الفصل السابع عشر

ستارباك

فيما عكف القبطان آهاب في كابينته على وضع الخرائط وانتظار ساقه الجديدة، انهمك سائرنا في عمله. كان علينا أن نضخ زيت الحوت في براميل نحتفظ بها في مخزن السفينة.

آنذاك كان ستارباك يصدر التعليمات لرجال المخزن عندما دُعي إلى سطح السفينة لأن أحد الرجال لاحظ أن الزيت يتسرب إلى ماء البحر حول بيكود، مما يعني أن البراميل تسرب الزيت، وهذا سيء.

قصد ستارباك مكتب القبطان آهاب ليحدثه عن تلك المشكلة الجديدة فتبعته تحسبًا لأي أوامر جديدة.

قال ستارباك: «سيدي. الزيت يتسرب من المخزن. سنضطر إلى الرسو في اليابان للقيام ببعض الإصلاحات.»

فقال آهاب: «نتوقف؟ هل تقترح أن نتوقف بعد أن صرنا في أثر موبي ديك؟ لقد سمعنا أخيرًا بمشاهدات له!»

– «إن لم نتوقف يا سيدي، فسنفقد في يوم واحد زيتًا أكثر مما قد نجمعه في عام.»

– «لن أضيع وقتًا في أمر تافه كهذا.»

حاول ستارباك أن يشرح له الأمر قائلًا: «لكننا أبحرنا عشرين ألف ميلًا من أجل هذا.»

فقال آهاب هازئًا به: «لم نبلغ هدفنا بعد.»

فقال ستارباك: «أنا أتحدث عن زيت الحوت يا سيدي.»

فقال آهاب بصرامة شديدة: «وأنا قطعًا لا أتحدث عنه. رجاءً اتركني الآن، لا يمكنني أن أنشغل بأمر كهذا.»

فقال ستاربك وقد بدأ وجهه يحمر غضبًا — لكنه حاول ألا يفقد أعصابه — سيدي، لا أستطيع أن أوافقك على منطقك هذا.

فقال آهاب: «أنا قبطان هذه السفينة، مما يعني أنني المسئول فيها، مما يعني أنني ربانها وقائدها. الآن، عد إلى سطح السفينة واتركني لواجباتي.»

فدار ستارباك على عقبيه وعاد إلى ظهر السفينة؛ فسرت في أثره، لكن قبل أن أفعل رأيت القبطان يذرع الغرفة جيئة وذهابًا.

تمتم لنفسه قائلًا: «كيف يجرؤ على التحدث إلي بهذه الطريقة. علي أن أعاقبه، سأحرص على ألا يصبح وكيل ربان أول مجددًا».

ثم اتجه إلى ظهر السفينة وشاهد من بعيد طاقمه وهو يعمل.

كان ستارباك يقود الطاقم إلى العودة إلى مخزن السفينة بالطابق السفلي حيث كنا سنشرع في إصلاح موضع التسريب بأنفسنًا بدلًا من التوقف لإصلاحه.

فأدرك آهاب أنه ربح معركته مع ستارباك، وقال مخاطبًا نفسه: «أعتقد إذن أنك أصغيت لأوامري. آه يا ستارباك. لعلك صادق أكثر مما يجب».

ثم استدعى طاقمه وقال: «ارفعوا المرساة وانصبوا الشرع عاليًا. سنمضي في طريقنا.»

فأطاع الجميع الأمر، وانطلقت بيكود مجددًا للبحث عن الحوت الأبيض.

واصلنا البحث عن موضع التسريب في براميل الزيت الخشبية. البراميل الجديدة كانت بحال جيدة، لذا كان من المؤكد أن البراميل القديمة التي حشرت في نقطة أبعد بالمخزن هي التي تسرب الزيت لكننا أوغلنا في البحث، وواصلنا رحلة صيدنا.

كان المخزن مظلمًا باردًا شديد الرطوبة. لسوء الحظ مرض كويكيج أعز أصدقائي لهذا السبب وأصيب بحمى شديدة وهو يعمل هناك.

وضعناه على الأرجوحة الخشبية التي ينام عليها ودثرناه بالأغطية لنقيه الشعور بالبرد، لكن سرعان ما أخذ جسده يذوى، وبرزت هالات داكنة تحت عينيه، ووجد صعوبة في الانتباه إلينا ونحن نعني به. ظننا جميعًا أن ساعته قد حانت.

ناداني لأكون بجانبه ذات يوم وطلب مني أن أسديه معروفًا. أراد أن يدفن في زورق كالزوارق الخشبية الداكنة الطويلة التي رآها في نانتكت، لقد أخبره من يبيعها أن صيادي الحيتان يدفنون فيها.

لم أرد أن أتحدث عن موته، لكنه أصر على التحدث في الأمر وقال: «هذه أشياء عليك بمعرفتها».

عليه أخذ نجار السفينة في بناء زورق خشبي طويل له.

فلما فرغ من بنائه، طلب كويكيج رؤيته. ثم سأل شخص ما أن يأتيه برمحه، وطلب أن يوضع الرمح في الزورق بجانب مجداف من زورق الصيد الذي كان يركبه، ولُفت قطعة قماش من أحد الشرع على هيئة وسادة ووضعت في الزورق.

بعدئذ طلب كويكيج أن يحمل إلى الزورق، لأنه أراد أن يستريح به، فسادت حالة من الترقب؛ حسبنا جميعًا أن كويكيج لن يلبث أن توافيه المنية في صمت وهو في هذه الوضعية.

لكن لم يحدث شيء. تمدد كويكيج هناك فقط وهو مغمض العينين، فأعدناه إلى أرجوحته الخشبية، وبعدئذ، أخذت حاله في التحسن.

عاد إلى حالته الطبيعية في غضون أيام قليلة، فهب فجأة على قدميه، وألقى ذراعيه في الهواء ثم رقص رقصة سريعة في مرح، ولم يترك زورقه يضيع سدى؛ استخدمه كصندوق يحتفظ فيه بكل أغراضه.

بعد مرور يومين فقط على شفاء كويكيج، صادفنا سفينة رايتشيل.

أمر القبطان آهاب كالعادة بالرسو إلى جانب السفينة وسأل طاقمها إن كانوا قد رأوا الحوت الأبيض.

فأجاب قبطان رايتشيل: «أجل، رأيناه البارحة».

فلم يستطع آهاب احتواء حماسته! أراد أن يهرع إلى ظهر سفينته ويبدأ البحث عن موبي ديك على الفور.

سأل متلعثمًا: «أين هو؟ لم يقتل. أليس كذلك؟ آمل ألا يكون قد قتل».

فقص القبطان قصة طاقمه مع الحوت. كان الطاقم يطارد سربًا من الحيتان، عندما لاح أمامهم فجأة موبي ديك. أحاطت الأمواج بزوارقهم وأصبح البقاء على ظهر الماء أصعب بفعل الضربات القوية المخيفة التي سددها موبي ديك بذيله.

ثم اختفى أحد الزوارق وسط هذه الجلبة. لم يدروا إن كان قد غرق أم تاه في عرض البحر.

فقال قبطانهم: «نحن بحاجة إلى مساعدتكم، رجاء ساعدونا في العثور على زورقنا الذي نفقده، لا نريد أن يضيع رجالنا».

فبذل آهاب ما بوسعه للتملص من الحديث عن ذلك؛ إذ أراد أن يبحث عن الحوت الأبيض لا عن زورق مفقود، من ثم افترق بسفينته عن سفينة رايتشيل بدون أن يودع طاقمها أو يتمنى لهم حظًا طبيًا.

خلد أغلبنا إلى النوم هذه الليلة، ولم يبق إلا بعضنا ساهرًا يؤدي عمله.

إلى أن صاح صوت من قمة الصاري: «حوت ينفث الهواء. وهو موبي ديك! موبي ديك صاعد لتنفس الهواء.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤