تمهيد

قبل منتصف القرن الماضي نشر «كارل ماركس» مذهبه الفلسفي الذي سماه بالتفسير المادي للتاريخ، وبنى عليه مذهبه الاقتصادي الذي سماه «الاشتراكية العلمية» تمييزًا له من المذاهب الاشتراكية السابقة، وهي عنده اشتراكيات أحلام أو اشتراكيات «طوبى» لا تقوم على غير الأمل والخيال.

ولم تكن هذه «الاشتراكية العلمية» أقل نبوءات من المذاهب التي كان يُنعى عليها أنها تجافي العلم وتنتكب طريق الواقع؛ لأن الاشتراكية العلمية التي آمن بها «كارل ماركس» قد تطوحت في نبوءات لا تنتهي إلى آخر الزمان، وادعت لنفسها أنها تفسر أسرار الكون وأسرار المادة في جميع ظواهرها، وأنها ترسم للتاريخ المقبل خُطاه التي لا يحيد عنها ولا يزال مطردًا عليها إلى غير نهاية، وهي نهاية أبعد في مجاهل الغيب من النهايات التي قدرتها الأديان الغابرة ببضعة آلاف من السنين؛ لأنها توغل في الآباد المقبلة إلى ملايين السنين، وتدعي باسم العلم — لا باسم الخرافة — أنَّ الغيب المجهول لن يأتي بشيء في حياة الإنسان غير الذي رسمه «كارل ماركس» وفرغ منه قبل منتصف القرن التاسع عشر، وقبل أن يتقدم العلم نفسه وراء خطواته الأولى في العصر الحديث.

ولم تكن المسألة عند «كارل ماركس» مسألة تقديرات نظرية لا يترتب عليها شيء من العواقب غير تبديل نظرية بأخرى أو تنقيحها برأي يخالفها، ولكنها كانت مسألة أرواح ودماء وشعوب وأنظمة واجتراء على الماضي كله بالهدم والانتفاض، إيمانًا بتلك النظرية التي لا تقبل الشك، ولا يستكثر على تحقيقها إهدار الدماء كالأنهار ولا تقويض المعالم الباقية كأنها من جهود عدو للإنسان، وليست من جهود الإنسان في جميع الأزمان.

وكان ينبغي للإيمان بتلك النظرية أن تقوم على أُسس واضحة مقررة ثبتت في عقل صاحبها وفي سائر العقول ثبوتًا لا شبهة عليه ولا مَثْنَوِيِّةَ فيه، ولكنها في الواقع لم تثبت في ذهنه بتفصيلاتها ولم يفرغ من دراستها في حينها، وأرجأ التوسع في شرحها إلى الجزء الأخير من كتابه، ثم مات قبل أن يفرغ من ذلك الكتاب.

وَعَدَ «كارل ماركس» بإشباع القول في مسألة الطبقات، ومسألة القيمة «الفائضة» من كسب العمل، ومسألة التطور بين عصر الانتقال، وعصر المجتمع ذي الطبقة الواحدة، وكل هذه المسائل من صميم القواعد التي يقوم عليها مذهبه العلمي كما يسميه، ولكنه مات ولما يبين للناس حقيقة الطبقة الاجتماعية، ولا معنى القيمة الفائضة، ولا نظام الحكم بعد انتقاله إلى أيدي الطبقة العاملة، ولا الوسيلة التي يتم بها هذا الانتقال.

وعلى ضخامة الدعوى التي يدعيها «كارل ماركس» في نبوءاته الأبدية، تكشفت الحقائق في حياته، فإذا هي تنقض تلك النبوءات، وتدل على نقيض البقية الباقية منها، فلم يلتفت «كارل ماركس» إلى هذه النقائض البينة، أو التفت إليها ليقذفها ببعض اللعنات — غير العلمية — التي تعود أن يقذف بها كل ما يخالف تقديره وكل من يخالفه، ومنها الرجعية والعامية والعقلية السطحية وخدمة رأس المال وخداع السواد والتعلق بالأوهام، وأشباه هذه المثالب والوصمات.

•••

ولم تمضِ سنوات على وفاته حتى تعاظمت هذه النقائض على أتباعه، ووجدوا أنفسهم أمام تلك الضرورة التي تركها «كارل ماركس» في أوائلها، واستطاع أن يتجاهلها ويروغ من طريقها؛ لأنها لم تتعاظم في زمنه حتى تأخذ عليه جميع المنافذ والفجاج، فتذرع أتباعه بكل ذريعة غير الذرائع العلمية في تمحيص نبوءاته وتقديراته، وضعوا في أذهانهم أن «كارل ماركس» ينبغي أن يكون على صواب بأي حال، وأنه إذا تعذر إثبات صوابه بالمعنى الظاهر وجب التماس المعنى الذي يجعله مصيبًا على وجهٍ من الوجوه، وأنه إذا تعذر الفهم الصريح والتأويل الخفي معًا وجب أن يبقى «منقحًا»، ولو زال كل أثر من آثار الفكرة ولم يبق منها إلا التنقيح المزعوم، وَخُيِّلَ إلى الناس أنهم أمام طائفة من الدراويش يتبركون بِخِرْقَة من دثار ضريح مهجور، ويعنيهم أن يحتفظوا بخيطٍ من تلك الخِرْقَة كيفما كان، ولا يعنيهم أن يكون الدثار صالحًا للكساء.

وطال الترقيع والتلفيق على أولئك الأتباع، فاضطروا إلى مواجهة الحقيقة، كما استطاعوا أن يواجهوها.

ظهر لهم أخيرًا أنَّ «كارل ماركس» غير معصوم، وقالوها كأنهم يستجمعون شجاعتهم للاجتراء على هذا التجديف المخيف، بل قالوها وهم يشتمون المنقحين؛١ لأنهم حرفوا مبادئ «كارل ماركس» ولجئوا إلى التحريف ليحيدوا عن طريقه الذي رسمه أمام التاريخ إلى نهاية الزمان.

كان ينبغي أن يصمدوا على ذلك الطريق.

كان ينبغي أن يبقى ذلك الطريق مفتوحًا دون غيره إلى نهايته القصوى، وأن يبقى «كارل ماركس» مُقَدَّسًا متبوعًا مرجوعًا إليه في مآزق الفتنة والضلالة، وكل ما يجوز لأتباعه أن يفهموا أنه غير معصوم في الدلالة على ذلك الطريق الأبدي الذي لا طريق سواه، فمن الجائز عليه أن ينأى عن الجادة، وينحرف إلى التيه، وليس من الجائز لأتباعه أن يتخذوا من انحرافه دليلًا على انحراف الطريق.

•••

وقبل أربعين سنة أُتيحَ لبعض أتباعه أن يقبضوا على زمام الثورة الروسية بعد انهيار دولة آل رومانوف. فجاءتهم هذه الثورة والمذهب الماركسي يتداعى ويتناقض بنبوءاته وتقديراته وتخريجات منقحيه ومنقحي منقحيه. وأمامهم في مفترق الطرق مسلك من مسلكين: إما أن يهملوا المذهب فيهلموا الحق الذي يبنون عليه قيادة الثورة وتأسيس الحكومة الجديدة، وإما أن يتشبثوا به لتطبيقه أو تجربة تطبيقه، ما استطاعوا التجربة والتطبيق، مع الاسترسال عند كل خطوة في التنقيح وتنقيح التنقيح، والاعتراف تارةً بالقداسة وتارةً بالعصمة حول دثار الضريح.

وتهيأ للتجربة الماركسية في بلاد القياصرة ما لم يتهيأ قط لمذهب من المذاهب الاجتماعية، واستباح المجربون والمطبقون والمنقحون جميعًا ما لم يستبحه أشد المتهوسين تعصبًا لدين من الأديان في سبيل نشر الدين والخلاص من الكافرين به أو المارقين عليه، ولم يحصر التاريخ من ضحايا الأديان منذ أيام الجهالة إلى العصر الحاضر عشر معشار الضحايا الذين ضاعوا بالملايين قتلًا ونفيًا وتعذيبًا في سبيل النبوءات الماركسية، ولم تثبت بعد ذلك كله نبوءة من تلك النبوءات، بل ثبت بما لا يقبل الشك أنها مستحيلة على التطبيق.

ولا حاجة إلى دقائق المذهب البعيدة للحكم على نبوءات «كارل ماركس» الأبدية، ولا حاجة بالبداهة إلى الأبد كله ولا إلى بعضه — إن كان للأبد بعض مقسوم — للعلم بفساد هذه النبوءات واستحالتها على التطبيق، فإن الخطوط العريضة من نبوءات المذهب البارزة تكفي لبيان مصيرها بعد البحث الأمين والتجربة العملية، فإن قرنًا واحدًا كانت فيه الكفاية وفوق الكفاية لإثبات التناقض بين وجهة التاريخ ووجهة «كارل ماركس» في نبوءاته الأبدية؛ لأن بحوث القرن وتجاربه دلت على هذا التناقض الواضح وألجأت الماركسيين أنفسهم إلى التحمل الشديد في تخريج مقاصد إمامهم، أو إلى الاعتراف الصريح بخطئه وحاجته إلى التنقيح والتصحيح.

إن حرب الطبقات من دعائم المذهب الماركسي الذي لا بقاء له بغير بقائها، ومن ثم سمي المذهب بالمادية الثنائية أو المادية الحوارية على بعض التراجم اللفظية؛ لأنه يقوم على تتابع النقيضين بين الطبقة الماضية والطبقة التي تخلفها، إلى أن يحين الأوان المقدور ويأتي المجتمع الموعود الذي لا طبقات فيه.

وعلى هذا الأساس الذي لا قوام لنبوءات «كارل ماركس» بغيره، يجزم «كارل ماركس» بزوال الطبقة الوسطى من المجتمع قبل زوال رأس المال، ولا بد عنده من فناء الطبقة الوسطى بين طبقة رأس المال وطبقة العمال قبل ظهور المجتمع الذي يستولي العمال فيه على مواد الإنتاج.

على أنَّ الإحصاءات التي سجلتها الأرقام قد أثبتت أنَّ الطبقة الوسطى تزداد مع الزمن ولا تنقص كما جاء في النبوءات الأبدية، ولم تخرج هذه الإحصاءات من أيدي الخصوم المنكرين للمذهب من أساسه، بل جاءت من الأنصار المؤيدين الذين اضطرتهم الوقائع إلى الاعتراف بما لا يقبل الإنكار، وقد كان أول هؤلاء المؤيدين إدوارد برنشتين٢ الذي أراد بإحصائه في الحقيقة أن ينقذ المذهب من الضياع، فأثبت أنَّ أصحاب الموارد المتوسطة يزدادون مع تقدم الصناعة الكبرى، واعتقد أنَّ توزيع الثروة في نطاقٍ واسع هو السبيل إلى اللامركزية التي خفيت «كارل ماركس»، وأن انقراض الطبقة الوسطى لا يحقق اللامركزية الموعودة، بل يحققها انتشار الثروة بين جميع الطبقات.

ولم يكن خطأ «كارل ماركس» في هذه المسألة الأساسية خطأ النقص في الإحصاءات التي يجهلها، ولكنه كان خطأ الهوى والتعنت أمام الواقع الذي لا يريد أن يراه؛ لأنه لا يوافق هواه، وكان كذلك خطأ القصور في الإدراك والتقدير الصحيح الميسور لمن يحسن التقدير، ولو لم تكن لديه أرقام ولا سجلات إحصاء.

كان رأس مال الصناعة في مبدأ أمره محصورًا في أيدي أصحاب المصانع المعدودين، وكان صاحب المصنع الكبير واحدًا أو اثنين من أسرة واحدة، أو كانوا ينتمون إلى أسرات قليلة مشتركة في رءوس الأموال.

ولكن هذه الحالة أخذت في التغير على أيام «كارل ماركس» وقبل إتمام كتابه، فظهرت الشركات المساهمة وكثر المشتركون فيها بالأسهم الكثيرة أو القليلة، وكان على «كارل ماركس» أن يفهم أن رءوس الأموال تتوسع على هذا النحو ولا تنحصر في أيدٍ معدودة كما اعتقد أو أراد، وأن انقراض الطبقة الوسطى ليس بالأمر المحتوم على هذا التقدير، وأن اليوم الذي يشترك فيه العمال أنفسهم في رءوس الأموال غير بعيد، وأن النبوءة عن هذه النتيجة كانت على متناول يديه لو أنها توافق هواه، ولكنه أهملها ليبحث عن النبوءات التي توافق ذلك الهوى الدفين، وكله من هوى التخريب والعدوان.

ولقد كانت الثورة الروسية بعد الحرب العالمية الأولى أكبر معول ولا ريب في أساس الاشتراكية العلمية كما شرحها صاحبها ومريدوه.

كانت نبوءات «كارل ماركس» تقضي بقيام الشيوعية في البلاد التي بلغت بالصناعة الكبرى غاية أشواطها، فإذا بالشيوعية تقوم في البلاد التي لم تعرف من الصناعة الكبرى غير خطواتها الأولى، وإذا بهذه القاعدة تسري على البلاد المتأخرة فلا تقوم للشيوعية قائمة في غيرها، ولو إلى حين.

وكان من لوازم الاشتراكية المادية أو الاشتراكية العلمية أن تكون الصناعة الكبرى هي التي تخلق النظام السياسي وتمهد له بانتهاء الصناعة الكبرى إلى نهايتها، فإذا بالنظام السياسي هو الذي يخلق الصناعة الكبرى في البلاد الروسية وغيرها من البلاد التي تقتدي بثورتها.

وكان «كارل ماركس» يحكم على الصناعة كما رآها في زمانه، وكانت هذه الصناعة من البساطة بحيث تستولي عليها الأيدي العاملة وتحسن إدارتها، فإذا بالصناعة تتعقد وتتصعب وتتشعب حتى تتعذر إدارتها على غير الخبراء في علوم المكنات وعلوم الكيمياء، وعلوم الاقتصاد، وما يقترن بهذه العلوم جميعًا من المعارف النفسية والمعارف السياسية أو التاريخية، وإذا بطبقة أخرى غير طبقة الأيدي العاملة تستولي على وسائل الإنتاج، وتبلغ من التحكم فيها ما لم يبلغ أصحاب رءوس الأموال.

وانتهت التجارب العملية بعد أربعين سنة، إلى وجهةٍ مختلفة تبتعد شيئًا فشيئًا من الوجهة التي تحراها «كارل ماركس» ومريدوه، ومن النبوءات المحتومة التي بلغ القوم من التشبث بحروفها في دعواهم ما لم يبلغه عباد النبوءات الأقدمون.

انتهت التجارب العملية إلى إباحة الملكية الفردية على صورةٍ من الصور، وإلى السماح بالتفاوت الكبير بين الأجور، وإلى حكومة مطلقة تدوم أربعين سنة، وتستبد بالعمال بدلًا من استبداد العمال بها دون طبقة المنتجين والمديرين.

والناس اليوم ينظرون إلى الطبقة الحاكمة في بلاد القياصرة الأقدمين، فيرون أنهم أفخر وآنق في ملابسهم وشاراتهم وركائبهم من زملائهم الذين ينوبون عن بلاد رأس المال في المؤتمرات العالمية، وما من أحدٍ يَلِجُّ بالمكابرة فيزعم أنَّ جميع الطبقات في بلاد الشيوعية تتزيَّن بهذه الأزياء وتتحلى بهذه الشارات، وما من أحدٍ يَلِجُّ بالمكابرة، فيزعم أنَّ سلطان أصحاب الأموال قد كان على أقواه وأعتاه يزيد على سلطان ملوك الإنتاج اليوم في البلاد الشيوعية، بل ما من أحدٍ يَلِجُّ بالمكابرة حتى يزعم أنه داناه زمنًا أو يدانيه.

•••

وانطوت مائة سنة على ظهور النبوءات الأبدية، وانطوت أربعون سنة على تجربتها وتطبيقها والإصرار على إثباتها أو على تخريجها وتأويلها، فلم يثبت لها حظ من التحقيق العلمي إلا أن يكون خط المناقضة والمفارقة، ولم تستقم خطوطها العريضة كما رسمها صاحبها، وحتم على المستقبل كله غاية التحتيم أن يلتزمها، ولا ينحرف عنها قيد شعرة ذات الشمال ولا ذات اليمين، وهذه نتيجة المذهب في خطوطه العريضة التي كان ينبغي أن تثبت قبل غيرها؛ لأنها هي الناحية البارزة لجميع الأنظار من المؤمنين والمطلوبين للإيمان، فأما الخطوط الدقيقة والمعلومات البعيدة، فهي من التخاذل والتشعث وقبول الرأي ونقيضه في وقتٍ واحد، بحيث لا تصلح للاستشهاد بها على مذهب واحد كائنًا ما كان.

ولو كان «كارل ماركس» ممن يرعون أمانة العلم؛ لتَهيَّب الهجوم على تلك المجازفات باسم الحقيقة العلمية؛ لأن العلم بعد ازدهاره في العصر الحاضر لم يصل إلى الحد الذي يخوله دعوى الإحاطة الشاملة بأسرار الكون، ودعوى القدرة على تطبيق تلك الأسرار الشاملة على تاريخ الإنسان في مجاهل المستقبل البعيد إلى آخر الزمان.

فأما في عصر «كارل ماركس» فالعلم الذي كان يحبو في خطواته الأولى أحرى أن يقف دون هذا الشوط البعيد وقفة الحذر والإحجام، وتلك الإحصاءات التي يجمعها «كارل ماركس» من هنا وهناك لم يكن منها إحصاء واحد متسلسل المصادر محقق المراجع على النحو الذي يسمح بالمقارنة الصادقة، ويدعو إلى الثقة بالنتيجة القريبة فضلًا عن النتائج القصوى.

بل لو كان «كارل ماركس» مخلصًا لمذهبه لتردد في دعواه العلمية أشد من تردد المخالفين له من أبناء عصره.

إذ كان العلم على مذهبه مصطبغًا بالصبغة البرجوازية، مسخرًا لخدمة الطبقة الاجتماعية القابضة على زمام الإنتاج، فهو علم ناقص مدخول لا تستقيم النتائج منه في جميع الأحوال، ولا يستطيع «كارل ماركس» أن يزعم أن عبقريته الفردية تناولت ذلك العلم البرجوازي فصححته وخلصته من شوائبه ونفت عنه الزيف قبل زوال سلطان البرجوازية ورأس المال، فإن العبقرية الفردية عنده لا تنشئ علمًا مستقلًا عن الظروف الاجتماعية، ومن قال بجواز ذلك فإنما يهدم التفسير الاقتصادي للتاريخ، كما شرحه «كارل ماركس» هدمًا ذريعًا لا يبقيه على قرار.

إلا أنَّ «كارل ماركس» لا تعنيه أمانة العلم في مذهبه ولا في مذهب غيره، ومن ضياع الوقت على غير طائل أن يناقشه المناقشون على القواعد العلمية، وهم يقذفون بالعلم والعقل إلى عرض البحر ساعة يُسَلِّمون دعواه، ويأخذون مأخذَ الجد في إنكار زعمه أنه قبض على زمام القوانين المادية ماضيًّا وحاضرًا ومستقبلًا، واتجه بها إلى الوجهة التي لا تحيد عنها يومًا في مجتمعات بني الإنسان ما بقي للإنسان وجود.

إن الذي يسلم هذه الدعوى يَهْزِلُ ولا يَجِدُّ، ويُكلِّف العلم شططًا لا يُحسب من العلم في شيء.

وما بقي اليوم من أحد يسلم لهذه الدعوى صفة العلم إلا أن يكون واحدًا من فريقين: الفريق الأول أتباع «كارل ماركس» الذين أسسوا برامجهم على مذهبه، وارتبطت دعايتهم في أقطار العالم بنبوءاته، وأوغلوا في الطريق التي لا رجوع عنها في أمان إلا بعد نسيان هذه الدعاية، واستعداد الأتباع والأشياع لمواجهة الواقع غير مصطدمين منه بصدمة المفاجأة.

فهؤلاء يعلمون من التجربة العملية أن مذهب «كارل ماركس» مناقض للعلم والعمل ومتعذر التطبيق والتنفيذ بحروفه أو بعد التصرف الكثير فيه، ومعاذيرهم التي يعتذرون بها لمخالفته أنهم لا يزالون في أول التجربة بين عقابيل الماضي ومقاومة الخصوم، وأن الأمر يدعو إلى قليلٍ من المساومة والهوادة ومجاراة الظروف إلى حين، ثم إلى حينٍ آخر بعد ذلك الحين.

أما الفريق الآخر ممن يناقشون النبوءات الماركسية أو النبوءات الأبدية مناقشة العلم المعقول، فهم أولئك الذين يضيعون العلم في سبيل السمعة العلمية، وهم أشباه الذين قيل فيهم إنهم يحكمون بالظلم ليشتهروا بالعدل، وإنهم ينصفون في تمحيص جميع الآراء ولا يتعسفون.

فإذا نظر الباحث في أقوال هؤلاء وهؤلاء علم أنَّ الفريقين من العلم بَراء، وأن مذهب «كارل ماركس» إنما يُبحث على أنه ظاهرة نفسية، ولا يُبحث على أنه مبادئ علمية مع إنصاف العلم والعقل وإنصاف الواقع والعيان، بعد مائة سنة من ظهور المذهب، وبعد أربعين سنة من محاولة تطبيقه بكل ما يُستطاع من المحاولات.

إن فهم جميع المذاهب يستلزم على الدوام فهم صاحب المذهب بلوازمه العقلية وبواعثه النفسية وخلائقه التي توحي إليه بالفكر والشعور، أو يستعان بها على أفكاره ودوافع شعوره.

وفهم «كارل ماركس» بصفة خاصة ألزم ما يكون لفهم مذهبه الذي سَوَّل له — في هذه السهولة — أن يهجم على دعوة لا تَقْنَع بما دون هدم العالم الإنساني القائم، ولا تصغي إلى هوادة في الأمر تتقبل الإبقاء عليه بحالٍ من الأحوال.

إن شهوة الهدم والتخريب هي التي توحي إلى صاحبها الثقة التامة العامة بتلك النبوءات الأبدية في غير هوادة ولا توسط ولا اعتدال، ولو كان الأمر على عكس ذلك وكانت الثقة العلمية هي التي توحي إلى صاحب المذهب أن يدعو إلى هدم كيان العالم لوجب أن تكون تلك الثقة قائمة على أركان من الحقائق لم يعهد لها نظير في تقريرات بني الإنسان، إذ لم يسبق لإنسان أن يدعو إلى مثل ذلك الهدم بكل ما في وسعه من لدد وإصرار.

ولو أنَّ إنسانًا أراد أن يهجم على هدم بلدة واحدة فوق أصحابها، لكان لزامًا عليه أن يلتمس لهدمها أسبابًا أقوى من جميع الأسباب التي سولت ﻟ «كارل ماركس» هدم المجتمعات الإنسانية بكل ما فيها على كل من فيها من معارضيه ومخالفيه، وسولت له أن يستبيح من أجل هذه الدعوة سفك الدماء كالبحار، ومتابعة القتل والتخريب في قطر بعد قطر إلى جميع الأقطار.

وماذا لو كان في النبوءة خطأ يسير، وقد ظهر فيها الخطأ الكبير، بل ظهرت فيها الأخطاء الكبار؟ ألا يدعو ذلك إلى قليلٍ من التردد وقليلٍ من الهوادة في اللدد والإصرار؟ بلى، إنه ليدعو إلى التردد الكثير وإلى التحرج الكبير من عواقب ذلك التهجم على المجهول، لو لم تكن شهوة الهدم والعدوان هي مصدر الوحي الأثيم وعلة العلل في ذلك التفكير العقيم.

وهذا في الواقع هو معنى الثبوت العلمي في مذهب «كارل ماركس» إذا درسناه من وجهة الظواهر النفسية، ولم نضع الوقت عبثًا في مناقشة النبوءات التي لا يقبلها العلم على وجهٍ من الوجوه.

فكلمة «الثابت العلمي» مرادفة في مذهب «كارل ماركس» لكل ما هو لازم لإشباع شهوة التخريب والعدوان.

وكل شيء يعوق الدعوة إلى التخريب والعدوان، فهو عنده باطل ينكره العلم، وضلال تمليه الأحلام والأوهام.

وليس ثبوت القيمة الفائضة أو حرب الطبقات أو النقائض المادية؛ لأنها واقع قائم في حوادث التاريخ أو حوادث العيان. كلا، بل هي ثابتة جميعًا ببرهان واحد دخيل في طبيعة «كارل ماركس»، وهو لزومها لإشباع شهوة التخريب والعدوان.

كانت ثورته على برامج النقابات في عصره أعنف الثورات، وكانت الخيانة وانتهاز الفرص أيسر التهم التي صبها على رءوس القائمين بدعوة النقابات؛ لأنهم آمنوا بإمكان الإصلاح بغير هدم العالم الإنساني كله على رءوس من فيه.

ومع هذا مضت حركة النقابات على سوائها، فحققت للعمال والصناع قبل خمسين سنة — بغير حاجة إلى سفك الدماء وتخريب العمار — إصلاحًا لم تحققه الثورة الماركسية مع سلب الحرية وإهدار دماء الملايين من الأبرياء.

ولكن لا بريء في رأي «كارل ماركس» إذا حالت حياته وحياة الملايين من أمثاله دون إشباع شهوة التخريب، ولا حقيقة في العلم الماركسي لإصلاح ملموس باليدين إن لم يسفك الدماء، وينشر الخراب في المشرقين والمغربين.

وهكذا يثبت الشيء في العلم الماركسي بمقدار لزومه؛ لإشباع تلك الشهوة لا بمقدار ما يعززه من الحقائق والبراهين.

ودراسة «كارل ماركس» على ضوء الظواهر النفسية أقرب الدراسات إلى فهم مذهبه وفهم البواعث التي تمليه وتوسوس به في ضميره وضمائر المتقبلين لدعوته والمجبولين على غراره، فما من صورة «علمية» ﻟ «كارل ماركس» تترك بعدها مجالًا للشك في طبيعة المذهب الذي يدعو إليه، وما من خيرٍ يخطر على البال أنه يصدر من نفس كتلك النفس، يملؤها الحقد والسوء، وينبعث منها على عمد وعلى غير عمد فيما تعلنه وتخفيه.

ومن ثم نرى لزامًا علينا أن نبدأ دراسة الماركسية بدراسة «ماركس» نفسه، كما صوَّرته لأبناء عصره سيرة حياته المحفوظة في سجلات أتباعه ومتاحف وثائقه وذكرياته، وحسْب القارئ أن يلم بهذه الصورة الواضحة؛ ليريح ذهنه من متاعب البحث في «النبوءات الأبدية» التي بشر بها نَبِيُّ السوء في زمانه، ثم يريح ذهنه من الخلط والخبط في رطانة المذهب بين المادية والحوارية والنقائض الاجتماعية. وبين العمل وكسب العمل وفيض العمل وحق العمل، وسائر هذي الأغاليط التي جاء بها شيء واحد هو لزومها لتحقيق تلك النبوءات، فسيعلم القارئ بغير جهد جهيد أي لزوم لمبدأ من تلك المبادئ كلما علم لزومه لفتح الطريق إلى الغاية التي لا محيد عنها، وهي هدم العالم الإنساني على من فيه بغير إصغاء قط لشفاعة من شفاعات السِّلْم أو التوسط في الإصلاح.

إن صورة «كارل ماركس» هي مفتاح مذهبه ومذهب الحقد والسوء في نفوس أمثاله، وها هي صورته الصادقة بملامحها الناطقة، لا ينكرها أنصاره ولا يقدرون على إنكارها، وإن كانت أحق شيء منهم بالإنكار.

١  Revisionists.
٢  Edward Bernstein.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤