الفصل الحادي والعشرون

مِرْدَاد

قصة لا تقبل التلخيص، ولا تعرفها حق معرفتها إلا بأن تقرأها من الألف إلى الياء، أو من صفحتها الأولى إلى صفحتها الأخيرة، وتعود إليها بعد ذلك كلما شئت أن تعود فستطلع منها على معنى جديد.

هذه هي قصة «مرداد» التي ألفها الأديب اللبناني الكبير الأستاذ ميخائيل نعيمة بالإنجليزية، وبلغ بها القمة بين عليا القمم التي ارتقى إليها المؤلفون العصريون في سائر اللغات.

وهي لا تقبل التلخيص لسببين: أحدهما أنها تجربة روحية، وكل تجربة فهي كالروح نفسها كل كامل يستعصي على التجزئة، ولا تكون التجزئة بالنسبة إليه إلا كما يكون التفتيت بالنسبة إلى البنية الحية، يسلبها الحياة ويرد الأعضاء منها إلى أشلاء.

والسبب الآخر الذي يستعصي بها على التلخيص أنها تخاطبك بلغة الرموز الصوفية، والرموز الصوفية في جانب من جوانبها أشبه شيء بالقيم الرياضية التي تدل عليها الحروف، فلا يغني حرف منها عن سائرها ولا يزال كل حرف منها منطويًا على قيم مخزونة فيه، ولكنها لا تُخزَّن في سواه.

ورموز الصوفية بعدُ إشارات وإيماءات، فهي لا تقبل الإيجاز لأنها هي غاية غاية الإيجاز.

هذه الرموز، أو هذه الكلمات، هي كما قال «مرداد» بطل القصة أو رسولها في بعض عظاته: «إن الكلمات على أحسنها إنما هي ومضات تكشف الآفاق، فليست هي الطرق التي تفضي إلى تلك الآفاق، وليست هي من باب أولى بتلك الآفاق نفسها، فإذا حدثتكم … فلا تتعلقوا بالحرف بل اتبعوا الومضة، فتجدوا من كلماتي أجنحة قوية لفهمكم المكدود.»

وليس للقصة كذلك واقعة تقبل التلخيص، وكل ما في واقعتها أنها سمط تُناط به الكلمات، أو سلك تنبض فيه الومضات هنا وهناك، وليس للقارئ أن يسأل فيها عن التجارب الحسية ما يقع منها وما لا يقع في عالم الحس المشهور، فإنها تغضي عن الحس عمدًا؛ لأنها تقصد إلى الخروج منه ولا تقصد إلى التقيد به أو الوقوف عنده، فهي في حل من ضوابط المحسوسات.

ولك أن تقول: إن الواقعة نفسها رمز من الرموز وليست حدثًا من الأحداث، فهي بمقياس الرموز — لا بمقياس الأحداث — تُقاس، أو هي لا تُقاس ولكنها تُفهَم على النحو الأليق بها من التعبير.

قمة في جبل، يسأل عنها فتى من طلاب المجهول، فيُقال له: إنها قمة الفلك؛ لأن «نوحًا» بناها على الطوفان ليعتصم بها من الغرق في الدنيا، بعد أن عصمه الفلك من الغرق في الماء، وأوصى بنيه أن يوقدوا فيها نارًا لا تُطفَأ على مدى الزمن؛ لأنها هي شعلة الإيمان، وأن يقيموا إلى جانبها هيكلًا على صورة الفلك، ولا يأذنوا لأكثر من تسعة أن يسكنوه، وهم رفقاء الفلك الذين يحرسون نار الإيمان ولا يشغلون ضمائرهم بهم من هموم العيش ولا بشهوة من شهوات الجسد، ويأتيهم رزقهم من حيث لا يحتسبون، ويسوق إليهم القدر تاسعهم كلما فقدوا واحدًا منهم، وعليهم أن يتقبلوه كلما طرأ عليهم؛ لأنه لا يأتيهم إلا من عند الله.

ويشتهر هيكل الفلك فيقبل عليه الزوار بالهدايا، وتكثر الهدايا فيملك الرفقاء حبوسًا في الأرض تملأ خزائنهم بالخيرات، ويتولى الرياسة فيه — زمنًا من الأزمان — رفيق جشع يُدعى «شمدام» فيرفض الضيف التاسع حين ساقه إليه القدر؛ لأنه أحس فيه سرًّا يجهله ويخشى أن يرشحه للرياسة، ثم يقبله خادمًا في الهيكل، فيقضي في الخدمة سنوات يتجلى في خلالها سره للرفقاء، فيقتدون به ويلتمسون عنده الهداية، ويغار منه الرئيس فيصابره زمنًا ثم يغري به أمينًا في جواره فيعتقله ويقصيه عن الهيكل، ولكنه يعود إليه بسره الذي يحطم القيود ويتحدى السلطان، ويحمل الرفاق في الفلك ويترك «شمدام» طيفًا مرصودًا يحوم حوله مغلق الفم معتقل اللسان.

ذلك هو «مرداد» بطل القصة أو رسول الكتاب.

وإنه ليرصد «شمدام» إلى اليوم المعلوم في انتظار وافد له علامة، وعلامته أنه يصعد إلى القمة من أوعر الطرقات إليها، فإذا حان اليوم المعلوم وصعد الوافد إلى القمة جائعًا عاريًا منزوفًا منهوكًا بغير سند ولا وقاء، فتلك علامته التي تطلق لسان شمدام، فيروي له قصته ويسلمه كتاب «مرداد».

وكتاب مرداد هذا هو وصاياه التي باح بها لتلاميذه، وهي الوصايا التي لا نلخصها في هذا المقال؛ لأنها كما أسلفنا لا تقبل التلخيص، ولكننا ننقل منها فقرات من هنا وهناك في مختلف الصفحات، بغير ترتيب مقصود.

عندما خُلِق على الأرض أول إنسان وقف في ناحية من السماء ملكان يتحاوران، فجرى بينهما هذا الحوار:

الأول : لقد وُلِد للأرض طفل عجيب، فهي تسطع بالضياء …
الثاني : ملك مجيد وُلِد للسماء فهي تخفق بالفرح.
الأول : إنه ثمرة القرآن بين السماء والأرض …
الثاني : إنه الوحدة الأبدية؛ وحدة الأب والأم والوليد.
الأول : به ترتفع الأرض …
الثاني : فيه تتحقق السماء.
الأول : النهار نائم في عينيه.
الثاني : الليل يقظان في فؤاده.
الأول : صدره وكر العواصف …
الثاني : حنجرته سلم الألحان.
الأول : ذراعاه تعانقان الجبال …
الثاني : أصابعه تقطف النجوم.
الأول : البحار تزمجر في عظامه.
الثاني : الشموس تجري في عروقه.

•••

الأول : حول قدميه قيود الغد …
الثاني : في قلبه مفتاح القيود.

(ويمضي الحوار بين الملكين على هذا النسق حين يكون شيطانان في الطرف الآخر من الكون يتناجيان بهذا الحديث.)

الأول : بطل ظافر دخل في صفوفنا، وبعونه نحن منتصرون …
الثاني : بل جبان رعديد موسوم الجبين بالخيانة، ولكنه مخيف في خوفه وبكائه.
الأول : ذهنه ثاقب دؤوب …
الثاني : سمعه ثقيل بليد، ولكنه خطر في الثقل والبلادة.

•••

الأول : لهفته على خبزنا وظمؤه إلى خمرنا، هما المطية له في حومة الكفاح.
الثاني : بالجوع الذي لا يشبع، والظمأ الذي لا يروي، سيظفر فلا يُقهَر ويثير الفتنة في هذا المعسكر.
الأول : ولكن الموت قائده الذي يأخذ بزمام المطية …
الثاني : وبالموت قائدًا سيدوم خالدًا.
إذا أثبت شيئًا نفيت نقيضه وإذا أثبت نقيضه نفيته، والله لا نقائض فيه؛ فكيف تثبته أو تنفيه؟

ازحف حيث لا تستطيع أن تمشي، أو امشِ حيث لا تستطيع أن تجري، واجرِ حيث لا تستطيع أن تطير، وطِر حيث لا تستطيع أن تجمع الكون كله إلى قرار فيك!

إن الصاعقة لن تضرب بيتًا إن لم يكن ذلك البيت قد جذبها إليه، وعلى البيت حساب في خرابه كحساب النار التي سقطت عليه!

الضعيف مع الضعيف وقر، ومع القوي أمانة مستحبة … ابحثوا عن الضعفاء! إن ضعفهم هو قوتكم!

إنك لا تعلم ما تسأل يا ميكايون: أتود الخلاص من مخلصك؟

صدقني يا شمدام، إن الحياة التي يحياها الناس، والموت الذي يموتونه إن هما إلا سبات وغيبوبة، ولقد جئت لأوقظ الناس من سباتهم وأخرجهم من كهوفهم وجحورهم إلى الحياة الطلقة التي لا تموت، صدقني لأجلك أنت لا لأجلي.

لا تسألوا الأشياء التي تلقي عنها قناعها، ألقوا أنتم أقنعتكم عن أنفسكم فإذا بالأشياء سافرة أمامكم!

ولا تسألوا الأشياء أن تفض عنها خواتيمها، فضوا أنتم خواتيم أنفسكم، وكل ما ترونه بعد ذلك ترونه غير مختوم.

ما الحب فضيلة، الحب ضرورة، ضرورة ألزم من الخبز والماء، وألزم من النور والهواء!

بذور الحق كائنة في كل إنسان وفي كل شيء، وليس عملك أن تبذر الحق، وإنما عملك أن تهيئ له موسمًا صالحًا ينجم فيه.

الصبر صحة حين يركن إلى الإيمان، فإن لم يكن معه إيمان فهو شلل!

لهذا أقول لكم: إن صليتم من أجل شيء، فلتكن صلاتكم أولًا وآخرًا من أجل «الفهم».

لا عجب يا بنون أنك دُعِيت بالقاضي الحكم، والقاضي الحكم يتشبث بمنطق الدليل في القضية قبل أن يحكم، أيطول عهدك بالقضاء هكذا ولا تعلم أن نفع المنطق الأكبر أن يخلصك منه لتصل إلى الإيمان، ويصل بك الإيمان إلى «الفهم»؟!

المنطق عكاز الكسيح، ولكنه وقر على السابق العداء، ووقر أفدح من ذاك على كاهل ذي الجناح!

تلك قبسات من كتاب «مرداد» نقلتها وأنا أقلب صفحاته على غير ترتيب مقصود وهي لا تلخصه ولا تجمله، وقصارى الأمر فيها أنها كقبضة تملأ اليد من خزانة حافلة بالجوهر النفيس، وهي تدل على قيمة الخزانة كلها إذا علمت أنها تتسع لألف قبضة من هذا القبيل.

وقد اطلع على الكتاب ناشرون من الإنجليز فوصفوه بأنه كتاب «غير عادي أو غير مألوف».

وهو كذلك غير مألوف، وأصدق من ذاك عندي أن يُقال إنه «كتاب ذو ملامح» يذكرك بكتب أخرى قرأتها من هذه الأسرة، وإنها لأسرة يتشابه فيها الإخوة بالملامح، ويختلفون بالشواغل والأعمال، كما يتشابه الإخوة ويختلفون في كل سلالة.

ولقد كنت أذكر وأنا أقرأ كتاب «مرداد» كتبًا أخرى تمت إليه بملامحها البادية للنظر، وهي «سفر الجامعة من كلام سليمان الحكيم»، و«رحلة الحاج» من كلام جون بنيان، و«هكذا قال زرادشت» من كلام نيتشه.

ولكن رسالة الجامعة حكمة الأمان، ورسالة بنيان حكمة القلق، ورسالة زرادشت حكمة الكفاح، ورسالة «مرداد» حكمة «الفهم» أو الفهم البصير.

وليس الأمان غاية؛ لأنه راحة في طريق الغاية …

وليس القلق غاية؛ لأنه دافع من وراء، وليس بهادٍ من أمام …

وليس الكفاح غاية؛ لأنه سعي يتجدَّد …

والفهم البصير هو غاية القلق وغاية الكفاح، وكتاب «مرداد» بشير بهذه الغاية التي تتقاصر دونها الغايات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤