الفصل السابع

إمكانية حل مشكلة العلوم الإنسانية

لقد بدا واضحًا كيف يطرح معيار القابلية للاختيار والتكذيب التجريبي أمام العلوم الإنسانية، وبمنتهى الدقة المستطاعة لمنطق العلم محكًّا حاسمًا لتحديد ما هو علمي دونًا عما هو لاعلمي؛ ليصبح من الممكن تحديد تخومها العلمية بما يحول دون تسرُّب الأيديولوجيات والفلسفات والإسقاطات التقويمية وأحكام الحس المشترك، وكل ما هو لاعلمي ينْجُم عن اقتحامه بِنِيَّة العلم: افتقاد الإحكام في المشروع العلمي، وافتقار للتقنين المنطقي الدقيق، ما يؤدي إلى تعارُض المسارات وتعرقُلها، والحيلولة دون تسارُع التقدم العلمي المرتهِن بتآزر الجهود وتكامُلها على النحو المتحقِّق بأجلى صورة في العلوم الطبيعية.

وإذا كانت هذه الخاصية المنطقية تتحقق على الوجه الأكمل — بداهةً — في العلوم الطبيعية، وعلى الأخص الفيزياء بحكم بساطة موضوعها، وعراقة ممارساتها، فليس معنى هذا أننا نَنْشُد تحقيقها، وبهذه الدرجة نفسها في العلوم الإنسانية، والتطويع لشروط الخاصة المنطقية المقنَّنَة والمقنِّنة لا يشْبِه بحال «وضع الآراء على سرير بروكرست؛ حيث تقطع أوصالها حتى يلائمها، بل هو أشْبَه بمَمَرٍّ أو ثُقْب لا يسمح إلا بعبور ما هو علمي محتجِزًا أمامه ما ينتمي لغير العلم، ما دام كان عاجزًا عن صوغ نفسه في فَرْض يَقْبل التحقق من صحته أو كَذِبه».١ فلسنا نطرح القابلية للاختبار والتكذيب — أي الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية — كهدف ينبغي إحرازه، بل هي بالأحرى مبدأ تنظيمي، لصوغ الفروض والحكم عليها بمنأًى عن التحيز والهوى وضغوط العوامل الخارجية، فيَكْفُل الخروج بنتائج «علمية» أنه مبدأ تنظيمي، كلما اقْتَرَبَتْ منه العلوم الإنسانية أكثر تآزَرَتْ جهودها أكْثَرَ لتمَثِّل متَّصِلًا صاعدًا عساه أن يَتَسَارَع.

إن هذا لا يعني أكثر من إمكانية إنجاز المشروع العلمي على نفس الأسس والحدود المنطقية للظواهر الطبيعية والإنسانية على السواء المشكلة معًا لمُجْمَل الكون الذي نحيا فيه، ونهدف إلى إحكام سيطرة العقل عليه بواسطة العلم التجريبي الذي أثبت نجاحًا لا يُمَارَى ولا يُبَارَى في هذا الصدد، لقد هدفنا إلى استغلال ما هو مشترك في الممارسة العلمية التي أثبتت نجاحًا واضحًا، أي البحث عما يَجْعَل من النسق نسقًا علميًّا، وليس فلسفيًّا، أو فنيًّا، أو قِيَميًّا، أو غيرها من طرق تعامل قوى الإنسان المبدعة مع عوالمه.

والواقع أن الخاصة المنطقية التي جعلناها حَجَرَ الزاوية لحل المشكلة لا تعدو أن تكون الصياغة المنطقية الصورية المقنَّنة الدقيقة، لما يُعْرَف بالسمة التجريبية التي هي العلاقة المسئولة مع الواقع، وقد أصْبَحَتْ خاصةً مميِّزةً للعلوم الطبيعية عبر ممارسات طويلة عريضة عريقة وراسخة، منذ أن أعلن فرانسيس بيكون البيان الرسمي لها، أي منذ ما يقرب من أربعة قرون خَلَتْ، ولا يجادل أحد في أن تجاوُز العلوم الإنسانية لِطَوْر الميلاد والنشأة والنمو، وأيضًا النضج راجِعٌ إلى أنها وَجَدَتْ أساليبها التجريبية الأمبيريقية وأَحْكَمَتْها، ويبقى أن مضاعفة درجة التقدم سوف تَعْتَمد على التقنين المنطقي والأشمل لهذه التجريبية؛ خصوصًا أن التكالب عليها أدى إلى جَعْل أنساق العلوم الإنسانية مفتوحة من جهة يَتَسَرَّب منها سيل التعميمات التجريبية بغير أن تؤسس رصيدًا متفقًا عليه في انفلاق ضار بين التجريب والتنظير، وتلك السمة التجريبية المقنَّنة التي هي قابلية الفروض العلمية للاختبار تطرح أمام العلوم الإنسانية مِحَكًّا لضبط التجريب بتوجيهه نحو فروض، فيمكن أن تؤسس رصيدًا متفقًا عليه، وتداني بين التجريب والتنظير.

أما عن التخلف النسبي للعلوم الإنسانية الذي عالجناه في الفصل الثاني من الكتاب لنلقاه مردودًا إلى افتقار التآزر بين التفسيرات، فإن بوبر يعبر عن هذا الافتقاد قائلًا: «بعض علماء العلوم الإنسانية غير قادرين، بل ولا يرحبون بالحديث بلغة مشتركة.»٢ وطبعًا معيار القابلية للتكذيب يرسم حدود الحديث المشترك، وتطبيقه المباشر أو الحرفي يعني أن ترفع العلوم الإنسانية تمامًا يدها عن النزعات الكلية، والتنبؤات التاريخية الواسعة النطاق، وأن تحيط بالمشاكل المطروحة فعلًا، كل واحدة على حدة بواسطة المنهج النقدي: الاختباري التكذيبي، وبهذه النظرة تغدو وظيفة العلوم الإنسانية والاجتماعية دراسة النتائج غير المقصودة، بل وغير المرغوبة للسلوك، بدلًا من التنبؤ بما سيجيء حتميًّا، وهذه الوظيفة ستجعلها تضع التنبؤات المشروطة القابلة للتكذيب، بدلًا من التنبؤات الواسعة النطاق غير القابلة له.٣ إن الطبيعة القابلة للتكذيب، أو التكذيبية للنظرية العلمية، تعني وضع القانون العلمي في صورة حوادث ممكنة، ما يعني إمكانية وضع القانون العلمي في صورة نافية، وتلك الوظيفة المذكورة تَفْتَح أمام العلوم الإنسانية إمكانية التوصل إلى مثل هذه القوانين، أو الفروض النافية؛ أي العلمية، ويعطي بوبر أمثلة على هذا: «لا يمكنك فرض الرسوم الجمركية على المنتجات الزراعية، وتقلل في الوقت نفسه من تكاليف المعيشة»، «لا يمكن تحقيق العمالة الكاملة دون أن يتسبب ذلك في حدوث التضخم»، «لا يمكن في المجتمع ذي التخطيط المركزي، أن يؤدي نظام الأثمان فيه نفس الوظائف الرئيسة التي تؤديها الأثمان القائمة على المنافسة» «لا يمكن أن تقوم بثورة دون أن ينشأ عنها اتجاه رجعي»،٤ هذه الوظيفة أيضًا ستجعل التطبيق؛ أي التِّقانة أو التكنولوجيا تَعْقُب المعرفة الاجتماعية والإنسانية كما تَعْقُب المعرفة الطبيعية، ويلخص بوبر رأيه بأن التقانة الاجتماعية المطلوبة هي التقانة التي لها نتائج يمكن اختبارها بواسطة الهندسة الاجتماعية الجزئية Social Piecemeal Engineering المناهضة للتغيير الكلي الثوري كالماركسي، هذه المشاريع الأيديولوجية الواسعة النطاق والمفتوحة الحدود تخرج عن مجال وسيطرة العلوم الإنسانية، وإذا اعترض أنصار سوسيولوجية المعرفة بأن هذا ليس هو المطلوب، وأن مشكلة العلوم الاجتماعية ليست في أنها لا تتوصل إلى نتائج تطبيقية عملية، وإنما في أنها تتعامل مع مشاكل معقَّدة، ومتداخِلة في الميادين النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإن بوبر يرد عليهم بأن كل المشاكل والوقائع المَعْرفية مُعَقَّدة ومتداخِلة كما سبق أن أوضحنا، أو بالأحرى كما سَبَقَ أن أَوْضَحَت الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة، المهم أن البحث يبدأ من فَرْض توصل إليه العالم من أي طريق كان، وعليه أن يختار الفرض القابل للتكذيب كي يضمن استمرارية التقدم، أما التطبيق العلمي فهو لا يعادي المعرفة النظرية، بل هو حافز لها.٥

•••

كل هذه الإمكانات التي تطرحها الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية أمام العلوم الإنسانية لا تشترط قبلًا إلا إمكانية العلم بالظواهر الإنسانية والاجتماعية، ولا يلزم هذا أكثر من التسليم بأن تلك الظواهر الإنسانية ليست قائمة في ملكوت السماوات أو عالم الغيب، بل هي قائمة في عالم الشهادة، إنها ظواهر مُنْدَرِجة في بيئتنا: العالم الذي نحيا فيه، والذي أثبت منطق العلم التجريبي أنه أصْدَق من يأتينا بخير عنه، وأكفأ من يقوم بمحاولة وَصْفه وتفسيره في سلسلة متتالية كل حلقة أنجح من سابقتها.

ومع هذا فإن تلك الإمكانات الرحيبة أمام العلوم الإنسانية، ومجرد الاستفادة من الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية سوف يواجهها رَفْضٌ واعتراض يَتَّخِذ صورًا شتى وتكرر كثيرًا، وشاعَ وذاع ربما لحد الملالة. «وقد يكن مبعثه أن العلوم الطبيعية تجاوَزَت العلوم الإنسانية إلى حد بعيد، ومن ثَمَّ تحيط بنا الخشية من السقوط في التبعية.»٦ فينهض المرجفون رافضين لهذا رفضًا للنموذج الطبيعي، الذي يَرُدُّ العلوم الإنسانية إلى العلوم الطبيعية أو يَخْتَزِلها في حدودها لتغدو امتدادًا مُلْحَقًا بها، وذيلًا لها.

والواقع أن الخاصة المنطقية لا تنطوي البتة على أي رَدٍّ أو اختزال، بل ولا تتعلق بهذا إطلاقًا، ذلك أن هذا المشروع الردي الاختزالي هو مشروع الإبستمولوجيا الكلاسيكية وتفسيرها الميكانيكي، فالكون آلة ميكانيكية ضخمة مُغْلَقة على ذاتها، ونظام من مادة وطاقة يسير بفعل علله الداخلية، ويحوي أنظمة أخرى أصغر قليلًا أو كثيرًا كلها علية ميكانيكية، ونظرًا لليقين والضرورة والقطعية … إلى آخر عناصر الحتمية التي تَغْمُر هذا التفسير الميكانيكي، فقد غالَوْا في فكرة الرد هذه أو الاختزال، حتى أرادوها تشمل كل إنجاز عقلي جدير بالاعتبار، حتى الأيديولوجية ذاتها التي نهدف للحيلولة بينها وبين العلم، كانت مصطلحًا — كما أشرنا — استحدثه دي تراسي عام ١٧٩٧ ليبشر بنظام سياسي واجتماعي جديد يقوم على العلم الجديد بدلًا من كل ترهات الماضي التي كانت لا علمية، وهذه الأيديولوجية فرع من علم الحيوان المردود إلى الفيزياء، وهو فرع يختص بالقدرات العقلية لواحد من الحيوانات العليا وهو الإنسان! على ألا تكون هذه الدراسة متصلة بطبيعة المعرفة كي لا نقع من جديد في أحابيل الفلسفة والإبستمولوجيا، إلى كل هذا الحد سيطر الوهم الردي على العقول في العصر الكلاسيكي، والرد لا يتأتى إلا في قالب حديدي هو «العلم الموحد» أو «وحدة العلم». و«العلم الموحد» هو الرديف الإبستمولوجي المطابق لتصوُّرٍ أنطولوجيٍّ يجعل الكون آلة ميكانيكية مغلقة.

ورغم انقضاء العصر الميكانيكي وانهيار الإبستمولوجيا الكلاسيكية، فإن الوطأة الثقيلة المهيبة لمشروع العلم المُوَحَّد جعلَتْه يظل ماثلًا، حتى نهايات القرن العشرين، مع أن الإبستمولوجيا المعاصرة لا تستدعيه، ولا تحمل له مبررات، وقد راعينا هذا فيما سبق، حين تعرضنا لتصنيف العلوم النسقي تبعًا للعمومية المنطقية للمحتوى المعرفي إلى ثلاث مجموعات كبرى، أَوْضَحْنا أن هذه مسألة قواعد منطقية للعلاقات النسقية بين العلوم، ولا تعني ردًّا أو اختزالًا، وطبعًا لا علاقة لها بشرف العلم، ومكانته وسُمُوِّه — تبعًا لشرف موضوعه — تلك الفكرة التي سادت تقسيم العلوم في العصر الوسيط، وتبخَّرَتْ مع مطالع العصر الحديث وإشراقة العلم الحديث؛ لتغدو كل العلوم متساويةً في الشرف والمكانة، ثم في الاستقلال، بل وحرصنا طوال البحث على تعقُّب فلول الرد مثلًا حين رَفَضْنَا اعتبار الرياضة لغة كل العلوم، وتعقَّبْنا حتى بقاياه العالقة بالسلوكية بجلال قَدْرها، ورغم فضلها العظيم في تطور علم النفس.

لكن لأن الإبستمولوجيا الكلاسيكية لا تزال تنازع الإبستمولوجيا المعاصرة حتى الآن، فإننا نجد العلم الموَحَّد، وحتى الثمانينيات من القرن العشرين لا يزال بدوره موضوعًا لخلافٍ حادٍّ، وبغية توضيح أُطُر هذا الخلاف يُمْكِن حَصْره بين طرفَيْن متضادَّيْن: روبير بلانشيه كمدافع قوي عن وحدة العلم، وجوزيف مارجوليس كأشد الرافضين لها إصرارًا وإمعانًا، ولكن لم يَجِد بلانشيه ما يقوله سوى: «وحدة العلم قد غدت واقعًا معترَفًا به على مستوى الممارَسة اليومية للعلم، فأصبحت تشغل اليوم كذلك مكانًا مهمًّا في فلسفة التجريبية المنطقية»٧ أي الوضعية المنطقية التي سادت في أواسط القرن العشرين، ثم بادت.
ذلك أنه وبطبيعة المواقف الحَدِّية المتطرفة للوضعية المنطقية في تحمُّسِها المشبوب لكل ما له علاقة بالعلم، نلقاها وقد تحمَّسَتْ بدَوْرها تحمُّسًا مشبوبًا بزَّت به الجميع لمشروع العلم الموحد، حتى يمكن اعتبارها المتحدثة الفلسفية الرسمية باسمه، فقد وَجَدَ ذلك المشروع أصفى وأنقى صياغة له في مخططاتهم لبناء «اللغة الفيزيائية Physical Language»، بوصفها لغة عمومية للعلم، وأي لغة لأي مجال فَرْعِي في العلم — بمعنى لأي علم آخر غير الفيزياء —يمكن أن تُتَرْجَم إلى لغة العلم هذه، وبصورة مكافئة تمامًا لصورتها الأصلية، بناء على هذا نستنتج أنَّ العلم بنية واحدة تكاملية مركزية، لا نجد داخلها مجالات لمواضيع ذات تبايُن جوهري، وتبعًا لهذا لا نجد هوة بين العلوم الطبيعية أو الفيزياء، وهي الحد الأعلى للبنية، وبين العلوم السلوكية، وهي الحد الأدنى.٨
هذه اللغة الفيزيائية تَكَفَّل ببنائها الوضعيِّ المنطقيُّ الأكبر رودلف كارناب R. Carnap (١٨٩١–١٩٧٠)، وفي البداية عاونه الوضعي المنطقي عالم الاقتصاد أوطو نويراث O. Neurath (١٨٨٢–١٩٤٥).٩ إنهما كسائر أعضاء فيينا — منشأ الوضعية المنطقية — تأثُّرًا بالتقدم الرهيب لعلم الفيزياء، فأراداه علم العلم والعلم الواحد الذي لا عِلْم سواه «وهذا ما يسمى بالنزعة الفيزيائية Physicalism»، ومن ثم تكون لغة الفيزياء هي اللغة العلمية الواحدة للعلم الموحد، هذه اللغة تتمتع بخاصة تجعلها كلية عمومية Universal يمكن أن يقال فيها كل شيء له معنًى تبعًا لمطابقة الوضعيِّين المناطِقة بين المعنى والعلم، وبين اللاعلم واللغو! إنها اللغة التي تتحدث عن الأشياء الفيزيائية وحركاتها في الزمان والمكان، وكل شيء إنما يمكن التعبير عنه أو ترجمته في مصطلحاتِ هذه اللغة، حتى — بل خصوصًا — علم النفس على قَدْر ما هو علم، أما مشكلة أُسُسه فهي:
  • هل يمكن رد مفاهيم علم النفس إلى مفاهيم الفيزياء بمعناها الضيق؟

  • هل يمكن رد قوانين علم النفس إلى قوانين الفيزياء بمعناها الضيق؟

والإجابة أجل، الرد بالإيجاب ليصبح علم النفس فقط علم السلوكيات، وتصبح كل عبارة ذات معنًى — أي علمية — قابلة للترجمة إلى عبارة حول الحركات الزمانية المكانية للأجسام الفيزيائية، أي للغة الفيزياء أو لغة العلم الموحد، تلك هي اللغة التي حاول رودلف كارناب أن يبني لها بناء نسقيًّا منطقيًّا، ويضع قواعد الصياغة فيها أو قواعد التحويل إليها والاستنباط منها، وكتب يقول: «إذا كنا سنتخذ لغة الفيزياء كلغة للعلم، بسبب خاصيتها كلغة كلية، فإن جميع العلوم ستتحول إلى الفيزياء، وسوف تُسْتَبْعَد الميتافيزيقا على أنها لغو، وتُصْبِح العلوم المختلفة أجزاء من العلم الموحد.»١٠
وقد لاقت لغة العلم الموحد عند كارناب خصوصًا، والوضعية المنطقية عمومًا، نقدًا مريرًا لا يُبْقِي ولا يَذَرُ من كارل بوبر، ولا غرو، فأوتونويراث يلقبه بالمُعارض الرسمي للوضعية المنطقية.١١ إن بوبر يؤمن بوحدة المنهج — بالمعنى الفلسفي العام، وليس الإجرائي المتعيِّن — بين العلوم الطبيعية والإنسانية، ليس هذا فحسب، بل إنه يرى المنهج العلمي من المنظور الأشد عمومية، وهو عند بوبر منهج المحاولة والخطأ، إنما يحكم شتى محاولات الكائن الحي في التعامل مع بيئته، ولكن ليس يستدعي هذا رَد العلوم جميعًا كما في مخططات الوضعيين — أو سواهم — الدءوبة لبناء العلم المُوَحَّد، الذي ترتكز نهاياته على قضايا علم النفس السلوكي الجزئية، وترتد أولى بداياته إلى نظريات الفيزياء البحتة.

وليس بوبر في هذا متفردًا، بل هو سائرٌ في اتجاهٍ عامٍّ يستهدف التخلص من رواسب الإبستمولوجيا الكلاسيكية الميكانيكية الحتمية، التي بانهيارها انتهى المشروع الردي، وفقد كل مبرراته، ولأن بحثنا هذا قائم منذ البداية من أجل تجاوُزها، واستنفدنا الجهد طواله للِّحاق بالإبستمولوجيا المعاصرة، كنا أكثر الجميع طُرًّا رَفْضًا للمشروع الردي.

فيمكن أن ننتقل إلى الطرف المقابل للرديِّين، إلى جوزيف مارجوليس على الرغم من اختلافات ما بين مُسَلَّمَات هذا البحث ومُسَلَّمات تفكيره. فعمله الضخم (علم بغير وحدة) من أحدث وأعنف وأجرأ الهجمات الموجهة لفلول المشروع الردي، وهو يَسِم كتابه بأنه «دفاع حارٌّ عن التشعب، ورفض تامٌّ للوحدة، وثمة ما هو أكثر من هذا، أو أننا ننتوي ما هو أكثر من هذا، وذلك أنه حتى لو كنا سنُسَلِّم بأن مشروع وحدة العِلْم لم يَعُد ذا وجود حقيقي كاختيار حيوي، وأن الاستسلامات التي توالت منذ أوان مجده قد مسخته تمامًا، وحتى لو كان السؤال عن المنهج قد سقط فعلًا من الاعتبار بوصفه شفرة مدوَّنة للولاء لفئةٍ ما فرعية للمعتقدات الأساسية التي تَسَلَّمْنَاهَا من زمان أسبق، فلا بد أن نستغل بتعمد ميزة المُوَجِّه المساعِد على الكشف الكامنة في استحضار المناظَرات القديمة بغير الوقوع في شَرَك العبارات الاصطلاحية الأسبق.»١٢ وإذ نفعل هذا سنلقى كما يقول مارجوليس «معنيين للتشعب». فإذا عارضنا وحدة العلم، فإن التشعب — أي ما هو ضد الوحدة — سوف يسود، أما إذا كانت وحدة العلم قد اضمحَلَّتْ فعلًا فإن التشعب يشير إلى نَقْد أحر دعاوى الوحدة، حتى في قَلْب مجال النماذج التي ينبغي أن تكون للعلوم الفيزيائية، وذلك هو المغنم الأعظم، وإذا سَلَّمْنا بهذا فكل مشاريع العلم هي بحسم إنجازات إنسانية. فالعلم بعد كل شيء هو بصفة جذرية إنساني، وكل أنظمته الجديرة بالإعجاب نصونها نحن البشر، نصونها تحت الظروف التي تجعلها أكثر في الإعجاز وفي الروعة مما يتصور معتنِقو دعاوى الوحدة.١٣ حسنًا، ولكن لماذا ينعت مارجوليس النماذج بأنها «ينبغي أن تكون» للعلوم الفيزيائية؟

•••

فلربما يستمر الاعتراض والرفض، على أساس أن تحرَّر العلوم الإنسانية من الرد إلى العلوم الطبيعية، ووقوفها في نسق العلوم، وقوف الأنداد قد ينطوي هو الآخر على فرْض النموذج الطبيعي، بمعنى أن ينتهي الرد إلى العلم الموحد، وأن تتشعب العلوم ما شاء لها التشعب، وتستقل ما شاء من استقلال، على أن يظل النموذج الطبيعي هو المثال الذي ينبغي أن يحقِّقه كل علم، و«رفض النموذج الطبيعي» شعار رفَعَ لواءه الفينومينولوجيون، وتسابَقَ لحَمْلِه كثيرون، يفعلون هذا بغير تدبُّر كافٍ، ومن أجل رَفْض النموذج الطبيعي قد يعزفون عن الاستفادة من مجرد الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية.

والواقع الآن أن ما يسمى «النموذج الطبيعي» مرفوض في العلوم الطبيعية، وفي قلب الفيزياء ذاتها رفضًا للنموذج النيوتني، الذي انهار تحت وطأة جسيمات الذرة، ومجرد التفكير في الكون مع النسبية يناقض التفكير في أي نموذج، اللهم إلا إذا كان من الممكن ومن المجدي بناءُ عَدَدٍ لا محدود من النماذج لهذا الكون، كل نموذج يُصَوِّر الكون بالنسبة لواحد من عَدَدٍ لا محدود من المواقع المختلفة والأزمنة والأمكنة والسرعات المختلفة للراصدين، ثم كان تطَوُّر علوم الذرة ليؤكد فكرة اللانموذج، فقد حاز نموذج رزرفورد E. Rutherford (١٨٧١–١٩٣٧) للذرة، الذي يشبه — إلى حدٍ ما — النظام الشمسي شهرة ذائعة، وفيه تَتَأَلَّفُ الذرة من نواة تَقَعُ في المركز، ويدور حولها عدد من الإلكترونات في مدارات مختلفة، ورغم الشهرة الذائعة لهذا النموذج والمكانة العظمى لواضِعِهِ فإنه نموذج يعاني من عيوبٍ كثيرة، والاقتباس التالي يوضحها: «العيب الأول يخص الإشعاع الصادر عن الإلكترونات التي تدور حول النواة، فحسب النظرية الكلاسيكية فإن على الإلكترونات كجسيمات مشحونة تسير في سرعة دورانية، أن تُصْدِر إشعاعات كهرومغناطيسية بصورة مستمرة، وعندما يُصْدِر الإلكترون إشعاعات، فإنه يَفْقِد جزءًا من طاقته، وهذا يؤدي بدوره إلى جَعْلِه يقترب من النواة في المركز، ويزيد في سرعته الدورانية، وهكذا فالإشعاع المستمر يؤدي إلى دوران يقترب فيه الإلكترون باستمرار نحو النواة (دوران حلزوني) إلى أن يلتَصِق بها، إذن يجب أن تلتصق كل الإلكترونات مع النواة في نهاية الأمر. وهذا يعني انهيار الذرة وانهيار الكون كله، والعيب الثاني للنموذج أنه يتنبأ بإصدار شعاع كهرومغناطيسي ذي طيف متصل، وهو ما يتناقض مع التجارب الطيفية العديدة المتوافرة.»١٤
وقد حاول العالِم الدانماركي نيلز بور أن يتدارك هذا بوضع نموذج آخر للذروة نشره عام ١٩١٣، وطَرَأَتْ عليه بعض التحسينات خصوصًا على يد العالِم الألماني زومرفيلد، وهو أستاذ هيزنبرج. يقول العالم الفيلسوف هنري مارجينو أستاذ الفيزياء البحتة بجامعة بل: «ترسخ درس اللانموذج نهائيًّا بعد أن فشلت آخر محاولة لبناء النماذج، وهي نظرية بور في فهم العالم الأصغر. في حدود النماذج التي تتضمن الحركة المألوفة للميكانيكا المرئية، وأخطر نواحي فشلها عجزها عن التنظير لأطياف الذرات التي لها أكثر من إلكترون واحد.»١٥ وهكذا ثبتت عبثية فكرة النموذج كأصل وفروع، كفكرة وتطبيق، في عالم العلم، ولكن هل النماذج شيء مهم؟ إنها قد تكون مهمة في مدارس الأطفال والصبية، ولكنها ليست هكذا في مدارس الفلاسفة والعلماء، إن الذرة وعالَمها الأصغر والعالم الأكبر … هذا مُتَصَوَّر ومفهوم الآن فهمًا يزداد دقة يومًا بعد يوم، بغير حاجة إلى نماذج، ينبغي أن تكون ثَمَّةَ مَقْدِرة أكبر على التجريد.١٦

إذن ليس ثمة نموذج مفروض، فليس ثمة نموذج أصلًا، ولا وصاية على علم، ولا وحدة حديدية تَرُدُّها جميعًا إلى الفيزياء، إنها فقط الأسس المنطقية الصورية من حيث هي متبلورة في الفيزياء، لتكفل تآزُر الجهود، وتكاتُف الأنشطة، وبالتالي تسارُع التقدم.

إن هذا التآزر النسقي المنشود ينبغي وأن يتحقق على أكمل وجْه في نظرية المنهج العلمي، ومنطقه التجريبي، من حيث هو متحقِّق في البحث العلمي ذاته، فالبحث العلمي هو النموذج الأمثل على الجهد الجمعي التعاوني، كما تشهد طبيعته، ويشهد واقعه على مستوى الممارسة، ومستوى الفكر، ومستوى النظر، بل ومستوى الرسميات، ومنذ أن بَشَّرَ بيكون بهذا في «أطلانطس الجديدة» المدينة العلمية الفاضلة، حتى تم اعتمادُه رسميًّا بنشأة الجمعيات العلمية إبان القرن السابع عشر، خصوصًا الجمعية المَلَكِيَّة في لندن وأكاديمية العلوم في باريس، وصِيغَ نهائيًّا «حين استبدل القرن الثامن عشر بفكرة العلم مفهومًا على أنه إنجاز شخصي وعقلي، فكرة الموسوعة التي تهدف إلى تجميع المعارف المتفرقة على ظهر البسيطة»،١٧ وكان أحد انعكاسات هذا في القرن الثامن عشر أن تكاتف علماء فرنسا أجمعين — بريادة العلماء ذوي الاستبصارات الفلسفية — لإنجاز هذه الموسوعة.
وبمرور الأيام وتواتُر التقدم العلمي يزداد العلم إمعانًا في طابعه الجمعي التعاوني، بالمنظور الرأسي وبالمنظور الأفقي، المنظور الرأسي يعني استناد كل إنجاز علمي إلى الأعمال السابقة في ميدانه منذ الرائد الأول جاليليو، فلولا أبحاث أرشميدس في العصور القديمة لما كانت بحوث جاليليو التي لولاها لما كان نيوتن، فضلًا عن الأسبقية المباشرة لأبحاث روبرت هوك ذي العبقرية التجريبية الفذة متعددة الجوانب، حتى قيل: إن بعض أعمال نيوتن مَحْض صياغة تجريبية لما قاله هوك.١٨ «وأعمال مدام كوري مثلًا لم تكن ممكنة لولا اكتشاف بيكريل لإشعاع اليورانيوم، وقد استلزم اكتشاف هذا الإشعاع مساعدة من التصوير الشمسي، ويفترض هذا الأخير بدوره اكتشاف التأثير الفيزيوكيميائي وهكذا».١٩
أما التعاون الأفقي فهو بين الأفرع المختلفة من العلوم، وفقًا للتقسيم السابق إلى ثلاث مجموعات: فيزيوكيميائية وحيوية وإنسانية، وفي المرحلة الزمانية نفسها، كما نلاحظ مثلًا في الفيزياء الفلكية والكيمياء الفيزيائية من ناحية، والكيمياء الحيوية والكيمياء العضوية من الناحية الأخرى، بل واللافت والمثير حقًّا أن العلوم الإنسانية بحُكْم مَوْقِعها وتعقُّد ظواهرها واستفادتها من المجموعتين السابقتين عليها والأكثر عمومية، نقول إن العلوم الإنسانية أكثر من سواها توغلًا في هذا التعاون الأفقي، بحيث يتجلى بصورة أوضح، فنجد مثلًا علم النفس الفيسزيولوجي؛ حيث استفادة السيكولوجيا من الفيزيولوجيا، أو علم النفس الاجتماعي؛ حيث يتعاوَن ويتآزَر علما النفس والاجتماع، أو الجغرافيا الاقتصادية؛ حيث يلتقي عِلْمَا الجغرافيا والاقتصاد … وهكذا «ولا يمكن لعلمَي الاجتماع: الصناعي والمدني أن يَضْرِبا صَفْحًا عن معرفة البِنَى الاقتصادية، فَعِلْم النفس الاجتماعي مثلًا حين يَدْرُس العلاقات بين الجماعات الصغيرة لا يمكن أن يكون منفصلًا عن دراسات أَوْسَع للأحوال الاقتصادية أو لتاريخ التيارات الفكرية التي أَثَّرَت على الأشخاص الذين يستأثرون باهتماماتنا، ويخضع كشف النقاب عن مجال جديد لنتائج اكتُسِبَت في الماضي، أو في فروع أخرى من العلم، فجذور الراديو والتليفزيون تمتد إلى عمَل هيرتز Hertz في الإشعاع الكهروطيسي، وهو عمل نَتَجَ عن رغبة من التثبت اختباريًّا من نظرية ماكسويل Maxwell التي هي بِدَوْرها صهر للقوانين الكهروطيسية الاختبارية، والتي لم يكن بالإمكان فَهْمُها لولا بطارية فولتا Volta، واختبار أورستيد Orsted. وتُظْهِر هذه الأمثلة التي مَرَّ ذِكْرُها بشكل واضح وجودَ نوعَيْن من العلاقات: إحداهما أفقية، والأخرى عمومية، ويعود خصب العلم إلى التمازج المستمر بين مقتبسات الماضي ونماذج العلوم. فالتجميع والإخصاب المتبادل يُتِيحان للعلم التقدم تقدمًا متسارعًا باستمرار».٢٠

وما دامت أحد مفاتيح تقدُّم العلم وتعملُقه هو ما يتجسد في واقِعِه وممارَسَتِه مِنْ تآزُر وتعاوُن واستفادة متبادَلة، فكيف لا يتأكد هذا، ويتعمق بالتآزر والاستفادة المتبادلة على مستوى العلاقات النسقية والخواص المنطقية، والتي لا تفرض وصاية على علم، أو تصادر على حدوده، بل على العكس تُسَاهِم في تجاوُز مشكلاته، وبالتالي تَفْتَح أمامه مجالات التقدم، أو تسارع معدلاته.

والعلم كلما ازداد تقدمًا، ازداد تشعُّبًا، وفي أول صفحة، بل وأول فقرة من كتابنا هذا، نَوَّهْنَا إلى الظاهرة اللافتة للنظر في الآونة الأخيرة، وهي أن العلوم الطبيعية، وأيضًا الإنسانية تشهد كل يوم نشأة فروع جديدة، وأيضًا استقلال مباحث جزئية في هيئة علم مستقل، فليتشعب العلم ما شاء له التشعُّب، وكلما ازداد تقدمًا سيزداد تشعبًا، وطبعًا هذا حَسَن، ومدعاة لمزيد من إحاطةٍ أدق بالظواهر، لكننا نتساءل: أليس الأفضل والأدعى إلى إحاطةٍ أَدَقَّ أن يجري هذا التشعب على أُسُسٍ مشترِكة تَكْفُل تقنينًا للمشروع العلمي، على كلِّ هذا تغدو الاستفادة من الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية في حل مشاكل للعلوم الإنسانية مشروعة، بل ضرورية، ولا ينطوي على أكثر من التسليم بإمكانية العلم بالظواهر الإنسانية، فعلامَ يعترضون وماذا يرفضون؟

ولا شك أن الرديِّين (الاختزاليين)، وعلى رأسهم الوضعيون، ودعاة فَرْض النموذج الطبيعي، ووحدة العلم، وبعد انقضاء العصر النيوتني، هم في حالة انبهار تام بالفيزياء، انبهار من نَمَط يزيغ البصر، وهو موقف يُسَمَّى بالنزعة العلموية Scientism. يقول كارل بوبر: «إني أُقَدِّر تمام التقدير أهمية الكفاح ضد موقف التسليم الساذج بالمذهب الطبيعي، هذا الموقف الذي أطلق عليه الأستاذ هايك عبارة النزعة العلموية، ومع ذلك فلست أرى سببًا يمنعنا من استخدام هذا التماثل ما دامت فيه فائدة لنا، مع إدراكنا أن بعض الناس قد أساءوا استخدامه، وأخطئوا في تصوُّره إلى حدٍّ مُشِينٍ.»٢١ فلماذا رفض التمثيل والتماثل مع الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية، ما دامت فيه إفادة للعلوم الإنسانية، وحيلولة دون تَسَرُّب ما هو لاعلمي إلى داخل نسق العلم، ومَهْمَا أَثْقَلَت علاقة الباحث بموضوع بَحْثه، بخصوصية وإسقاطات أيديولوجية وقيمية وسياسية، فلديه مِحَكٌّ لصَوْغ فروض، والحكم عليها ليخرج بنتائج علمية، تضاف إلى نسق العلم، بموضوعية وبثقة.

•••

ورب قائل «إن هذه العلاقة أو الوشائج الإسقاطية والتربصية بالعلوم الإنسانية، لا تربط بين الباحث وموضوع البحث، خصوصًا أن الإبستمولوجيا المعاصرة عَلَّمَتْنا أن هذه العلاقة ذات تأثير حتى على الظواهر الفيزيائية، بل إن مكمن خطورتها في أنها تربط موضوع البحث، ونتيجة البحث العلمي بإسقاطات السياق الحضاري ككل، بالبِنَى الثقافية المختلفة، بعوامل خارجية عن حركة العلم.» هذا صحيح، لكن معيار القابلية للاختبار والتكذيب التجريبي يُلْزِم كلًّا بموقعه، من حيث يرسم حدودًا للمشروع العلمي لا يتخطاها إلا ما هو علمي ما هو إخبار عن الواقع، وبطبيعة الحال بقية عناصر البناء الثقافي العوامل الخارجية لن تتسرب بسهولة إلى المشروع العلمي؛ لأنها لا تستطيع اجتياز المواجهة الملتزمة المسئولة مع الواقع التجريبي التي يتطلبها اختبار التكذيب، ولا من المطلوب منها أن تجتاز هذا الاختبار، طالما أنه ليس مطلوبًا منها القيام بمهامِّ العلم والإخبار عن الواقع التجريبي، بل المطلوب منها مهامُّ حضارية أخرى، ربما كانت أَهَمَّ، فليس العلم — طبعًا — كُلَّ شيء، ولا حتى أَهَمَّ شيء، لكننا نعتقد أنه شيء مهم، ومن الأفضل أن يَشُقَّ طريقه، ويؤدي مهامه الدقيقة على الوجه المنشود.

إن الهدف من العلوم الإنسانية، ومِنْ حَلِّ مشاكلها هو حل مشاكل جَمَّة للواقع الحضاري، ليس من المستهدف البتة عزل العلوم الإنسانية عن واقع الحياة الإنسانية، ومتطلباتها وأهدافها. وليس من المطلوب إذعان مستور للأوضاع الراهنة يتذرع بالحياد الأكاديمي، ولا خضوع، بل تكريس له بزعم الموضوعية العلمية، ولا طبعًا إثارة الثورة عليه لمجرد الشغب والفوضى والرفض تحت اسم العلم المجيد، على هذا نستطيع التأكيد وبحسم على أنه ليس من المنشود البتة، ولا حتى من المقصود اجتثاث الأصول والجذور الحضارية للمشروع العلمي في المباحث الإنسانية، إن السياق الثقافي الحضاري القيمي رافِدٌ ضروري للمحتوى المعرِفِيِّ في العلوم الإنسانية، إن لم يكن مَنْبَعًا، وهو ذاته صلب موضوعها ومسرح ظواهرها، لكن إثراءها، وحل مشكلتها ومشاكل عديدة له، يتطلب التفاعل المثمر السليم بينهما، ويشترط هذا أن يكون كل في موقعه، كل لأداء دوره.

وإذا كنا توقفنا عند تشويهات الأيديولوجيا بالذات للعلوم الإنسانية، فقد أشرنا إلى أننا لا نعطيها في حد ذاتها أية دلالة سلبية، فهي مفهوم جوهري للجماعة الإنسانية. إن الأيديولوجيا كيان شديد الأهمية، وإذا كنا استعنا ببول ريكور لتوضيح طبيعة تشويهات الأيديولوجيا للعلم فإن ريكو نفسه يقول: «إن هذا الفساد والاختلال اللذين يلحقان بوظيفة الأيديولوجيا، لا ينبغي أن يخفيا عنا الدور الإيجابي لها، أي الدور البنائي التأسيسي الجيد الذي تلعبه في حياة الجماعة، ويجب علينا هنا أن نعيد التذكير بأن كل مجموعة إنسانية لا يمكن أن تتمثل وجودها الخاص إلا بواسطة فكرة وصورة نموذجية تصنعها عن ذاتها، وهذه الصورة هي التي تُؤَسِّس بدورها وحدتها وتماسُكها وتُقَوِّي إحساسها بهويتها الذاتية.»٢٢

وإحساسنا نحن بهويتنا الذاتية تصاعَد في الآونة الأخيرة، ويتخذ صورة صحوة قوية للحس الديني، ليغدو الإسلام العظيم خاتمة الرسالات السماوية، هو سبيل تحقيق الذات، ونشدان الهوية، وأسس المشروع الحضاري، وإطار الأيديولوجيا الأصولية والمستقبلية، وهذا شيء قد يكون محمودًا، خصوصًا في إطار مواجهة العولمة التي تهدد بمحو كل تنوعٍ وثراء وتمايُز حضاري، ولكن تنامت مؤخرًا الدعاوى إلى العلوم الإنسانية الإسلامية أو العربية، والذي يجب تأكيده — وبداهة من أجل صالح حضارتنا أولًا — أنَّ أسلمة العلوم الإنسانية أو الفيزيوكيميائية، لن يحمل في حد ذاته حلًّا لمشكلتها أو تقنينًا لمرحلتها التفسيرية، ومضاعفة لتقدُّمها، وبالتالي لن يزيد في حد ذاتها من إحاطتها بالواقع، وقدرتها على المساهَمة في حل إشكالياته، أجل لن يزيد من هذا شيئًا إذا ما غض النظر عن شروط العلم، أي خصائصه وقواعد منطقه، وأصوليات منهجه، ومن ناحيةٍ أخرى وإذا افترضنا أن ظواهرنا الإنسانية والاجتماعية ذات طبائع وحيثيات مختلفة عن الظواهر الغربية، وافترضنا أن النظريات العربية لا تحيط بها، فالمطلوب ومن أجل الإحاطة بها أن نضع نحن نظريات ملائمة لها، فتنجح في وصفها وتفسيرها، فلا بد إذن أن تكون هذه النظريات والفروض قابلة للاختبار والتكذيب التجريبي، لنتحقق من قُدْرَتها على القيام بالمهام المرجوة من العلم، وفي كل حال لا مندوحة لنا عن معايير المنطق، إن المنطق هو المعامل الموضوعي والقاسم المشترك الأعظم بين البشر أجمعين مهما تبايَنَت مشاربهم؛ لأنه قوانين العقل الإنساني من حيث هو إنساني، وبالتالي فإن منطق العلم هو قوانين العقل العلمي من حيث هو علمي.

وكما حرصنا على تحقيق هدف مؤداه ألا تقتحم البِنَى الحضارية والأيديولوجيا المشروع العلمي، فإننا نحرص أيضًا على ألا يقتحم منطق العلم البِنَى الحضارية والمشاريع الأيديولوجية، ومنطق العلم لا يملك حكمًا — لا قبولًا ولا رفضًا — لمشروع حضاري مُعَيَّن أو بنية أيديولوجية دون سواها، معنى هذا أنه لا خوف إطلاقًا على عناصر هويتنا القومية وقيمنا ومنطلقاتنا من صرامة منطق العلم ومعيار التكذيب، فإن المنابع الأيديولوجية في حد ذاتها مُحْتَمِيَة بحدودها، فحتى ولو كانت مصدرًا لفرض علمي، فإن الفرض هو فقط وفي حد ذاته الذي يخضع للاختبار التجريبي، يتم تكذيبه أو تعديله أو تعزيزه، أما المصادر الحضارية الكبرى فلا علاقة لمنطق العلم ومعاييره بها.

وقد انتهينا إلى أن الوقائع التجريبية والتعميم الاستقرائي لها ليس مصدرًا منهجيًّا للفرض العلمي، فهو يأتي من أي طريقٍ كان، المهم هو مضمونه، ومحتواه، وقدرته على حل المشاكل المطروحة، وإثارة مشاكل أخرى، ما دام فرضًا علميًّا قابلًا للاختبار والتكذيب، مَنْطِق العلم وأيضًا منهجه لا علاقة لهما بمصدر الفرض، بل فقط بالفرض ذاته، والفرض العلمي قد يستلهمه الباحث المبدع من الملاحظة التجريبية من الأيديولوجيات والفلسفات، قد يهبط من التراث، وقد يَصْعَد من حصائل الحس المشترك، وقد يأتي من طريقٍ آخر غير هذا وذلك …

وسيكون مغنمًا عظيمًا لنسق العلم ولبنائنا الحضاري، لو استطاع باحثونا في العلوم الإنسانية استلهام تراثنا الزاخر وواقعنا المُتَطَلِّع والخروج بفروض علمية قادرة على الإحاطة بالظواهر الإنسانية، فتُثْرِي نسق العلوم الإنسانية، وتُمَكِّنُه من طرح تفسيرات أكثر كفاءة، المهم فقط أن تصاغ من المصادر المتنوعة فروض تتحقق فيها الشروط المنطقية للسمة العلمية، أي يصاغ الفروض في صورة نظرية يمكن أن نستنبط منها قضايا جزئية، ندبر لها المواقف التجريبية لاختبارها، كما سَبَقَ أن أوضحنا بالتفصيل في الفصل الرابع من الكتاب، على أن تدبير المواقف التجريبية والاختبارات التكذيبية في العلوم الإنسانية لا يقتصر على المشاهَدات أو التجارب المعملية والميدانية فحسب — كما هو الحال في العلوم الطبيعية والفلك والجيولوجيا … إلخ — بل يتعداه إلى كل الوسائل الإمبيريقية المعروفة من أسئلة واستبيان واستبار ومقابلات وأقوال شائعة … وحتى ما تنشره الصحف اليومية … إلى آخر الأساليب المعروفة لباحثي العلوم الإنسانية تبعًا لتخصصاتهم المختلفة.٢٣

معنى هذا أنه يمكن أن يظل التراث والأيديولوجيا والحس المشترك والقيم … بالنسبة للعلوم الإنسانية رصيدًا هائلًا، ولكن لا يمكن استثماره إلا إذا تَحَوَّل إلى عملة قابِلة للتداوُل بين العلماء، فالمهم إذن أن يكون ثمة مِحَكٌّ مشترك يمكن الارتكان إليه للحكم على أهلية الفرض أو عدم أهليته للقيام بمهام العلم الإخباري، وتلك مهمة تؤدي داخل نسق العلم ذاته، بعبارة أخرى، معيار القابلية للاختبار والتكذيب التجريبي يحكم على مسير ومصير الفرض داخل نسق العلم ذاته، ولا يملك أيَّ حُكْم على مصادره الأيديولوجية، ومهما كانت وثيقة الصلة بالعلم، إنه مثلًا «لا يُفضي إلى الحسم بين قول الماركسيين، إن المجتمع في صراع، وبين قول الوظيفيين بأنه متوازن ومستمر، فهذا من شأن المنظورات الأيديولوجية، وكذلك الدعوى بالعلاقة الجدلية أو الزعم بالتكامل، فهذا من شأن الافتراضات الفلسفية.»

ولكن على الماركسيين والوظيفيين وغيرهم أن يستخرجوا من هذا الزعم أو ذلك ما يصلح أن يكون فروضًا علمية تَقْبل الامتحان، وتحتكم إلى المشاهَدات والتجارب، وقد تُؤَيَّد أو تُفَنَّد فروض من هذه النظرية أو تلك، بحيث تنضم الفروض الناجحة «أو التي اجتازت اختبارات القابلية للتكذيب، وتم تعزيزها» إلى شبكة نظرية أوسع قد تتجاوز حدود النظريات الأصلية، وتتخذ طريقًا خاصًّا للتطور. فهكذا يتأسس المشروع العلمي، ويرتفع صَرْح العلم شيئًا فشيئًا، وطابقًا فوق طابق.٢٤

هوامش

(١) د. صلاح قنصوة، في فلسفة العلوم الاجتماعية، ص٧٥.
(٢) K. Popper, The Open Society And Its Enemies, Vol. II. The High Tide Of Prophecy, Routledge, London, 1985. P. 209.
(٣) K. Popper, Conjectures And Refutations, PP. 120–135, 336.
(٤) كارل بوبر، عقم المذهب التاريخي، ترجمة د. عبد الحميد صبرة، ص٨٢-٨٣.
(٥) K. Popper, Open Society, P. 210.
(٦) د. صلاح قنصوة، في فلسفة العلوم الاجتماعية، ص٤٦.
(٧) روبير بلانشيه، نظرية المعرفة العلمية: الإبستمولوجيا، ترجمة د. حسن عبد الحميد، مطبوعات جامعة الكويت سنة ١٩٨٦، ص٩٨.
(٨) Roudolf Carnap. The Logical Syntax Of Lanaguage, Routledge & Kegan Paul, London. P20.
(٩) انظر في تفصيل دائرة فيينا وفلسفة الوضعية المنطقية، في: زكي نجيب محمود، الكتاب التذكاري الصادر عن جامعة الكويت، سنة ١٩٨٧، ص٧١–٩٨.
(١٠) Rudolf Carnap, The Logical Syntax Of Language, P. 322.
(١١) انظر في تفصيل نقد بوبر الساحق للوضعية المنطقية، وللغة العلم عند كارناب، كتابنا المذكور، فلسفة كارل بوبر ص٢٥٣–٣١٨.
(١٢) Margolis. Science Without Unity: Reconciling The Human An Natural Sciences, Op. Cit., 1987. P. (XIX).
(١٣) Margolis, Ibid, P. XXI.
(١٤) د. محمد علي العمر، مسيرة الفيزياء: على الحبل المشدود بين النظرية والتجريب، عالم الفكر، العدد الأول: المجلد العشرون، يونيو ١٩٨٩، الكويت، ص٧٣.
(١٥) H. Margenau, The Nature Of Physical Reality, Mc Graw Hill, New York, 1960. P. 307.
(١٦) لمزيد من التفاصيل والإثباتات انظر: (لانموذج) في كتابنا: فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، ص٤٥٥–٤٥٩.
(١٧) روبير بلانشيه، نظرية المعرفة العلمية، ت: حسن عبد الحميد، ص٩٥.
(١٨) See: J. J. Crowther, A Short Hiatory Of Leience, PP. 93–101.
وراجع الهامش ص٣٦ من هذا الكتاب.
(١٩) فلاديمير كورغانوف وجان كلود، البحث العلمي، ترجمة يوسف أبي فاضل وميشال أبي فاضل، منشورات عويدات، بيروت، سنة ١٩٨٣، ص٨٣.
(٢٠) المرجع السابق، ص٨٤.
(٢١) كارل بوبر، عقم المذهب التاريخي: دراسة في مناهج العلوم الاجتماعية، ترجمة د. عبد الحميد صبرة، ص٨٠.
(٢٢) بول ريكور، الخيال الاجتماعي بين الأيديولوجيا واليوتوبيا، ص٢٦.
(٢٣) من هذه الأساليب ظهر حديثًا أسلوب القياس التاريخي الذي يَعْتَمِد على كَمٍّ هائل من المعطَيات تتوافر في السجلات التاريخية انظر: دين كيث سايمنتن، العبقرية والإبداع والقيادة، ترجمة د. شاكر عبد الحميد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ١٩٩٣.
(٢٤) د. صلاح قنصوة، في فلسفة العلوم الاجتماعية، ص٧٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤