مفاجأة مثيرة

عاد الأصدقاء إلى غرفة العمليات في منزل «تختخ» صامتين؛ فقد كان «تختخ» غارقًا في أفكاره، وهو يعيد التفكير مرة ومرات في الحكاية التي سمعها من «عطية»؛ حكاية العصابة التي هربت والجواهر الزرقاء … والقصر الأخضر و«لطيفة» هانم.

قال «تختخ» للأصدقاء: لقد عرفت بعض معلومات غريبة من «عطية» بعضها يهمكم، والبعض الآخر وعدت ألَّا أقوله لأحد، على الأقل الآن وحتى بعد أن ننتهي من حل اللغز، إنني لا أتوقع أشياء جديدة اليوم، ولكن في رأسي فكرة أخرى أريد أن أنفِّذها … لقد قلت لكم إن أمامنا سؤالَيْن لا بد من الإجابة عنهما؛ الأول: من الذي يقوم بإرسال الخطابات إلى الشاويش؟ والثاني: ما هو الهدف من طرد «عطية» من القصر؟ ثم سكت «تختخ» لحظةً وقال: إن الذي يُرسل الخطابات بهذه الكثرة إلى الشاويش يُهمُّه جدًّا طرد «عطية» من القصر، وما دام «عطية» موجودًا هناك، فلا بد أنه سيُرسل الخطابات مرةً أخرى؛ لهذا سوف أذهب فورًا إلى منزل الشاويش، وأجلس مع «جلال» فقد أستطيع معرفة الشخص الذي يوصل الخطابات إلى منزل الشاويش، لعلني أصل عن طريقه إلى مرسل الخطابات.

قال «محب»: سنبقى نحن هنا، وسوف نستمر في تنظيم الحجرة العلوية والجراج، حتى تعود.

تختخ: إذا تأخرت كثيرًا عليكم، فيمكنكم العودة إلى بيوتكم حتى أتصل بكم مرةً أخرى.

أسرع «تختخ» إلى الحديقة، حيث قفز إلى دراجته ثم انطلق مسرعًا إلى «جلال». كان «جلال» يجلس في النافذة العلوية حيث اعتاد أن يجلس، فشاهد «تختخ» وهو يقترب، فأشار له أن يصعد إليه، وبعد لحظات كان «تختخ» يجلس بجواره في النافذة بعد أن فتح «جلال» الباب له.

قال «تختخ»: لقد وصلت إلى معلوماتٍ كثيرة عن القصر الأخضر، وعن «عطية»، ومن المهم جدًّا أن نعرف من هو مُرسل الخطابات، فهل وصلت خطابات اليوم؟

جلال: لا لم تصل رسائل بعد، وأنا في المنزل وحدي لم أتحرك من مكاني بعد أن خرجت «سيدة» الطباخة إلى السوق.

جلس الصديقان معًا يتبادلان الأحاديث، وشاهدا بعد فترة «سيدة» وهي عائدة من السوق، وسمعاها وهي تقوم بالعمل في المطبخ. مرت فترة طويلة دون أن يظهر أحد، وخشي «تختخ» أن يحضر الشاويش ويراه ويقع في مشاكل معه، فقرر الانصراف، ولكن فجأة سمعا صوت الطباخة «سيدة» وهي تنادي «جلال»، فأسرعا إليها، ووجدا في يدها خطابًا من المجهول. نفس المظروف المربع، والكلمات المقصوصة من الجرائد. أمسك «تختخ» الخطاب في يده لحظات، ثم طافت برأسه فكرة هامة فقال ﻟ «جلال»: سأنصرف الآن يا «جلال»؛ فليس هناك فائدةٌ من المراقبة بعد أن حضر الرجل المجهول وانصرف دون أن نراه.

وودَّع «تختخ» «جلال» ثم انصرف مسرعًا … لقد تأكَّد أن الطباخة «سيدة» لها صلة بالخطابات؛ فقد كان هو و«جلال» يراقبان الباب والحديقة جيدًا، ومن غير المعقول أن يكون الرجل الذي يُحضر الخطابات قد وصل ولم يشاهداه، والحل الوحيد أن تكون «سيدة» هي التي تُرسل الخطابات … أو هي التي تُحضر الخطابات، وقرر «تختخ» مراقبتها من صباح اليوم التالي.

عندما عاد «تختخ» إلى البيت كان الأصدقاء قد انصرفوا، فجلس وحيدًا يفكر. كانت مفاجأة مثيرة أن يصل إلى هذه الفكرة، فمن الذي يتصوَّر أن «سيدة» الطباخة يمكن أن تشترك في مثل هذا العمل، وبعد تفكير طويل اقتنع «تختخ» أن «سيدة» لا يمكن أن تقوم بكتابة الرسائل بهذه الدقة والبراعة، وأن دورها لا يزيد على توصيل الرسائل إلى منزل الشاويش. وقام «تختخ» إلى كراسة مذكراته، فأخذ يقرأ المعلومات التي جمعها عن اللغز ويُعيد التفكير فيها، ومرةً أخرى اقتنع أنه يسير في الطريق الصحيح.

في الصباح الباكر قام «تختخ» من نومِه، وبعد أن تناول إفطارَه دخل إلى غرفة العمليات حيث قام بعملية تنكُّر بارعة تحول بعدها إلى بائع روبابكيا. ثم وضع على كتفه جوالًا قديمًا أحضره من غرفة السطح، وتسلل من الباب الخلفي للفيلا، ثم انطلق على قدمَيْه مسرعًا إلى منزل الشاويش. لقد قرر مراقبة «سيدة» ليعرف أين تذهب عندما تخرج في الصباح إلى السوق.

وجلس «تختخ» أمام عمود النور المواجه لمنزل الشاويش، وتظاهر بأنه يعد نقوده، وكانت عيناه مثبتتين على باب المنزل، وشاهد الباب يُفتح، ولكن لم تكن «سيدة» هي التي خرجت بل كان الشاويش «فرقع» في طريقِه إلى قسم الشرطة، وبعد فترةٍ شاهد «جلال» وهو يصعد إلى النافذة في الطابق الثاني يراقب الباب.

مضَتْ ساعة دون أن تظهر «سيدة» وارتفعت الشمس وأحس «تختخ» بالحرارة تلهب وجهه وهو جالس على الأرض، ولكنه ظل في مكانه فقد كان مقتنعًا أن «سيدة» هي التي ستقوده إلى حل اللغز.

أخيرًا ظهرَت «سيدة» على الباب، فوقفت قليلًا، وتلفتت حولها، ثم سارت، فقام «تختخ» يتبعها في سرعة؛ فقد كان يخشى أن تغيب عن عينيه، وسارت «سيدة» بسرعةٍ لم تكن متوقعةً منها، وظل «تختخ» يسير خلفها على مبعدةٍ حتى لا تلاحظه، وأحس «تختخ» أن استنتاجه صحيحٌ فلم تسلك «سيدة» الطريق إلى السوق، بل اتجهت في طريق آخر، ثم دخلت من شارع إلى شارع حتى وصلت إلى فيلا صغيرة قديمة، فوقفت أمام باب الحديقة لحظات، وتلفتت خلفها بضع مرات كأنها تتأكد من أن أحدًا لا يتبعها ثم دفعت باب الحديقة، ودخلت. تقدم «تختخ» ناحية الفيلا، وحتى لا يشك فيه أحدٌ أطلق صوته عاليًا قائلًا: روبا … بكيا … بكيا. ثم تقدم في حذرٍ من باب الفيلا، ونظر إلى الحديقة التي كانت مهملة، وقد امتلأت بالصناديق الفارغة والصفائح القديمة.

غابت «سيدة» داخل الفيلا قليلًا، فابتعد «تختخ» من الباب حتى لا يلاحظه أحد، وأخذ يتجوَّل حول المكان وهو ينادي: روبابكيا … بكيا. ولسوء الحظ خرجت طفلة صغيرة من أحد الأبواب ونادته، فحاول التخلُّص منها، ولكن بواب المنزل المجاور خرج هو الآخر، وقال ﻟ «تختخ»: تعال هنا، هناك زبونة تريد أن تبيع لك بعض الأشياء القديمة.

لم يستطع «تختخ» التخلص من الرجل، وخفق قلبه بشدة، وهو يدخل من باب العمارة، ثم يدخل شقة في الدور الأرضي حيث استقبلته سيدةٌ لطيفة عرضت عليه عربة أطفال قديمة للبيع. تظاهر «تختخ» بأنه يفحص العربة قبل أن يشتريها، ولكن ذهنه كان منصرفًا إلى طباخة الشاويش، فقال: إن هذه العربة من نوعٍ قديم يا سيدتي، ولا أظنها تساوي شيئًا.

ردَّت السيدة مبتسمة: إنها قديمة فعلًا، ولكنك تشتري الأشياء القديمة، أليس كذلك؟

تختخ: فعلًا، فكم تريدين فيها؟

السيدة: ثلاثة جنيهات على أقل تقدير؛ فهي من طراز محترم.

تختخ: آسف جدًّا، ولكنها لا تساوي نصف هذا المبلغ.

وللأسف الشديد قالت السيدة: لا بأس … إنني أقبل مائة وخمسين قرشًا من أجل خاطرك.

أحس «تختخ» أنه تاجر «غشيم» فقد وقع في «مطب» لم يكن يتوقعه ولكن احترامًا لكلمته، أخرج نقوده القليلة، ودفع للسيدة المبلغ، ثم جر العربة الصغيرة أمامه، وخرج من الباب.

بعد أن زال أثر المفاجأة، أخذ «تختخ» يضحك، لقد وقع في مأزق لطيف ولكن العربة القديمة أعجبته جدًّا، فقد أكسبته مظهر تاجر «الروبابكيا» المحترم، وهي في الوقت نفسه تصلح في مغامرات أخرى، وهكذا بدلًا من أن يأسف أحس أنه عقد صفقة رابحة.

عاد «تختخ» مسرعًا إلى الفيلا التي دخلتها «سيدة» الطباخة، ولكن الوقت الذي مضى أكد له أن لا فائدة من انتظارها، فلا بد أنها خرجت أثناء شرائه للعربة الصغيرة، وهكذا قرر الانصراف.

تذكر «تختخ» أنه قريب من منزل السيدة «جميلة» صديقة والدته، وكانت السيدة جميلة قد تبرعت ببعض الأشياء للسوق الخيرية التي ستقيمها والدته، فقرر المرور عليها، وأخذ الأشياء معه. وهكذا دفع عربته الصغيرة أمامه، وانطلق إلى منزلها. دق جرس الباب، فظهرت «جميلة» ونظرت إليه مندهشة فقال لها: إنني «توفيق» … ألا تعرفينني؟

قالت السيدة في ضيق: أي «توفيق»، ولماذا أعرفك؟

دهش «تختخ» فقال لها: إنني «توفيق خليل» ابن السيدة «هدى» هل نسيتني بهذه السرعة؟

صاحت السيدة في غضب: هل تظن نفسك ظريفًا حتى تدعي أنك «توفيق»، إنك سخيف، ابتعد من هنا وإلا طلبت لك الشاويش.

ثم أغلقت الباب في وجهه في غضب شديد. اندهش «تختخ» لتصرف السيدة الطيبة، وفجأة تذكر أنه متنكر في شكل تاجر الروبابكيا، فانصرف مسرعًا وهو آسف لما سببه للسيدة من إزعاج. وأمسك بعربته ومضى يقطع الشوارع مسرعًا، وهو يضحك لأنه نسي نفسه في غمرة الأحداث الأخيرة ونسي تنكره، ووقع في مطب آخر دون أن يدري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤