مقدمة

الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأي، ونشر كل مذهب، وترويج كل فكر.

قاسم أمين

(١) الدواعي إلى تأليف الرسالة

كان للأمة العربية فيما مضى سلطانٌ عظيم، وحضارة ومنعة لم تُبقِ الأيام على شيءٍ منها إلا بعض آثار فخمة وأسفارٍ مهمة، ولا يُذكِّرنا بها إلا تاريخٌ مجيد، ليس من يعرفه فينا إلا القليل — شر خلف لخير سلف — فهو شاحبٌ هزيل يعلوه الغبار، مع أنه فياض بالمآثر الغرَّاء والفخر العميم.

ذلٌ رزحوا تحته ستة قرون، وجهلٌ أناخ عليهم بكلكله، وبلاد تزدردها الأغيار لقمةً سائغة، تونس والجزائر، مصر ومراكش، طرابلس والكويت، وغيرها على الأبواب.

أحزنني هذا المنظر، وآلمَتْ قلبي هذه الفواجع، وأنا لم أزل أخطو الخطوة الأولى من هذه الحياة، فكدت أيأس من الشفاء وصلاح الحال، فإذا بي قد رجعت إلى نفسي في هذه المدة الأخيرة، فقلت: ليس الشعب العربي جثة هامدة، وليس يطلب منَّا إحياء العظام الرميمة، وإنما هي حركة فاترة، ونبضٌ ضعيف، أو بالأحرى مريضٌ يوشك أن يدخل في طَور النزاع والاحتضار، ويمكن إنقاذه من براثن الموت وفتكاته؛ إذا كانت الطرق فعَّالة والهمم عالية.

بدأ بعض البصيرين يفكر في الأمر، أسبابه ونتائجه، وكيفية تلافي شره، ويبث نظرياته في بني قومه، غير أن هذا البعض قليلٌ نادر.

لمحْت في الأفق الشاسع بصيص نور، واعتقدت أني أدركت شطرًا من الحقيقة، إن لم أكن حلبت أشطُرها، ووصلت إلى قسم من جواب ذلك السؤال العظيم الذي يجول في أدمغة أولئك المفكرين، وتتوقف عليه حياة أمة بأسرها، طيبة الأرومَة، كريمة الأصل، فعوَّلت أن ألقي دلوي بين الدلاء، رائدي الإخلاص وقول الحق.

آراء اقتبستها من كتبٍ غربية، لا أدعي عصمتها، وأفكار خاصة جرَّتني إليها المقارنة والمقابلة بين تلك وبين ما شاهدته، فالرسالة إذن جمع وتعريب أكثر منها وضع وتصنيف، أكتب لا واثقًا من الفوز وإقبال الناس، ولكني متأكد من أن الإنسان يستطيع إذا أبدى إحدى بنات فكره، النفع ببعض قرَّاء يطالعون ما كتبه بلذة وارتياح، ولا سعادة تعادل ما يشعر به من السعادة رجلٌ وجد من يشاركه في معتقده.

إن الأفكار بعيدةٌ جدًّا عن أن تتعمم بسرعةٍ زائدة، بل هي بالعكس بطيئة السير، وبمقدار بطئها تقاس درجة استحكامها في أدمغة البشر.

أكتب كل ما أكتبه وأنا متمثل بقول الشاعر:

إذا رَضِيَتْ عني كرام عشيرتي
فلا زال غضبانًا عليَّ لئامُها

(٢) الفكرة الرئيسية للرسالة

كيف ينهض العرب؟

هذا سؤال — ولا أنكره — يطرأ على بال كثيرين، وقد كنت ممن طرأ على بالهم.

أما الأجوبة فمنحصرة فيما يأتي: نوال اللامركزية الإدارية — لاحظوا أن البحث هو في الدرجة الأولى عن عرب الدولة العثمانية؛ لأنهم وحدهم الحافظون استقلالهم نوعًا ما — وتعميم العلم في طبقات الأمة كافة، والاطمئنان الخارجي، وهلم جرًّا. وكلٌّ يزعم أن الحق في جانبه بَيْدَ أني أرى أنه ليست هذه إلا سبلًا ضيقة، بعضها طويل وبعضها قصير، يجب أن تؤدي جميعها إلى ما يلزم أن يُكَّون غاية كمالية يشتدُّ وراءها كتَّاب العرب المصلحون، وكعبة إليها يحجون.

فما هي هذه الغاية الكمالية، أو المقصد الأسمى، أو المثل الأعلى، أو «الأيديال» المشترك كما يقول الفرنسيس: Idéal Commun? وهكذا انقلب السؤال الأول، كيف ينهض العرب؟ إلى هذا الثاني: ماذا يجب أن تكون الغاية الكمالية المشتركة لمفكري الأمة؟ يقينٌ أنه إذا أجبنا عليه أدركنا الضالة التي ننشدها منذ عهدٍ طويل.

فكرت طويلًا في هذا الشأن، فلم يُنِرِ الظلمة المحيطة بي إلا فقرة من كتاب للدكتور غوستاف لوبون نشره حديثًا، اسمه «الثورة الفرنسية وروح الثورات»، لم أتمالك إذ تلوتها عن أن أرتمي على هذا السِّفر الجليل أُقبله مثنى وثلاث، وإن صرخت بعد ذلك الانتظار الطويل بمثل ما نادى به «أرخميدس» في العصور القديمة، لمَّا اهتدى — صدفةً — إلى إحدى الحقائق العلمية: أريكا! … أريكا! … «وجدتها. وجدتها.»

وها أنا ذا أنقل إليكم تلك الفقرة بنصها الصريح:

لم تكن قوة الثورة في المبادئ القديمة التي أرادت نشرها، ولا في الأوضاع التي زعمت أنها تؤسسها؛ لأن الشعوب قلَّما تهتم بالآراء والأوضاع؛ إذا كانت الثورة قوية جدًّا، وإذا جعلت فرنسا تنوء تحت أعباء فظائع وخراب ومذابح حرب داخلية شعواء، وإذا وقفت في وجه أوروبا بأسرها ظافرة، فذلك لأنها أسست ليس عهدًا جديدًا، بل ديانةً جديدة، والتاريخ يدلنا بأنه لا يمكن مقاومة معتقد كهذا راسخ، إن «روما» نفسها تلك التي لا تُقهر اضطُرت أن تولي البارحة أمام جيوش الرعاة الرُّحَّل، تنيرهم شريعة محمد ، وملوك أوروبا لم يَقدِروا لنفس السبب على مقاومة جنود «الكونفانسيون» ذوي الثياب البالية، إنهم كانوا مثل سائر المؤمنين مستعدين لتضحية ذواتهم في سبيل معتقداتهم.

كذلك لا ينهض العرب إلا إذا أصبحت العربية أو المبدأ العربي ديانةً لهم، يغارون عليها كما يغار المسلمون على قرآن النبي الكريم، والمسيحيون الكاثوليك على إنجيل المسيح الرحيم، والبروتستانت على تعاليم «لوثر» الإصلاحية، وثوريُّو فرنسا في عهد «الرعب» على مبادئ «روسو» الديمقراطية، ويتعصبون لها تعصب الصليبيين لدعوة بطرس الناسك.

هذه هي الفكرة الرئيسة للرسالة، أسير منها باسم العرب دون نظرٍ إلى معتقدهم الديني، داعيًا إياهم إلى اعتناق مذهب سياسي — وإنما المستقبل للمذاهب السياسية — ألا وهي العنصرية العربية.

•••

وسأذكر في هذه الرسالة أسباب عظمة العرب في القديم وسقوطهم، وأدرس ضرورة الغاية الكمالية أو الخيالية للأفراد والجماعات، ثم أتناول البحث في الثورة الفكرية التي يجب إحداثها في الأمة لتكوين وحدةٍ لها في المشاعر والآراء والمعتقدات، وآتي إلى تقرير القيام بالجنسية، وبعد ذلك أتقدم إلى بيان الواجب المرتب على مفكري العرب عند سيرهم في هذا الطريق القويم.

وليس قصدي من كل هذا إلا النفع المحض الخالص من كل شائبةٍ شائنة، أرجو إذا أصبتُ كبد الحقيقة المساعدة، أو إذا أخطأت المرمى المناضلة بالبرهان؛ فإنه لا يقرع الحجة إلا الحجة، وليست القوة الاستبدادية إلا مدعاةً لانتشار الأفكار الجديدة التي ستكون يومًا من الأيام سيلًا جارفًا يقضي على من يعترضه، ويزعزع أسس الأبنية القديمة، أو نارًا شديدة الضرم يبلغ لسانها عَنان السماء، تأكل اليابس البالي من المعتقدات متى استحكمت في الأذهان ورسخت في العقول.

هذي عواطف لا تقاومها يدٌ
ومُجَازِفٌ مَنْ عَارَضَ التَّيَّارا

إنا نروم أن نجعل العربية إيمانًا دينيًّا، يضحي كلٌّ منَّا في سبيله مصالحه وسعادته حتى حياته، يربط الأمة بوحدة أدبية تجعلهم كالبنيان المرصوص، وتنمي قواهم المادية؛ لأن مبدأ كهذا كان دائمًا طليعة لحضارة مقبلة، لا يغلبه إلا مبدأ أكثر منه رسوخًا وأعرق تأصُّلًا.

إذ ذاك نجدد مجد أجدادنا الدارس، ونحيي مفاخرهم الميتة، أو بالأحرى التي تكاد تموت، ولا نعود نسمع من يقرعنا ويندد بنا قائلًا — وإن قوله لحقٌّ صراح:

أتَقْنَعُ بالعظام وأنت تدري
بأن الكلب يقنع بالعظام؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤