الملك ستنخت

رأينا فيما سبق أنه كان من الصعب — ولا يزال — أن نحدد تتابع الملوك الذين خلفوا الفرعون «مرنبتاح»، كما أن الآثار لم تمدنا بمعلومات وثيقة تبرر لنا ما صلة النسب بين هؤلاء الملوك. وقد اضطررنا أن نثبت فيما مضى المقترحات المختلفة التي جادت بها قرائح المشتغلين بالتاريخ والآثار المصرية في هذا الصدد. ولعل لمؤرخي مصر القديمة عذرًا في بلبلة آرائهم في هذا الموضوع، وعدم الاستقرار على رأي واحد ثابت؛ فقد وصف لنا «رعمسيس الثالث» في وثيقة تركها لنا تُعد من أعظم ما خلفه التاريخ المصري من حيث الروعة والإتقان والمعلومات القيمة عن حالة البلاد في نهاية الأسرة التاسعة عشرة، وأعني بذلك «ورقة هاريس» العظيمة الأولى المشهورة وسنتكلم عنها بإسهاب فيما بعد.

fig16
شكل ١: الفرعون ستنخت.
والواقع أن هذا الوصف يشعر بالارتباك والخراب اللذين حلقا بالبلاد في تلك الفترة، وقد نطق بهما «رعمسيس الثالث» عندما أراد أن يظهر لعظماء قومه ورجال بلاطه وقواد جيشه ومواطنيه ما قام به من أعمال جليلة للبلاد هو ووالده من قبله، فاستمع إليه:١

قال الفرعون (وسرماعت-محبوب آمون) «رعمسيس الثالث» (له الحياة والفلاح والصحة) الإله العظيم للأمراء، وقواد البلاد، والمشاة، والخيالة، وجنود «شردانا»، وللرماة العديدين، وكل مواطن مصري.

الفوضى السابقة

اسمعوا حتى أخبركم بأنعمي التي عممتها عندما كنت ملكًا على الشعب. لقد غُزِيَتْ مصر من الخارج، وأقصى كل رجل عن حقه، وظل الناس بدون رئيس (فم أعلى) سنين عدة من قبل حتى أتى عليهم حين من الدهر كانت مصر في أيدي أمراء، وحكام مدن، وذبح الرجل جاره، عظيمًا كان أو حقيرًا. وقد توالى على ذلك وقت فيه سنين عجاف، وكان معهم «أرسو» وهو سوري المنبت، الذي نصب نفسه رئيسًا (على البلاد)، وقد جعل كل البلاد تابعة له قاطبة، وجمع كل رفاقه، ونهب ممتلكاتهم (أي ممتلكات المصريين)، وقد ساووا بين الناس والآلهة فلم يقربوا قربانًا في المعابد.

حكم «ستنخت»

ولكن عندما جنح الآلهة للسلم ليضعوا البلاد في مكانها الحق على حسب حالتها العادية، مكنوا ابنهم الذي خرج من أعضائهم أن يكون حاكمًا (له الحياة والفلاح والصحة) على كل أرض يملكها عرشهم العظيم، وهو «وسرخع رع ستبن مري آمون» (له الحياة والفلاح والصحة) ابن «رع» «ستنخت» «مررع» محبوب «آمون»؛ وقد كان مثل «خبري-ست»٢ في بطشه، وأعاد تنظيم البلاد كلها بعد أن كانت في فتن، وذبح الخارجين الذين كانوا من أرض مصر، وظهر على عرش مصر العظيم، وكان حاكمًا (له الحياة والفلاح والصحة) للأرضين على عرش «آتوم»، وقبل المقبلين بوجوههم الذين كانوا قد اختبئوا، وكل رجل عرف أخاه الذي كان قد حُوصر (أي الذي كان في مكان محصن)، ومكن المعابد بالقرابين لخدمة تاسوع الآلهة على حسب قوانينها المعتادة.
وقد نصبني وارثًا لعرش «جب»، وكنت الرئيس الأعظم لأراضي مصر، والمشرف على كل الأرض بوصفها وحدة مجتمعة، ثم ذهب ليستريح في أفقه مثل تاسوع الآلهة، وعُملت له المراسيم التي عُملت «لأوزير»؛ فنُقل في سفينته الملكية على النهر، وثوي في مضجعه الأبدي غربي طيبة (Harris Pap. I, pl. 75).

ولا نزاع في أن ما قصه علينا «رعمسيس الثالث» يظهر لنا بوضوح تام أن معلوماتنا تصير ضئيلة إذا لم تستند على صور تاريخية.

والواقع أن ما وصل إلينا من آثار لا يحدثنا بأي شيء عن هذا الآسيوي «إرسو» الذي ذكر «رعمسيس الثالث» أنه حكم البلاد، كما أنها قد صمتت صموتًا تامًّا عن الدور الحاسم الذي لعبه «ستنخت» في تطهير البلاد وإعادتها إلى ما كانت عليه من طمأنينة وسلام.

وكل ما لدينا من عهد «ستنخت» بعض آثار ضئيلة لا تشرفه قط بوصفه مخلصًا للبلاد.

آثاره

في «سرابة الخادم» «بسينا» لوحة أقامها «أمنمأبت» و«سيتي» اللذان عاشا في عهده.٣ ومما يُدهَش له أن معظم آثاره — إن لم يكن كلها — مغتصبة من الملوك السابقين، ونخص بالذكر منها ما يأتي:
  • (١)
    «نبيشة»: وُجد في هذه البلدة تمثالان في صورة «بو لهول» من الجرانيت الأسود يرجع عهدهما للدولة الوسطى. وقد اغتصبهما نخبة من ملوك الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين كل بدوره، فقد كُتب اسم «سيتي الثاني» على الصدر، واسم «ستنخت» على الكتف، واسم «رعمسيس الثالث» على مقدمة الشعر المستعار، وعلى القاعدتين نجد اسم «باي» حامل خاتم «سبتاح»٤ ولا يُعرف كيف يمكن تعليل مثل هذه الظاهرة إلا بما نراه في أيامنا من أعمال تشويه الآثار بكتابة الأسماء عليها، والغرض منها التذكار.
  • (٢)
    «قبة توفيق»: وُجد في هذه الجهة عقد باب من الحجر الرملي مبني في بوابة، وقد نُقش عليها اسم هذا الفرعون.٥
  • (٣)
    «القاهرة»: وُجد فيها عمود مؤلف من قطع باسم «أمنحتب الثالث»، وقد اغتصبه «مرنبتاح» ثم «ستنخت»، ويُحتمل أنه مجلوب من «هليوبوليس»، وقد وجد مبنيًّا في جامع التركمان عند باب البحر.٦
  • (٤)
    «العرابة»: وُجدت في «العرابة» لوحة باسم كاهن هذا الفرعون المسمى «مرسأتف»، وقد ظهر فيها الفرعون يتعبد للفرعون «ستنخت» وللملكة «تي مرن أست» زوجه، في حين نرى في أعلى اللوحة الفرعون «رعمسيس الثالث» يقدم القربان للآلهة وقد وُجد كذلك لوحان آخران عليهما اسم هذه الملكة استعملا ثانية في رقعة في معبد «العرابة» عام (١٩٠٣).٧
  • (٥)
    معبد «موت» بالكرنك: وُجدت طغراءاته على البوابة.٨
  • (٦)
    مدينة «هابو»: وُجدت له لوحة مُثل عليها مع «رعمسيس الثالث»٩ وأخرى اغتصبها من «سيتي الثاني»١٠ وقد وُجد له جعران باسمه في مجموعة «فلبور».١١
وقد جاء في ورقة «فلبور» أن هذا الفرعون كان له ضيعة في بلدة «منعنخ» الواقعة على مقربة «جبل الطير» و«السريرية»، والظاهر أنها كانت وقفًا على قربان تمثال له كما يدل المتن على ذلك صراحة.١٢

قبر «ستنخت»

وقد دُفن هذا الفرعون في مقابر «وادي الملوك»، وتقع مقبرته في أقصى الجنوب من هذه الجبانة، وتحمل الآن رقم ١٤. والواقع أن هذه المقبرة كانت قد حفرتها في الأصل الملكة «توسرت»؛ ولذلك نجدها مصورة هي وزوجها الملك «سبتاح» في ممراتها الأولى. ولكن لم يكد يتقدم العمل في الممر طويلًا — كما يقول «ويجول» في أعماق الجبل في القاعات الداخلية — حتى مات «سبتاح» على ما يظهر، وتزوجت «توسرت» من «سيتي الثالث» (؟) كما يقترح «إمري». وعلى ذلك نرى صور هذا الفرعون في حجر هذا القبر الداخلية مع «توسرت». وبعد موت هذه الملكة حدث الارتباك والفوضى اللذان تحدثنا عنهما في مصر. ومن المحتمل أن هذا القبر قد نُهب في تلك الفترة، وعندما أعاد «ستنخت» النظام والسلام إلى ربوع البلاد بدأ في نهب قبره رقم ١١. ولكنه غض الطرف عنه، وفضل اغتصاب مقبرة «توسرت». فغير الصور والنقوش ووضع فوقها طبقة من الجص، وزاد في حجم المقبرة، وقد أفلتت بعض مجوهرات هذه الملكة من أيدي اللصوص والنهابين، ووُضعت في مكان أمين بأمر من «ستنخت» نفسه على ما يظهر، فقد عُثر عليها في المقبرة رقم ٥٦ من مقابر «وادي الملوك» وهي غير منقوشة، ولا نعلم من الذي دُفن فيها.١٣ وقد عثر عليها المستر «تيودور ديفز» في عام ١٩٠٨ ويُقال إن جسمها قد تُرك في مكانه في المقبرة. أما مومية «ستنخت» فقد أصابها على ما يظهر التمزيق والعطب بأيدي اللصوص إذ لم يُعثر عليها قط.

وتدل الأحوال على أن الكهنة الذين أخفوا موميات بعض الملوك في مقبرة «أمنحتب الثاني» قد دخلوا قبر «ستنخت» ووجدوا هناك مومية ظنوا أنها لهذا الفرعون، من أجل ذلك وُجد القبر بطبيعة الحال في ارتباك، ومحتوياته مشتتة، فوضعوا هذه المومية في تابوت «ستنخت» وحملوها إلى مخبئها، إلى أن كشف عنها «لوريه» في عصرنا. وعندما فُكَّت لفائفها عُرفت أنها لامرأة. ومن المحتمل أنها مومية الملكة «توسرت»؛ وذلك لأن ملكات كل هذا العصر كن يُدفن في مقابر «وادي الملكات». وقد بقي هذا القبر مفتوحًا يزوره السياح في العهد الإغريقي، وقد نُظف الآن. وعندما يدخل الإنسان الدهليز الأول يُشاهد على اليمين صور «توسرت» و«سبتاح» في حضرة الإله «بتاح» والإلهة «حرمخيس» وآلهة آخرين، وعلى الجدار المقابل نشاهد الملكة «توسرت» والفرعون «سبتاح» واقفين أمام الآلهة «حرمخيس» و«أنوب» و«إزيس» وغيرهم. والدهليز الثاني مخرَّب. وفي الثالث نشاهد على اليمين والشمال طغراءات وصورة للفرعون «ستنخت» مصورة على طبقة من الجص وُضعت فوق الصور الأصلية لصاحبة القبر «توسرت». وبعد ذلك ننتقل إلى قاعة صغيرة تؤدي إلى حجرة كبيرة، ونشاهد فوق بابها الإلهين «أنوب» و«حور» يتعبدان للإله الأعظم «أوزير»، وبعد ذلك نستمر منحدرين إلى قعر المقبرة، فنشاهد في طريقنا حجرتين لوَّنت جدرانهما بأشكال خشنة من عهد «ستنخت» على طبقة من الجص وُضعت فوق نقوش «توسرت» الأصلية. وبعد ذلك نصل إلى قاعة يرتكز سقفها على ثمانية عمد، وهذه كانت حجرة الدفن الأصلية للملكة «توسرت».

وتدل شواهد الأحوال على أن هذه الحجرة عندما نُحتت كان «سبتاح» قد مات، وأن «سيتي الثالث» — على حسب رأي «إمري» — قد حلَّ محله زوجًا لها؛ وذلك لأننا نرى صورة الملك الأخير على أحد عمد هذه القاعة من اليسار، وقد أضاف بعد هذه الحجرة الملك «ستنخت» دهليزين عندما اغتصب القبر. وأخيرًا نصل إلى القاعة التي دُفن فيها «ستنخت» وفي وسطها نجد غطاء تابوته ملقًى على جانبه، وهو مصنوع من الجرانيت وقد نُقش نقشًا جميلًا، ويصور لنا صورة «أوزير» مضطجعًا. أما حوض التابوت نفسه فقد هُشم. والظاهر أنه لم يُغتصب من مكان دفن الملكة «توسرت» بل عمل خاصًّا به.

وتدل النقوش على أن هذا الفرعون قد بدأ لنفسه حفر المقبرة رقم ١١ التي دُفن فيها بعد ابنه «رعمسيس الثالث»، ولكنه بعد أن استمرَّ في العمل مدة تركها واغتصب مقبرة «توسرت» كما ذكرنا. والمدهش في تاريخ الفرعون «ستنخت» أننا لا نعرف كيف أصبح صاحب السيادة في البلاد ثانية بعد أن غزاها الآسيويون، ولا نعرف الصلات التي كانت تربطه بالأسرة البائدة. وكل الدلائل تشعر بأنه لم يكن ملكًا شرعيًّا كما يُقال إنه ابن «سيتي الثاني»؛ إذ لو كان الأمر كذلك لتكلم ابنه «رعمسيس الثالث» بنغمة أخرى عندما وصف لنا حالة البلاد في عهد والده. ولدينا معلومات يكنفها الغموض والإبهام عن هذه الحوادث الأخيرة التي وقعت قبل تولي «رعمسيس الثالث» في الأساطير القومية عندما تحدث «مانيتون» عن الملك «أوزارسيف Osarsiph» على حسب رأي الأستاذ «إدواردمير».١٤ إذ نعلم أنه عندما قص قصة الحركة الدينية التي قام بها «أمنحتب الرابع» نجد أنه قلبها ووضعها في عهد «مرنبتاح» الذي جعل اسمه هناك «إمنوفيس» وجعل ابنه «رعمسيس الثالث». وفي عهد «إمنوفيس» هذا اقتحم الأعداء البلاد المصرية آتين من «أورشليم» وهم — كما يُقال — من نسل «الهكسوس» الذين طُردوا من أرض الكنانة، وأمام هذا لم يجسروا على القيام بأية مقاومة، بل على العكس ولوا الأدبار نحو بلاد «إتيوبيا» (النوبة)، وقد جعل ابنه «رعمسيس» في كفالة صديق له. وقد اتحد الأجانب مع المجذومين تحت قيادة «أوزارسيف» وخربوا الأرض، ومدنها، ومعابدها، مدة ثلاثة عشر عامًا. وبعد ذلك عاد «إمنوفيس» ثانية، وقضى عليهم مع ابنه «رعمسيس»، وطاردهم من البلاد مقتفيًا أثرهم في الصحراء حتى بلاد «سوريا».

ولا شك في أن المدقق يرى في هذه الأسطورة المشوهة صدًى لسيطرة «إرسو» على البلاد المصرية؛ لأن ذلك كان حادثًا قد وقع وانقضى زمنه دفعة واحدة، في حين أن «أمنحتب الرابع» وأخلافه من بعده كان لهم دائمًا السيطرة على جزء من بلاد «سوريا». أما «ستنخت» فقد نُسي ولم تُدون أعماله، وكذلك ابنه العظيم «رعمسيس الثالث». وقد نُسبت هذه الحادثة في الحال إلى «مرنبتاح» لاتصاله به. وهكذا نرى مؤرخنا المصري «مانيتون» يشير إلى هذا الحادث من بعيد، على الرغم من أنه لا يفهم ترتيب الحوادث من الوجهة التاريخية.

١  راجع: Harris pap. I, pl. 75, Br. A. R. IV, § 397 ff.
٢  إله الحرب وقتئذ.
٣  راجع: Weil, Recueil Inscrip. Sinai p. 118.
٤  راجع: Petrie, Mebesheh pp. 110-111.
٥  راجع: Griffith, Tell el yahudyah in Naville Mound of the Jews pl. XXI, cff p. 65.
٦  راجع: Rec. Tnav. XXXV, p. 46; Wiedemann ibid p. 490.
٧  راجع: Mariette, Abydos II, p. 52; Petrie, Hist. III, p. 134.
٨  راجع: L. D. Text III, p. 76; Benson and Courlay Temple p. 261.
٩  راجع: L. D. III, 206 d.
١٠  راجع: L. D. III, 204 d.
١١  راجع: Petrie, Hist. III, p. 134.
١٢  راجع: Wilbour Pap. II, p. 155 & 156.
١٣  راجع: Weigall Guide p. 228.
١٤  راجع: Ed. Meyer, Gesch. II, 1, p. 421, 583.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤