الغزل ووصف النساء

الغزل والتغزل والفرق بينهما١

قيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحدًا لا يشتهي النسيب؟

فقال: أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا!

والنسيب والتغزل والتشبيب كلها بمعنى واحد.

قيل: الغزل هو إلف النساء والتخلق بما يوافقهن، فمن جعله بمعنى التغزُّل فقد أخطأ. وقد نبه على ذلك «قُدّامة»، وأوضحه في كتابه «نقد الشعر».

وقال الحاتميّ: من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه، أن يكون ممزوجًا بما بعده من مدح أو ذم، متصلًا به غير منفصل منه، فإن القصيدة مثلها مثل خَلْق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد من الآخر وباينه في صحة التركيب، غادر بالجسم عاهة تتخوَّن محاسنه وتُعفي معالم جماله.

يا ليل الصبّ متى غده؟٢

من نوادر الطرائف ما ذكره «ابن بشكوال» في كتاب الصلة، كما ذكره الحميدي أيضًا، وهو: كان أبو الحسن علي الحصري القيرواني ابن خالة أبي اسحاق صاحب «زهر الآداب» حافظًا فاقهًا، وأديبًا عالمًا بالقراءات وطرقها.

وقد أقرأ الناس القرآن الكريم في «سبتة» وغيرها، وله قصيدة نظمها في قراءات نافع عدد أبياتها مائتان وتسعة، وله ديوان شعر، ومن قصائده السائرة القصيدة المشهورة التي أوّلها:

ياليل الصبِّ متى غدُهُ
أقيام الساعة موعدُهُ

وقد وازنها صاحبنا الفقيه نجم الدين موسى بن محمد الكناني أبو الفضائل المعروف بالقمراوي رحمه الله بأبيات من جملتها:

قد ملَّ مريضك عوده
ورثى لأسيرك حسّده
لم يبق جفاك سوى نفس
زفراتُ الشوق تصعده
هاروتُ يعنعنُ في السحر
إلى عينيك ويسندُه
وإذا أغمدت اللحظ فتكت
فكيف وأنت تجرِّده
كم سهّل خدُّك وجه رضا
والحاجب منك يعقِّده
ما أشركَ فيك القلب فكم
في نار الهَجْر يُخلِّده

أما قصيدة أبي الحسن على الحصري القيراواني فهي:

يا ليلَ الصبِّ متى غدُهُ
أقيام الساعة موعده
رقدَ السُّمار فأرَّقه
أسفٌ للبين يردِّدُهُ
فبكاه النجم ورق له
مما يرعاه ويرصده
كلف بغزال ذي هيف
خوف الواشين يشرِّده
نصبت عيناي له شركا
في النوم فعزّ تصيده
وكفى عجبًا أنِّي قَنِص
للسرب سباني أغيده
صنم للفتنة منتصبٌ
أهواه ولا أتعبده
صاحٍ والخمر جنى فمِه
سكران اللحظ معربِدُه
ينضو من مقلته سيفًا
وكأن نعاسًا يغمده
فيريقُ دم العُشاق به
والويلُ لمن يتقلده
كلّا، لا ذنب لمن قتلت
عيناه ولم تقتُل يده
يا من جحدت عيناه دمي
وعلى خدّيه تورُّده
خدّاك قد اعترفا بدمي
فعلام جُفُونك تجحدُهُ
إني لأعيذك من قتلِي
وأظنك لا تتعمدُهُ
بالله هبِ المشتاق كرى
فلعل خيالك يُسعده
ما ضرك لو داويت ضنى
صبّ يدنيك وتُبعده
لم يبق هواك له رمقًا
فليبك عليه عوّده
وغدًا يقضى أو بعد غدٍ
هل من نظر … يتزوّدُه
يا أهل الشوق لنا شرق
بالدمع يفيض مورّده
يهوى المشتاق لقاءكم
وصروف الدهر تُبعِّده
ما أحلى الوصل وأعذبه
لولا الأيام تنكِّده
بالبين وبالهجران، فيما
لفؤادي كيف تجلُّده
الحب أعفُّ ذويه أنا
غيري بالباطل يفسده

استحسان وضاءة الوجه٣

كان لعزّ الدولة غلام ذكي وضيء الوجه، ولفرط ميله إليه جعله رئيس سرية جردت للحرب، ولم يستحسن المهيلمي ذلك منه، فكتب إليه:

ظبي يرق الماء في
وجناته ويروق عوده
ناطوا بمعقد خصره
سيفًا ومنطقة تؤوده
جعلوه قائد عسكر
ضاع الرعيل ومن يقوده

وكانت الدائرة على جيش الغلام كما أشار المهيلمي!

وفي «خزانة الأدب» للبغدادي ج٣:

الجارية: جميلة من بعيد، مليحة من قريب، والجميلة هي التي تأخذ بصرك جملة، فإذا دنت منك لم تكن كذلك، والمليحة هي التي كلما كرَّرت بصرك منها زادتك حسنًا.

وقيل: الجميلة هي السمينة من الجميل وهو الشحم، والمليحة: هي البيضاء، والصبيحة كذلك، من الصُّبح لبياضه.

وروى أنس عن النبي أنه قال: «حسن الوجه مالٌ».

وقال عليه الصلاة والسلام أيضًا: «اطلبوا الخير عند حسان الوجوه».

وقال ابن عمر: قال : «ثلاثة تجلو البصر: النظر إلى الخضرة، والنظر إلى الماء الجاري، والنظر إلى الوجه الحسن».

ونظمها الشاعر فقال:

ثلاثة يُذْهِبْنَ للمرء الحزنْ
الماء والخضرة والوجه الحسن

كواكب لا كواعب

كان عبد العزيز بن سرايا، وهو الإمام العلامة شاعر عصره على الإطلاق، وقد أجاد القصائد المطولة والمقاطيع، وأتى بما أخجل زهر النجوم في السماء، كما قد أزرى بزهر الأرض في الربيع، تطربك ألفاظه المصقولة، ومعانيه المعسولة، ومقاصده التي كأنها سهام راشقة، وسيوف مسلولة.

وكان مولده يوم الجمعة خامس شهر ربيع الآخر سنة ٦٧٧ﻫ، ورحل إلى مصر سنة ٧٢٦، واجتمع بالقاضي علاء الدين بن الأثير ومدحه، كما مدح السلطان الملك الناصر بقصيدة وازى بها قصيدة المتنبي التي أولها: «بأبي الشموس الجانحات غواربا»، وفيها يقول:

أسبلن من فوق النهود ذوائبا
فتركن حبات القلوب ذوائبا
وجلون من صبح الوجوه أشعة
غادرن فود الليل منها شائبا
بيض دعاهنَّ الغبيُّ كواعبا
ولو استبان الرشد قال كواكبا
سفَّهن رأي المانوية عندما
أسبلن من ظلم الشعور غياهبا
وسفرن لي، فرأين شخصًا حاضرًا
شدهت بصيرته، وقلبًا غائبا
أشرقن في حلل كأن أديمها
شفقٌ تدرهمه الشموس جلاببا
وغربن في كللٍ، فقلت لصاحبي:
«بأبي الشموس الجانحات غواربا»
ومعربد اللحظات يثني عطفه
فيُخال من فرح الشبيبة شاربا
حلو التعتب والدلال يروعه
عتبي، ولست أراه إلا عاتبا
عاتبته فتضرجت وجناته
وازورّ ألحاظًا وقطّب حاجبا
فأراني الخدَّ الكليم فطرفه
ذو النون إذ ذهب الغداة مُغاضبا
ذو منظر تغدو القلوب بحسنه
نهبًا وإن منح العيون مواهبا
لا غرو إن وهب اللواحظ حظوة
من نوره، وغدا لقلبي ناهبا

كل فتاة بأبيها معجبة٤

أرجوزة للأغلب العجلي، يقول فيها:

كريمة أخوالُها والعصبه
قبّاء ذات سُرة مُقعّبه
كأنها حقة مسك مذهبه
ممكورة الأعلى رداح الحجَبَهْْ
كأنها حلية سيف مُذهبه
أهوى لها شيخ شديد العصبهْ
ثم انثنت به فويق الرقبهْ
فأعلنت بصوتها: أنْ يا أبهْ
«كل فتاة بأبيها معجبهْ»

أصل بليتي من قد غزاني٥

من روائع شعر عبد العزيز بن الحسين بن الحباب الأغلبي السعدي الصقلي المعروف بالقاضي الجليس — ما يدعو إلى الحكمة في غزله — وقد عاش نحوًا من سبعين عامًا، كما تولى ديوان الإنشاء للفائز مع الموفق بن الخلال، ومن مداعبته:

حيّا بتفاحة مخضّبة
من شفتي حبّه وتيّمني
فقلت: ما إن رأيت مُشبهها
فاحمرّ من خجلة فكذّبني

وقال أيضًا:

وأصل بليتي من قد غزاني
من السقم الملح بعسكرين
طبيب طبهّ كغراب بين
يفرِّق بين عافيتي وبيني
أتى الحمّى وقد شاخت وباخت
فعاد لها الشباب بنسختين
ودبّرها بتدبير لطيفٍ
حكاه عن سُنين أو حنينِ
فكانت نوبة في كل يوم
فصيَّرها بحذق نوبتين

وقال أيضًا:

يا وارثًا عن أب وجدّ
فضيلة الطبّ والسّداد
وحاملا ردّ كل نفس
همّت عن الجسم بالبعاد
أقسم لوْ قد طبيب دهرًا
لعاد كونًا بلا فساد

وقال من جناس بديع:

رُبَّ بيض سللن باللحظ بيضا
مرهفات جفونهن جفون
وخدود للدمع فيها خدود
وعيونٍ قد فاض منها عيون

وقال أيضًا:

حبذا متعة الشباب يُعـ
ـذر في حبّها خليع العذار
إذ بذات الخمار أمتع ليلي
وبذات الخمار ألهُو نهاري
والغواني لا عن وصال غوانٍ
والجواري إلى جواري جواري

تشبيب عمر بن أبي ربيعة

كانت عائشة ابنه طلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر مديدة الجسم، مكتنزة اللحم، على جانب وافر من الجمال، حسنة الصورة، وفي خلقها أنفة وعزة وصرامة، حتى أن أبا هريرة رآها يومًا فسبح وقال: كأنها من الحور.

وقد روى أبو الحسن المدائني، عن عمر وأبي طارق بن المبارك، أن عمر بن أبي ربيعة قال يشبب بعائشة ابنة طلحة:

أصبح القلب في الخيال رهينًا
مقصدًا يوم فارق الظاعنينا
لم يرعني إلا الفتاة وإلا
دمعها في الرداء سحا سخينا
عجلت حمة الفراق علينا
برحيل ولم تخف أن تبينا
أنت أهوى العباد قربًا وودًّا
لو تواتين عاشقًا محزونا
قاده الطرف يوم مر إلى الحيـ
ـن جهارًا ولم يخف أن يحينا
وجلا برد بركة جندي
ضوء وجه يضئ للناظرينا
فإذا ظبية تراعى نعاجا
ومها بهج المناظر عينا
قلت: من أنتم؟ فصدّت وقالت
أمُبدّ سؤالك العالمينا؟
قلت: بالله ذي الجلالة لما
إذ تبلت الفؤاد أن تصدقينا
أيّ من تجمع المواسم أنتم
فأبيني لنا ولا تكذبينا
نحن من ساكنى العراق وكنا
قبلها قاطنين مكة حينا
قد صدقناك أن سألت فمن أنـ
ـت عسى أن يجرّ شأن شؤونا
قد نرى أننا عرفناك بالنعـ
ـت نظن وما قتلنا يقينا
بسواد الثنيّتين وثغر
قد نراه لناظر مستبينا

فكانت عائشة تقول: والله ما قلت له هذا وما كلمته قط.

وأنبأنا أبو الحسن عبد الله بن قائد قال: دخلت عائشة بنت طلحة بمكة على الوليد بن عبد الملك فحدثته وقالت: يا أمير المؤمنين، مر لي بأعوان، فصيّر إليها قومًا يكونون معها، فحجّت ومعها ستون بغلًا عليها الهوادج والرحائل.

صبح المشيب يدل على ليل الشباب٦

قال الأمير أسامة بن منقذ:

قالوا نهاه الأربعون عن الصبا
وأخو المشيب يجوز ثمة يهتدي
كم حار في ليل الشباب، فدلّه
صبح المشيب على الطريق الأقصد
وإذا عددت سني ثم نقصتها
ومن الهموم فتلك ساعة مولدي

الشاعر الغزال٧

من روائع البيان ما حكاه ابن حبان من أن الأمير عبد الرحمن بن الحكم المرواني وجه شاعره الغزال إلى ملك الروم؛ فأعجب الملك حديثه لما حواه من رقة المعاني، وخف على قلبه ما احتواه من دقة المباني، وسرّ به سرورًا عظيمًا، ونال من لدنه ودًّا وتكريمًا، حتى إنه مال إليه، وقرَّبه لديه، فطلب منه منادمته، إلا أنه امتنع لما أدرك جلية الأمر، معتذرًا بتحريم الخمر.

فلما أن كان يومًا جالسًا عنده، إذ خرجت زوجة الملك وعليها زينتها، ووجهها جميل مشرق، كأنها الشمس الطالعة حسنًا وضياء، فما لبث الغزال لا يميل طرفه عنها شغفًا بباهر ما استرعاه منها، وجعل الملك يحدّثه وهو لاهٍ عن حديثه؛ فأنكر ذلك عليه، وأمر الترجمان بسؤاله، فقال له: عرِّفه أني قد بهرني من حسن هذه الملكة ما قطعني عن حديثه، فإني لم أر قط مثلها، وأخذ في وصفها، وما شاهده من عجيب جمالها ودلالها، حتى لكأنما شوّقته إلى لقاء الحور العين، فلما ذكر الترجمان ذلك لملك الروم زاد إعجابه بالشاعر الغزال، كما سُرّت الملكة بوصفه لها.

غزال قد غزا قلبي٨

في كتاب «المطرب» حكى أبو الخطاب بن دحية أن الغزال — وشهرة اسمه «غزال» — أرسِل إلى بلاد المجوس، وقد قارب الخمسين أو تزيد، وقد وخطه الشيب، ولكنه كان مجتمع الأشد، ضليع الجسم، قسيمًا وسيمًا، فسألته يومًا زوجة الملك، واسمها (تود) عن سنه، فقال مداعبًا: عشرون سنة. فقالت: وما هذا الشيب؟ فقال: وما تنكرين من هذا؟ ألم تريْ قط مُهرًا ينتج وهو أشهب؟ فأعجبت بقوله، وقال في ذلك:

كُلفتَ يا قلبي هوى متعِبًا
غالبت منه الضيغم الأغلبا
إني تعلقت مجوسية
تأبى لشمس الحسن أن تغربا
أقصى بلاد الله في حيث لا
يلفى إليه ذاهب مذهبا
يا تَوْدُ يا وردَ الشباب الذي
تطلع من أزرارها الكوكبا
يا بأبِي الشخص الذي لا أرى
أحلى على قلبي ولا أعذبا
إن قلت يومًا إن عيني رأت
مشبهه لم أعد أن أكذبا
قالت: أرى (فودَيه) قد نورا
دعابة توجب أن أدعبا
قات لها: ما باله … إنه
قد ينتج المهر كذا أشهبا
فاستضحكت عجبًا بقولي لها
وإنما قلت لكي تُعجبا

قال: ولما فهمها — الترجمان — شعر «غزال» ضحكت، وأمرته بالخضاب فغدا عليها، وقد اختضب وقال:

بكرتْ تحسن لي سواد خضابي
فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشيب عندي والخضاب لواصف
إلا كشمس جللت بضباب
تخفى قليلًا ثم يقشعها الصبا
فيصير ما سترت به لذهاب
لا تنكري وَضَحَ المشيب فإنما
هو زهرة الأفهام والألباب
فلديّ ما تهوين من زهو الصبا
وطلاوة الأخلاق والآداب

غرام أم جنون

من الشعر الرائق ما امتاز به الشاعر أبو الحسن مروان بن عثمان، وقد كان يهيم بوصف محبوبته، ولم يعين لها اسمًا؛ حتى لا يشهر بها في التشبيب، ولكيلا يعرفها عند العام إلا لمن لمس ودادها من الخاص، وفي الأبيات التي يناجيها بها معان قد جمع فيها حسن التعبير، سحرًا حلالًا، وكان عفيفًا في دقة نظمه، وصفاء تعبيره، فقال:

تمكن مني السقم حتى كأنني
توهُّم معنى في خفي سؤال
ولو سامحت عيناه عيني في الكرى
لأشكل من طيف الخيال خيالي
سمحت بروحي وهي عندي عزيزة
وجدت بقلبي وهو عندي غالي
وقد خفت أن تقضي عليّ منيتي
ولم أقض أوطاري بيوم وصال
وهوّن ما ألقى من الوجد أنه
صدود دلال لا صدود مَلال
فلو كان ذاك الصد منه ملالة
شددت عن الدنيا مطيّ رحالي

ثم ما لبث أن استرسل في مواجيده، واستلهم مشاعر أناشيده. فقال:

ما بال قلبك يستبين
أبه غرام أم جنون
برح الخفاء بما تجنّ
فأذهب الشك اليقين
حتى مشى بين الجوا
نح والضلوع هوى نفين
وإلى متى قلب المتـ
ـيم في يد البلوى رهين
شخصتْ له فيك العيو
ن وقسمت فيك الظنون
وسلبت ألباب الورى
بلواحظ فيها فتون
وقوام أغصان الريا
ض وأين تدركك الغصون
الحسن في الأغصان فنٌّ
وهو في هذا فنون
من أين للأغصان ذا
ك الحسن والسحر المبين؟
أم ذلك الورد الجنيّ
بخدِّه والياسمين؟

سلعوس وسلعسة٩

قال إبراهيم بن المهدي: كنت يومًا بحضرة المأمون، فقالت لي «عريب» على سبيل العبث: ياسلعوس. فقلت:

أما لعريب أن ترى غير سلعسهْ
فكوني كما أنت، تكوني كمؤنسهْ

فقال المأمون على الفور:

فإن كثرت منك الأقاويل لم يكن
هنالك شك أن ذلك وسوسه

قال إبراهيم: فعجبت من فطنة المأمون. وقلت: كذا — والله — ياأمير المؤمنين قدرت، وإياه أردت!

عاتكة بنت معاوية

حدثني الكراني قال: حدثني العمري عن الهيثم بن عدي، قال: حدثنا صالح بن حسان، قال: وأخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني محمد بن عمر، قال: حدثني محمد بن السري، قال: حدثنا هشام بن الكلبي عن أبيه يزيد، واللفظ لصالح بن حسان، وخبره أتم. قال: حجت عاتكة بنت معاوية بن أبي سفيان فنزلت من مكة بذي طوى، فبينما هي ذات يوم جالسة وقد اشتد الحر وانقطع الطريق، وذلك في وقت الهاجرة، إذ أمرت جواريها فرفعن الستر وهي جالسة في مجلسها، عليها شفوف لها، تنظر إلى الطريق، إذ مر بها أبو دهبل الجمحي، وكان من أجمل الناس وأحسنهم منظرًا، فوقف طويلًا ينظر إليها وإلى جمالها، وهي غافلة عنه، فلما فطنت له سترت وجهها، وأمرت بطرح الستر، وشتمته، فقال أبو دهبل:

إني دعاني الحَين فاقتادني
حتى رأيت الظبي بالباب
يا حسنه إذ سبني مدبرًا
مستترًا عني بجلباب
سبحان من أوقعها حسرة
صُبّت على القلب بأوصاب
يذودُ عنها إن تطلبتها
أب لها ليس بوهّاب
أحلها قصرًا منيع الذرى
يُحمى بأبواب وحجّاب

وقال أيضًا:

طال ليلي وبت كالمحزون
ومللت الثواء في جيرون
وأطلت المقام بالشام حتى
ظن أهلي مرجّمات الظنون
فبكت خشية التفرق جُمْلٌ
كبكاء القرين إثر القرين
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوّ
اص ميزت من جوهر مكنون
وإذا ما نسبتها لم تجدها
في سناء من المكارم دون
ثم خاصرتها إلى القبة الخضـ
ـراء تمشي في مرمر مسنون
قبة من مراجل ضربوها
عند برد الشتاء في قيطون
عن يساري إذا دخلت من البا
ب وإن كنت خارجًا عن يميني
ولقد قلت إذ تطاول سقمي
وتقلبت ليلتي في فنون
ليت شعري أمِن هوى طار نومي
أم براني الباري قصير الجفون

وصيفة مهدوية في مجلس ابن صمادح

قال ابن بسام:١٠ كان المعتصم بن صمادح يومًا مع ندمائه، فأبرز لهم وصيفة مهدوية متصرِّفة في أنواع اللعب المطرب من الدك، وحضر أيضًا هناك لاعب مصري ساحر، فكان لعبه حسنًا، فارتجل أبو عبد الله بن الحداد:
كذا فلتلُح قمرًا زاهرا
وتجني الهوى ناظرًا ناضرا
وسيبك سيبُ ندى مغدقٍ
أقام لنا هاميًا هامرا
وبان ليومِك ذا رونق
منيرًا كنور الضحى باهرا
صباح اصطبحنا بإسفارِه
لحظنا محيا العلا سافرا
وأطلعت فيه نجوم الكؤوس
فما زال كوكبها زاهرا
وأسمعتنا لاحنًا فاتنا
وأحضرتنا لاعبا ساحرا
وثناه ثان لألعابه
دقائق تثنى الحجا حائرا
وفى سورة الراح من سحره
خواطر، دلهت الخاطرا
إذا ورد اللحظ أثناءها
فما الوهم عن وِردها صادرا
ومن حسن دهرك إبداعه
فما انفك عارضها ماطرا
وسعدك يجتلب المغريات
فيجعل غائبها حاضرا

وصف جارية المنذر إلى أنو شروان

أهدى المنذر الأكبر١١ إلى أنو شروان، جارية كان قد أصابها إذ أغار على الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني، وكتب إلى أنو شروان يصفها فقال:

إني قد وجهت إلى الملك جارية معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء قمراء، وطفاء كحلاء، دعجاء عيناء، قنواء شماء، برجاء زجّاء، أسيلة الخد، شهية المقبل، جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاش المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، ضامرة البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح الإقبال، رابية الكفل، لفاء الفخذين، رياء الروادف، ضخمة المأكمتين، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضّة المتجرد، وهي سموع للسيد، ليست بخنساء ولا سفعاء، دقيقة الأنف، عزيزة النفس، لم تغد في بؤس، رزينة حليمة، ركينة، كريمة الخال، تقتصر على نسب أبيها دون فصيلتها، وتستغني بفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت، ساكنة، تزين الوليّ، وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت.

فارس عربي جميل

حكى محمد بن إسحاق١٢ قال: كنت مشغولًا بأخبار العرب وأشعارها، وأذكر أنها من أغرب الأشعار، وأميل إلى ذكر أيام العرب، وأحب أن أسمعها وأجمعها، فنزل علينا في بعض الأيام فتيان من بني ثعلبة، فذهبت إليهم لأسمع من أشعارهم، وأجمع من أخبارهم، فمررت بفناء خيمة، وإذا غلام ما رأيت مثله قط حسنًا وجمالًا، له ذؤابتان كأنهما السِّبح المنظوم، تحت ذلك وجه كالقمر ليلة تِمه، وعنده امرأة أحسن منه وأجمل، وأكثر ما أسمع من كلامها (يا بني)، وهو يبتسم لها، وقد غلب عليه الحياء كأنه كاعب عذراء، ولا يرد لها جوابًا من الاستحياء؛ فاستحسنت ما رأيت منهما، فدنوت من الخباء، فبصرت المرأة بي، ثم قالت لي: يا حضري، ما حاجتك؟ فقلت: لا حاجة لي إلا الذي استحسنت منك ومن هذا الغلام. فقالت: أتحب أن أسمعك شيئًا من خبره، وهو خير لك من نظره؟ فقلت لها: هاتي لله در أبيك. فقالت لي: إني حملته تسعة أشهر، فكنا في عيش ضنك كدر، ورزق نزر حقير، حتى إذا شاء الله أن أضعه، فوضعته — بحمد الله — خلقًا سويًّا، فلا وأبيك ما هو إلا أن وضعته حتى منَّ الله علينا، وأجزل وسهل وتفضل بيمن وجهه وسعادة طلعته، فسميته (مالكًا)، ثم أرضعته حولين كاملين، فلما استتم الرضاع نقلته من المهد بيني وبين أبيه، فنشأ بيننا كأنه شبل أسد، نقيه برد الشتاء وحر الصيف، فلما مر عليه خمسة أعوام دفعته إلى مؤدب يعلمه القرآن، فقرأه وتلاه، ونظم الشعر ورواه، حتى أتم سبع عشرة سنة، فأركبته عتاق الخيل فتفرس، وحمل السلاح فتشرس، ومشى بين بيوت الحي، وأصغى إلى صوت الصارخ، وأنا خائفة عليه وجِلة مشفقة من الألسنة أن تشينه، ومن الألحاظ أن تعينه، حتى شاء الله أن تصيبنا سنون أجدبت بلادنا، وكاد يهلك كبارنا وأطفالنا، فخرجنا إلى مناهل غير مناهلنا، ونزلنا في غير منازلنا، فخرج أصحابنا لطلب ثأرهم، وخلفه عن الركوب معهم وجع أصابه، فلا وأبيك ما علمنا حتى دهمتنا الخيل من العدو، ولم يتولنا عقل، ولا هدونا. فما كان إلا هنيهة حتى حازوا على الأموال، وانهزم الرجال، وهو في البيت يسألني عن الصوت، وأنا أكاتمه خيفه عليه، حتى علت الأصوات، وبرزت المخبآت، فلما سمع ذلك ثار كما يثور الليث المنضب، وأسرج فرسه، ثم أفرغ عليه لأمة حربه، وتقلد سيفه، واعتقل رمحه. ثم لحق العدو، فطعن أدنى فارس منهم فأرداه قتيلًا، فرجعوا إليه، فرأوه ولدًا لطيفًا، صبيًّا ظريفًا، فعطفوا عليه … وتلقاهم ضربًا بالسيف، وطعنًا بالرمح، حتى هلك أكثرهم وفرّ الباقون!

غَنِيُّهُ شَحَّاذُهْ

لو كان بالصبر الجميل ملاذه
ما سحَّ وابلُ دمعه ورذاذه
ما زال جيش الحب يغزو قلبه
حتى وَهَى وتقطعت أفلاذه
لم يبق فيه من الغرام بقية
إلا رسيسٌ يحتويه جذاذه
من كان يرغب في السلامة فليكن
أبدًا من الحدق المراض عياذه
لا تخدعنَّك بالفتور فإنه
نظر يضرّ بقلبك استلذاذه
يا أيها الرشأ الذي من طرفه
سهم إلى حُبِّ القلوب نفاذه
دُرٌّ يلوح بفيك: من نظَّامه؟
خمر يجول عليه: من نبَّاذه
وقناة ذاك القَدِّ: كيف تقوَّمَتْ؟
وسِنانُ ذاك اللحظ: ما فولاذه؟
رفقًا بجسمك لا يذوب فإنني
أخشى بأن يجفو عليه لآذُهُ
هاروت يعجز من مواقع سحره
وهو الإمام، فمن ترى أستاذه
تالله ما علقت محاسنك امرأ
إلا وعزَّ على الورى استنقاذه
أغريت حبك بالقلوب فأذعنت
طوعًا وقد أودى بها استحواذه
ما لي أتيت الحظ من أبوابه
جهدي، فدام نفوره ولِواذه
إياك من طمع المنى، فعزيزه
كذليله، وغنيُّه: شحَّاذُهُ

هوامش

(١) في العمدة، لابن رشيق ج٢ ص٩٤.
(٢) في وفيات الأعيان، لابن خلكان ج١ ص٤٣٢.
(٣) في نفح الطيب.
(٤) في خزانة الأدب ج١.
(٥) في فوات الوفيات.
(٦) في خلاصة الأثر ج٣ ص٢٦.
(٧) في نفح الطيب ج١ ص٤٥١.
(٨) في نفح الطيب ج١ ص٤٥٠.
(٩) في إرشاد الأديب ج١ ص١٦٣.
(١٠) نفح الطيب ج٢ ص٨١٦.
(١١) في الأغاني ج٢ ص٢٩.
(١٢) في العزيز المحلى ص٧٦٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤