الشاويش يحل اللغز

في اليوم التالي جاء «جلال» بخبر جديد مثير. لقد وصلت رسالة أخرى من الرجل المجهول … الرسالة الجديدة تضيف غموضًا جديدًا إلى الرسائل السابقة؛ ففي الرسالة يقول الكاتب: اسأل «محمد» في القصر الأخضر عن السجن. قال «تختخ» بعد أن قرأ الرسالة: يبدو أن الموضوع لم يعد فيه لغز، ومن المؤكد أننا إذا قلنا للشاويش عن القصور الخضراء التي عثرنا عليها فسوف يستطيع أن يعرف فورًا ما هو المقصود بالسجن؛ فهو يعرف عن السجون أكثر منا.

عاطف: هل معنى هذا أن نترك اللغز ليحله الشاويش؟

تختخ: ليس هناك مانع من أن يقوم الشاويش بحل اللغز؛ فهذا هو عمله ونحن لا نتدخل إلا لمساعدة العدالة والقانون، فإذا كان ممكنًا أن يقوم الشاويش بهذا، فعلينا أن نساعده.

ركب «جلال» دراجته، وعاد مسرعًا إلى بيت عمه الشاويش «فرقع»، وقد قرر أن يقول لعمِّه على كل شيء، ويحدثه عما قاله «تختخ». وكان الشاويش قد خرج للعمل، ولم يعد بعد، فجلس «جلال» في نافذة الطابق الثاني يراقب الباب الخارجي؛ فقد تصل الرسالة، ويرى الشخص المجهول فيقدِّم لعمه خدمة كبرى.

ظل «جلال» في مكانه فترة طويلة حتى أحس بالملل، فقام ليُحضر مجلةً يقرأ فيها ليتسلَّى، وفي نفس الوقت يراقب الباب. وما كاد «جلال» يصل إلى مكانه حتى سمع صوت الطباخة يرتفع من الطابق الأسفل: «جلال» أستاذ «جلال» … هناك رسالة وصلت.

وأسرع «جلال» إلى تحت، وهو يلعن نفسه لأنه قام لإحضار المجلة، فلا بد أن الشخص المجهول قد وصل في تلك اللحظة، ووضع الرسالة في مكانها دون أن يراه، وسوف يتعرَّض لغضب عمه.

كانت رسالة من الشخص المجهول فعلًا، نفس المظروف الأبيض المربع والكلمات المقصوصة من الجرائد.

أمسك «جلال» بالرسالة وقد أحس باليأس، فماذا سيقول لعمه الآن وقد اقترب موعد عودته؟ وقبل أن يصل إلى قرار كان صوت حذاء الشاويش الضخم يدق الأرض بجواره وهو يسأل: هل عرفت الرجل المجهول؟ رد «جلال» في ارتباك: آسف جدًّا يا عمي، فلم أستطع رؤية الرجل رغم أنني لم أغادر المكان إلا لحظة واحدة.

الشاويش غاضبًا: لحظة واحدة! لحظة واحدة فقط؟ هل استطعت الذهاب إلى منزل أصدقائك والعودة في لحظة … إنك ولد ذري إذن! إنني لا أصدق هذا الكلام الفارغ.

جلال: إنني لا أكذب عليك يا عمي، ولم أكذب عليك قط، وكل ما حدث أنني تضايقت من الجلوس محملقًا في الباب، فقررت إحضار مجلة للتسلية، ففوجئت بالطباخة «سيدة» تخبرني بأن المجهول قد وضع الرسالة على نافذة المطبخ، وهكذا استطاع أن ينتهز فرصة قيامي لحظة واحدة ليسلِّم الرسالة.

الشاويش: إنك وزملاءك المغامرين الخمسة لا تفهمون شيئًا في عمل المخبرين؛ فالمخبر يجب ألَّا يترك شيئًا يغيب عن نظره ثانية واحدة وإلا ضاع كل شيء … وعليك أن تقول لهذا الولد السمين «تختخ» ذلك، ليتعلم شيئًا مفيدًا، بدلًا من طريقته المضحكة في حل الألغاز.

جلال: لقد وصل «تختخ» إلى طريقة لحل اللغز، وطلب مني أن أبلغك به.

الشاويش: طلب منك! إنني لا أصدقك ولا أصدقه!

جلال: أبدًا يا عمي، صدقني! لقد استنتج «تختخ» أن القصر الأخضر ليس اسمه هكذا، ولكن لونه هو الأخضر، وفعلًا استطاع الأصدقاء الخمسة العثور على خمسة قصور خضراء في المعادي، أربعة منها يسكنها شخص يدعي «محمد»، وبقي عليك بصفتك ممثلًا للقانون أن تسأل هؤلاء عن السجن أو تعرف واحدًا منهم له صلة بهذه الكلمة، وهكذا تحل اللغز!

أخذ الشاويش يعبث بشاربه لحظة، وهو لا يصدِّق ما يسمع، فمن غير المعقول أن يساعده «تختخ» في حل اللغز بهذه الطريقة، ولا بد أنها محاولة أخرى من الأولاد للسخرية منه … ولكنه في النهاية رأى أنه لن يخسر شيئًا إذا حاول، فقال ﻟ «جلال»: وهل عندك عناوين هذه القصور؟

جلال: أستطيع أن أحصل لك على العناوين من «تختخ» إذا سمحت لي بالذهاب إليه الآن؟

الشاويش: لا بأس، اذهب وعُد بسرعة، وسوف أتولَّى أنا مراقبة الباب الخارجي، لعل هذا المجنون الذي يُرسل الخطابات يصل فأطبق على رقبته، ولا أتركه إلا في السجن.

وأسرع «جلال» إلى دراجته وهو يشعر بالسعادة؛ لأنه سيرى الأصدقاء الخمسة ويقضي معهم بعض الوقت. وعندما وصل إلى منزل «تختخ» وجد الأصدقاء يعملون بنشاطٍ في ترتيب الغرفة العلوية والجراج، فلم يتردد في الاشتراك معهم بحماسةٍ ونشاط، وبعد أن عملوا بعض الوقت، دعاهم «تختخ» إلى كوب من الليمونادة المثلجة، كانت والدته قد أعدتها لهم مكافأة على عملهم الشاق.

روي «جلال» ﻟ «تختخ» الحديث الذي دار بينه وبين عمه الشاويش «فرقع» فقال «تختخ»: إن عمك لا يصدق أبدًا أنني على استعداد لمساعدته، ولعل هذا سبب إخفاقه في الوصول إلى حلٍّ لأي لغز، وها نحن نضع كل المعلومات التي حصلنا عليها أمامه، لعله يستفيد منها في الوصول إلى كاتب الخطابات المجهول … وها هي العناوين.

وقام «تختخ» إلى دفتر مذكراته، فنقل بخطه الدقيق الواضح نسخة من العناوين سلمها ﻟ «جلال» الذي ركب دراجته، وعاد مسرعًا إلى عمه. وصل «جلال» إلى منزل عمه، فوجده في حالةٍ من الغضب تدعو إلى الضحك فبرغم أنه كان يقوم بالمراقبة، فقد استطاع المجهول أن يضع رسالة تحت الباب دون أن يراه الشاويش. وكان الشاويش يمسك الرسالة الجديدة بين يديه وهو يصرخ: هذا غير معقول! إنني سوف أُجن، لا بد أن هذا الرجل شبح، أو أنه يطير في الهواء، أو ينزل من السماء، لقد ذهبت لأشرب كوبًا من الماء … كوبًا واحدًا في هذا الحر القاتل، فإذا بالرجل يصل ويضع الرسالة ويمضي … شيء لا يصدقه عقل! إن هذا البيت تسكنه العفاريت!

قال «جلال» محاولًا تهدئة عمه: لا داعي لهذه الثورة يا عمي، ومن الأفضل أن تدرس المسألة بهدوء أكثر … لقد أحضرت لك العناوين، وعليك الآن أن تبحث عن «محمد» المقصود في الرسالة، ولعلك تستطيع في النهاية الوصول إلى حل اللغز.

تناول الشاويش كشف الأسماء وهو ينظر إلى «جلال» في ريبة، وأخذ يقرؤها في صوت هادئ، ثم قال: إنني أعرف بعض هؤلاء الذين تتهمونهم وهم أناسٌ شرفاء، لا يمكنهم الاشتراك في مثل هذا العمل القذر، ولكن لا بأس … سوف أذهب وأتحدَّث معهم، وإذا لم أجد بينهم المتهم فلن أسكت عنكم، إنني لا أسمح لأحد بأن يسخر مني، خاصةً هذا الولد السمين، وهؤلاء القرود الذين يُسمون أنفسهم المغامرين الخمسة، والآن فرقع من هنا، وارقب النافذة.

قضى الشاويش، كما قضى الأصدقاء، أمسيةً هادئة، فلم يخرج أحدٌ منهم للبحث في حل اللغز، واكتفوا بالحديث عنه، وفي صباح اليوم التالي خرج الشاويش مبكرًا على دراجته، وفي جيبه كشف الأسماء والعناوين وقال ﻟ «جلال»: قف في النافذة ولا تتحرَّك أبدًا. ثم أخرج الكشف من جيبه ليرى أي طريق سيسلك أولًا، ثم عاد إلى الحديث قائلًا: إن هؤلاء الناس لا يمكن أن يكون فيهم رجل يشترك في مثل هذا العمل، ولكن … هذا القصر الخامس، والبواب «عطية» شيء مثير للانتباه، إنني أذكر هذا القصر! إنني أذكره، ولكنها ذكرى بعيدة جدًّا … ربما من عشرين سنة.

ووضع الشاويش الكشف في جيبه، ونبَّه «جلال» مرة أخرى، ثم انطلق على دراجته، وقد احتشدت في رأسه صور من الذكريات.

قضى المغامرون الخمسة هذا اليوم في العمل، بينما قضاه الشاويش متنقلًا من قصرٍ إلى قصر، يسأل ويستمع، لقد قابل في القصر الأول «محمد نبيه» وهو موظفٌ كبير على المعاش، ورث القصر عن والده، وهو رجلٌ محترم لا يمكن أن يشترك في عملٍ رديء، وفي القصر الثاني قابل «محمد جلال» وهو تاجرٌ كبير، وصاحب مجموعة من محال البقالة، وقد نفى أي صلة له بالخطابات، وليس له أي علاقة بالسجون ولا الشرطة، كذلك «محمد الدمرداش» وهو قاضٍ محترم، والرابع كان «محمد سليم» وهو رجل عجوز ثري، ولكنه مختل العقل، ولا يقابل أحدًا، وقد استطاع الشاويش أن يقابله بصفته ممثلًا للقانون، ولكن مقابلته لم تسفر عن شيء؛ فقد أخذ الرجل يتحدث عن أشياء غريبة، وعن القمر الصناعي، ولعب الكرة، والهنود الحمر، وأشياء كثيرة لا رابط بينها، حتى كاد الشاويش أن يفقد عقله هو الآخر.

كانت الساعة قد قاربت الثانية بعد الظهر عندما انتهى الشاويش من آخر زيارة له وخرج من قصر الرجل المختل العقل، والغضب يعصف برأسه، لقد أدرك أن الولد السمين يسخر منه، ويضيع وقته في زيارات لا فائدة منها، وقال في نفسه وهو يركب دراجته: سوف أحاسبهم جميعًا … خاصة «جلال» فهو الذي نقل لي المعلومات.

بدأ الشاويش رحلة العودة إلى منزله، ولكنه تذكر القصر الأخير … القصر الخامس … إنه يتذكر هذا القصر … لقد زاره قبلًا ولكنه لا يذكر المناسبة، وكان القصر بعيدًا، والشمس محرقة، ولكن الشاويش قرَّر في النهاية أن يزور القصر … وهكذا استدار، وأطلق لدراجته العنان.

وصل الشاويش بعد فترة طويلة، ورحلة مجهدة إلى القصر الخامس، وكان قصرًا قديمًا تغطيه النباتات كما وصفه الأصدقاء، له بوابة عتيقة يعلوها جرس أسود، فوقف الشاويش فترة يتذكر القصر … وتذكر كل شيء! نعم إن هذا القصر هو الذي سيحل اللغز، وتقدم ثم دق الجرس الأسود، فسمع رنينه الموحش يدق في قلب القصر، ولكن أحدًا لم يرد، فوضع يده على الجرس مرة أخرى وظل يدقه باستمرار حتى سمع صوتًا نسائيًّا يرد من الداخل، ثم فتح باب القصر الخشبي، وشاهد سيدة عجوزًا تنظر إليه من بعيدٍ وقد بدَت عليها الدهشة، صاح الشاويش: افتحي الباب، إنني الشاويش «علي»! صاحت السيدة من بعيد: إن الباب الحديدي مفتوح، وتستطيع أن تدخل.

دفع الشاويش الباب ودخل إلى الحديقة. كانت حديقة واسعة جميلة، لم يستطع الشاويش أن يخفي دهشته لتناسقها وجمالها، والعناية المبذولة فيها، ثم تقدم حتى أصبح وجهًا لوجه مع السيدة العجوز التي استقبلته بابتسامةٍ مرحبةٍ كسَت وجهها الطيب الذي ملأته الهموم بالتجاعيد.

قال الشاويش: هل هناك أحد في هذا القصر؟

ردت السيدة بأدب: لا يا سيدي، إن القصر خالٍ من السكان منذ زمن بعيد، ولا يسكنه أحد إلا أنا وزوجي.

الشاويش: وأين هو زوجكِ هذا؟

السيدة: إنه بالداخل يا سيدي، فهو مريض جدًّا منذ فترة، ولا يغادر فراشه مطلقًا.

الشاويش: وماذا تفعلان؟

السيدة: إننا نقوم بالحراسة والعناية بالحديقة يا سيدي منذ فترة طويلة.

الشاويش: هل زوجكِ اسمه «عطية»؟

ارتبكت السيدة قليلًا ثم قالت: نعم يا حضرة الشاويش، اسمه «عطية».

الشاويش: أريد أن أقابله.

السيدة: ولكنه مريض جدًّا يا سيدي، ويسعل طول الوقت، وليس معنا نقود لشراء دواء له … إنه مريض جدًّا …

وانهمرَت دموع السيدة المسكينة، ولكن الشاويش لم يعبأ بها، وتقدم، واجتاز الباب إلى داخل القصر قائلًا: أين هو، إنني أريد أن أراه. حاولت السيدة منع الشاويش من الدخول، ولكنه أزاحها جانبًا ثم دخل، واستطاع أن يسمع سعال الرجل المريض، فاتجه إلى الحجرة التي يعيش فيها بجوار السلم الداخلي للقصر، وعندما التقت عينا الشاويش بعيني الرجل فتح الشاويش فمه مذهولًا، ولم ينطق لحظات ثم قال: أنت! أخذ الرجل ينظر إلى الشاويش في استرحام، ثم قال وهو يسعل: نعم … إنه أنا!

الشاويش: هل ما زلت حيًّا؟

الرجل: نعم، ولكنها حياةٌ الموت أفضل منها.

الشاويش: ومتى خرجت من السجن؟

الرجل: منذ عشرين عامًا أو تزيد.

الشاويش: وغيَّرت اسمك؟

الرجل: غيَّرت اسمي حتى لا يعرفني الناس، وحتى لا يشير إليَّ أحدٌ ويقول كيف تحول المهندس الزراعي «محمد سيف الدين» إلى «عطية البواب».

الشاويش: لقد وقعت في يدي مرة أخرى.

الرجل: لماذا؟ إنني لم أفعل شيئًا أعاقب عليه، لقد أضعت شبابي في السجن، وأضعت مستقبلي، ولكني الآن أعيش حياة نظيفة، وأقضي أيامي الأخيرة في هدوء.

الشاويش: وهذه الرسائل!

الرجل: رسائل! أية رسائل!

الشاويش: الرسائل الغريبة التي تصلني.

الرجل: لست أعرف عن أي شيء تتحدث، فأنا لا أرسل رسائل، ولا أتلقى رسائل إلا من السيدة «لطيفة» صاحبة القصر والتي تعرف قصتي الحزينة، وتفضلت بإيوائي في هذا المكان.

الشاويش: لا تلف وتدور إن خريج السجون مثلك لا يمكن أن يدافع عن نفسه، وما أطلبه منك الآن أن تغادر المعادي فورًا، وألَّا تبقى هنا لحظة واحدة.

كانت السيدة العجوز تسمع هذا الحوار ودموعها تنساب على خديها في هدوء. وعندما أصدر الشاويش قراره تعلقت بذراعه صائحة: أرجوك يا حضرة الشاويش، ارحمنا يرحمك الله، إننا لم نفعل شيئًا نحاسَب عليه.

الشاويش: لا فائدة من الاسترحام، ولست أريد منكما إلا مغادرة المعادي فورًا، فلن أسمح لخارج من السجن، غيَّر اسمه أن يبقى في مكان أنا فيه.

وهكذا غادر الشاويش المكان، وقد أحس بارتياحٍ؛ فلن تصله رسائل أخرى سخيفة بعد أن عرف كل شيء.

وعندما عاد الشاويش إلى منزله قال ﻟ «جلال» بانتصار: لقد حللت اللغز، ليس في القصور التي عثرتم عليها، ولكنه في القصر الخامس الذي لم تشتبهوا فيه، والآن اذهب إلى أصدقائك وقل لهم هذه الحكاية.

ثم روى الشاويش ﻟ «جلال» ما جرى في هذا اليوم من أحداثٍ بلهجة المنتصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤