الفصل السادس والثلاثون

بعد انقضاء عام على مؤتمر باندونج ماذا حقق المؤتمر من أهدافه؟

لمَّا انعقد مؤتمر «باندونج» في السنة الماضية كان مجرد انعقاده تطورًا كبيرًا في تاريخ الشرق خاصة وفي تاريخ السياسة العالمية على الإجمال.

لأن الدعوة إلى مثل هذا المؤتمر لم تكن مما يخطر على البال إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، ولم يكن من الجد أن يشتغل الزعماء المسئولون بالدعوة إليه؛ لأنها دعوة تُجاب، وإذا أُجِيبت لم يكن من يجيبها من القادرين على عمل شيء بالنيابة عن شعوبهم فضلًا عن حكوماتها، وكثيرًا ما كانت تلك الحكومات في أيدي الأجانب المستعمرين.

فإذا لم يكن من أثر المؤتمر الآسيوي الإفريقي إلا تسجيل هذا «التطور» التاريخي العظيم، فهو أثر جدير بالاهتمام والنظر إلى نتائجه في زمن قريب.

وهذه نتائجه خلال سنة واحدة، تدل على تغير في كل اتجاه من اتجاهات السياسة الدولية، خارجية كانت أو داخلية:

تدل على تغير اتجاه سياسة الكتلتين الشرقية والغربية نحو شعوب آسيا وإفريقيا.

وتدل على تغير في اتجاه سياسة الكتلتين إحداهما نحو الأخرى.

وتدل على تغير في علاقات الشعوب الآسيوية الإفريقية فيما بينها.

(١) اتجاه الكتلتين

أما التغير في اتجاه سياسة الكتلتين نحو شعوب آسيا وإفريقية، فمن ظواهره الواضحة أن الدول الكبرى أصبحت تتجه إلى الشعوب الشرقية في معاملاتها التي ترتبط بها.

ومعنى ذلك أن هذه الشعوب الشرقية أصبحت ذات كيان عالمي معترف به لا يتأتى لمن يتجاهله أو يتخطاه أن يثق من نجاح خطة يجري عليها مما يمس شئون الشرق عامة أو شئون كل أمة فيه على حدة.

كانت الخطة الشائعة قبل ثلاثين سنة أن يكون التفاهم على مسألة من مسائل الشرق موضوع بحث بين الدول الكبرى لا يشترك فيه الشرقيون، وكانوا يقسمون الأقاليم في القارتين إلى مناطق نفوذ يتبادلون المنافع فيها على غير علم أو موافقة من أهلها.

فاليوم لا تستطيع دولتان كبريان أن تتفقا على شئون أمة شرقية — مهما صغرت — بغير مشاركتها وحضور ساستها المختارين من قبلها للنيابة عنها.

وأصبحنا نرى كبار الوزراء في أمريكا وروسيا وإنجلترا وفرنسا يزورون عواصم الشرق، ويباحثون ساستها كما يزورون عواصم الغرب ويباحثون نظراءهم فيها، وربما كانت الزيارات للعواصم الشرقية أكثر وأهم من الزيارات للعواصم الغربية، بل وربما جاز لنا أن نقول إن التبعيات في صميم القارة الأوروبية أكثر اليوم من التبعيات في القارتين الآسيوية والإفريقية، وهما إلى سنوات قليلة لم يكن فيهما شعب واحد لا يُعَد من الأتباع لدولة من دول الاستعمار.

ففي القارة الأوروبية اليوم أمم لا تبرم شيئًا ولا تنقضه في خاصة أمورها وعلاقاتها بغير إذن الدولة التي تشرف عليها أو تساعدها.

وليس في آسيا على الخصوص ولا في البلاد المستقلة من إفريقية، أمة مضطرة إلى مثل هذه «التبعية» تارة لأمريكا وتارة لإنجلترا وتارة لروسيا، وإذا وُجِدت الأمة الآسيوية أو الإفريقية المستقلة التي ترتبط بإحدى الدول الكبرى في عمل من أعمالها فهي مسألة اختيار على حسب الموازنة بين الظروف، وليست مسألة اضطرار أو تقليد «رسمي» بحكم مركزها السياسي، كما كانت الحال قبل ثلاثين سنة!

وكان المظنون — مثلًا — أن الصين تجري على سياسة روسية لاشتراك الدولتين في دعوة اجتماعية واحدة، فإذا بالصين تعمل ما ترضاه روسيا وما لا ترضاه في علاقتها بأمريكا وبريطانيا العظمى، وفي نظام الحكام الداخلي ومبادئ السياسة المحلية، وتسبق الكرملين إلى بعض الخطط ولا يكاد الكرملين أن يسبقها في خطة من خططه العالمية.

وحدث في شمال إفريقية ما لم يكن يحدث قط بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

حدث أن فرنسا تعترف باستقلال الشعوب وتتفاهم مع قادتها وترسل المندوبين من كبار وزرائها إلى عواصم تونس والجزائر ومراكش التي أُعِيد سلطانها إلى عرشه بإرادة شعبه.

وكل أولئك تغيير واضح في موقف الكتلتين من شعوب القارتين: تغيير معناه أن شعوب هاتين القارتين قد أصبح لها كيان عالمي وإرادة مستقلة يتوقف عليها كل أمر من أمورها العامة، ولا يكفي فيه أن يستأثر بالتفاهم عليه أصحاب «مناطق النفوذ» من دول المستعمرين.

(٢) بين الكتلتين

وقد أسلفنا في مقالنا الأول عن مؤتمر «باندونج» أن استقلال شعوب الشرق بسياستها حماية للدول الكبرى نفسها من غوائل مطامعها، ووسيلة محققة إلى توطيد أركان السلم في المشرق والمغرب، باختيار الكتلتين أو على غير اختيار منهما.

إن الخطر الأكبر على السلم إنما كان يأتي «أولًا» من التنازع على المطامع في البلاد الشرقية، ويأتي «ثانيًا» من الاعتماد على تسخير الشرقيين جنودًا وعمالًا وثمرات وأسواقًا لمساعدة هذا الفريق أو ذاك في حربه للفريق الآخر.

وكانت كل دولة كبرى على يقين من تسخير طائفة من الشعوب الشرقية في حروبها وتدبير لوازمها العسكرية من الخامات والأيدي العاملة، أو من المواصلات وتأمين طرقها البرية والبحرية والجوية.

أما اليوم فلا توجد دولة كبرى تستطيع أو تزعم بينها وبين نفسها أنها قادرة على تسخير الشعوب الشرقية في حروب لا تعنيها.

وهذا التردد سبب قوي من أسباب التردد في الإقدام على المنازعات والحروب، وسبب أقوى منه للعمل الإيجابي على فض المشكلات واجتناب النزاع الذي يُخشَى من جرائره على السلام.

ولولا هذا التردد لانطلقت السياسة الدولية في أساليبها العتيقة، ومضت كل دولة تجمع من حولها الأتباع والأذناب وتدخلها في معسكرها من الآن قبل نشوب القتال، وكان تقسيم المعسكرات على هذا الأسلوب العتيق خطوة في طريق الحرب لا بد أن تتبعها خطوات سراع إلى النهاية المحتومة.

ولولا هذا التردد لما حصل هذا التقارب المباشر بين ساسة الكتلة الشرقية وساسة الكتلة الغربية، وهو تقارب لم يصل بعد إلى قراره المأمول عند الجانبين، ولكنه قد ابتدأ في طريق غير الطريق العتيق، ولا مناص له من الاتجاه إلى وجهة غير وجهة التعويل على التسخير وتقسيم المعسكرات علانية بين الفريقين.

(٣) وبين شعوب القارتين

وما ينبئ عن تغير الاتجاه في السياسة العالمية أن شعوب القارتين تعتمد في علاقات بعضها ببعض على التفاهم والتشاور، وتجري في تفاهمها وتشاورها على سنة المساواة والإخاء.

ولا نزال نذكر الساعة ما كان يُقال عن البواعث الخفية إلى عقد المؤتمر الآسيوي الإفريقي من قبل الدولتين العظيمتين في آسيا، وهما: الهند والصين.

فقد زعموا أن هذا إنما أُقِيم لتغليب نفوذ الدولتين على القارة أو لتقسيمها بينهما إلى «مناطق نفوذ» جديدة على نحو المناطق العتيقة!

وقد كان هذا الزعم من مبدئه ظاهر البطلان؛ لأن الدعوة إلى المؤتمر قد اشتركت فيها إندونيسيا والباكستان، وعدة كل منهما تقارب مائة مليون، ولم تكن إحداهما لقمة سائغة للدول المستعمرة في إبان عصر الاستعمار حتى يمكن أن يُقال إنها مطمع سهل لجارة من جاراتها في قارة الثورة على الاستعمار، ولكن الواقع كان أبلغ في التقدير والتفكير في الدلالة على أغراض المؤتمر ونيات الداعين إليه، فإن الدولتين الكبيرتين لم تخلقا لهما منطقة نفوذ في شبر من الأرض، ولم تكسب إحداهما بكثرة عددها حقًّا لا تكسبه أصغر الشعوب الآسيوية أو الإفريقية، وكان نفوذهما ونفوذ أخواتهما منصرفين إلى غاية واحدة، وهي التعاون على توفير حظ الشعوب في القارتين من حقوق الحرية ومعالم الحضارة والثقافة، ولم نعرف حتى الآن علاقة بين أمتين في القارتين خرج بها مؤتمر «باندونج» من صبغتها باسم القوة أو الكثرة أو الرجحان في الثروة والعتاد.

وخلاصة العام في أمر «المؤتمر» أنه أسفر عن تغيير ملحوظ في اتجاه السياسة العالمية من جانب الكتلتين نحو القارتين، ومن جانب كل كتلة في سياستها مع الكتلة الأخرى، ومن جانب العلاقة بين الشعوب الآسيوية والإفريقية.

والعام مسافة قصيرة من الزمان، ولكن العام الذي يُلحَظ فيه مثل هذا التغيير خطوة كبيرة إلى مستقبل السلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤