صرخة … في مركز العمليات!

عندما حلَّقتِ الطائرة، مع بداية ظلمة الليل، كان الشياطين يجلسون متباعدين. كان كلٌّ منهم يفكِّر وحده، لكن أفكارهم جميعًا كانت تلتقي عند نقطةٍ واحدة، هي مدينة «سان لويس بوتوس»، حيث يُعقد المؤتمر العالمي لرصد كسوف الشمس، وحيث يُوجد «أماندوليون»، عالم الفضاء، وحيث تُوجد — في نفس الوقت — عصابةُ «سادة العالم»، التي تُحاوِل خطفه.

لكن «أحمد» كان مستغرقًا في قراءة التقرير وحده. كانت ترتسم على وجهه علاماتُ الجد الشديد، ولم يكن يلتفت إلى شيء، حتى عندما كانت مضيفة الطائرة تقدِّم له كوبًا من العصير، لم يلتفت إليها، حتى إنَّها ابتسمَت قائلة: يمكن أن يساعدكَ كوب العصير على مزيد من التركيز.

نظر إليها دون أن يَعِيَ تمامًا ما قالَتْه، لكنَّه ابتسم لها، ابتسامة مجاملة، فقدَّمتْ له العصير، الذي أخذه شاكرًا. ومن جديد، استغرق مرةً أخرى في القراءة. كانت الرحلة طويلة، فأول محطة فيها هي «باريس»، ثم «نيويورك»، ثم «دالاس»، وأخيرًا «مكسيكو»، ومنها يعودون شمالًا إلى «سان لويس بوتوس».

ولأنَّ الرحلة طويلة، فإنَّ النوم يمكن أن يساعد على قضاء الوقت، وهذا ما فعله الشياطين، فقد استغرقوا في النوم، إلا «أحمد»، الذي كان يقضي وقته في قراءة تقرير الزعيم.

كانت الساعة قد أَعلنَت الثامنة والنصف عندما غادَرتِ الطائرة أول مطار، وعندما كانت تهبط في مطار «أورلي» بباريس، كانت تُعلِن منتصف الليل. لم ينزل الشياطين من الطائرة، التي كانت تزوَّد بالوقود. وينزل ركاب باريس، ويركب آخرون في طريقهم إلى نيويورك. لقد استيقظوا جميعًا، عندما توقَّفَت الطائرة في مطار «أورلي»، تجمعوا عند «أحمد»، الذي كان قد انتهى من التقرير.

قالت «زبيدة»: هل هناك جديد؟

ردَّ «أحمد»: نعم، لكنَّه فقط يتركَّز حول سرية المؤتمر، وما يمكن أن يحدُث نتيجة كسوف الشمس؛ أقصد يحدث للناس، والحيوانات، ودرجات الحرارة، وما يمكن أن يستغله الخارجون على القانون، والتوقعات التي يتوقَّعها عدد من عملائنا في أمريكا الشمالية، والجنوبية أيضًا، حتى إنَّه يخشى من انقلابٍ هناك. أمَّا الموقف فسوف يكون متوترًا جدًّا، وسوف تكون الحراسة مشدَّدة؛ ولذلك يُخشى أن يكون أفراد العصابة قد اندسُّوا بين رجال الأمن بدرجةٍ لا يستطيع أحد أن يكشفهم، رغم أنَّ كلمة «السر» سوف تُوزَّع على رجال الأمن، حتى يُمكن كشفُ أي دخيل، لكن «كلمة السر» سوف لن تكون صعبة بالنسبة لعصابةٍ مثل «سادة العالم»؛ فهي قادرةٌ على الحصول عليها.

سأل «رشيد»: وهل لدينا كلمة السر؟

أجاب «أحمد»: لا، لكنَّنا سوف نعرفها عن طريق عميل رقم «صفر» في «سان لويس بوتوس».

كان ركاب الطائرة قد بدءوا يتوافَدون … فعاد الشياطين إلى مقاعدهم، وبعد دقائق كانوا يربطون الأحزمة؛ فقد كانت الطائرة على وشك الطيران.

كانت الساعة قد اقتربَت من الواحدة صباحًا. وكان الشياطين قد استسلموا للنوم مرةً أخرى، فهم يُحاوِلون النوم الطويل استعدادًا لمغامرة، لا يعرفون متى تنتهي. قد لا تكون الدقائق السبع هي نهايتها، بل ربما تكون هي البداية؛ فعصابة «سادة العالم» من العصابات القوية، التي تعامَلوا معها طويلًا، ويعرفون قُدرتَها في الصراع.

لقد نام «أحمد» هو الآخر، بعد أن وضع التقرير تحت قميصه وفوق صدره؛ فهو لم يكن يأمن لشيء في هذه الحالة؛ لأنَّ التقرير شديد السرية، وشديد الأهمية أيضًا، وعليه أن يتخلص منه حرقًا، حتى لا تقع ورقةٌ منه في يد أحد … غير أنَّه استيقظ على صوت مذيعة الطائرة، وهي تعلن قرب وصولهم إلى نيويورك. نظر حوله في اتجاه الشياطين المتناثرين في أرجاء الطائرة، كانوا قد استيقظوا، إلا أنَّ أحدًا منهم لم يغادر مكانه.

ولم تتوقَّف الطائرة طويلًا، فقد غادرَت مطار «نيويورك» إلى مطار «دالاس»، الذي لم يستغرق الطيران إليه وقتًا طويلًا، قال «أحمد» لنفسه: ها نحن نتجه إلى آخر خطَّة طيران في «مكسيكو»، وهناك سوف تبدأ أوَّلُ خُطوةٍ في مغامرتنا.

وعندما غادَرتِ الطائرة مطار «دالاس» … كان الشياطين قد بدءوا يستعدُّون … فبعد قليل سوف يغادرون الطائرة نهائيًّا، بعد هذه الرحلة الطويلة. لقد قطعوا آلاف الأميال، وتجاوزوا بحارًا ومحيطات، وقطعوا قارَّاتٍ بأكملها، وها هم الآن يسمعون صوت مذيعة الطائرة تُهنِّئُهم بسلامة الوصول، وتتمنَّى لهم إقامةً طيبة في «مكسيكو».

ابتسَم «رشيد»، وهو يستمع إلى صوت المذيعة، وقال في نفسه: إنَّها إقامةٌ شاقَّة، وإن كانت سعيدة.

هبَطَت الطائرة في مطار «مكسيكو». وفي لحظاتٍ كان الشياطين يأخذون طريقهم إلى خارج المطار.

كان الليل يُغطِّي كل شيء فهناك فارق التوقيت. وعندما كانوا يَخْطون الخطوة الأخيرة خارج المطار الذي لم تكن حركتُه نشيطة، كانت عينا «فهد» تبحث عن سيارة الشياطين؛ فهناك لونٌ محدَّد للسيارات التي يركبها الشياطين في بلاد الدنيا. وهو لونٌ لا يعرفه سوى الشياطين وعملاء رقم «صفر» فقط. إنَّه لونٌ سري، وهو مأخوذ من تركيبةٍ كيماوية لا يمكن أن يصل إليها أحد. وعندما وقعَت عينا «فهد» على السيارة، أخذ طريقه إليها مباشرة، في الوقت الذي تَبِعه فيه الشياطين.

وعندما فتَح باب السيارة شعر بالراحة؛ فهو من هُواة قيادة السيارات. أخذ الشياطين أماكنهم داخل السيارة، وعندما أُغلق آخر باب، جاء صوت عميل رقم «صفر» يقول: أهلًا بكم في «مكسيكو» … تُوجَد هناك طائرةٌ تقف في انتظاركم لتنقلكم إلى «سان لويس بوتوس». إنَّها تقف عند النقطة «ك». أتمنى لكم رحلةً طيبة.

اختفى صوت العميل. أسرع «أحمد» فبسط خريطةً صغيرة أمامه، وحدَّد عليها النقطة «ك»، ثم شرح ﻟ «فهد» الاتجاه.

وبسرعة، كانت السيارة تقطع طريقها إلى النقطة المحدَّدة، التي كانت تقع في الطرف الآخر من المدينة الكبيرة. كانت المدينة هادئة، يغطِّيها ليلٌ رائع؛ ولذلك فقد استمتع الشياطين برحلة السيارة، ولم يكونوا يشعُرون بالتعب؛ فقد ناموا في الطائرة مدةً تكفي لأن يقضوا أيامًا بلا نوم.

خرجَت السيارة من المدينة، وامتد الخلاء أمامها. بعد ربع ساعة، لمعَت إشاراتٌ ضوئية، ردَّ عليها «فهد»، وأخذ الطريقَ في اتجاهها … عندما وصلوا، كانت الطائرة قد أدارت محركاتها. تبادلوا التحية مع قائد الطائرة، ثم صَعِدوا إليها … وبعد لحظاتٍ كانت الطائرة تحلِّق في الفضاء إلى المدينة المقصودة، مدينة «سان لويس بوتوس».

دارت الأسئلة حول المدينة وما يَجري فيها.

قال قائد الطائرة: إنَّ هناك حراسةً شديدة، وكلمة السر «شمس».

ثم قدَّم بطاقة إلى كل واحد من الشياطين، وأضاف: هذه البطاقة تعطيكم الحق في التجوُّل في المدينة في أي وقت، وبها يُمكِن أن تدخلوا أي مكان، فقط بعد كلمة «السر».

لم تكن المسافة طويلة؛ فبعد حوالي ساعة كانت الطائرة تنزل في مطار «سان لويس بوتوس». وما إن توقَّفَت المحرِّكات حتى كانت مجموعةٌ من رجال الشرطة ينتشرون حولها.

قال القائد: هل رأيتم؟ إنَّ الحراسة مشدَّدةٌ تمامًا.

نزل الشياطين، يتقدَّمهم قائد الطائرة، الذي قال «كلمة السر» عندما ظهر أمام رجال الحراسة، وأظهر الشياطين بطاقاتهم، فرحَّب بهم قائد شرطة الحراسة. أخذوا طريقهم إلى خارج المطار، حيث كانت سيارةٌ عسكرية في انتظارهم.

توقَّف «أحمد» لحظة، ثم همَس في أذن القائد: نريد أن ننصرف في سيارةٍ عادية. إنَّ السيارة العسكرية تلفت النظر!

مرَّت لحظة، ثم قال القائد: كما تريدون.

وعلى بُعد عشرين مترًا، كانت تقف سيارة الشياطين، ركبوها وانصرفوا، لحظة ثم جاءهم صوت عميل رقم «صفر»: «أُرحِّب بكم في مدينة المهمة الصعبة. هناك مركز عملياتٍ جاهز في انتظاركم. وهو يقع في المبنى السابع عند النقطة «ع». أتمنَّى لكم التوفيق …»

شكره «أحمد»، واتجه «فهد» بالسيارة إلى النقطة «ع». كان هناك عددٌ من المباني المتشابهة، عبارة عن فيلَّات، تحيط بكل فيلَّا حديقةٌ صغيرة، وإن كانت مزدحمةً بالأشجار، التي تكاد تغطِّي المبنى. عندما اقتربَت السيارة من الفيلَّا رقم ٧، فُتح الباب الخارجي، فاندفع «فهد» بالسيارة إلى الداخل، حيث كان يُوجد مَمَر يكفي لأن تتقدَّم فوقه سيارةٌ واحدة. وعندما توقَّف نزل الشياطين واتجهوا إلى داخل الفيلَّا. لم يكن هناك أحد، كانت خالية تمامًا. ولم تكن الأبواب تحتاج إلى مفتاح؛ فقد كانت هناك شفرةٌ عرفَها الشياطين تُفتح الأبواب بواسطتها.

بعد أن تجاوزا باب الفيلَّا، توقَّفوا قليلًا؛ فقد ظَهرتْ أمامهم خريطة على الجدار الأبيض المقابل، تُبيِّن لهم حجرات الفيلَّا … وكانت الحُجرات الهامَّة: حجرة المراقبة، حجرة السرداب، حجرة الاستطلاع، حجرة الاتصال. أمَّا بقية الحجرات فقد كانت للنوم والجلوس. أمَّا الفيلَّا كلها، فقد كان يُطلق عليها «مركز العمليات»؛ لأنَّها مجهَّزة بكل ما يحتاجه الشياطين.

انتشر الشياطين داخل الفيلَّا، يؤمِّنون كل شيء، حتى لا يتعرَّضوا لأي مفاجأة.

دخل «أحمد» حجرة المراقبة، كانت هناك أجهزةٌ حديثة تمامًا وشاشات تليفزيون، وكل شاشة لها رقم، وكانت هناك خريطةٌ تشرح كل شيء. أخذ «أحمد» الخريطة وجلس، قرأ قليلًا، ثم وقف أمام الأجهزة، ضغَط زِرًّا عند الشاشة … فظَهرتْ صورة لقاعة الاجتماعات خالية. ضغط رقم ٢، فظَهرتْ حجرة المراصد. ضغط رقم ٣، فظَهرتْ حجرة نوم، وفوق السرير يرقد رجل. توقَّف أمام الصورة يتأمَّلها، ثم أخرج من جيبه ورقةً صغيرة، وقرأَها بسرعة، كانت الورقة تحمل صفاتِ عالم الفضاء «أماندوليون» … ظلَّ يُطبِّق ما يقرؤه على ملامح الرجل النائم، فعرف أنَّه «أماندو».

قال في نفسه: هذه إذن مهمتنا!

ضغط رقم ٨ فظَهرتِ الساحة المحيطة بالمبنى كله، وشاهد رجال الحراسة وهم يتحركون.

قال في نفسه: إنَّه استعدادٌ رائع.

أطفأ الأجهزة، ثم أخذ طريقه إلى الخارج. كانت هناك حجرةٌ مضاءة، فاتجه إليها، كان الشياطين يجلسون في شبه اجتماع، قال: إننا أمام عملٍ عظيم؛ فقد شاهَدتٌ حجرة المراقبة.

وأخذ يشرح لهم ما شاهده، وعندما انتهى، قال «رشيد»: الآن نريدُ أن نعرف ساعة الصفر.

قال «أحمد»: إنَّ عميل الزعيم سوف يُقدِّم لنا ما نريده.

قالت «زبيدة»: إذن، لا بُد من معرفة ما نريد، خصوصًا وأنَّه ليس أمامنا سوى يومٍ واحد، هو هذا اليوم، وبعده يكون الصراع …

ابتسم «باسم»، وقال: ولماذا بعده؟ لعل الصراع يبدأ الليلة، أو الآن.

فجأةً، التقَت أعيُنُ الشياطين. إنَّ حركةً ما قد حدثَت، مع أنَّ أحدًا منهم لم يتَحرَّك.

قال «رشيد»: يبدو أنَّ ما توقَّعه «باسم» يتحقَّق الآن فعلًا.

نظر «أحمد» حوله نظرةً شاملة، ثم قال: سوف أنسحب إلى حجرة المراقبة، إننا نستطيع منها أن نرى كل شيء. في نفس الوقت، عليكم أن تتَجوَّلوا في الفيلَّا.

وبسرعةٍ كان ينسحب في هدوء إلى حجرة المراقبة، بينما انتشر بقية الشياطين في أرجاء الفيلَّا، فجأة، ارتفعَت صرخة، تردَّدَت داخل الفيلَّا الهادئة. كان «أحمد» قد وصل إلى باب حجرة المراقبة، فلم يدخل واستمع من جديد، لكن الصرخة لم تتكرَّر مرةً أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤