أبي سفيان الذي كان ولَّاه عمر بن الخطاب عاملًا على بلاد الشام، وأقرَّه عليها عثمان بن عفان مدة خلافته، ثم خرج على عليِّ بن أبي طالب حين تولَّى الخلافة، ووقعت بينهما حروب عديدة، فلما قُتل عليٌّ وتنازل ابنه الحسن عن الخلافة استقر أمرُها لمعاوية، فانتقل حينئذٍ مركز مملكة العرب إلى بلاد الشام بمدينة دمشق، وانحرفت المملكة العربية عن منهج الخلافة البسيط إلى أُبَّهَة الملك وعَظَمته، ثم انتقلت الخلافة أيضًا من الحالة الانتخابية إلى الحالة الوراثية؛ حيث عهِدَ بها معاوية إلى ابنه يزيد، فهاجت الأمة الإسلامية حينئذٍ، ولاقى بنو أمية من أهل العراق والحجاز مقاومة عظيمة؛ فإنه بموت معاوية أحضر أهل العراق الحسين بن علي من المدينة ليبايعوه بالخلافة، فقدِم إليهم في سبعين نفرًا من عائلته. غير أنه لما وصل إلى الفرات قابلته جيوش يزيد عند كربلا، فأحدقت به من كل جانب، فقُتل هناك، وأما أهل المدينة ومكة فبايعوا عبد الله بن الزبير خليفةً عليهم، فاستمر الاضطراب والشقاق إلى أن كانت أيام عبد الملك بن مروان خامس خلفاء هذه الدولة، فولَّى الحجاج بن يوسف عاملًا على الحجاز، فحارب عبد الله بن الزبير، حتى ظهر عليه وقتله بمكة، ثم صرفه عبد الملك إلى العراق وخراسان وسجستان، فهدَّأ تلك البلاد، واستتبت الراحة فيها، وحينئذٍ تفرَّغت الأمة العربية للفتوحات ثانيًا، فأمر عبد الملك حسنًا عامله بمصر بفتوح شمال أفريقيا ثانيًا الذي كان فتحه عُقبة بن نافع في أيام معاوية، وتغلَّب عليه البربر ثانيًا، ثم لما خلَفه ابنه الوليد أذِنَ لعامله على بلاد المغرب موسى بن نصير بأن يفتح بلاد إسبانيا، فأرسل موسى أحد المغاربة المدعو طارق بن زياد بجيشٍ إلى تلك البلاد، ثم لحِقَه بجيش آخر، فأتمَّا فتوحها ومدَّا مملكة العرب إلى جبال البرنات التي صارت آخر حدود الدولة العربية من جهة الغرب، فإن العرب لمَّا عبَروها ودخلوا فرنسا تحت قيادة عبد الرحمن الذي خلف موسى على ولاية المغرب، لم ينجحوا في مشروعهم؛ لأنهم بعد أن وصلوا إلى أواسط هذه البلاد هزمهم كارلوس مارتللو (شارل مارتل) بين طورس وبواطير، فتقهقروا ثانيًا إلى الجبال المذكورة.

وأما من جهة الشرق فقد امتدت المملكة العربية إلى بلاد الهند؛ فإنه في عهد هذا الخليفة أرسل الحَجاجُ محمدَ بن القاسم الثقفي لفتوح بلاد الهند الشمالية، فعبَر محمد نهر السند، ووصل إلى جبال هماليا ونهر الكنك. غير أن العرب لم تحفظ هذه البلاد، فكانت هذه الفتوحات آخِر تقدُّم العرب شرقًا وغربًا في فتوحاتهم التي انقطعت من يومئذٍ، وآخِر ما وصلت إليه دولتهم من الامتداد، فإنها كانت إذ ذاك في غاية عِظَمها، ونهاية اتساعها ممتدة من نهر السند ووادي كشمير شرقًا إلى الأقيانوس الأطلانطيقي غربًا، ومن بلاد التركستان وبحر الخزر وجبال القوقاز والبحر الأبيض المتوسط (الذي يملكون فيه جزائر رودس وقبرص وكريد وجزائر الباليار) وجبال سوينة الجنوبية والبرنات شمالًا إلى صحراء أفريقيا، وبلاد الإثيوبية وبحر الهند لغاية مصب نهر السند فيه جنوبًا، وهذا الامتداد يبلغ طوله نحو الألف وثمانمائة فرسخًا، وهو ما لم تصل إليه دولة قطُّ، وقد وصلت إليه دولة العرب في أقل من مائة سنة.

وبعد أن بلغت دولة بني أمية هذه الدرجة القصوى في أيام الوليد ومَن خلَفه إلى آخِر أولاد عبد الملك، اضطربت أمورها حتى تقوَّى حزب بني العباس وقدروا أخيرًا على إظهار الدعوة لهم بجهة خراسان في أيام مروان الثاني ابن محمد آخِر الخلفاء الأمويين، وبويع بالخلافة لأبي العباس السفاح بالكوفة في ربيع الأول سنة ١٣٢ﻫ، فوقعت الحرب بين مروان وأبي العباس عند نهر الزاب بقرب الموصل، فانهزم مروان وهرب إلى مصر، فقُبض عليه بأبو صير وقُتل، فاستولى على الخلافة حينئذٍ أبو العباس وأوقع القتل في بني أمية، فلم ينجُ منهم إلا عبد الرحمن الداخل ابن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان؛ فإنه هرب إلى بلاد الأندلس، فأسس فيها دولةً أمويةً جديدةً بقرطبة تُسمَّى بالدولة المروانية بعد أن انقرضت دولتهم من الشام وظهرت دولة بني العباس.

المطلب الثاني

في ذكر مصر في عهد الدولة الأموية

ولما آلَ أمر الخلافة إلى بني أمية دخلت مصر تحت حكم هذه الدولة أيضًا، فكان يُرسَل إليها عمالٌ من طرف الخلفاء يُنتخبون أحيانًا من أعضاء عائلة الخلافة، وكان مقرُّهم بمدينة الفسطاط عاصمة مصر في عهد هذه الدولة أيضًا، إلا أن الخلفاء كانوا يُسرِعون في تغييرهم خوفًا من أن يستقلُّوا بالبلاد إذا أقاموا فيها زمنًا طويلًا؛ فلكثرة تغييرهم كانت البلاد دائمًا في حالة تقلُّب واختلاف لم يستقرَّ لها حال؛ ولذا لم نجد شيئًا يستحق الذكر في حكم أغلبهم؛ فإن الواحد منهم كان يُحضر إلى مصر ثم يُصرَف عنها بدون أن يُبدي فيها شيئًا، وقد اشتُهر بعضهم بالعدل والإنصاف، والبعض — وهو الأكثر — بالجور والاعتساف.

وكان أشهر مَن يؤثَر عنه بعض الحوادث منهم عبد العزيز بن مروان الذي ولَّاه عليها أبوه مروان بن الحكم رابع خلفاء هذه الدولة، وأقام بها أكثر من عشرين سنة، فلم ترَ مصر راحةً ولا أمنًا كما رأت في أيامه، وهو الذي بنى مقياس النيل الذي كان بحلوان؛ أول مقياس للنيل بناه المسلمون في مصر، وقد تولَّى بعده على مصر ابن أخيه عبد الله بن عبد الملك بن مروان، فجُعلت في أيامه الكتابة في دواوين مصر باللغة العربية بعد أن كانت لا تزال إلى ذاك الحين باللغة القبطية، ثم أسامة بن يزيد الذي ولَّاه عليها سليمان بن عبد الملك سابع خلفاء هذه الدولة، ولقبه أمير الخراج، فقاست منه الأهالي جميع أنواع الظلم والجور، فإنه لم يهتم إلا في جمع الأموال ولو بقوة السلاح، وجعل على كلِّ مَن سافر بالنيل ضريبةً قدرُها عشرة دنانير يشتري بها ورقةَ مرورٍ بالنهر، حتى جلب عليه ذلك سخط جميع الأهالي، وهو الذي بنى سنة ٩٧ هجرية — بإذنٍ من الخليفة المذكور — مقياس النيل الموجود الآن في الجهة الجنوبية من جزيرة الروضة بدلًا من المقياس الذي كان بحلوان وانهدم في السنة المذكورة.

الفصل الثالث

وفيه أربعة مطالب:

المطلب الأول في الدولة العباسية

أقامت هذه الدولة في الخلافة الإسلامية مدة ٥٢٤ سنة (١٣٢–٦٥٦ﻫ) جلس في أثنائها على كرسي الخلافة سبعة وثلاثون خليفة، أولهم أبو العباس الملقَّب بالسفاح الذي تغلَّب على بني أمية وأخذ منهم الخلافة، وبظهورها ابتدأ عصر التمدن والعلوم والمعارف والآداب والفنون والصناعة والتجارة عند الأمة العربية؛ فإنه وإن كان عندما ظهرت هذه الدولة ابتدأ تجزُّؤ مملكة العرب، فاستقلَّت إسبانيا بنفسها لتباعُدها عن كرسي المملكة بدون أن تجد مقاومةً من العباسيين، ولم تلبث بلاد المغرب أن قام فيها مستقلًّا: الدولة الأغلبية بالمغرب الأوسط، ثم الدولة الإدريسية بالمغرب الأقصى؛ اللتان قامت على أثرهما الدولة الفاطمية، إلا أن أوائل عصرها كانت أعظم أزمان العرب في الشرف رونقًا ورفعةً، وقد ابتدأ مجدها من أيام أبي جعفر المنصور ثاني خلفائها الذي أسس مدينة بغداد على شاطئ الدجلة سنة ١٤٥ هجرية، فصارت عاصمة المملكة من عهده، ومنها انتشرت جميع العلوم والمعارف في سائر البلاد الإسلامية، ووصلت هذه الدولة إلى أعلى درجة المجد والشوكة في أيام هارون الرشيد خامس خلفائها وابنه المأمون سابعهم؛ فقد كانا من أعظم رجال العصر همةً وذكاء وعدلًا وحبًّا للترقي والتمدن والعلوم ونشر المعارف وحماية الصنائع وكل ما يئول لعمار البلاد.

ومن بعدها لم تبقَ شوكةُ المملكة إلا مدةً يسيرة ثم وقعت الخلافة في الفوضوية، وابتدأ زمن انحطاطها من عهد المتوكل على الله عاشر خلفاء هذه الدولة؛ فإن المماليك الأتراك الذين كان أدخلهم في الحرس الملوكي المعتصم ثامن خلفائها كانوا قد كثُروا في بغداد، وقويت سلطتهم فاستولوا على المملكة، وصار بيدهم الحل والعقد والولاية والعزل، ثم زادت شوكتهم فاستَضعَفوا الخلفاء وسطَوْا عليهم، فكان الخليفة في يدهم كالأسير؛ إن شاءوا أبقَوْه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه، حتى ضعُف أمر الخلفاء عند ولاة الأقاليم، فنبذوا طاعتهم واستبدُّوا بالأحكام فتجزأت المملكة حينئذٍ، وظهرت فيها العائلات المستقلة شرقًا وغربًا؛ فقام في الشرق: الدولة الطاهرية بخراسان، ثم الدولة الصفارية بسجستان وخراسان وطبرستان، ثم الدولة السامانية بخوارزم وما وراء النهر، حتى خرجت جميع آسيا الشرقية من يد الخلفاء. وقام في الغرب: الدولة الطولونية بمصر والشام، حتى عم الاضطراب داخلًا وخارجًا؛ فكان لا ينقطع من داخل بغداد لوجود الأتراك، ولا من خارجها لكثرة ظهور تلك الإمارات الصغيرة حولها، إما على التعاقب أو في آنٍ واحد، حتى إنه لم تكن أيام الراضي بالله الخليفة العشرين من هذه الدولة إلا وقد أحيطت بغداد من جميع الجهات بإمارات مستقلة؛ فكانت بلاد فارس في يد بني بويه، وأرض الجزيرة وديار بكر في يد بني حمدان، وخراسان وما وراء النهر في يد بني سامان، ومصر والشام في يد الإخشيد، وغير ذلك، ولم يبقَ في يد الراضي إلا بغداد وما والاها؛ هذا فضلًا عن وجود دولتين أُخْرَيين يدَّعيان الحق في الخلافة؛ وهما الدولة المروانية بالأندلس والدولة الفاطمية بالمغرب؛ فكان هاتان الدولتان ينازعانها الإمامة الدينية، والإمارات المذكورة تنازعها السلطة الإدارية التي فقدها الخلفاء كليةً حتى في بغداد من عهد الراضي؛ فإنه لخوفه من الأتراك ابتدع وظيفة أمير الأمراء؛ وهي وظيفةُ وزيرٍ أعظم يُلقَّب أمير الأمراء، سلَّمه الراضي رئاسة الجيوش وإدارة الأموال، حتى صار مُطلَقَ التصرف، بيده جميع أمور المملكة، وكان يضاف اسمه إلى اسم الخليفة في الخطبة، فتنازع هذه الوظيفة الأمراء أيضًا، فلم تلبث أن وقعت في يد بني بويه، فأقاموا فيها أكثر من مائة سنة، وكانوا هم الحكام في الدولة العباسية حقيقةً، ولهم فضل الاستمرار على تنشيط العلوم والمعارف.

وأما الراضي ومَن خلفه فتركوا أمور المملكة واقتصروا على قصورهم، فصارت الخلافة إمامةً دينيةً ليس للخلفاء منها إلا الاسم فقط، حتى إنه عندما قامت الدولة الفاطمية بمصر فيما بعدُ كانت دولة العرب في الشرق تشتمل على ثلاث ممالك مستقلة: الدولة الفاطمية، وهي تدَّعي الإمامة أيضًا، والدولتان البويهية والسامانية، وهما يعترفان بالإمامة للخلفاء العباسيين الذين حفظوا تلك الإمامة الدينية في بغداد إلى مجيء التتار، وتركوا السلطة الإدارية إلى هاتين الدولتين، ثم إلى الأولى منهما، والدولة الغزنوية التي خلَفت الدولة السامانية في آسيا الشرقية، وامتدت من منابع نهر الكنك ونهر السند إلى بحر الخرز ثم إلى الدولة السلجوقية التي خلفتهما وامتدت من حدود الهند إلى بوغاز القسطنطينية ثم تجزأت إلى سلطنات مستقلة، فكان منها سلطنة أيقونية التي صارت تركية آسيا، ونتج عن تجزُّئها أن حكام الولايات التي كانت تابعة لها المدعوين أتابك؛ أي أمراء استقلُّوا بولاياتهم، فكان منهم الأتابك عماد الدين زنكي صاحب الموصل أبو نور الدين، فلما قصد بغداد هولاكو أخو مابخوخان ملك التتار والمغول في أيام المستعصم آخر الخلفاء العباسيين ببغداد، وتملَّك عليها عنوة في صفر سنة ٦٥٦ هجرية انقرضت الخلافة العباسية من بغداد كليةً، وأما بنو العباس فقد انتقلوا إلى مصر واستقروا بها نحو الثلاثة قرون تحت رعاية المماليك، وكان لهم الإمامة وما يتعلق بالأمور الدينية حتى تملَّك العثمانيون على مصر، فأفضت الخلافة إليهم ولم تزَل لسلاطينهم إلى الآن.

المطلب الثاني

في الكلام على تمدن العرب من عهد الدولة العباسية

قد عرفنا ما وصلت إليه دولة العرب من الامتداد والقوة والشوكة في القرن الأول من الهجرة، والآن نتكلم على ما وصلت إليه هذه الأمة من التمدن والمعارف والثروة والرفاهية في القرن الثاني منها، فإن العرب بعد أن فتحوا تلك البلاد الشاسعة، وتحصَّلوا منها على الأموال الوافرة فتَرَت عندهم تلك الحماسة الأولى فأبطلوا همَّتهم في الحروب والفتوحات واستعاضوها بمطالعة العلوم ونشر الفنون والصنائع، وصاروا يؤثرون الشغل والتجارة والتمتع بأتعابهم، والسكنى بسلام على الحروب وفتح الممالك، فإن الثروة التي تحصَّلوا عليها والأموال الوافرة التي صارت بأيديهم عوَّدتهم على الترف ونضارة العيش، فارتاحوا للحياة الرافهة ونعيم الدنيا حتى أسرفوا في التمتع بهما؛ فإن الملكة زبيدة زوجة هارون الرشيد ما كانت تلبس إلا ملابس الحرير، ولا تستعمل إلا أواني الذهب مرصعةً بالجواهر النفيسة وأقمشة منسوجة بخيوط من فضة، ويقال: إنه كان يوجد في قصر المأمون من الفرش ثمانية وثلاثون ألف قطعة؛ منها اثنا عشر ألف قطعة وخمسمائة مطرزة بالذهب واثنان وعشرون ألف بساط وسبعة آلاف خَصِيٍّ؛ منهم ثلاثة آلاف من السودان، وغير ذلك من الخدم والمستحفظين، وقد أمر بإقامة شجرةٍ مُسمطة من الذهب مرصعة باللؤلؤ على شكل الفاكهة في صالة المقابلة عند مقابلته لسفير الروم.

وهكذا صاروا ينفقون الملايين من الدنانير في بناء المدن اللطيفة والقصور المشيدة والجوامع المزخرفة ويُكثرون البذل في عطاياهم وفي حجهم؛ فقد فرَّق المأمون يومًا على خواصِّه أكثر من أربعمائة ألف دينار، وصرف المهدي في حجة واحدة ستة ملايين دينار. غير أنهم أخذوا ينشطون مع ذلك العلوم والفنون والتجارة، فأول من اعتنى بذلك منهم أبو جعفر المنصور الخليفة الثاني من الدولة العباسية التي بظهورها انقضى عصر الفتوحات، وابتدأ عصر التمدن عند الأمة العربية، ثم حرص على دوام هذه الحركة العلمية خلفاؤه من بعده، حتى إنه لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبد الله المأمون أعظم الخلفاء في المعارف وعلو الفكرة اعتبر المعارف أنها أعظم شيء في سلام الأمة وسعادتها، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وأكثر من فتوح المدارس وتأسيس الكتبخانات، وجعلها عمومية لكل أحد، وجمع العلماء من يونان وفرس وقبط وكلدان، واستحضر الكتب من سائر البلدان، حتى صارت بغداد مقر المعارف ومركز العلوم، فكان يدخل إليها كل يوم مئات من الجِمال محمَّلة بالكتب من جميع الأقطار، وكانوا يترجمون أحسنها إلى اللغة العربية، فترجموا جملة مؤلفات يونانية في الفلسفة والفلك والرياضيات، حتى تقدمت عندهم تلك العلوم واكتشفوا فيها اكتشافات مهمة، وبنوا الرصدخانات، ووضعوها فيها الآلات العظيمة المدهشة للعقول، وقد اجتهدوا كثيرًا في تقدُّم علم الطب، فأسسوا الإسبتاليات، وصاروا يمتحنون الأطباء قبل التصريح لهم بالعلاج، وأسسوا معامل للأجزخانات، واكتشفوا كثيرًا من النباتات الطبية، وابتدءوا علم الكيمياء، وقد اهتموا أيضًا بالعمارة وفن الموسيقى، وكانوا يُشرفون الزراعة.

وأما الصناعة فقد تقدمت عندهم تقدمًا عظيمًا؛ خصوصًا صناعة الآلات الميكانيكية، كما يُعلم ذلك من الساعة التي أرسلها هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسا، وقد استخرجوا كثيرًا من المعادن والأحجار، فاستخرجوا معادن الحديد من خراسان ومعادن الرصاص من كرمان وغير ذلك، واشتُهرت عندهم صناعة الأقمشة اللطيفة بالموصل وحلب ودمشق من مدن العراق والشام، وأما صناعة النقش والتصوير، فلم تتقدم عندهم كثيرًا لآباء الشريعة لها. غير أنهم أكثروا من وجود الآثارات اللطيفة في المدن الشهيرة مثل بغداد والبصرة والموصل والرقة وسمرقند، حتى فاقوا جميع الأمم المعاصرة لهم في العلوم والفنون والصنائع، فأخذوا في أسباب التجارة، وسعَوا في إحداث محطات تجارية في ممالكهم، فكان ذلك سببًا لانتشارهم فيما بعد في آسيا وأفريقيا وتقدُّم قوافلهم شمالًا إلى بلاد التتار والمغول على حدود سيبرية وشرقًا إلى بلاد الصين وجزائر السوندبالا وقيانوسية، وجنوبًا إلى بلاد السودان والزنجبار وموزنبيق ومداغشقر.

المطلب الثالث

في ذكر مصر في عهد الدولة العباسية

ولما أفضت الخلافة إلى بني العباس، صارت مصر تحت حكمهم أيضًا؛ حيث كانت جزءًا من الدولة الإسلامية، إلا أن حكمهم في مصر لم يمتد إلا إلى سنة ٣٥٨ هجرية؛ أعني إلى أيام أبي العباس بن المقتدر الملقَّب بالمطيع لله، وهو الخليفة الثالث والعشرون من العباسيين، وقد استقلت مصر أثناء تلك المدة مرتين استقلالًا إداريًّا؛ فاستقلت أولًا نحو سبع وثلاثين سنة تحت حكم العائلة الطولونية حيث انفرد بإدارتها أحمد بن طولون في أيام المعتمد على الله ابن المتوكل الخليفة الخامس عشر منهم، وأسس فيها الدولة الطولونية، ثم دخلت في حوزة العباسيين ثانيًا في عهد المكتفي بالله بن المعتضد الخليفة السابع عشر منهم، واستمرت نحت سلطتهم إلى أيام الراضي بالله، فولَّى عليها أبا بكر محمد بن طغج عاملًا من قِبله، فاستقل أيضًا بإدارتها وتلقب بالإخشيد، وأسس فيها العائلة الإخشيدية التي أقامت أربعًا وثلاثين سنة إلى تغلبت على مصر الدولة الفاطمية في عهد الخليفة العباسي المطيع لله، فخرجت مصر بالكلِّيَّة من يد العباسيين.

وقد استعمل بنو العباس نفس السياسة التي استعملها بنو أمية في كيفية انتخاب العمال وفي سرعة تغييرهم؛ فاستمرت مصر في أيامهم على الحالة التي كانت عليها في أيام بني أمية، وزاد بنو العباس في سياستهم حتى نتج عنها أن العمال صاروا لا يجتهدون مدة إقامتهم بمصر إلا في الحصول على المنفعة الشخصية كالثروة وغيرها، بدون نظر إلى مصلحة البلاد.

ومن مآثر هذه الدولة بمصر بناء مدينة العسكر التي جُعلت مركزًا لحكومة مصر في عهدها؛ وهي مدينة صغيرة تحتوي على طرق منظمة وأسواق، وبيوت مشيدة مسكونة جميعها بالعساكر، كانت توجد في شمال الفسطاط خارج سوره، وتتصل شمالًا بهضبة قليلة الارتفاع تُسمَّى جبل يشكر، وتنتهي غربًا عند النقطة المسماة قنطرة السباع، أسَّسها أبو عون عبد الملك بن يزيد الذي حضر إلى مصر مع صالح بن علي ليقتفي أثر مروان الجعدي؛ وذلك أن جيشه كان قد نزل بتلك الجهة فأمر أصحابه بالبناء فيها، فابتنوا فيها تلك المدينة الصغيرة التي دُعيت بالعسكر، ثم بُنيت فيها دار الإمارة التي صار ينزل فيها أمراء مصر من بعد أبي عون إلى أن بني أحمد بن طولون القطائع وأقام فيها قصره، فانتقل تخت مصر إلى هذه المدينة.

ومن مآثر هذه الدولة أيضًا الزيادات التي أضافها المأمون عند مجيئه مصر إلى مقياس النيل الذي أسسه أسامة بالروضة؛ فقد عمل له قبة مشيدة البناء، وهو الذي أسس الحوض والعامود الموجودين إلى الآن بالمقياس المذكور، وكتب الكتابة الكوفي الموجودة بأوجه الحوض من داخله التي لم يُزِلْها إلى الآن تمادي الزمن، ثم تجديد بناء مقياس النيل بالفسطاط في أيام المتوكل على الله؛ حيث كان انهدم بزلزلة في أيامه فأمر ببنائه جديدًا وسُمِّي بالمقياس الجديد.

المطلب الرابع

في الدولتين الطولونية والإخشيدية، وفيه فرعان

لم تكن هاتان الدولتان من الدول الملوكية، وإنما هما عائلتان أصلهما من عمال الدولة العباسية على مصر، فاستقلتا بها كما استقل غيرهما من العائلات التي ذكرناها في جميع أنحاء الدولة العباسية، فكان أمراؤهما يعترفون بالتبعية للخلفاء ظاهرًا وقد نبذوا طاعتهم باطنًا، واستقلوا بإدارة البلاد وانفردوا بتدبيرها؛ ولذلك يُعَدُّ زمن حكم العائلتين المذكورتين في مصر في مدة حكم الدولة العباسية عليها، وقد امتدت سلطتهما على مصر والشام وأرض الجزيرة لغاية نهر الفرات وعلى جزء من بلاد العرب أيضًا.

الفرع الأول في الدولة الطولونية

حكمت هذه الدولة نحو السبعة وثلاثين سنة (٢٥٥–٢٩٢ﻫ) تحت حكم خمسة أمراء من ذرية طولون؛ وهو مملوك تركستاني أُسِر في إحدى المواقع الحربية وجيء به إلى ابن أسد الصمامي عامل المأمون على بخارى، فأرسله ابن أسد إلى المأمون ضمن المماليك الذين أرسلهم إليه سنة ٢٠٠ هجرية، فأعجب المأمون تناسُب أعضائه وقوَّة بنيته فألحقه بحاشيته، وما زال يُرقِّيه حتى جعله رئيس حرسه ولقَّبه بأمير الستر، فصرف طولون نحوًا من عشرين سنة في هذا المنصب في أيام المأمون والمعتصم، فلما تُوفِّيَ في أيام المتوكل على الله سنة ٢٣٩ هجرية رأى الخليفة في ابنه أحمد المولود سنة ٢٢٠ هجرية اللياقة للقيام مقام أبيه في إمارة الستر، ولو أنه لم يبلغ التاسعة عشرة من العمر.

وكان أحمد قد تعلَّم وتربَّى تربية حسنة حتى اشتُهر بالعلم والشجاعة والتقوى، فأحبه كثيرٌ من العلماء ومال إليه كثير من الأتراك؛ منهم ياركوج من كبراء حرس الخليفة فزوَّجه بابنته، وهي التي رُزِق منها بابنه عباس، وقد شب أحمد بن طولون بين الدسائس والثورات التي كانت للأتراك، ولكنه لم يتداخل فيها قطُّ، بل عكف على توسيع معارفه والاشتغال بالعلم، فسار يسافر إلى طرسوس بآسيا الصغرى لتلقِّي العلوم بمدارسها، وقد صادف أثناء رجوعه من طرسوس إلى سامر أن هجم بعض العربان على القافلة ليسلبوا منها أموالًا كانت محمولة إلى الخليفة المستعين بالله، فحمل عليهم أحمد بعزم شديد وردَّهم على أعقابهم واستخلص منهم أموال الخليفة، وكان عمره إذ ذاك تسعًا وعشرين سنة، فلما وصل الركب إلى سامرا وبلغ الخليفة الخبر أعطاه ألف دينار، ووهبه إحدى جواريه المسماة ميَّة التي ولدت له ابنه الثاني خمارويه سنة ٢٥٠ هجرية، وكان ذلك مبدأ شهرته وظهوره، فلما تولَّى بابكيال أحد رؤساء الأتراك عاملًا على مصر من قِبل الخليفة المعتز بالله سنة ٢٥٤ هجرية لم يرغب هذا العامل في أن يترك بغداد محل نفوذه ويذهب إلى مصر، فاستخلف عليها أحمد بن المدبر وأحمد بن طولون، وقسم بينهما إدارة البلاد؛ فأعطى أحمد بن المدبر جباية الأموال، وأعطى أحمد بن طولون باقي الوظائف عسكرية وإدارية، وجعله نائبًا عنه، فحضر ابن المدبر إلى مصر قبل مجيء ابن طولون إليها، فاضطهد الأهالي كثيرًا، وثقَّل عليهم الضرائب؛ وذلك أنه ابتدع في مصر بدعًا استمرت من بعده؛ فقد أحاط بالنطرون وحجز عليه بعدما كان مباحًا لجميع الناس، وقرر على الكلأ الذي ترعاه البهائم مالًا سمَّاه المراعي، وقرر على ما يُطعمه الله من البحر مالًا سمَّاه المصائد، فانقسم مال مصر إلى خراجي وهلالي.

أما الخراجي فهو ما يؤخذ مسانهة من الأراضي التي تُزرع حبوبًا ونخلًا وعنبًا وفاكهة، وما يؤخذ من الفلاحين هدية مثل الغنم والدجاج وغيره من جهة الريف، وأما الهلالي فعلى نوعين سمَّاهما بالمرافق والمعاون، وهو ما يؤخذ من الضرائب على مثل ما ابتدعه ابن المدبر كما تقدَّم؛ فكَرِهَ الأهلون هذه المعاملة، وجعلوا يسعون إلى الكيدية، وكان عالمًا بذلك، فجعل في حاشيته الخاصة نحوًا من مائة غلام هندي ممتازين بالقوة والشجاعة كانوا يرافقونه إلى حيث توجَّه، فلما قدِم ابن طولون إلى مصر ليستلم زمامها خرج لمقابلته ابن المدبر بحرسه، وأهدى إليه هدايا قيمتها عشرة آلاف دينار، فردَّها عليه ابن طولون وطلب منه عوضًا عنها المائة غلام، فلم يجد بُدًّا ابن المدبر من أن يبعثها إليه، فتحوَّلت هيبة ابن المدبر إلى ابن طولون؛ حيث انتقلت السلطة إليه وصارت تزداد شوكته شيئًا فشيئًا بتطهيره مصر من عُصاتها، ثم استخلف أخاه موسى بن طولون على مصر، وخرج في جيش بأمر الخليفة المعتمد على الله لمحاربة عيسى بن الشيخ أمير الشام، حيث كان استولى على أموالٍ مرسَلة إلى الخليفة من مصر، ولكنه وصله وهو في الطريق كتابٌ من الخليفة يأمره بالعَوْد إلى مصر؛ حيث أرسل عوضًا عنه لمحاربة عيسى بن الشيخ أماجور التركي، فلما عاد ابن طولون إلى مصر عزم على الاستقلال بها، فشرع في تحصين البلاد وجمع الأموال، وأكثر من العسكر وآلات الحرب، فضاقت عليه العسكر محل إقامته، فانتقل منها إلى هضبة جبل يشكر الممتدة في شرق الفسطاط لغاية أسفل الجبل المقطم، فأسس فيها مدينة جديدة سماها القطائع؛ لأنه كان أقطع رؤساء جيشه أرضها فقسمها بينهم، وكلَّفهم بأن يبنوا فيها مساكن كلٌّ في إقطاعه، فشيَّدوا بها مساجد وحمامات وبساتين وبيوتًا وأسواقًا ومعامل ودكاكين وخانات، وقد اتخذ بها أحمد بن طولون ميدانًا للجيش، وأسس فيه قصره فسُمِّيَ بالميدان، فلما كانت سنة ٢٥٧ هجرية ولَّى المعتمد بن المتوكل على الله ياركوج صهر أحمد بن طولون أبا زوجته عاملًا على مصر بعد موت بابكيال، فصار أحمد بن طولون نائبًا عموميًّا عنه، ثم مات هذا العامل في السنة الثانية، فتحصَّل ابن طولون على أمرٍ من الخليفة بتقليده ولاية مصر، فلما انفرد بإدارتها خفف على الأهالي الضرائب الباهظة التي كانوا يؤدونها، فألغى الخراج الهلالي الذي وضعه ابن المدبر، وأصلح مقياس النيل الذي بالروضة، وأسس إسبتالية في العسكر، وكانت أول إسبتالية أُسِّست في مصر، وأمر بإصلاح منارة الإسكندرية وصهاريجها، وأوصل مياه النيل إليها، وشيَّد بالقطائع جامعَهُ المسمَّى باسمه، فأتم بناءه في سنتين، ولم يُدخِل في بنائه شيئًا يحترق أو تُفسِده الرطوبة؛ فهو مبنيٌّ بالجبس والطوب الأحمر فقط، ثم تملَّك على بلاد الشام؛ مع مضادة الموفق أخي الخليفة له، ثم تُوفِّيَ في ذي القعدة سنة ٢٧٠ﻫ، ودُفن بالجبل المقطم، وترك شيئًا كثيرًا من آلات الحرب ومن الخيل والعبيد، وترك من الأولاد ثلاثين ولدًا منهم سبعة عشر ذكورًا وثلاث عشرة إناثًا؛ مع أنه لم يبلغ من العمر خمسين سنة.

ثم خلَفه ابنه خمارويه، وكان يلقَّب أبا الجيش، فأخذ في تدبير الأحكام، ولم يُغيِّر شيئًا مما كان على أيام أبيه، بل أبقى الرتب والوظائف على حالها، وأرسل مراكب حربية تجول في سواحل الشام ليتأكد من تحصينها، ثم التفت للأمور الداخلية؛ فزاد في قصر أبيه، وجعل الميدان كله بستانًا زرع فيه أنواع الأزهار والأشجار، واتخذ في هذا البستان برجًا من خشب وضع فيه جميع أنواع الطيور المستحسَنة الحسنة الصوت وغير ذلك، وعمل ميدانًا غيره أكبر منه، واقتنى كثيرًا من الخيول للسباق، وكثيرًا من الحيوانات المفترسة وغيرها كالسبع والنمر والفيل والزرافة وغير ذلك. ثم لما تولَّى الخلافة المعتضد بالله أراد خمارويه تحسين العلائق بينه وبين هذا الخليفة ليزيل ما كان حصل بينهما من الخلاف أيام الخليفة السابق، فأرسل إليه هدايا كثيرة ووعده بأن يدفع له سنويًّا مائتي ألف دينار خراجًا خلاف المائة ألف دينار المتأخرة من السنين الماضية، وعرض عليه ابنته قطر الندى زوجةً لابنه ولي العهد، فقبِلَ منه الخليفة ذلك. غير أنه اتخذ قطر الندى زوجةً لنفسه، فلما وقعت المصاهرة بينهما لم يدفع خمارويه شيئًا من الخراج بعد الذي دفعه في المرة الأولى، ثم بعد موته خلَفه ابنُه جيشٌ الملقَّب أبا العساكر، فلم يلبث أن قامت عليه العساكر فقتلوه وأقاموا مكانه أخاه هارون، فكثُر في أيامه الاختلال وعدم النظام، وكادت أن تخرج عن طاعته جميع الولايات التابعة له، فخضع للخليفة المعتضد ودفع له سنويًّا مليون دينار خراجًا، فلما مات المعتضد وخلَفه ابنه المكتفي بالله أرسل محمد بن سليمان بجيش إلى بلاد الشام فاستولى عليها، ثم دخل مصر فأراد هارون مقاومته غير أن عمه أبا المغازي شيبان حرَّض عليه العساكر فقتلوه، ثم أراد أن يجلس مكانه ويدافع عن مصر، فلم يمكنه؛ لأن أمراء جيوشه كانوا قد تعاهدوا مع محمد قائد الخليفة وتركوه فالتزم بالهروب لكنه قُتل في هروبه، فكان هو آخر من حكم مصر من الطولونيين، فانتهت حينئذٍ العائلة الطولونية، ودخلت مصر ثانيًا تحت حكم العباسيين، فلم تزل تحت سلطتهم حتى استقلَّ بها محمد الإخشيد وأسس فيها العائلة الإخشيدية.

الفرع الثاني في الدولة الإخشيدية

حكمت هذه الدولة أربعًا وثلاثين سنة (٣٢٤–٣٥٨ﻫ)، وأمراؤها خمسة؛ أولهم أبو بكر محمد بن طفج الملقَّب بالإخشيد، الذي أرسله الراضي بالله إلى مصر ليكون عاملًا عليها من قِبله فاستقلَّ بها وانفرد بتدبير أمورها لمَّا رأى اضمحلال الخلافة العباسية واختلال أمورها، وقد امتدت سلطته على الشام أيضًا، ومات فيها بمدينة دمشق، ودُفن بأورشليم؛ أي بيت المقدس، ثم خلَفه ابنه أبو القاسم أنوجور، وكان حديث السن فكفله كافور وزير أبيه وأحد معاتيقه، وكان عبدًا أسود لكنه زكي ذو همَّة ونشاط، نفع الإخشيد كثيرًا، ولم يكن له غاية إلا عِظم شأن أمرائه وخير مصر، فصارت الكلمة له واستتبت الراحة في البلاد بحسن تدبيره، وردَّ عن مصر أعداءها، وأخذ قلعة إبريم التي على بُعد خمسين فرسخًا من جنوب أصوان من مَلِك النوبة الذي كان أغار على أصوان ونهبها في تلك الأيام.

ولما مات أبو القاسم خلَفه أخوه عليٌّ الملقَّب أبا الحسن، ولم تزل الكلمة لكافور، ثم بعد موت عليٍّ تولَّى كافور فاعترف بالتبعية للخليفة العباسي المطيع لله الذي هو آخِر مَن تبعته مصر من العباسيين، فأقره الخليفة على ولاية مصر، ثم خلَفه بعد موته أبو الفوارس أحمد بن علي، فنازعه في الملك أحد أقاربه المدعو حسين، فاضطربت أحوال الديار المصرية؛ حيث انقسمت مصر إلى جزأين، ووقعت فيها المنافسات الشديدة والحروب الداخلية، فكاتَبَ أعيان مصر الخلفاء الفاطميين بالمغرب في التملك عليها، وكان إذ ذاك في حوزتهم من بلادها الإسكندرية والفيوم وجزء عظيم من الصعيد، فأرسل إليها المعزُّ جيشًا لتتميم فتوحها تحت رئاسة جوهر الصقلي، فقصد جوهر الفسطاط وأسَرَ حسينًا، وخلع أحمد أبا الفوارس، وخطب باسم الخليفة الفاطمي، فانتهت حينئذٍ العائلة الإخشيدية، وقام بمصر دولة الفواطم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤