الفصل الرابع

الواقعيَّة في الأدب

يسأل بعض القراء عن الواقعية في الأدب والفن: ما هي؟ ومن هم الواقعيون؟ وما أصل هذه الدعوة؟ وما هي رسالتها في عالم الآداب والفنون؟

وهذا في جلية الأمر أسئلة عن شيئين لا عن شيء واحد: أسئلة عن الواقعية في نشأتها التاريخية، وأسئلة عن الواقعية في دعوتها الحاضرة بعد اتصالها بالدعوات الحديثة من وجودية وآداب موجهة، وفوق الواقعية أو سريالية، وما هو من قبيلها في الدعوات الحديثة.

إن الواقعية في نشأتها التاريخية دعوة بدأت في أواسط القرن التاسع عشر ردًّا على الدعوة الرومانية أو المجازية، وترتيبها في سلسلة الدعوات التي نشأت بعد عصر النهضة يأتي في المكان الرابع بعد دعوة الإنسانيين ودعوة السلفيين المحدثين ودعوة الرومانيين أو المجازيين.

في عصر النهضة حوالي القرن الخامس عشر أخذ الأوروبيون في الكتابة باللغات الوطنية بعد أن كانوا يكتبون الأدب والعلم باللاتينية أو بالإغريقية، ونشأ من ذلك ما لا بد أن ينشأ عن الكتابة بلغات لم تتسع قبل ذلك لمطالب الأدب والعلم والفلسفة والدراسات الرفيعة والوضيعة.

نشأ من ذلك كتابة بغير قاعدة وبغير أحكام مرعية تضارع القواعد والأحكام في لغة اللاتين ولغة الإغريق، واستمر دعاة المدرسة الإنسانية على هذه الفوضى في الصيغ والأساليب، فارتاع العلماء والأدباء الذين تفقهوا بآداب السلف وبلاغتهم العالية، ونهضت من بينهم دعوة سُمِّيت بالسلفية الحديثة؛ لأنها تنادي باتباع أساليب السلف واتخاذ القواعد على نمط جديد من غير تقليد كتقليد النقل الآلي على عصر الجمود.

وشاعت هذه الدعوة السلفية الجديدة، ونحن نسميها الدعوة الاطرادية؛ لأنها تدين بالاطراد على سنة متبعة، وتنكر الابتداع المتفرق الذي تذهب فيه كل طائفة مذهبها المنقطع عن سواها، كأنها بدعة من البدع لا تئول في جملتها إلى قسطاس مستقيم.

شاعت الدعوة السلفية أو الاطرادية وسارت سيرًا لم يُعرَف له نظير منذ عصر الكتابة اللاتينية والإغريقية، ومضى عليها نحو ثلاثة قرون وهي مسيطرة على الأقلام والألسنة في القارة الأوروبية، كلما ضعفت في أمة من أممها قامت بها أمة أخرى لا تزال في طور النشأة الأولى، وتمادى بها الإصرار على القواعد والأحكام، حتى جمدت وتحجرت وضاقت بها الأقلام والألسنة في إبان عصر الثورة الفرنسية، فتصدى لها طلاب التجديد والتصرف الحر لإطلاق العقول والأذواق، ونشأت من ثم مدرسة الرومانيين أو المجازيين، تحاول أن تجعل لكل كاتب أو شاعر نصيبًا من الحرية الفردية إلى جانب القواعد المقررة في الأساليب العامة، وصادف ذلك شيوع الأقاصيص الشعبية التي تمتزج فيها أخبار الفرسان والأبطال، وأخبار العشاق والحسان، وأطلق على الدعوة اسم الرومانية؛ لأن تلك الأقاصيص كانت تُعرَف في الغرب باسم الرومان.

فالمدرسة الرومانية إذن تقوم على أركان ثلاثة، هي:

  • (١)

    سهولة القواعد.

  • (٢)

    وحرية الكاتب في إظهار نزعته الشخصية.

  • (٣)

    وتصوير الحياة على صورة الأمثلة الموروثة من أيام أقاصيص البطولة والفروسية.

هذه الدعوة الرومانية أو المجازية أفرطت وأصابها ما يصيب كل إفراط من رد الفعل وحب التغيير، فكان رد الفعل هو الدعوة الواقعية أو الريالزم، وهي مفهومة على هذا الوجه في نشأتها التاريخية، فإذا أردنا أن نعرف لماذا نشأت دعوة الواقعيين، فعلينا أن نعرف العيوب التي أرادت تغييرها من دعوة الرومانيين في دور الإفراط والانحدار، وهذه العيوب تجتمع في مأخذين ظاهرين: أحدهما حب التجميل، والآخر ظهور الطابع الشخصي المفرط في الكلام المنظور والمنثور. وحجة الواقعيين في إنكار هذا الطابع الشخصي المفرط أنه يخل بالحقيقة العلمية، ويصبغ الحادث والأشخاص بصبغة ملونة على حسب أهواء الكاتب والشاعر، وهذه الصبغة من حب التجميل تبتعد بالكتابة عن الواقع المشاهد في الحياة، وتصور الناس كأنهم يعيشون في عالم الخيال، ولا يمارسون الدنيا المحسوسة، كما يمارسها الأحياء بما فيها من جمال وقبح، وما يمتزج بها من سرور وحزن، ومن سعادة وشقاء.

وعلينا أن نذكر أن الواقعية ظهرت مع العلم الحديث في إبان نشأته واندفاعه، فأرادت أن تكون الكتابة كلها على نسق الكتابة العلمية، مجردة من الطابع الشخصي والنزعات العاطفية مقيدة بالصور التي تشبه الصور الشمسية كأنها من صنع الآلة لا تسلم من الجمود والجفاف، ولا نكران لرسالة الدعوة الواقعية في حينها، ولا في صواب الحملة التي حملتها على مدرسة التجميل والطابع الشخصي والأخيلة المثالية، ولكنها هي أيضًا تعرضت لعواقب الأفراد وانتهت إلى هذه العواقب على أيدي فريق من الواقعيين بلغ بهم اللجاج في دعوتهم إلى إنكار الواقع أو إلى تصويره كما أرادوه، فعادوا من الباب الآخر إلى أخطاء كأخطاء الرومانيين وخالفوا دقة العلم وأمانة الحس، فلا هم واقعيون يلتزمون الوصف المحسوس، ولا هم خياليون يتعلقون بالأمثلة العليا.

يصورون الدنيا كأنها ليل مطبق الظلام، والواقع المحسوس يرينا بأيسر نظرة أن الدنيا ليل ونهار، وأن ليلها لا يخلو من ضياء ونهارها لا يخلو من غمام وغطاء.

ويصورون الحياة كأنها جحيم ليس فيه غير الزبانية والمعذبين، والواقع المحسوس يقول لنا كل يوم إن الدنيا ليست بالجحيم وليست بالفردوس المقيم، ولكنها دنيا تستحق منا أن نجاهد ونسعى، ولو كانت جحيمًا مطبقًا لما كان فيها معنى للسعي والجهاد.

ويصورون الناس كأنهم لا يحلمون ولا يتخيلون، وليس من الواقع أن نسقط الأحلام والأخيلة من حسابنا؛ لأن الواقع الذي يراه اليقظان بكلتا عينيه المفتوحتين أن الناس يحلمون ويتخيلون.

ويصورون الرذيلة كأنها حكر لطائفة واحدة، هي الجانية وغيرها من الطوائف مجني عليه كما يُقال في لغة القانون، والواقع أن بني آدم جميعًا يُصابون ويصيبون، ويجنون من الرذيلة وتجني عليهم الرذيلة، ويكيلون بالكيل الذي يكال لهم في السر والعلانية، فليس فيهم ذرية ملائكة ولا ذرية شياطين.

وأعجب العجب أن يكون الواقع حجتهم في الصدق والكذب والحق والبطلان، وأن يكون الواقع في الوقت نفسه هو الفساد الذي يجب أن يتغير وهو الباطل الذي لا يُعوَّل عليه … فهو مقدس لأنه واقع، وهو لعنة لا يحق لنا أن نواجهها إلا لنطلب تغييرها ونهدمها من أساسها ونأتي بشيء يناقض هذا، والواقع الذي نحسه ونراه، وإنما تحقق هذه الصورة على الواقع لأناس غير الواقعيين؛ لأنهم يدينون بعقيدة لهم تتمثل بعد في الواقع المحسوس، ولم تزل بعد حلمًا من الأحلام أو خطة معروضة للبحث ومعروضة بعد ذلك للتنفيذ، وليس بالنادر أن نسمع أناسًا من دعاة الواقعية ينادون بها وهم يجهلون أصولها ويخلطون بينها وبين الدعوات التي تناقضها، فيزعم أحدهم أنه واقعي وجودي، وهما نقيضان؛ لأن الواقعية تفرض على من يدين بها أن يصف الحادث وصفًا علميًّا خاليًا من الصبغة الشخصية كأنما هو تجارب العلم أو معادلات الرياضة التي تتساوى عند جميع الناس، وهذا في حين أن الوجودية تحرص على إبراز الخصائص الفردية، وترى أن كل فرد نسخة فريدة لا تتكرر في الكون، ولا يجوز أن يتشابه وجود هذا الفرد ووجود ذلك لأن التشابه تقليد، والتقليد إلغاء للوجود أو نزول به إلى مرتبة الآلات، وهي الكائنات التي لا تعلم بوجودها ولا بوجود سواها من باب أولى …

ومنهم من يزعم أنه مادي تاريخي واقعي مستقبلي في نفس واحد، مع أن المستقبليين يحتقرون التاريخ، ويقول زعيمهم «مارينتي» إن الالتفات إليه كإفراغ الدم الحي في توابيت الموتى، ومع أن المادي يصطنع التبشير بالسلم، والمستقبلي يجعل الحرب سبيل الارتقاء واختيار الأصلح للبقاء.

ومنهم من يزعم أنه واقعي وطبيعي في وقت واحد، مع أن المذهب الطبيعي إنما نشأ لاستدراك نقص يراه في الدعوة الواقعية، ومهما يكن بين الدعوتين من وجوه الشبه فهما مفترقتان حين تنظر إلى أنواع الأدب التي تحاربانها وتحملان عليها، فالواقعية تحارب الخيال والخرافة الشخصية، والدعوة الطبيعية تحارب الصنعة والتنميق والفصاحة المتأنقة ولا تنكر الصبغة الشخصية، ويكاد كل قطب من أقطابها يبرز بصورته المعروفة من وراء أبطاله وحوادثه ومناظره المنتقاة، وليست الكلمة الأخيرة اليوم للدعوة الواقعية ولا للدعوة الطبعية في سوق الدعوات ومزاحم الأفانين والعناوين، فقد ظهرت بعدها دعوات الداديين والمكعبيين والمستقبليين وما شابهها من الدعوات التي يشملها جميعًا عنوان السريالية أو فوق الواقع … وقد يكون المقصود بما فوق الواقع أنه يتجاوز الواقع المحسوس إلى الواقع المستتر في العقل الباطن، أو الواقع المختلط بالفوضى في ضوضاء المدينة الحديثة، فكلما ابتعد الفن عن العقل والرشد ومضى في اللغو أو في أضغاث الأحلام فهو التعبير الصحيح عن هواجس النفس الخفية، وعن الوعي الباطن الذي يرفض المنطق والحمَّة وصور الجمال ومحاسن الأخلاق.

يكفي اسم «الدادية» للدلالة على الغرض الأخير من هذه الدعوات فوق الواقعية، فإن الكلمة مأخوذة من الحروف الأولى التي يلفظ بها الطفل على مثال «بابا» «ماما» و«دادا» في ألفاظ الفترة الأولى؛ لأنها باصطلاح الطفولة الفرنسية تُطلَق على حصان الأطفال.

وأول سطر يقول هؤلاء الواقعيون الفائقون: إن عبارات الأحلام هي أصدق العبارات الإنسانية، إنها مكامن النفس على البديهة تنطلق بلا تزويق ولا تنسيق ولا نفاق ولا اختلاق.

وأصح من ذلك أن يقولوا إن صيحات الحيوان هي الصدق الذي لا صدق فوقه على هذا الاعتبار، وإذا تراجعت هذه الدعوات النافرة بكلمة واحدة، فهي كلمة التحذير التي تقال لمن يتخطى الحدود … «عندك».

نعم، هذه الدعوات النافرة تترجمها جميعًا كلمة «عندك»، تقال تحذيرًا لكل دعوة تجاوز الحدود وتخالف الواقع باسم الواقع، وهي ليست من الواقع في كثير ولا قليل.

إن الواقعية الصادقة لا تجرد البشرية من أحلامها ولا تجرد الدنيا من محاسنها، فلا يُعاب الأدب الذي يصور لنا الإنسان على حقيقته والدنيا على حقيقتها، وما وراء ذلك فهو وراء الواقع في الحس وفي العقول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤