الفصل الرابع

الخاصة المنطقية المميزة للعلوم الطبيعية

تكاد تتفق الأطراف المعينة على أن كارل بوبر من أهم فلاسفة العلوم الطبيعية والمنطقي الميثودولوجي الأول في النصف الثاني من القرن العشرين.١ والعالم المتحدث بالإنجليزية يُسَلِّم بهذا؛ حيث تحظى أعمال بوبر باهتمام كبير، وانتشار واسع، مثلما تنتشر في كل الأرجاء المعنية بالعلم وفلاسفته، من إيطاليا وألمانيا وإنجلترا حتى الولايات المتحدة، وإذا كانت أعمالًا أقل انتشارًا في فرنسا، فإن «إدكار فور في طريقه إلى تأسيس مركز للدراسات البوبرية فيها».٢ ولعله أسسه فعلًا. ويعود هذا الاهتمام بفلسفة بوبر إلى أنه أَقْدَرُ من استوعَبَ وتمثلا ومَثَّل أحدث التطورات للعلوم الطبيعية، فتحمل فلسفته التجديدية الثرية العميقة أكمل وأنضج نظرية للعلم، عرفت حقًّا كيف تبلور روحه، فتضع الأصبع على شد ما يفجر الطاقة التقدمية للعلوم.
ولما كان بوبر أساسًا رجل منطق، كانت نظريته في منطق العلم آية في الدقة والرصانة والصرامة الأكاديمية، ومع هذا عرفت كيف تنساب في تيار الحياة العلمية الجارية والبحث العلمي الدافق. فنجد العلماء التجريبيين الحاصلين على جائزة نوبل، أمثال سير بيتر مدور P. Medwar وسيرجون أكسلس وجاكس موند J. Monod يؤكدون أنهم وصلوا إلى إنجازاتهم العلمية الباهرة بفضل تعاليم بوبر المنهجية والاسترشاد بفلسفته للعلوم، وكانت نصيحة أكسلس للعلماء الآخرين هي أن يقرءوا ويتأملوا كتابات بوبر عن فلسفة العلوم، وأن يتخذوا منها أساسًا للعمل في حياة الفرد العلمية.٣ لم يتبَنَّ هذا الرأيَ العلماءُ التجريبيون فقط، فعالِم الفلك البحت والرياضيُّ الشهير سير هرمان بوندي H. Bondi قال: «ببساطة ليس العلم شيئًا أكثر من منهجه، وليس منهجه شيئًا أكثر ممَّا قاله بوبر، أثَر بوبر إذا امتد ليشمل كلًّا من العلماء التجريبيين وعلماء العلوم البحتة.»٤ وحصافة فلسفة بوبر للعلوم الطبيعية تَأَتَّتْ بفعل عوامل عديدة، أهمها أن نقطة بدئها كانت ما ينبغي أن يمثل الأساس المَكِين لفلسفة العلم المنطقية، ولنسق العلم بأسره، ألا وهو تحديد المعيار المنطقي الفاصل بين ما هو علمي، وما هو لا علمي، أي تحديد الخاصة المنطقية المميزة للقضية العلمية، دونًا عن أي قضية أخرى تركيبية تتَّخِذ الشكل المنطقي «أ هو ب» وهي لا تحمل خبرًا حقيقيًّا، ولا تقوم بمهامِّ العلوم الإخبارية. يقول بوبر: «بدأ عملي في فلسفة العلم منذ خريف ١٩١٩، حينما كان أول صراع لي مع المشكلة، متى تُصْنَف النظرية على أنها عِلْمية؟ أو هل هناك معيار يحدد الطبيعة أو المنزلة العلمية لنظرية ما؟ لم تكن المسألة التي أقلقَتْني آنذاك متى تكون النظرية صادقة؟ ولا متى تكون مقبولة؟ كانت مشكلتي شيئًا مخالفًا؛ إذ أردْتُ أن أمَيِّز بين العلم والعلم الزائف Pseudo-Science وأنا على تمام الإدراك أن العلم يخطئ كثيرًا، وأن العلم الزائف قد يَحْدُث أن تَزِلَّ قدمُه فوق الحقيقة.»٥
فتوصل بوبر إلى أن معيار القابلية للتكذيب Criterion Falsifiability هو ما يميز العلم دونًا عن أي نشاط عقلي آخر، فالخضوع المستمر للاختبار، وإمكانية التفنيد بالأدلة التجريبية هي الخاصة المنطقية المميِّزة للقضية العلمية دونًا عن أي قضية تركيبية أخرى، عبارات العلم التجريبي — أي العلم الذي يعطينا محتوًى معرفيًّا، ومضمونًا إخباريًّا، وقوة تفسيرية شارحة، وطاقة تنبؤية عن العالم الواقعي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، هي فقط التي يمكن إثبات كذِبِها؛ لأنها تتحدث عن الواقع الذي يمْكن الرجوع إليه ومقارنتها به؛ لذلك فهي في موقِف حَرِج حسَّاس، فنجد نظرية بوبر في «منهج العلم» تؤكد مَطْلَب الجرأة، فالجرأة هي فقط التي تُمَكِّن من اقتحام المجهول، واكتشاف الجديد، الحقيقة ليست ظاهرة، بل تَكْمن خَلْف ما يبدو لنا من العالَم، وما يفعله العالِم العظيم هو أن يخَمِّن بجرأة، ويَحْدُس بإقدام كيف تكون هذه الحقائق الداخلية الخفية، ويُمْكِن أن تقاس درجة الجرأة بقياس مدى البعد بين العالَم البادي وبين الحقيقة المفترَضَة حدسًا، أرسطارخوس وكبرنيقوس عالِمان عظيمان؛ لأنهما افترضا أن الشمس هي مَرْكز الكون في حين أن المَظْهر البادي يقول إنها قابعة في سماء الأرض، غير أن ثمة نوعًا آخر من الجرأة لا يُتَعَمَّق، بل هو متعلق بالمظاهر البادية: إنه جرأة التنبؤ، جرأة المواجهة المُسْبَقة المسئولة مع الواقع، هذا النوع من الجرأة هو الأهم، وهو ما يميِّز الفرض العلمي بالذات، الفرض الميتافيزيقي يُمْكِن أن يحقق الجرأة بالمعنى الأول، يمكن أن يحدس الحقيقة الكامنة التي لا تبدو للعيان، لكن لا يمكن أن يحقق الجرأة بالمعنى الثاني، لا يمكن للفرض الميتافيزيقي الخروج بمشتقات أو التنبؤ بوقائع تجريبية تَحْدُث أمامنا في العالم التجريبي، وقابلة للملاحظة، إنه لو فَعَلَ هذا لتعرَّض لمخاطَرَة كبيرة، مخاطرة الاختبار والتفنيد، ومن ثَمَّ إمكانية التكذيب، مخاطرة التصادم مع الخبرة، إنها مخاطرة لا يقوى عليها إلا العلم؛ لذلك نكتشف كل يوم أخطاء بعضٍ من نظرياته، فنتركها ونصل إلى الأفضل، فبفضل إمكانية التكذيب كان العلم التجريبي هو البحث المطَّرد التقدم، فإمكانية تكذيب العبارات العلمية هي قابليتها الشديدة للنقد والمراجعة؛ لأن تُتْرَك وتَحُل مَحَلَّها عبارات أفضل. من هنا كان رَفْضُنا فيما سبق لنظرية التراكم في تفسير طبيعة التقدم العلمي، والأخذ بالنظرية المضادة لها؛ أي الثورية. ومن هنا أيضًا رأى بوبر أن تكون الجرأة من النوع الثاني، والبعد المنهجي الذي يقابلها؛ أي الاستعداد للبحث عن الاختبارات والتفنيدات هي ما يميز العلم التجريبي — البعد المنطقي والبعد المنهجي هما وجها عملة التكذيب الواحدة — حيث إن القابلية للتكذيب هي ذاتها القابلية للاختبار Testability، الاختبار التجريبي بالطبع.
والقابلية للاختبار قد ترتبط بالقابلية للتحقيق Verifiability، ولكن الخاصة المنطقية المميزة للعبارة وللنظرية العلمية هي إمكانية التكذيب؛ أي التفنيد والنفي، وليس مجرد التحقيق، مثلًا العبارة «السماء ستمطر غدًا» عبارة علمية؛ لأنها قابلة للاختبار التجريبي بمجيء الغد، وقد تمطر السماء؛ أي قد نتحقق منها، ولكن ليس هذا هو المناط في علميتها، بل المناط في إمكانية ألا تمطر السماء غدًا. إمكانية تكذيبها وهي إمكانية قائمة خاصة منطقية لها، وبالبحث عن التكذيب، وليس التحقيق يمكن استبعاد عبارات مثل «غدًا قد تمطر السماء أو لا تمطر»، وهي واجبة الاستبعاد؛ لأنها لا تعطينا محتوًى إخباريًّا، فهي تحصيل حاصل من الصورة المنطقية (ق ٧ ق)؛ أي (إما ق أو لا ق).

وحينما يأتي الغد فأيًّا كانت الخبرة الحسية فسوف نتحقق منها، ولكن تكذيبها مستحيل، فنستطيع الحكم بأنها لا علمية، هكذا يمَكِّنُنا معيار القابلية للتكذيب من استبعاد تحصيلات الحاصل المتنَكِّرة في هيئة إخبارية، وهي واضحة متجَلِّية في الفروض الميتافيزيقية الموغِلة في غياهب العقل الخالص، وأيضًا في الفكر الثيولوجي، وهما نمطان من التفكير غير قابلَيْن للتكذيب. لا أصلًا ولا فروعًا، ولا مطلوب منهما هذا، فهما ليسا علمًا.

وبالطبع ثمة فارق بين القابلية للتكذيب وبين التكذيب، وليست تعني الخاصة المنطقية التثبت بالفعل مِنْ كَذِب كل عبارة علمية وتفنيدها، كلا بالطبع، فهذه كارثة محققة، وإلا فما هو عِلْمنا اليوم؟ إنه نسق العبارات القابلة للتكذيب من حيث المبدأ، من حيث القوة بمصطلحات أرسطو أن نتثبت من أن إمكانية التكذيب قائمة في النظرية، لا أن النظرية كاذبة بالفعل، إن القابلية للتكذيب مجرد معيار يحدد الخاصة المنطقية للنظرية العلمية، أما التكذيب فهو حُكْم عليها، تقييم نهائي لها، رفض، ومن ثَمَّ تجاوُزها، وإحراز خطوة تقدمية أبعد، قابلة بدورها للتكذيب، ويتم تكذيبها يومًا ما بفرضٍ أبْعد قابل للتكذيب … وهلم جرا في مسيرة العلم المطردة التقدم.

ولما كانت القابلية للتكذيب هي ذاتها القابلية للاختبار كانت محاولة تكذيب النظرية هي ذاتها اختبار النظرية، وهذا الاختبار يفضي إما إلى التكذيب، وإما إلى التعزيز Corroboration على النحو التالي:
  • التكذيب: نحكم به على النظرية إذا لم تكن نتيجةُ الاختبار في صالحها، أي إذا تناقَضَت النتائج المستنبَطة منها مع الوقائع التجريبية؛ لأن تكذيب النتائج تكذيب للنظرية ذاتها، فتُسْتَبْعد من نسق العلم، رغم أنها علمية، لكننا وضعنا الأصبع على مَوْطن خطأ أو كَذِب، فيمكن تلافيه فيما سيَحُلُّ مَحَلَّها، فيكون أكثر اقترابًا من الصدق، وأغزر في المحتوى المعرِفِيِّ، وفي القوة التفسيرية … لذلك فكل تكذيب ظفر علمي جديد، وليس خسارة كما يبدو للنظرة العابرة.
  • التعزيز: وهو يتم إذا تجاوَزَت النظرية الاختبار، والتعزيز هو جواز مرور الفرض إلى النسق العلمي، المرور من اختبارات منهج العلم القاسية، وكلما كانت الاختبارات أقسى حازت النظرية التي تجتازها درجة تعزيز أعلى، وكانت أعظم؛ أي أغزر في المحتوى المعرفي، وأجرأ في القوى التفسيرية؛ لذلك يؤكد بوبر دائمًا على قوة الاختبارات حتى لا تستطيع النظرية أن تُعَزَّز وتَعْبُر إلى نسق العلم بسهولة.

إن التعزيز هو النتيجة الإيجابية لكل ممارَسة منهجية ناجحة، فالنجاح يعني التوصل إلى فَرْض جديد يحل المشكلة بكفاءة أعلى مِنْ سابِقِه، ويمكن التعبير عن هذا منطقيًّا كالآتي:

ء (ف١، ش ت) < ء (ف٢، ش ت)

حيث إن (ف١) الفرض الموجود في الحصيلة المعرفية السابقة، و(ف٢) الفرض الجديد الذي يناقشه، و(ء) درجة تعزيز الفرض في ضوء (ش)؛ أي المناقَشة في الوقت الراهن (ت)، (<) أقل من، وهذه الصياغة تقنين منطقي لمسيرة العلم التقدمية من حيث إنها تبرير قبول (ف٢) فنسق العلم سيُحْذَف منه (ف١)، ويوضَع بدلًا منه (ف٢)؛ لأنه أكثر تعزيزًا … أكثر تقدمًا. مفهوم التعزيز يشير إلى قوة الفرض الإبستمولوجية، ولا علاقة له البتة «بالاحتمالية» بالمعنى «الموضوعي» المُسَلَّم به في العلم المعاصر الذي يعني احتمالية حدوث الحدث، وتكراره أنطولوجيًّا وهو بالطبع المعنى الذي يعمل بوبر به دائمًا.

على أن التعبير عن درجة التعزيز التخصصية لفرض معَيَّن بالصيغة المنطقية المذكورة يُبْرِز اختلافًا ما بين بوبر وبين جمهرة من المناطقة المعاصرين؛ إذ توضح أن قياس تَفَاوُت درجة التعزيز يعني مقارَنة الفرض الجديد بسابِقِه المطروح في الحصيلة المعرفية، وبينما يرى دوهيم ومِنْ بَعْده المنطقي الكبير كواين أن اللزومات المنطقية Consequences؛ أي النتائج المستنبَطة التي تخضع للاختبار لا تخص الفرض الجديد وحْده، بل تَخُصُّ النسق المعرفي بأسْره الذي انتمى إليه الفرض، يرفض بوبر هذه النظرية الكلية، ويرى أن اختبار الفرض على حدة، وبصورة منفصلة مسألة جوهرية لتقدم العلم، وقياس ما يضاف إليه حقيقة، وعلى الرغم من هذا الخلاف الكبير بين بوبر وكواين فإن كواين نفسه لم يملك إلا استصواب ما أسماه بالطبيعة النافية لنظرية بوبر المنهجية، بمعنى أن البينة قد تُفَنِّد الفرض، ولكن لا تؤيده بحال، أو تؤيده بمعنًى سلبيٍّ نافٍ، هو غياب التفنيد.٦

ويرى كواين أن هذا المنحنى النافي يجب أن يكون أساسَ التعامل مع العلم؛ لأنه كفءٌ لهذا، خصوصًا إذا أخذْنا في الاعتبار أنه لا يتعلق إلا بالعبارات الكلية، وهي صورة القانون العلمي. فبالطبع العبارات الجزئية (أ هي ب) لا يُجْدي التعامل معها بالمنهج النافي شيئًا، وإذا انتقلنا من هذا الوجه المنطقي إلى الوجه الميثودولوجي (المنهجي) وجدْنا أن مهمة التجربة هي تفنيد الفرضيات، لا تأييدها؛ لأن الفرضيات لا يمكن إثباتها، يمكن فقط عدم تفنيدها.

ويعلق عالِم الإحصاء الروسي الكبير ناليموف على هذا بأن بوبر قد أضفى صبغة فلسفية منطقية على هذا القول المعروف لكل عالِم إحصائي.٧
أما الذي يجعل القابلية للاختبار والتكذيب خاصة منطقية مميزة للقضية العلمية، ومعيارًا قادرًا على تمييز العلم التجريبي؛ فذلك لأنها ترسو على أسس تجريبية هي العبارات الأساسية Basic Statements وهي عبارات تجريبية مُفْرَدة لها الصورة المنطقية للعبارات الوجودية المحدَّدة، أو بتعبير ألفرد تارسكي: القضايا ذات الطابع الوجودي Existential Character التي تقرر وجود أشياء معيَّنة متصفة بصفة معينة، إن وجود شيء معَيَّن في زمانٍ معَيَّن، ومكان معين يجعل العبارة تشير علانية لموضوع مادي يمكن ملاحظته، مما يجعل من الممكن مباشرة إقرار العبارة، أو إنكارها على أنها إما صادقة أو كاذبة، أما العبارات الوجودية غير المحددة مثل «هناك س في مكان ما من زمان ما»، فهي تبعًا لمعيار القابلية للتكذيب ليست علمًا؛ ذلك لأنها لا يمكن أن تخبر بشيء ما، ما لم نَنْسُب إليها الشروط التي تحددها؛ أي التي تجعلها وجودية محدَّدة، ما دامت العبارة الأساسية لها صورة العبارة الوجودية المحددة، فهي إذَنْ عبارة خصوصية Particular عن واقعة خصوصية.
وهذه العبارات تمثل عمود التكذيب الفقري ودماءه، وهي التي خوَّلت له إمكاناته في منطق العلم التجريبي.٨
فلنفرض أننا فتَّتْنا العالم التجريبي على طريقة برتراند راسل مثلًا إلى أقصى درجة ممكنة، أي إلى عدَدٍ لا نهائي من الأحداث Events كل حدث واقع في آنٍ معيَّن من الزمان، ونقطة معينة من المكان، جِمَاع هذه الأحداث هو العالَم التجريبي، ولنضع لكل حدثٍ جملة تنقله بتعبير راسل جملة ذرية، هذه الجُمل الذرية وارتباطاتها معًا هي فئة «العبارات الأساسية» إنها جميع العبارات الخصوصية الوجودية الممكن تصوُّرها عن الواقع؛ لذلك ستحتوي الفئة على عبارات كثيرة ليس بينها تساوُق أي توافُق متبادَل؛ إذ إنها تعبِّر عن كل الوقائع التجريبية الممكنة، أي التي قد تحدث، وقد لا تَحْدُث.
ونظريات العلم الطبيعي، أي محاوَلات الكشف عن القوانين التي تحكم العالَم التجريبي، هي محاولات رَسْم حدود وفواصل بين هذه العبارات الأساسية، حدود تحدِّد الممكن الذي سوف نلقاه في خبرتنا، وتمنع ما خارجها من الحدوث؛ لذلك يقول بوبر: «إن إمكانية التكذيب هي إمكانية الدخول في علاقات منطقية مع عبارات أساسية محتمَلة؛ أي من فئة كل العبارات الأساسية الممكنة، وإنَّ هذا لهو المَطْلَب الجوهري والمبدئي؛ لأنه متعلق بالصورة المنطقية للفرض.»٩ ويكون التعبير المنطقي عن القابلية للتكذيب كالآتي: تكون النظرية قابلة للتكذيب — أي علمية — إذا كانت تُقَسِّم فئة كل العبارات الأساسية المحتمَلة تقسيمًا واضحًا إلى الفئتَيْن اللافارغتين:
  • فئة كل العبارات الأساسية التي لا تتسق النظرية معها، أي التي تستبعدها وتمنعها، فإن حدثت أصبحت النظرية كاذبة، وهذه هي فئة المُكَذَّبات المحتمَلة Potential Falsifiers للنظرية.
  • فئة كل العبارات الأساسية التي تتسق النظرية معها ولا تناقضها، وهي العبارات التي تسمح بها النظرية.

الخطورة والتعويل في السمة العلمية على الفئة الأولى بحيث ننتهي إلى الآتي: تكون النظرية قابلة للتكذيب إذا كانت فئة مُكَذَّباتها المحتمَلة ليست فارغة، هكذا تتم عملية الكشف عن القابلية للتكذيب — أي التحقق من السمة العلمية — وتتم عملية التكذيب؛ أي التحقق من السمة العلمية، وتتم عملية التكذيب؛ أي إمكانية مواجهة القضايا بالواقع التجريبي، مواجهةً تَتِمُّ بِناءً على العبارات الأساسية.

بالنسبة للعبارات المفردة فإن إثبات كذبها — إذا كانت كاذبة — يمكن في التوِّ واللحظة، وعلى الرغم من أن هذه العبارات أساس عملية التكذيب، فإنها ليست موضوع مشكلة التمييز بين العلم واللاعلم، فهذه مشكلة القضايا الكلية، صورة القوانين والنظريات، والطبيعة الكلية العمومية لقوانين ونظريات العلم تعني استحالة مواجهتها بالواقع التجريبي؛ لأنها تتحدث عن أفق لا نهائيٍّ، يستحيل حَصْرُه في فئة عبارات أساسية معينة في زمان ومكان معيَّنَيْن، يُمْكِن إخضاع ما يَضُمَّانه لنطاق اختبار تجريبي، فكيف يمكن الكشف إذَنْ عن كونها قابلة للتكذيب أو غير قابلة له؟ يمكن هذا عن طريق استنباط عبارات مفردة من النظرية، يسهل أن نواجهها بالوقائع، فيكون الاستدلال التكذيبي استدلالًا استنباطًا صِرْفًا هابطًا من الكليات إلى جزئيات، لكن مجرد استنباط عبارات مفردة من النظرية لا يعني أن النظرية علمية؛ إذ لكي نستنبط عبارات مفردة من النظريات — التي هي كلية — سنحتاج حتمًا إلى عبارات مفردة أخرى تُمَثِّل الشروط المبدئية لما يجب أن تخضع له متغيرات النظرية، وفي اختبار التكذيب تكون النظرية إحدى مقدمات الاستنباط، وبقية المقدمات عبارات مفردة أخرى تخدم — كشروط أساسية — لحدوث ما تخبر به النظرية، والذي سيكون نتيجة الاستنباط التي نقابلها بالوقائع التجريبية.

ولكن هل مجرد استنباط عبارات مفردة من النظرية بمساعدة عبارات مفردة أخرى هي عينها القابلية للتكذيب، أو إمكانية التكذيب التي تميز النظرية العلمية؟ بالطبع كلا! فأي عبارة لا تجريبية مثلًا ميتافيزيقية، أو تحصيل حاصل يمكن استنباط عبارات مفردة أخرى منها، مثلًا: (إذا كانت أ هي أ لكانت السماء ستمطر غدًا، لكن أ هي أ إذن السماء ستمطر غدًا)، وهي نتيجة تمثل عبارات أساسية، فهل يمكن أن نبحث عن إمكانية استنباط عبارات مفردة تخبر بشيء جديد لم تخبر به العبارات المفردة التي خدمت كشروط أساسية؟ هذه الإضافة سوف تستبعد تحصيلات الحاصل، لكن لن تستبعد العبارات الميتافيزيقية مثلًا «كل حادث لا بد له من علة غائية، وقد حدث اليوم زلزال في أثينا، إذَنْ زلزال أثينا له علة غائية» إنها أكثر من المقدمات، لكنها ليست عبارة تجريبية مفرَدة، ولكي نتجنب كل هذا، وتصبح القابلية للتكذيب معيارًا يميِّز العلم بكفاءة، نضع مطلب القاعدة الآتية: «يجب أن تسمح النظرية بأن تُسْتَنْبَط منها عبارات تجريبية مفردة أكثر من العبارات التي يُمْكِن استنباطها من العبارات التجريبية التي تمثل الشروط الأولية فقط»، فإذا سَمَحَت النظرية بهذا أمكن مواجهة تلك العبارات المستنبطة بالوقائع التجريبية، الواقع الذي قد يكشف عن كذبها، أي إذا كانت النظرية قابلة للتكذيب فهي إذن علمية، هذه العبارات المستنبطة منها تمثل محتواها المعرفي الذي تخبرنا به عن العالم التجريبي.١٠

•••

وكما يقول بوبر: «إن النظرية التي تقبل مخاطرة التفنيد، أي القابلة للتكذيب ستصف عالمنا المُعَيَّن، عالَم خبرتنا الوحيد، وستفرده عن فئة كلما العوامل الممكنة منطقيًّا، وبمنتهى الدقة المستطاعة للعلم».١١ كلما ازدادت النظرية في محتواها المعرفي، وفي عموميتها، وفي دقتها، عينت هذا العالم أكثر. إن إمكانية التصادم مع الواقع — أي القول بما قد لا يحدث في الواقع، فيكذب النظرية — هي التي تميز النظرية العلمية، إنها قدرتها على استبعاد، على مَنْع بعض الحوادث المحتمَلة من الحدوث، وكلما مَنَعَت النظرية أكثر أخبرَتْنا أكثر، وعرَّضَت نفسها لإمكانية انتهاكات أكثر، ومن ثَمَّ زادت قابليتُها للتكذيب، مثلًا أبسط عبارات العلم (الماء يغلي في درجة ١٠٠° مئوية) طبعًا يمكن مواجهتها بالواقع، ويمكن — منطقيًّا — ألا يغلي الماء في هذه الدرجة، هي إذَنْ قابلة للتكذيب، لكن نلاحظ أن العبارة تَمْنَع حدوث غليان الماء في أي درجة مئوية أخرى، في ٦٠ أو ٨٠ … وإذا أضَفْنَا إليها تحديدًا آخر وقلنا إن (الماء يغلي في درجة ١٠٠° في مستوى سطح البحر) كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها مَنَعَتْ أكثر. فقد مَنَعَتْ كل ما منعَتْه سابقتها، بالإضافة إلى أنها منعَتْ غليان الماء في ١٠٠° فوق سفح جبل أو في هوة سحيقة، أو في أي مكان ضغطه الجوي مختلف عن الضغط فوق سطح البحر، وإذا أضفْنا إليها تحديدًا آخر، وقلنا (في مستوى سطح البحر يغلي الماء في درجة ١٠٠° في الأوعية المكشوفة) كانت هذه العبارة تخبر أكثر؛ لأنها تمنع غليان الماء في هذه الدرجة عند سطح البحر في الأنابيب، أو في المراجل المغلقة، إنها تمنع الأكثر؛ ولهذا قابليَّتُها للتكذيب أكثر.
هذا المثال يوضِّح كيف ترتبط القابلية للتكذيب بالمحتوى المعرِفِيِّ ارتباطًا مباشرًا، يجعل العلاقة بينهما تناسبًا طرديًّا، فمثلًا تزيد عمومية Universality العبارة بزيادة المحتوى، النظرية الأكثر عمومية ذات محتوًى معرفِيٍّ يفوق محتوى النظرية، أو النظريات الأقل منها عمومية؛ إذ إنها تمنع ما منعَتْه، بالإضافة إلى مَنْع ما جعلها أعم؛ لذلك فهي أكثر قابلية للتكذيب، وهي أيضًا أغزر في محتواها المعرفي؛ لأنها تضم محتوى العديد من العبارات التي تُعَمِّمُها، إن العبارة العلمية هي العبارة ذات المحتوى المعرفي الإخباري عن العالم التجريبي، وهي بهذا العبارةُ القابلة للتكذيب. «والفيزياء هي الأكثر قابلية للتكذيب؛ لأنها الأكثر عمومية.»
المحتوى المعرفي Informative Content للعبارة هو محتواها التجريبي ومحتواها المنطقي:
  • المحتوى التجريبي: هو فئة المكذَّبات المحتمَلة للنظرية، أي العبارات الأساسية التي تُسْتَنبط من النظرية، وإن لم تَحْدُث كَذَّبْتَها، ولما كانت فئة المكذبات المحتملة — أي التي تجعل النظرية قابلة للتكذيب — هي ذاتها محتواها التجريبي، كان المعيار ببساطة يُحَتِّم — بل يعني — وجود محتوًى تجريبيٍّ للنظرية، وماذا نريد من معيار العلم أكثر من هذا؟
  • المحتوى المنطقي: كل نظرية علمية لها أيضًا محتوًى منطقي، ومفهوم القابلية للاشتقاق Derivability هو الذي يحَدِّد المحتوى المنطقي؛ إذ إنه من فئة العبارات التي ليست تحصيل حاصل، والتي يمكن اشتقاقها من النظرية أو العبارة، أي فئة معقَّبَاتها Consequences أو لزوماتها المنطقية، ما يلزم عنها بالضرورة، على هذا تكون تحصيلات الحاصل فارغة بغير أيِّ محتوًى معرفيٍّ؛ لأن فئة مكذَّباتها المحتمَلة فارغة، وأيضًا فئة لزوماتها المنطقية فارغة، أي أن محتواها التجريبي، ومحتواها المنطقي كلاهما فارغ، في حين أن جميع العبارات الأخرى التي ليست بتحصيل حاصل، حتى الكاذبة منها، لها محتوًى منطقي غير فارغ، وحيثما ترتبط مقاييس المحتوى التجريبي لنظرية ومقاييس المحتوى التجريبي لنظرية أخرى، فلا بد وأن ترتبط أيضًا مقاييس محتواهما المنطقي، بالتعبير الرمزي عن هذا نفترض أن لدينا النظريتين: ن١ ون٢، ولنرمز للمحتوى التجريبي بالرمز (ت م) و(>) أكبر من، وكان لدينا الصياغة الآتية:
(١) ——— م ت (ن١) > م ت (ن٢)

فلا بد أن تنطبق أيضًا على محتواهما المنطقي، فإذا رمزنا له بالرمز (م ط) نصل إلى الصياغة الآتية:

(٢) ——— م ط (ن١) > م ط (ن٢)

وطبعًا نفس المقاييس تنطبق على المحتوى المعرفي بصفة عامة.

وباقٍ أن نَضَعَ في الاعتبار التناسب العكسي بين درجة غزارة المحتوى المعرفي التي تعني اتساع فئة المكذَّبات المحتمَلة وبين درجة الاحتمالية، احتمالية الصدق، احتمالية تكرار الحدث، المعنى «الموضوعي» للاحتمالية المأخوذ به في العلم المعاصر، وليس البتة المعنى المناقض الذي ساد الفيزياء الكلاسيكية، أي «الاحتمالية الذاتية» التي تعني درجة جهل الذات العارفة في وضعها للنظرية القاصرة مؤقتًا لا بد من التخلي التام عن ذلك التفسير الذاتي البائد الاحتمال، لكي ندرك كيف تنطبق نفس مقاييس المحتوى أيضًا على الاحتمالية — احتمالية حدوث الحدث — لكن بصورة عكسية، فالمحتوى المعرفي للربط بين العبارتين: أ و ب أعلى من، أو على الأقل مُسَاوٍ لمحتوى أيٍّ منهما، فإذا كانت (أ) هي «ستمطر السماء يوم الجمعة» و(ب) هي «سيكون الجو لطيفًا يوم السبت» و(أ ب) هي «ستمطر السماء يوم الجمعة، ويكون الجو لطيفًا يوم السبت» لكان محتوى (أ ب) التجريبي أكبر من المحتوى (أ) ومن محتوى (ب)، ومن ثَمَّ تكون احتمالية صدق أو حدوث (أ ب) أقل من احتمالية (ب)، ومن ثم نصل إلى:

(٣) ——— م ت (أ) < م ت (أ ب) > م ت (ب)

ولما كان هذا معاكسًا للقانون المناظر للاحتمالية، فإذا رمزنا للاحتمالية بالرمز (ح) نصل إلى:

(٤) ——— ح (أ) > ح (أ ب) < ح (ب)
الصياغتان (٣) و(٤) تقيمان الدعوى التي تُعَدُّ أحدَ المعالم الأساسية لمنطق التكذيب من حيث تجسيده خصائص العلم المعاصر، أي تزايد المحتوى المعرفي بتناقص احتمالية الصدق، وهذا المطلب الجريء الذي لا يتأتى إلا بالاستيعاب الكامل لتطورات العلم المعاصر وإبستمولوجيته، يقينًا من النظريات السفسطائية الخاوية التي يمكن أن يتحقق صدقها بكل حدث يحدث؛ لأنها لا تقول شيئًا، ولا تحمل أي خبر يمكنه تكذيبها إن لم يحدث، إنها يقين وفقًا للاحتمال الذاتي، وصِفْر وفقًا للاحتمال الموضوعي.١٢
ويمكن ملاحظة أن فئة محتوى العبارات العلمية حقًّا، تتضمن فئتين فرعيتين لها، هما:
  • فئة محتوى الصدق Truth Content وهي كل القضايا الصادقة التي يمكن اشتقاقها من العبارة، وجميع العبارات التي ليست تحصيل حاصل — حتى العبارات الكاذبة — لها محتوى صدق؛ إذ من الممكن استنباط عبارة صادقة من أي عبارة كاذبة، مثلًا عن طريق الدالة الانفصالية (ق أو ك) التي تتخذ الصورة المنطقية (إما ق أو ك)، فإذا كانت (ق) هي العبارة الكاذبة، يمكن أن نضيف إليها العبارة الصادقة (ك)، ونستنبط العبارة الصادقة (ق أو ك). ومثال آخر: إذا كان اليوم السبت، فإن العبارة «اليوم هو الأحد» عبارة كاذبة، ولكن يمكن أن نستنبط منها العبارة الصادقة «اليوم ليس الاثنين» و«اليوم ليس الثلاثاء» … ولعل هذه هي الصورة المنطقية الدقيقة الحاسمة لتلك الحقيقة الميثودولوجية العامة المبهمة «والتي تعد عجيبة وطريفة في الوقت ذاته، ألا وهي أن الفرض قد يكون مثمرًا جدًّا، دون أن يكون صحيحًا، وهذا أمْر لم يَغِبْ عن بال فرانسيس بيكون».١٣
  • فئة محتوى الكذب Falsity Content: وهي فئة كل القضايا الكاذبة التي يمكن اشتقاقها من العبارة. والحكم بتكذيب العبارة فعلًا — وليس مجرد قابليتها للتكذيب — يعتمد على هذه الفئة، وإذا استطعنا أن نجعلها ليست فارغة فقد جعلنا النظرية مُكَذَّبة، وهي فئة محتوى ومضمون تبعًا للارتباط بين مقاييس المحتوى المنطقي ومقاييس المحتوى التجريبي الذي هو فئة المكذَّبات المحتمَلة للنظرية، من الناحية المنطقية صحيح أن العبارة الصادقة محتوى كَذِبها فارغ، ولكن العبارة الكاذبة محتوى صِدْقها ليس فارغًا تبعًا لإمكانية استنباط عبارات صادقة منها، وهذا برهان آخر على مدى ثقوب النظرة التي تقف على أن القابلية للتكذيب، وليس التحقق من الصدق هي المعيار، والخاصة المنطقية المميزة للعلوم.
وقد ميز بوبر أيضًا في المحتوى المنطقي، بين المحتوي المنطقي المطلق Absolute وبين المحتوى المنطقي النسبي Relative. فإذا رمَزْنا لفئة المحتوى المنطقي للعبارة (أ) بالرمز (١) ولفئة المحتوى المنطقي للعبارة (م) الصادقة منطقيًّا — أي تحصيل الحاصل — بالرمز (م)، ستكون (م) طبعًا فئة صفرية فارغة، ويكون التمييز بين فئتي المحتوى المطلق والنسبي كالآتي:
  • المحتوى المنطقي المطلق للعبارة (أ = ١، م) أي في حالة التسليم فقط بالمنطق، والمنطق قوانين صورية، كلها تحصيلات حاصل، لا تزيد شيئًا، فئة فارغة؛ لذلك كان محتوى العبارة مطلقًا.

  • لكن ثمة المحتوى المنطقي النسبي، وهو محتوى العبارة في حالة التسليم بمحتوًى آخر، كمحتوى العبارة «أ» في حالة التسليم بمحتوى (ي) مثلًا أي بمساعدة (ي)، فيمكن أن نرمز إلى المحتوى المنطقي النسبي هكذا (أ = ا، ي)؛ أي هو فئة كل العبارات القابلة للاستنباط من (ا) فقط بالنسبة لحالة وجود (ي) أو بمساعدة (ي).

المحتوى النسبي له أهمية كبرى في المعالجة الفعلية لمنطق العلم، فإذا كانت (ي) هي الخلفية المعرفية — أي بناء العلم — ولنرمز له بالرمز (ع)، في الوقت الراهن، ولنرمز له بالرمز (ت)، أي أن (ع ت) بناء العلم اليوم، وكانت العبارة (أ) افتراضًا مقترحًا الآن، فإن ما يعنينا منه هو محتواه النسبي (ا، ع ت) وليس محتواه المطْلَق، فقط محتوى العبارة (أ) بالنسبة ﻟ (ع) في الوقت (ت)، أي نهتم بالجزء من المحتوى الذي يتجاوز (ع ت) أي بناء علمنا اليوم، ويضيف إليه. ولما كانت المعالجة الفعلية تهتم أساسًا بتقديم العلم كان المحتوى النسبي يصلح تمامًا، فمحتوى العبارة الصادقة منطقيًّا — أي تحصيل الحاصل — فارغ، من ثم يجعل المحتوى النسبي للعبارة (أ) بالنسبة ﻟ (ع ت) صفرًا، إذا كانت (أ) تحتوى فقط (ع ت) أي بناء علمنا اليوم، أو الحصيلة المعرفية الراهنة، ولم تُضِفْ أي جديد. هذا إذن مِحَكٌّ جيد لاختبار الفروض الجديدة في العلم،١٤ وبرهان آخر على مدى ثقوب التكذيب، والمؤسف أن التحقق أكثر شيوعًا وذيوعًا ربما للإسقاطات المحيقة بالتكذيب، أو الكذب الذي يمثل تمامًا ما ينبغي على العلم أن يتجنبه.
وبالطبع المنطق هو الوسيلة الناجعة للبرء من كل الإسقاطات، ومعيار التكذيب ينطوي سلفًا على أن الصدق هو الغاية النهائية، والمبدأ التنظيمي لشتى الجهود العلمية، وقد تقدم بوبر بتصور منطقي جديد يكفل السير قُدُمًا نحو الاقتراب من الصدق أكثر وأكثر، ويجعلنا في مَأْمَن من مَغَبَّة أي سمة سلبية قد ترتبط بالكذب والتكذيب، هذا التصور المنطقي هو رجحان الصدق Verisimilitude الذي يعني أن النظرية أصبحت أكثر مماثَلة للصدق More Turthlikeness، وقد تُوُصِّل إليه عن طريق الربط بين مفهومين هما: مفهوم الصدق، ومفهوم المحتوى المنطقي؛ إذ لا يعني رجحان الصدق إلا «المحتوى المنطقي الأكثر اقترابًا من الصدق».

فالنظريات تتنافس في الاقتراب من الصدق، وكل إنجاز علمي هو تَوَصَّل إلى نظرية جديدة تلافت مواطن كذِب في سابقتها، فأصبحت أكثر منها اقترابًا من الصدق؛ ولهذا الاقتراب الأكثر قهرتها وتغلبت عليها، وأزاحتها من نسق العلم، وحَلَّت محلها، من هنا تكون القابلية للتكذيب هي عماد الاقتراب التقديري الأكثر أو الأفضل من الصدق، الذي هو تعبير عن التقدم العلمي المستمر، هذا الاقتراب التقديري الأكثر من الصدق هو ما يسميه بوبر «رجحان الصدق»، ولما كان يعني تلافي مواطن كذِب واقتراب من الصدق، كان — أي رجحان الصدق — يزيد بزيادة محتوى الصدق، ويتناقص بزيادة محتوى الكذب.

و«رجحان الصدق» مفهوم نسبي، يتعلق بالمناقشة العلمية المطروحة في الوقت المعين، والمنافسة بين الفروض وبعضها؛ لذلك فهو أساس للحكم بتفوق فرض على آخر، أو نظرية على أخرى، حين تتميز عليها برجحان صدقها، طبعًا رجحان صدق النظرية (ن٢) على النظرية (ن١) له شروط منطقية، وهي أن تكون (ن١) متضمنة في (ن٢) التي تفوقت عليها، وإلا ما أمكنت المقارنة بينهما، وأن تقول (ن٢) كل ما قالته (ن١)، ثم تتجاوزها فتفسر جميع الوقائع التي تفسرها (ن١)، ثم تستطيع أيضًا أن تفسر بعض الوقائع التي تفشل (ن١) في تفسيرها، ومن ثم ستكون أي معلومة تفند (ن١) تفند أيضًا (ن٢)، فيكون الحكم بتفضيل (ن٢) لا غبار عليه، وأخيرًا يجب أن تكون العبارات الصادقة التي يمكن اشتقاقها من (ن٢) أكثر من التي يمكن اشتقاقها من (ن١)، والعبارات الكاذبة أقل، وكل ذلك يعني أن (ن٢) أجرأ وأغزر في المحتوى المعرفي، أي أكثر قابلية للتكذيب، هكذا يتضح لنا أن النظرية الأكثر قابلية للتكذيب، هي الأقل كذبًا.

•••

وليس «رجحان الصدق» فحسب، بل أيضًا كل مفاهيم منطق التكذيب هي الأخرى نسبية، تتعلق بالمناقشة العلمية في الوقت الراهن، فيؤكد بوبر دائمًا أن «القابلية للتكذيب مسألة نسبية، مسألة درجات».١٥

هكذا يتضح أن فكرة القابلية للتكذيب كخاصية منطقية مميزة للنظرية العلمية، كانت ستبدو حمقاء، بل وبلهاء، لو أنها قدمت قبل ثورة النسبية والكوانتم في عصر التفسير الميكانيكي للكون، والذي ألقى نجاحه المبدئي في روع العلماء أن كل ما يحتاجون إليه هو بذل مجهود أكثر لتظهر الحقيقة النهائية في آخر المطاف سافرة على آلة كاملة.

إنهم سائرون صوب الحقيقة النهائية؛ لذلك فكُلُّ إنجاز علمي ناجح هو اكتشاف لحقيقة يقينية قاطعة، كيف إذن تُداني النظرية إمكانيةَ التكذيب كي تكونَ علمية؟ وطبعًا انهار كل هذا حين تَبَدَّى فشل التفسير الميكانيكي للكون، واتضح أن كل إنجاز علمي مجرد محاولة ناجحة، لكنها قابلة للتكذيب؛ لذلك تتلوها أخرى أكثر نجاحًا، أوَلَمْ نَنْتَهِ في الفصل الأول من الكتاب — الخاص بمنطق التقدم في العلوم الطبيعية — إلى أن خلاصة الدرس المستفاد من ثورتي الكوانتم والنسبية هي أن كل تقدم علمي فقط نسبي؛ أي أعلى من المرحلة السابقة، وهذا يعني أن المرحلة التالية بدورها تحمل إمكانية التقدم بدرجة أعلى، بهذا يتبدى جليًّا كيف أن منطق التكذيب من حيث استيعابه للإبستمولوجيا العلمية المعاصرة، إنما يتمثل آفاق التقدم العلمي المتوالي في تحديده للخاصة المنطقية للنظرية العلمية، أي العامل الثابت فيها من وراء كل تغير، إنه الثبات الخصب الوَلُود، أو الثبات الديناميكي إن جاز التعبير، وإنه لذلك استهْلَلْنا هذا البحث بتوضيح كيف أن منطق العلم منطق نظام ديناميكي، منطق للتقدم المستمر أو المتوالي.

وقبل أن ننتقل إلى الفصل التالي من الكتاب، لا يفوتنا التأكيد أن هذا التقدم المتوالي المستمر إمكانية قائمة في العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء، ما دامت قادرة على التميز بهذه الخاصة المنطقية.

هوامش

(١) يبدو أن بوبر سيظل هكذا ليس فقط في جيله، بل وأيضًا في أجيال عدة قادمة. فقد تألقت في الثمانينيات شخصية قيل إنها تصَدَّرَت فلسفة العلم ليتبوأ مركز بوبر الذي راح زمانه. إنه بول فييرآبند الذي درس الرياضيات والفلك والفيزياء، وأيضًا المسرح والأوبرا، ثم راح يكتب في فلسفة العلم منذ الخمسينيات. وهو يماثل بوبر من حيث عمق الإحاطة بظاهرة العلم وإمكانيات ودلالات النسبية والكوانتم، وأيضًا من حيث إنه تَرَكَ لغته الأم (الألمانية)، وأصبح يكتب بالإنجليزية؛ لأن فييرآبند يقوم بالتدريس في جامعات أمريكا، وبدراسة المجلدين اللذين شكلَا أهم أعماله، يتضح أكثر مدى تعملق بوبر وجبروت نفوذه في فلسفة العلوم الطبيعية، ذلك أن أعمال فييرآبند المدققة المجددة الواعدة، لا تعدو أن تكون هوامش على فلسفة بوبر، إما صراحة، وإما ضمنًا، فهو يدور حول المحاور التي أرساها بوبر، وينطلق من عناصر الفلسفة البوبرية بوصفها مبادئ الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة. وفي سياق أعماله يحرص دائمًا على العروج على بوبر واليوبرية، ثم يكرس النصف الأخير من الجزء الثاني لمناقشة فلسفة بوبر. انظر:
Paul K. Feyerabend, Philosophical Papers, Vol, 1: Realism, Rationalism An Scientifc Method, Vol. 11: Problems Of Embiricism, Cambridge University Press, 1981.
وفيما بعد توالت أعمال فييرآبند، أعمال فييرآبند: «ضد المنهج» و«العلم في مجتمع حر» و«وداعًا للعقل» و«ثلاثة محاورات في المعرفة» … لتحمل ثورة كبرى على البوبرية وانفلاقة بائنة عن عقلانيته النقدية، لكن بوبر هو الأصل والمنطلق الأول.
(٢) مجلة الثقافة العلمية، العدد «٧» المجلد الثاني، الكويت، نوفمبر ١٩٨٢، ص١١٦. فور مفكر فرنسي، كان وزيرَ تعليم متميزًا.
(٣) لما كان إكسلس عالمًا بيولوجيًّا، شديد الإعجاب والتأثر ببوبر، فقد أخرج بالمشاركة معه الكتاب التالي:
Karl. R. Popper & John Eccles, The Self And Its Brain, Routledge & kegan Paul, London, 1977.
(٤) د. يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر: منهج العلم … منطق العلم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة سنة ١٩٨٩. ص١٤.
ولسوف نعتمد في هذا الفصل من البحث على الباب الثالث: «معيار القابلية للتكذيب» من كتابنا هذا: (ص٣٣٣ : ٥١٤). وهو أول دراسة عربية على وجْه الإطلاق لفلسفة هذا الفيلسوف الرائد.
(٥) K. Popper. Conjectures And Refutations: The Growth Of Scientific Knowledge, Routledge & Kegan Paul, London, 5 The Impression, 1974. P. 33.
(٦) W. V. Quine, On Popper’s Negative Methodology, In The Philosophy Of Karl Popper, Op. Cit. Vol. II, P. 219.
(٧) ف. ناليموف، قبول الفرضيات العلمية، ترجمة أمين الشريف. مقال بمجلة «ديوجين» رسالة اليونسكو. العدد (٦٤). أكتوبر ١٩٧٩، ص٦.
(٨) انظر في تفاصيلها فصل «العبارات الأساسية» من كتابنا: فلسفة كارل بوبر، ص٣٧٧–٤٠٠.
(٩) Karl Popper, The Logic Of Scientific Discovery, Hutchinson, London, 8th Iprssion, 1976. P. 80.
(١٠) د. يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر، ص٣٤٤–٣٤٦.
(١١) Karl Popper, The Logic Of Scientific Discovery, P. 113.
(١٢) انظر الفرق بين التفسير الذاتي للاحتمال ومطابقته الفيزياء الكلاسيكية، وبين التفسير الموضوعي للاحتمال، ومطابقته الفيزياء المعاصرة كتابنا: العلم والاغتراب والحرية، ص٦٨–٧٤ وص٣١٣ وما بعدها.
(١٣) و. أ. بفردج، فن البحث العلمي، ترجمة زكريا فهمي، مراجعة د. أحمد مصطفى أحمد، دار النهضة العربية، القاهرة، سنة ١٩٦٣، ص٨٤.
(١٤) Karl Popper, Objective Knowldge: An Evolutionary Approach Clarendon Press, Oxford, 4th Impression, 1976. P. 48-49.
(١٥) K. Popper, The Logic Of Scientific Discovery, P. 122.
ولمزيد من التفاصيل انظر فصل «درجات القابلية للتكذيب» من كتابنا المذكور «فلسفة كارل بوبر» ص٤٠١–٤٢٥. حيث نجد درجة القابلية للتكذيب تتفاوت على أساس: علاقات الفئة الفرعية، والقابلية للاشتقاق، وعلى أساس درجة تأليف النظرية وأبعادها، وأيضًا العلاقة بين درجة القابلية للتكذيب وبين بساطة النظرية. «والبساطة» مفهوم، بل معيار مهم في فلسفة العلوم الطبيعية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤