أَبُو صِير وَأَبُو قِير

(١) «أَبُو صِيرٍ»

كانَ فِي الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ حَلَّاقٌ ذَكِيٌّ، حَسَنُ الْخُلُقِ، طَيِّبُ الْقَلْبِ، اسْمُهُ: «أَبُو صِيرٍ». وَكانَ فَقِيرًا جِدًّا لا يَجِدُ قُوتَ يَوْمِهِ إلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ. وَكانَ يَشْكُو الْكَسَادَ وَيُفَكِّرُ فِي تَرْكِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَالسَّفَرِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ كانَ يَتَرَقَّبُ الْفُرَصَ.

(٢) «أَبُو قِيرٍ»

وَكانَ بِجِوارِهِ صَبَّاغٌ ماهِرٌ فِي صِناعَتِهِ، وَلكِنَّهُ ماكِرٌ خَبِيثٌ سَيِّئُ السُّمْعَةِ اسْمُهُ: «أَبُو قِيرٍ». وَكانَ هَذا الْجارُ شَرِهًا طَمَّاعًا. وَهَوَ مِثالٌ لِلْغِشِّ وَالْخِداعِ وَالْمُماطَلَةِ؛ إذا حَدَّثَكَ كَذَبَ عَليْكَ، وَإِذا وَعَدَكَ أَخْلَفَ وَعْدَهُ، وَإذا ائْتَمَنْتَهُ خانَكَ. فَكَرِهَهُ النَّاسُ، وَكَفُّوا عَنْ مُعامَلَتِهِ، فَكَسَدَتْ صِناعَتُهُ، وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَصارَ النَّاسُ يَحْذَرُونَهُ وَيُحَذِّرُونَ غَيْرَهُمْ مِنْ مُعامَلَتِهِ.

(٣) إفْلاسُ «أَبِي قِيرٍ»

وَكانَ مِنْ عادَتِهِ إذا جاءَهُ أَحَدٌ بِثَوْبٍ — لِيَصْبُغَهُ لَهُ — أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ الْأَجْرَ مُقَدَّمًا، بَعْدَ أَنْ يوهِمَهُ أَنَّهُ سَيَشْتَرِي بِهِ أَصْباغًا. فَإِذا انْصَرَفَ صاحِبُ الثَّوْبِ ذَهَبَ «أَبُو قِيرٍ» بِالثَّوْبِ إِلَى السُّوقِ، فَباعَهُ وَاشْتَرَى — بِثَمنِهِ وَبِما أَخَذَهُ مِنَ الْأَجْرِ — ما شاءَ مِنْ أَطْيَبِ الْمَآكِلِ وَالْحَلْواءِ.

فَإِذا عادَ إلَيْهِ صاحِبُ الثَّوْبِ ماطَلَهُ، وَتَعَلَّلَ لَه بِأَعذارٍ كاذِبَةٍ: يَدَّعِي — فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ — أَنَّهُ كانَ مَشْغُولًا بِبَعْضِ الضُّيُوفِ، وَيَزْعُمُ — فِي الْيَوْمِ الثَّانِي — أَنَّ زَوْجَهُ وَلَدَتْ، وَهكَذا؛ حَتَّى يَمَلَّ صاحِبُ الثَّوْبِ، فَيَطْلُبَهُ مِنْهُ لِيَصْبُغَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ. وَحِينَئِذٍ يَقولُ لَهُ «أَبو قِيرٍ»: «الْحَقُّ يا صاحِبِي أَنَّنِي خَجِلٌ مِنْكَ جِدًّا، وَلسْتُ أَرَىُ بُدًّا مِنْ مُكاشَفَتِكَ بِالْحَقِيقَةِ؛ فَقَدْ صَبَغْتُ ثَوْبَكَ أَحْسَنَ صَبْغٍ، وَبَذَلْتُ جُهْدِيَ كُلَّهُ فِي إِتْقانِهِ، ثُمَّ جاءَ لِصٌّ خَبِيثٌ فَسَرَقَهُ — لِسُوءِ الْحَظِّ — مِنْ دُكَّانِي، فَبَحَثْتُ عَنْهُ، فَلَمْ أَجِدْهُ».

فَيَنْصَرِفُ صاحِبُ الثَّوْبِ إِذا جازَتْ عَلَيْهِ حِيلَتُهُ، أَوْ يَتَشاجَرُ مَعَهُ إِذا ارْتابَ (أَيْ: شَكَّ) فِي قَوْلِهِ، ثمَّ لا يَظْفَرُ مِنْهُ بِشَيْءٍ عَلَى الْحالَيْنِ.

وَما زالَ كَذلِكَ حَتَّى عَلِمَ بِهِ الْقاضِي، فَأَمَرَ بِإِغْلاقِ دُكَّانِهِ، حَتَّى يَأْمَنَ النَّاسُ شَرَّهُ.

(٤) الْعَزْمُ عَلَى السَّفَرِ

وَكانَ «أَبُو صِيرٍ» يرى مُماطَلَةَ جارِهِ وَهَرَبَهُ مِنْ أَداءَ الْحُقوقِ إِلَى أَصْحابِها، فَيَنْصَحُ لَهُ بِالِاسْتِقامَةِ، فَلا يَسْمَعُ لَهُ قَوْلًا. فَلَمَّا أَغْلَقَ الْقاضِي دُكَّانَ «أَبِي قِيرٍ»، قالَ لِصاحِبِهِ «أَبِي صِيرٍ»:

«ما لَنا وَلِهَذا الْمَكانِ؟ أَلَيْسَ خَيْرًا لَنا أَنْ نُسافِرَ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ، لَعَلَّنا نَجِدُ رِزْقًا أَحْسَنَ مِمَّا وَجَدْناهُ فِي هَذا الْبَلَدِ؟» وَكَانَ «أَبُو صِيرٍ» — كَما قُلْنا — يَشْكُو الْكَسَادَ، وَيُفَكِّرُ فِي السَّفَرِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ، فارْتاحَ لِكَلامِ صاحِبِهِ، وَوافَقَهُ عَلَى السَّفَرِ.

فَقالَ لَهُ «أَبُو قِيرٍ»: عاهِدْنِي إذَنْ عَلَى أَنْ نَعْمَلَ بِجِدٍّ، وَنَقْسِمَ بَيْنَنا كُلَّ ما نُصِيبُ مِنَ الرِّزْقِ بِالسَّوِيَّةِ.»

فَعاهَدَهُ «أبُو صِيرٍ» عَلَى ذَلِكَ، وَباعَ دُكَّانَهُ، وَاسْتَعَدَّ لِلسَّفَرِ مَعَهُ بِأَوَّلِ سَفِينَةٍ تَقُومُ مِنَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ.

(٥) فِي السَّفِينَةِ

وَبَعْدَ أَيَّامٍ قَلائِلَ رَكِبَ «أَبُو صِيرٍ» وَصاحِبُهُ سَفِينَةً كَبِيرَةً فِيها كَثِيرٌ مِنَ الْمُسافِرِينَ. وَلَمَّا صارَتِ السَّفِينَةُ فِي عُرْضِ الْبَحْرِ نَشِطَ «أَبُو صِيرٍ» إلَى الْعَمَلِ، فَقامَ — وَمَعَهُ أَدَواتُهُ — لِيَبْحَثَ بَيْنَ رُكَّابِ السَّفِينَةِ عَنْ عَمَلٍ لَهُ، فَناداهُ أَحَدُ الْمُسافِرِينَ لِيَحْلِقَ لَهُ رَأْسَهُ. وَلَمَّا انْتَهَى مِنْ عَمَلِهِ أَعْطاهُ شَيْئًا مِنَ الطَّعامِ وَالْمالِ.

وَدَعاهُ ثانٍ وَثالِثٌ، فَلَمَّا انْقَضَى النَّهارُ عادَ «أَبُو صِيرٍ» إلَى صاحِبِهِ — وَمَعَهُ طَعامٌ كَثِيرٌ — فَأَكَلا مَعًا. وَكَانَ «أَبُو قِيرٍ» يُقْبِلُ عَلَى الْأَكْلِ بِشَهِيَّةٍ عَجِيبَةٍ، وَشَرَهٍ لا مَثِيلَ لَهُ. وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي دَعاهُ رُبَّانُ السَّفِينَةِ لِيَحْلِقَ لَهُ. وَسُرَّ مِنْ أَدَبِهِ وَمَهارَتِهِ، فَدَعاهُ وَصاحِبَهُ إلَى الْأَكْلِ عَلَى مائِدَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ. وَكانَ «أَبُو صِيرٍ» لا يَتَوانَى عَنِ الْعَمَلِ، فَكانَ يَحْلِقُ كُلَّ يَوْمٍ لِبَعْضِ الْمُسافِرِينَ، وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ أَجْرَهُ، وَلا يَضِنُّ عَلَى صاحِبِهِ «أَبِي قِيرٍ» بِشَيْءٍ يَطْلُبُهُ، حَتَّى وَصَلَتِ السَّفِينَةُ — بَعْدَ عِشْرِينَ يَوْمًا — إلَى مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ، فَنَزَلَ «أَبُو صِيرٍ» مَعَ صاحِبِهِ إِلَيْها.

(٦) فِي الْمَدِينَةِ

وَلَمَّا طافا بِأَسْواقِها وَجَداها مُزْدَحِمَةً بِالتُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ، فَعَزَمَا عَلَى الْإِقامَةِ فِيها أَيَّامًا. وَاسْتَأْجَرَ «أَبُو صِيرٍ» غُرْفَةً صَغِيرَةً فِي أَحَدِ الْفَنادِقِ لِيُقِيمَ فِيها مَعَ صاحِبِهِ. وَكانَ «أَبُو صِيرٍ» يُبَكِّرُ فِي الْقِيامِ مِنَ النَّوْمِ فَيَرَى صاحِبَهُ لا يَزالُ نائِمًا، فَإِذا أَيْقَظَهُ تَظاهَرَ بِالضَّعْفِ وَالْمَرَضِ، فَيَخْرُجُ «أَبُو صِيرٍ» وَحْدَهُ إلَى الْمَدِينَةِ يَتَلَمَّسُ رِزْقَهُ خِلالَ النَّهارِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى صَاحِبِهِ بِالطَّعامِ، فَيَأْكُلُهُ بِشَرَهٍ غَرِيبٍ. وَما زالَ كَذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ.

ثُمَّ مَرِضَ «أَبُو صِيرٍ»، وَاشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ وَالضَّعْفُ، فَعَجَزَ عَنِ الْخُرُوجِ، وَلَزِمَ الْفِراشَ. فَلَمَّا جاءَ الْيَوْمُ التَّالِي، بَحَثَ «أَبُو قِيرٍ» فِي الْغُرْفَةِ عَنْ طَعامٍ يَأْكُلُهُ فَلَمْ يَجِدْ شَيئًا. وَرَأَى صاحِبَهُ «أَبا صِيرٍ» مُسْتَغْرِقًا فِي النَّوْمِ. فَظَلَّ يُفَتِّشُ فِي ثِيابِ «أَبِي صِيرٍ» حَتَّى عَثَرَ عَلَى كِيسِ نُقُودِهِ، فَأَخَذَهُ مَعَهُ، ثُمَّ خَرَجَ وَأَغْلَقَ بابَ الْغُرْفَةِ عَلَى صاحِبِهِ «أَبِي صِيرٍ» وَعَزَمَ عَلَى الْهَرَبِ مِنْهُ.

(٧) مَصْبَغَةُ «أَبِي قِيرٍ»

ثُمَّ مَشَى «أَبُو قِيرٍ» فِي أَسْواقِ الْمَدِينَةِ، فَرَأَى دُكَّانَ صَبَّاغٍ. فَوَقَفَ يَتَأَمَّلُ فِي الثِّيابِ الْمَصْبُوغَةِ، وَهُوَ يَتَعَجَّبُ أَشَدَّ الْعَجَبِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِي الدُّكَّانِ إِلَّا اللَّوْنَ الْأَزْرَقَ وَحْدَهُ. فَتَأَمَّلَ فِي مَلابِسِ الْمارَّةِ فَلَمْ يَرَ إِلَّا اللَّوْنَ الْأَزْرَقَ، وَاللَّوْنَ الْأَبْيَضَ، فَازْدادَ عَجَبُهُ، وَأَخْرَجَ مِنْدِيلَهُ الْأَبْيَضَ، وَطَلَبَ مِنَ الصَّبَّاغِ أَنْ يُلَوِّنَهُ لَهُ بِاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ. فَقالَ لَهُ الصَّبَّاغُ: «نَحْنُ لا نَعْرِفُ إلَّا اللَّوْنَ الْأَزْرَقَ.» فَعَظُمَتْ دَهْشَةُ «أَبِي قِيرٍ»، وَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْبَلَهُ أَجِيرًا عِنْدَهُ، لِيُعَلِّمَهُ كَيْفَ يَصْبُغُ بِالْأَلْوانِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأُخْرَى. فَرَفَضَ الصَّبَّاغُ، وَقالَ لَهُ: «نَحْنُ لا نَقْبَلُ — فِي هَذِهِ الصِّناعَةِ — غَرِيبًا عَنَّا».

فَذَهَبَ إِلَى صَبَّاغٍ ثانٍ وَثالِثٍ وَرابِعٍ، فَلَقِيَ مِنْهُمْ مِثْلَ ما لَقِيَهُ مِنَ الصَّبَّاغِ الْأَوَّلِ. وَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يُنْشِئَ مَصْبَغَةً، لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ما مَعَهُ مِنَ النُّقُودِ. فَذَهَبَ إلَى الْمَلِكِ، وَبَسَطَ لَهُ شَأْنَهُ، فَسُرَّ الْمَلِكُ مِنْ فِكْرَتِهِ، وَأَمَرَ بِبِناءِ مَصْبَغَةٍ كَبِيرَةٍ لَهُ فِي أَحْسَنِ شَوارِعِ الْمَدِينَةِ وَفْقَ ما يَشْتَهِي. وَأَحْضَرَ لَهُ كَثِيرًا مِنَ الثِّيابِ لِيَصْبُغَها لَهُ، فَصَبَغَهَا أَحْسَنَ صَبْغٍ بِأَلْوانٍ مُخْتَلِفَةٍ. فَفَرِحَ الْمَلِكُ بِذَلِكَ، وَكافَأَهُ أَحْسَنَ مُكَافَأَةٍ. وَأَقْبَلَ الأُمَراءُ وَأَعْيَانُ الْمَدِينَةِ عَلَى مَصْبَغَتِهِ، فَراجَتْ صِناعَتُهُ، وَكَثُرَ مالُهُ، وَأَصْبَح مِنْ كِبارِ الْأَغْنِياءِ. وَلَمْ يُفَكِّرْ لَحْظَةً واحِدَةً فِي صاحِبِهِ «أَبِي صِيرٍ» الَّذِي أَطْعَمَهُ وَآواهُ، وَبَذَلَ لَهُ كُلَّ ما يَسْتَطِيعُ مِنَ الْمُساعَدَةِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ وَفَقْرِهِ.

(٨) مُقابَلَةُ الصَّدِيقَيْنِ

أَمَّا «أَبُو صِيرٍ» فَقَدْ لَزِمَ فِراشَهُ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَهُوَ لا يَسْتَطِيعُ الْحَراكَ مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ، حَتَّى فَطِنَ إِلَيْهِ صاحِبُ الْفُنْدُقِ، فَذَهَبَ إِلَى غُرْفَتِهِ فَرَآها مُغْلَقَةً. فَبَحَثَ عَنِ مِفْتاحٍ يَفْتَحُها بِهِ، وَلَمَّا رَأَى «أَبا صِيرٍ» وَهُو مَنْهُوكُ الْقُوَى مِنْ شِدَّةِ الْمَرَضِ، عَطَفَ عَلَيْهِ وَرَقَّ لَهُ قَلْبُهُ، وَوَكَّلَ بِهِ خادِمًا يَخْدُمُهُ. وَبَحَثَ «أَبُو صِيرٍ» عَنْ كِيسِ نُقُودِهِ لِيُعْطِيَ صاحِبَ الْفُنْدُقِ شَيْئًا مِنَ الْمالِ فَلَمْ يَجِدْهُ. فَقالَ لَهُ صاحِبُ الْفُنْدُقِ: «لا يَحْزُنْكَ ذَلِكَ يا أَخِي، فَإِنِّي لَسْتُ فِي حاجَةٍ إلَى الْمالِ.» وَما زالَ صاحِبُ الْفُنْدُقِ يُؤَاسِي «أَبا صِيرٍ» وَيُعْنَى بِأَمْرِهِ — عِدَّةَ أَشْهُرٍ — حَتَّى شُفِيَ مِنْ مَرَضِهِ، وَعادَ إلَيْهِ نَشاطُهُ وَقُوَّتُهُ، فَخَرَجَ مِنَ الْفُنْدُقِ، وَمَشَى فِي إحْدَى أَسْواقِ الْمَدِينَةِ، فَرَأَى زِحامًا شَدِيدًا أَمامَ مَصْبَغَةٍ كَبِيرَةٍ. وَنَظَرَ فِي الْمَصْبَغَةِ فَرَأَى كَثِيرًا مِنَ الْخَدَمِ عَلَيْهِمْ أَفْخَرُ الثِّيابِ. وَرَأَى صَدِيقَهُ «أَبا قِيرٍ» جالِسًا فِي صَدْرِ الْمَكانِ — وَهُوَ يَأْمُرُ وَيَنْهَى — فَفَرِحَ «أَبُو صِيرٍ» أَشَدَّ الْفَرَحِ بِما نالَهُ صَدِيقُهُ مِنَ النَّجاحِ وَالتَّوْفِيقِ. وَقالَ فِي نَفْسِهِ: «لَعَلَّهُ شُغِلَ عَنِّي طُولَ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِتَنْظِيمِ هَذِهِ الْمَصْبَغَةِ الْكَبِيرَةِ! وَلا شَكَّ أَنَّهُ سَيَفْرَحُ أَشَدَّ الْفَرَحِ حِينَ يَرانِي، بَعْدَ أَنْ شُفِيتُ مِنْ مَرَضِي!» ثُمَّ دَخَلَ «أَبُو صِيرٍ» لِيُهَنِّئَ صاحِبَهُ بِما نالَهُ مِنَ النَّجاحِ وَالتَّوْفِيقِ، وَلَكِنْ خابَ ظَنُّهُ؛ فَما كادَ يَراهُ «أَبُو قِيرٍ» حَتَّى صاحَ بِهِ غاضِبًا: «أَلَا تَزالُ — أَيُّها اللِّصُّ الْخَبِيثُ — تَتَسَلَّلُ إلَى مَصْبَغَتِي لِتَسْرِقَ الثِّيابَ مِنْها؟ أَلَمْ يَكْفِكَ ما سَرَقْتَهُ مِنِّي فِي الْمَرَّاتِ السَّابِقَةِ؟ وَاللهِ لا بُدَّ مِنْ عِقابِكَ حَتَّى لا تَعُودَ إِلَى السَّرِقَةِ بَعْدَ هَذا الْيَوْمِ.» ثُمَّ أَمَرَ غِلْمانَهُ بِضَرْبِهِ، فَضَرَبُوهُ ضَرْبًا مُوجِعًا حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الضَّرْبِ، ثُمَّ أَلْقَوْا بِهِ فِي الطَّرِيقِ.

(٩) حَمَّامُ «أَبِي صِيرٍ»

وَلَمَّا أَفاقَ «أَبُو صِيرٍ» عادَ إِلَى غُرْفَتِهِ مَحْزُونًا مُتَأَلِّمًا مِمَّا حَدَثَ لَهُ. ثُمَّ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ التَّالِي يَبْحَثُ عَنْ حَمَّامٍ يَسْتَحِمُّ فِيهِ، فَلَمْ يَجَدْ. فَسَأَلَ النَّاسَ: أَيْنَ يَسْتَحِمُّونَ؟ فَقالُوا لَهُ: «إنَّنا نَذْهَبُ إِلَى الْبَحْرِ لِنَسْتَحِمَّ فِيهِ.» فَقالَ فِي نَفْسِهِ: «إنَّ جَمالَ هَذِهِ الْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ لا يَتِمُّ إلَّا إِذا أُنْشِئَ فِيها حَمَّامٌ.» ثُمَّ ذَهَبَ «أَبُو صِيرٍ» إِلَى الْمَلِكِ، وَشَرَحَ لَهُ فِكْرَتَهُ، فَرَضِيَ عَنْها، وَأَمَرَ بِبِناءِ حَمَّامٍ فَخْمٍ — فِي أَحْسَنِ مَكانٍ فِي الْمَدِينَةِ — وَفْقَ ما يَشْتَهِي «أَبُو صِيرٍ». وَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ بِنائِهِ وَإعْدادِهِ، ذَهَبَ «أَبُو صِيرٍ» إِلَى الْمَلِكِ، وَدَعاهُ إِلَى زِيارَةِ حَمَّامِهِ. فَلَمَّا دَخَلَ الْمَلِكُ الْحَمَّامَ سُرَّ مِنْ نِظامِهِ وَنَظافَتِهِ، وَأُعْجِبَ بِذَكاءِ «أَبِي صِيرٍ» وَأَدَبِهَ إِعْجابًا كَبِيرًا. ثُمَّ خَرَجَ الْمَلِكُ — بَعْدَ أَنِ اسْتَحَمَّ فِيهِ — مَسْرُورًا راضِيًا. وَكافَأَ «أَبا صِيرٍ» أَحْسَنَ مُكافَأَةٍ. وَفِي الْأَيَّامِ التَّالِيَةِ زارَ الْأُمَراءُ وَالْوُزَراءُ وَأَعْيانُ الْمَدِينَةِ حَمَّامَ «أَبِي صِيرٍ»، وَأُعْجِبُوا بِهِ الْإِعْجابَ كُلَّهُ. وَكانَ يُكْرِمُهُمْ غايَةَ الْإِكْرامِ، فَأَحَبُّوهُ جَمِيعًا، وَتَتابَعَ النَّاسُ عَلَى حَمَّامِهِ.

وَلَمْ يَنْسَ «أَبُو صِيرٍ» صاحِبَ الْفُنْدُقِ الَّذِي آسَاهُ فِي مَرَضِهِ، فَدَعاهُ إِلَى زِيارَتِهِ وَأَكْرَمَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ كَثِيرًا مِنَ الْهَدايا الْفاخِرَةِ وَالنَّفائِسِ الْغالِيَةِ.

(١٠) «أَبُو قِيرٍ» يَزُورُ الْحَمَّامَ

وَسَمِعَ «أَبُو قِيرٍ» بِحَمَّامِ صاحِبِهِ الَّذِي ذاعَ صِيتُهُ، فَذَهَبَ إِلَيْهِ. وَلَمْ يَكَدْ يَرَى صاحِبَهُ «أَبا صِيرٍ» حَتَّى أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَعانَقَهُ، مُتَناسِيًا إِساءَتَهُ إِلَيْهِ وَضَرْبَهُ وَطَرْدَهُ. وَقالَ لَهُ: «أَهَذِهِ يا أَخِي هِيَ حُقُوقُ الصُّحْبَةِ؟ أَهكَذا يَنْسَى الصَّدِيقُ صَدِيقَهُ؟ لَقَدْ بَحَثْتُ عَنْكَ فِي كُلِّ مَكانٍ فَلَمْ أَعْثُرْ عَلَيْكَ، فَأَيْنَ كُنْتَ؟» فَتَعَجَّبَ «أَبُو صِيرٍ» مِنْ كَلامِ صاحِبِهِ، وَقالَ لَهُ: «أَلَمْ أَذْهَبْ إِلَى مَصْبَغَتِكَ لِزِيارَتِكَ، وَكانَ نَصِيبِيَ الْإِهانَةَ وَالطَّرْدَ؟» فَتَظاهَرَ «أَبُو قِيرٍ» بِالْأَسَفِ، وَقالَ لَهُ: «لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ! لَقَدْ حَسِبْتُكَ يا أَخِي — لِسُوءِ الْحَظِّ — اللِّصَّ الَّذِي تَعَوَّدَ سَرِقَةَ الثِّيابِ. وَقَدْ كُنْتُ مَشْغُولًا فَلَمْ أَتَثَبَّتْ مِنْ رُؤْيَتِكَ! وَلَعَلَّ الْمَرَضَ قَدْ غَيَّرَ مِنْ مَلامِحِ وَجْهِكَ، فَلَمْ أَعْرِفْكَ! وَلَقَدْ كَانَ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَيْكَ أَنْ تُنَبِّهَنِي إِلَى خَطَئِي — حِينَئِذٍ — وَتَذْكُرَ لِيَ اسْمَكَ لِأُقابِلَكَ بِما أَنْتَ أَهْلُهُ مِنَ التَّرْحِيبِ وَالْإِكْرامِ».

(١١) نَصِيحَةُ «أَبِي قِيرٍ»

وَلَمَّا سَمِعَ «أَبُو صِيرٍ» كَلامَ صاحِبِهِ، حَسِبَهُ صادِقًا فِي دَعْواهُ فَعَذَرَهُ، وَأَكْرَمَهُ كُلَّ الْإِكْرامِ. وَلَمَّا سَأَلَهُ «أَبُو قِيرٍ» عَنْ سَبَبِ إِنْشائِهِ هَذا الْحَمَّامَ، قَصَّ عَلَيْهِ «أَبُو صِيرٍ» قِصَّتَهُ كُلَّها. فَقالَ لَهُ «أَبُو قِيرٍ»: «وَلَكِنَّكَ نَسِيتَ شَيْئًا واحِدًا لا يَكْمُلُ حَمَّامُكَ إِلَّا بِهِ!» فَقالَ لَهُ «أَبُو صِيرٍ»: «وَما هُوَ؟» فَقالَ لَهُ: «أَنْتَ حَلَّاقٌ ذَكِيٌّ ماهِرٌ فِي صِناعَتِكَ. فَلَوْ حَلَقْتَ لِلْمَلِكِ — حِينَ يَزُورُ حَمَّامَكَ — لَزادَ بِذَلِكَ سُرُورُهُ مِنْكَ.» فَحَسِبَهُ «أَبُو صِيرٍ» مُخْلِصًا فِي نَصِيحَتِهِ، وَشَكَرَها لَهُ، وَوَعَدَهُ بِتَحْقِيقِها.

(١٢) وِشايَةُ «أَبِي قِيرٍ»

وَلَمَّا خَرَجَ «أَبُو قِيرٍ» مِنْ حَمَّامِ صاحِبِهِ، ذَهَبَ مُسْرِعًا إِلَى الْمَلِكِ، وَقالَ لَهُ: «لَيْسَ فِي قُدْرَتِي يا مَوْلايَ أَنْ أَكْتُمَ عَنْكَ حَقِيقَةَ هَذا الرَّجُلِ الْخَبِيثِ الْماكِرِ، فَقَدْ جاءَ هَذا الْبَلَدَ لِقَتْلِكَ.» فَدُهِشَ الْمَلِكُ، وَلَمْ يُصَدِّقْهُ. فَقالَ لَهُ «أَبُو قِيرٍ»: «إنِّي أَعْرِفُ هَذا الرَّجُلَ. وَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّ مَلِكَ الْجَزائِرِ — الَّذِي انْتَصَرْتَ عَلَيْهِ فِي الْعامِ الْماضِي وَقَهَرْتَهُ — أَوْفَدَهُ إلَى مَدِينَتِكَ لِيَحْتالَ لِقَتْلِكَ، وَوَعَدَهُ بِمُكافَأَةٍ عَظِيمَةٍ إِذا نَجَحَ فِي مَكِيدَتِهِ. فَاحْذَرْهُ — يا مَوْلايَ — وَاحْمَدِ اللهَ عَلَى نَجَاتِكَ مِنْ شَرِّهِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى.»

فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ: «وَما هِيَ الْمَكِيدَةُ الَّتِي دَبَّرَها لِقَتْلِي؟» فَقالَ لَهُ: سَيَدْعُوكَ إِلَى زِيارَةِ حَمَّامِهِ مَرَّةً أُخْرَى، ثُمَّ يَقُولُ لَكَ: إنَّهُ حَلَّاقٌ ماهِرٌ، وَإِنَّ الِاسْتِحْمامَ لا يَتِمُّ إِلَّا بِالْحِلاقَةِ. وَقَدْ أَعَدَّ لِقَتْلِكَ مُوسَى ماضِيَةً مَسْمُومَةً».

(١٣) غَضَبُ الْمَلِكِ عَلَى «أَبِي صِيرٍ»

وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي ذَهَبَ «أَبُو صِيرٍ» إِلَى الْمَلِكِ وَدَعاهُ إِلَى زِيارَةِ حَمَّامِهِ، وَلَمَّا عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ لَهُ، وَرَأَى فِي يَدِهِ مُوسَى الْحِلاقَةِ حَسِبَ «أَبا قِيرٍ» صادِقًا فِي وِشايَتِهِ. فَغَضِبَ عَلَى «أَبِي صِيرٍ» غَضَبًا شَدِيدًا، وَأَمَرَ كَبِيرَ الْخَدَمِ أَنْ يَضَعَهُ فِي غِرارَةٍ، (أَيْ: زَكِيبَةٍ)، ثُمَّ يُلْقِيَهُ فِي الْبَحْرِ، وَوَقَفَ الْمَلِكُ فِي النَّافِذَةِ لِيَراهُ.

(١٤) خاتَمُ الْمَلِكِ

وَكانَ كَبِيرُ الْخَدَمِ يُحِبُّ «أَبا صِيرٍ» لِأَدَبِهِ وَمُرُوءَتِهِ. فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَخْتَبِئَ فِي بَيْتِهِ، ثُمَّ يُسافِرَ إِلَى بَلَدِهِ فِي أَوَّلِ سَفِينَةٍ قادِمَةٍ حَتَّى لا يَراهُ الْمَلِكُ. وَذَهَبَ كَبِيرُ الْخَدَمِ فَمَلَأَ الْغِرارَةَ (أَيِ: الزَّكِيبَةَ) حِجارَةً وَرَمْلًا، وَوَقَفَ عَلَى شاطِئِ الْبَحْرِ تَحْتَ نافِذَةِ الْقَصْرِ الْمَلَكِيِّ. وَأَشارَ الْمَلِكُ إِلَيْهِ أَنْ يُلْقِيَ الْغِرارَةَ فَأَلْقَاهَا، وَسَقَطَ خاتَمُ الْمُلْكِ مِنْ إِصْبَعِ الْمَلِكِ، وَهُوَ يُشِيرُ بِهِ إِلَى كَبِيرِ الْخَدَمِ. فَعادَ الْمَلِكُ وَهُوَ مَغْمُومٌ أَشَدَّ الْغَمِّ. وَجَلَسَ «أَبُو صِيرٍ» عَلَى شاطِئِ الْبَحْرِ يَصْطادُ السَّمَكَ، فَاصْطادَ سَمَكًا كَثِيرًا. وَلَمَّا شَقَّ السَّمَكَةَ الْأُولَى وَجَدَ فِيها خاتَمَ الْمُلْكِ فَلَبِسَهُ، وَلَمَّا عادَ كَبِيرُ الْخَدَمِ إِلَى بَيْتِهِ أَرْسَلَ إِلَيْهِ خادِمًا فَأَشارَ إِلَيْهِ «أَبُو صِيرٍ» أَنْ يَحْمِلَ السَّمَكَ، فَسَقَطَ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ. فَدُهِشَ «أَبُو صِيرٍ» أَشَدَّ دَهْشَةٍ.

(١٥) عاقِبَةُ الْخِيانَةِ

وَلَمَّا جاءَهُ كَبِيرُ الْخَدَمِ، وَرَأَى الْخاتَمَ فِي إِصْبَعِهِ قالَ لَهُ: «احْذَرْ أَنْ تُشِيرَ بِخاتَمِكَ وَإِلَّا أَهْلَكْتَنِي، فَإِنَّ مَلِكَنا لا يَحْكُمُ الرَّعِيَّةَ إِلَّا بِهِ، وَهُوَ إذا أَشارَ بِهِ إِلَى أَيِّ إِنْسانٍ قَتَلَهُ مِنْ وَقْتِهِ. وَفِي اسْتِطاعَتِكَ أَنْ تَصِيرَ مَلِكَ الْمَدِينَةِ الآنَ.» فَذَهَبَ «أَبُو صِيرٍ» إِلَى الْمَلِكِ وَأَعادَ إِلَيْهِ الْخاتَمَ. فَقالَ لَهُ الْمَلِكُ: «قُلْ لِي بِماذا أُكافِئُكَ عَلَى مَعْرُوفِكَ؟» فَقالَ لَهُ: «أَرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ يا مَوْلايَ سَبَبَ غَضَبِكَ عَلَيَّ.» فَأَخْبَرَهُ بِما قالَهُ «أَبُو قِيرٍ». فَعَجِبَ «أَبُو صِيرٍ» مِمَّا سَمِعَ، وَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ مَعَهُ فَغَضِبَ الْمَلِكُ عَلَى «أَبِي قِيرٍ»، وَأَمَرَ بِوَضْعِهِ فِي غِرارَةٍ، وَإِلْقائِهِ فِي الْبَحْرِ. وَشَفَعَ فِيهِ «أَبُو صِيرٍ» فَلَمْ يَقْبَلِ الْمَلِكُ شَفاعَتَهُ. وَماتَ «أَبُو قِيرٍ» الْمِيتَةَ الَّتِي دَبَّرَها لِصاحِبِهِ، أَمَّا «أَبُو صِيرٍ» فَقَدْ كافَأَهُ الْمَلِكُ أَحْسَنَ مُكافَأَةٍ. وَعادَ إِلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَصارَ مِنْ أَغْنِيائِها. وَقَضَى حَياتَهُ كُلَّها عَلَى أَحْسَنِ حالٍ، وَأَهْنَأِ بالٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤