ظاهرة النسخ في الوحي

تروي كتب التاريخ الإسلامية وكتب السِّيَر والأخبار أن النبي في المراحل الأولى من دعوته في مكة، وبعد أن هاجر بعض أتباعه إلى الحبشة، ورأى تجنُّب قريش له، وأنه في نفر قليل من أصحابه، استشعر الوحشة فتمنى قائلًا: «ليته لا ينزل عليَّ شيء ينفرهم مني.» كما يُروى أنه قرأ سورة النجم في المسجد الحرام أمام سادات قريش، ومعه بعض أتباعه يُصَلُّون معه، ولما وصل إلى الآيات أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (النجم: ١٩-٢٠)، يُروى أنه استمر يقول: «تلك الغرانيق العلا، إن شفاعتهن لترتجى.» مما أدى إلى صدًى واسع النطاق، حيث أعلنت قريش رضاها عن محمد وعما تلا من آيات، وقالت: «بلى؛ لقد عرفنا أن الله يحيي ويميت، ويخلق ويرزق، لكن هذه تشفع لنا عنده، وإذا جعلت لها نصيبًا، فنحن معك.» ويذكر الطبري أن «المؤمنين صدَّقوا نبيهم فيما جاءهم عن ربهم … فلما انتهى إلى السجدة، سجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقًا لما جاء به واتباعًا لأمره، وسجد من سجد من المشركين وغيرهم، لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبقَ في المسجد مؤمن ولا كافر إلا وسجد.»١ وروى البخاري عن ابن عباس قوله: إن رجلًا واحدًا لم يسجد لكِبَر سنِّه ووهن عظمه، «إلا رجلًا رأيته يأخذ كفًّا من تراب فيسجد عليه.»٢ وقد سمَّى الواقدي هذا الرجل بالاسم في قوله «فسجد المشركون كلهم إلا الوليد بن المغيرة، فإنه أخذ تُرَابًا من الأرض، فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ.»٣ ومعلوم أن «الوليد» كان من أشد الناس على النبي ، كما كان من ذوي الثراء بين وجهاء مكة وأشرافها، ولا شك أن موقفه هنا بحاجة إلى بعض التأمل.
وتُتابع الروايات حكايتها، فتقول: إنه كان لتلك القصة المعروفة في التراث الإسلامي بحديث الغرانيق، صدًى واسع، حتى إنه وصل إلى مسامع المسلمين المهاجرين لدى نجاشي الحبشة، فقفلوا من مهجرهم راجعين بعد أن انتفى سبب اغترابهم. لكن هؤلاء التقوا في طريق عودتهم بركب من كنانة، أخبروهم أن النبي ذكر شفعاء قريش بخير فتابعوه، لدرجة أنهم صلوا صلاته، ثم ارتد عنها فعادوا لمعاداته، فبعد أن قال: «أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلا، إن شفاعتهن لترتجى.» عاد يقول: إن جبريل جاءه وعاتبه قائلًا: «ماذا صنعت؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به من الله عز وجل، وقلت ما لم يقل.» ثم تلا: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (النجم: ١٩–٢٢).٤
وقد عقَّب القدامى والمحدثون على حديث الغرانيق لنفيه، واستهجانًا له، وللإيجاز يقول د. شعبان محمد إسماعيل من المحدثين: «وهذه القصة غير ثابتة لا من جهة النقل، ولا من جهة العقل.»٥ ومن القدامى أبو جعفر النحاس الذي هاله أمرها، فقام يعلن أن «هذا حديث مفظع وفيه هذا الأمر العظيم.»٦ وقدَّم محقق كتابه لذلك بحجة منطقية تمامًا، وهي «أنه لو جوَّزنا ذلك، لذهبت الثقة بالأنبياء، ولوجد المارقون سبيلًا للتشكيك في الدين.»٧ ثم أردف بما جاء عند الواقدي وهو يقول: «… حتى نزل جبريل فقرأ عليه النبي هذا، فقال له: ما جئتك به، وأنزل الله: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (الإسراء: ٧٤).»٨

والآية المشار إليها لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا جاءت في عَتْبِ الله تعالى على نبيه الكريم ، في الآيات: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (الإسراء: ٧٣-٧٤)، ثم نجد تبريرًا قرآنيًّا لما حدث، لا مجال فيه لخلط أو لبس، يوضح أن الشيطان — لعنه الله — انتهز فرصة تمني النبي القربَ من قومه، فتدخل في الوحي إبَّان تلقيه، وألقى إليه بتلك الآيات الفظيعة، فنسخها تعالى بالآيات الصادقة. ويعلمنا الله تعالى أن ذلك ليس أمرًا جديدًا ولا غريبًا؛ فقد كان الشيطان يفعلها مع أي نبي من الأنبياء والرسل المكرمين إذا تمنى أحدهم ذات الأمنية أو مثلها، وقد جاء هذا الإيضاح المبين في قوله جل وعلا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ (الحج: ٥٢).

ويعقب أبو جعفر النحاس الذي استفظع الأمر على تلك الآيات، فيؤكد أنه حتى لو كان حديث الغرانيق قد حدث، وأن الشيطان وجد الفرصة في التمني، فإن النبي لم ينطق بما ألقى الشيطان، أو كما قال: «… فيكون التقدير على هذا: ألقى الشيطان في تلاوة النبي إما شيطان من الجن، ومعروف في الآثار أن الشيطان كان يظهر في كثير وقت النبي ، فألقى هذا في تلاوة النبي من غير أن ينطق به النبي ٩ ومن هنا يحتمل أن يكون مناط احتجاجه ما جاء في آيات أخرى تقول: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (النحل: ٩٨–١٠٠).

هذا ما كان من أمر حديث الغرانيق، وما كان من إيضاحات القرآن الكريم لما حدث، ولكن ما يعنينا ونهتم به ويدخل في إطار بحوثنا، بعيدًا عن بحوث المغيبات الدينية ذاتها، التي لها ميدانها وفرسانها، هو قراءة الواقع الذي حدثت فيه الحادثة، ومعرفة الظروف التي لابستها. لنفهم كيف كان القصد من الأمر فتنة قوم في قلوبهم مرض، وكيف قست قلوب آخرين فتم اختبارهم وفرزهم. وبالإطلال على تلك الفترة الزمكانية نرى الواقع لم يفرز بعد عددًا من الحواجز بين النبي وقومه، لكن كانت هناك حواجز قد قامت بالفعل، كانت من وجهة نظر المشركين هي الحواجز الأساسية والحاسمة. والمعلوم أن قريشًا لم تكن تختلف مع المصطفى حول المسألة العقدية الأولى لدعوته، وهي الإيمان بإله واحد يحيي ويميت يخلق ويرزق، ومصدر علمنا بذلك من القرآن الكريم ذاته، والذي شهد لهم بذلك في عدد من الآيات المكرمة، ومن تلك الآيات: وَلَئِن سَأَلْتَهُم منْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (العنكبوت: ٦١)، قُلْ مَن ربُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم * سَيَقُولُونَ لِلهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (المؤمنون: ٨٦-٨٧)، وغير تلك الآيات بذات المعنى كثير. لكن وجه الخلاف، والحاجز الكبير، كان يتمثل في دعوة النبي لإسقاط شفاعة الشفعاء من أرباب العرب.

وهكذا كان معنى أن يلغي محمد الشفعاء، هو إلغاء الحاجز الأخير بين القبائل وبعضها، وإسقاط الرمز القوي السيادي المتماهي مع السيد الأرستقراطي هذا ناهيك عن نظرتهم إلى النبي بحسبانه يسعى إلى إلغاء سادة القبائل من شفعاء، ليصبح هو السيد الأوحد لكل القبائل، لتنتقل له وحده الشفاعة، من حيث كونه صاحب العلاقة مع الله وليس الشفعاء ولا الكهان ولا التجار. أي صاحب القرار القاطع والنهائي الناطق باسم الله، وذلك عبر الشهادة له بأنه رسول الله، هو ما يتهدد مصالحهم التجارية جميعًا بالدمار.

وفي ظل ذلك الوضع يمكن قراءة حديث الغرانيق مرة أخرى، ففي تلك الظروف، ومع مهاجرة الأتباع للحبشة، ومع قسوة الواقع ومرارته، ومع الغربة وسط الأهل، ومع الظرف النفسي الذي — لا بد — تركته تلك الأوضاع في النبي ، تمنى، فتدخل الشيطان، فقال ما قال، فتبعته قريش وخاصة سادتها الذين تواجدوا تلك اللحظة بالحرم؛ لأنه هكذا لن يمس الأمر مصالحهم، فسجدوا بسجود النبي ، وصلوا معه صلاته. وهنا كانت الفتنة المقصودة بقول الآيات: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً للَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مرَضٌ. وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ (الحج: ٥٣). والقلوب كانت آنذاك بمعنى العقول، أي الذين لا يفقهون ولا يدركون المرامي البعيدة لدعوة النبي ، تلك المرامي التي سبق أن أدركها العقلاء منهم رغم عدم إيمانهم، وأفادوهم بها، وشرحوها لهم، وهو ما لمسناه في قول عتبة بن ربيعة لهم بعد أن التقى النبي ، وأدرك الأهداف الكبرى للدعوة، ولا شك أن عتبة بن ربيعة، وهو أحد الأرستقراطيين الكبار، قد أدرك الأبعاد الكبرى للدعوة، والتي كانت تبغي توحيدهم جميعًا في دولة كبرى تناجز الروم والعجم، دون إضرار بمصالحهم التجارية، وهو ما حدث بعد ذلك بالفعل. بل وبعد انتصار الدعوة تم تمكين هذه المصالح وتقويتها ودعمها، فالنبي بعد فتح مكة لم يضمن للمكيين مكانتهم بين العرب فقط، بل ضمن لقريش ولزعامتها مركزهما في الإسلام. والناظر لفتح مكة بقليل من وضوح الرؤية يكتشف أن فتح مكة لم يكن هزيمة لقريش، وهو الأمر الذي نلحظه في تذمر الأنصار، ثم بعد ذلك عمل النبي بنفسه على تكريس الوضع الاجتماعي القائم، عن طريق الأعطيات والإقطاعات، ثم دعم الوحي ذلك بتكريس الملكية الفردية: وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، بل قدم عقلنة واضحة للتفاوت الطبقي كما في قوله تعالى: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا ممْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (النحل: ٧٥)، ناهيك عن إعادة سر التفاوت الطبقي إلى التقدير الإلهي في قوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ (الأنعام: ١٦٥).

لكن كان واضحًا أن الأمر بهذا المعنى لم يصل إلى أذهان الأرستقراطيين المكيين في ظل دعوة الإسلام الأولى للمستضعفين، فكانت فتنتهم بحديث الغرانيق، لكن توتر بعض المسلمين نتيجة ما ألقى الشيطان، وتضعضع أحوالهم المعنوية، كان لا بد أن تتبعه العودة السريعة بإيضاح دور الشيطان فيما حدث. والذي كان أيضًا اختبارًا للمسلمين المستضعفين لإظهار مقدار الطاعة، ومدى مسارعتهم إليها مسارعة إسماعيل إلى الذبح طاعة للأمر الإلهي، وعليه فقد جاء النسخ لما ألقى الشيطان في الوحي، عملًا إجرائيًّا كانت أطرافه الاعتبارية القبلية في جانب والوحدة المرتقبة في جانب آخر، وأطرافه الشخوصية هي أهل مكة في جانب، والنبي في جانب، بينما كانت أدوات هذا الجدل هي الشفعاء، والشيطان، وكلمات الله التي تمثلت في وحي لا كالإلهام، ولا كالخاطر، ولا كالهاجس، لكنه الوحي الصادق الذي أدى دورًا غني الدلالة، ويشير بدون إبهام إلى صدوره عن فاعل واعٍ مريد. كان الوحي هنا فعلًا شعوريًّا يتسم بالإدراك والوعي التامين لما يحدث، ولشكل الاستجابة المطلوبة بحسب شروط الواقع وضروراته. كان وعيًا بطبيعة المرحلة الآنية آنذاك، وبطبيعة المرحلة المقبلة وما سيلحقها من تحولات. لكن يثور هنا السؤال: كيف يتحول الوحي ويتبدل؟ وهل يمس ذلك قدسية كلمة الله الثابتة؟ وهذا ما دعا بعد ذلك إلى نشوء مبحث هام وكبير من مباحث علوم القرآن، هو «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم»، وهو الظاهرة التي لحظها القرشيون حتى قالوا: «ألا ترون إلى محمد، يأتي أصحابه بأمر ثم ينهاهم ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولًا يرجع عنه غدًا؟» وهي ذات المقالة التي قالها اليهود اليثاربة بعد الهجرة، عندما تحول النبي بالمسلمين في الصلاة — عن بيت المقدس — إلى كعبة مكة.١٠ كان ذلك التحول والتبدل مدعاة لرد الآيات الكريمة: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (النحل: ١٠١). والمعنى أن هناك آيات تم استبدالها بأخرى، مع إشارة واضحة إلى احتساب المشركين لذلك التبديل افتراء من النبي على الله جل وعلا، والله منه بريء. إلا أن الآيات أوضحت بلا إبهام أن من يرفضون منطق الاستبدال والتحول «أكثرهم لا يعلمون»، وهو ما دعمته الآيات بقولها: يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ (الرعد: ٣٩). وهو ما يشير ليس فقط إلى الاستبدال، بل إلى محو آيات بعينها، ثم بقولها: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ منْهَا أَوْ مِثْلِهَا (البقرة: ١٠٦).
وقد جاء عن ابن عباس من تفسير الآية يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ: «أن الله يبدل ما يشاء من القرآن فينسخه، ويثبت ما يشاء فلا يبدله، وما يبدل وما يثبت إلا في كتاب.» وعن قتادة عن عكرمة قال: «إن الله ينسخ الآية بالآية فترفع وعنده أم الكتاب، أي أصل الكتاب.» وعن قتادة أيضًا في شرح الآية مِنْهُ آيَاتٌ محْكَمَاتٌ (آل عمران: ٧)، قال: «المحكمات هي الآيات الناسخة التي يعمل بها.»١١ مما يشير إلى غير المحكمات التي لا يعمل بها، على ذمة قتادة. وإزاء القول بأن الآيات، المنسوخ منها والناسخ، المعلوم لدينا أو المجهول — لنسخه أو محوه — إنما في كتاب أزلي محفوظ هو أم الكتاب، يقول د. نصر أبو زيد: «النسخ هو إبطال الحكم وإلغائه، سواء ارتبط الإلغاء بمحو النص الدال على الحكم ورفعه من التلاوة، أو ظل النص موجودًا دالًّا على الحكم المنسوخ، لكن ظاهرة النسخ تثير في وجه الفكر الديني السائد المستقر إشكاليتين يتحاشى مناقشتهما، الإشكالية الأولى: كيف يمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتب عليها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء، وبين الإيمان الذي شاع واستقر بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ. والإشكالية الثانية … هي إشكالية جمع القرآن … ومشكلة الجمع ما يورده علماء القرآن من أمثلة قد توهم أن بعض أجزاء النص قد نُسيت من الذاكرة الإنسانية … ولم يناقش العلماء ما تؤدي إليه ظاهرة نسخ التلاوة، أو حذف النصوص سواء بقي حكمها أم نسخ أيضًا، من قضاء كامل على تصورهم الذي سبقت الإشارة إليه لأزلية الوجود الكتابي للنص في اللوح المحفوظ … فإن نزول الآيات المثبتة في اللوح المحفوظ ثم نسخها وإزالتها من القرآن المتلو، ينفي هذه الأبدية المفترضة الموهومة … فإذا أضفنا إلى ذلك المرويات الكثيرة عن سقوط أجزاء من القرآن ونسيانها من ذاكرة المسلمين، ازدادت حدة المشكلة … والذي لا شك فيه أيضًا، أن فهم قضية النسخ عن القدماء لا يؤدي فقط إلى معارضة تصورهم الأسطوري للوجود الأزلي للنص، بل يؤدي أيضًا إلى القضاء على مفهوم النص ذاته.»١٢

لكن رغم أهمية هذه الرؤية وعلميتها، التي تحرص على الالتزام بمنهج الدراسة العلمية وشروطه، كما تحرص في ذات الوقت على النص ومفهومه، فقد كان واضحًا أنها سقطت في شراك المنظومات القديمة وقوالبها الجاهزة، فتشابكت معها. رغم ما أبداه الأستاذ الدكتور من حذر وتحذير من سيطرة مثل تلك المنظومات والقوالب على الباحث، في مقدمة كتابه المذكور، ورغم حرصه الشديد على التعامل مع النص القرآني كنص أدبي، ورغم إشارته إلى ارتباط هذا النص بواقع جزيرة العرب زمن تواتر ذلك النص وحيًا. إلا أن تلك الإشارة لم تفصح عمليًّا عن ذاتها بشكل واضح وجلى في موضوعه عن النسخ. وإزاء تشابك تلك الرؤية مع القوالب القديمة، فإن الأستاذ الدكتور لم يمد الخيط إلى طرفه الأخير، أو بالأحرى إلى الحدود الممكنة وكانت متاحة، لولا أنه سلم مقدمًا بالتقسيم التقليدي لظاهرة النسخ في القرآن الكريم. أقصد اللوحة الثلاثية التي تقول: إن هناك أولًا «ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته»، بمعنى أن هناك آيات في الكتاب الكريم قائمة بلفظها، وإن بطل العمل بحكمها، بموجب آيات أخرى جاءت بحكم جديد نسخ الآيات القديمة. وثانيًا «ما نُسخت تلاوته وبقي حكمه»، بمعنى أن هناك آيات كانت معروفة في حياة النبي ويعمل بحكمها، لكن في ظروف بعينها تم نسخ تلاوتها أي لفظها أو نصها، بينما بقي حكمها معمولًا به بعد وفاة النبي ، وهي الحالة التي تجد نموذجها الأمثل في حكم الرجم على الزاني والزانية إذا ما أحصن، أي إذا كان متزوجًا. أما الحالة الثالثة فهي «ما نُسخ حكمه وتلاوته معًا»، فلم يعد له وجود بين آيات القرآن الكريم، ولم يعد يعمل بحكمه أيضًا. هذا بينما نجد — بنظرة مدققة — فيما جاء من أخبار، ما يفيد أن هناك أحداثًا وظروفًا جدت، فتفاعل معها الوحي، إضافة إلى أحداث جدت بعد الوحي، وذلك إبان عملية جمع القرآن، بحيث أدى هذا كله في النهاية إلى القرآن النهائي الموجود بين أيدينا الآن، المصحف العثماني نسبة إلى عثمان بن عفان، ولم يأخذ المجتهدون في التعامل مع ظاهرة النسخ تلك الأحداث والظروف بحساباتهم، رغم إشارتهم لها، وذلك نتيجة الإصرار على التعامل مع القرآن الكريم كنص أزلي الوجود، مما انتهى بهم إلى اختراع اللوحة الثلاثية. ومن هنا سنحاول فهم واقع الحال مرة أخرى، مرتبطًا بمراحل تواتر الوحي، ومن خلال الإشارات والشذرات والشهادات التي قدمها علماؤنا القدامى، والتي تشير إلى ما حدث خلال ثلاثة وعشرين عامًا، استغرقها تواتر الوحي القرآني، وكانت كفيلة بالتعامل معه كنص تاريخي، إضافة لكونه نصًّا عقديًّا وأدبيًّا.

ولقد كان تواتر الوحي خلال تلك الفترة الزمنية، مفرقًا ومنجمًا، تواصلًا مستمرًا مع الواقع آنذاك، وتفاعلًا مع المستحدثات الظروفية، وهو ما كان معترض المشركين الأساس، والذي سجلته الآيات الكريمة في قولها: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً (الفرقان: ٣٢)، وهي حجة تتسق مع الرؤية المثالية لمفهوم الألوهية ومفهوم النبوة، حيث يتسم فيها الله بالثبات المطلق، وبحيث تثبت كلماته دفعة واحدة، فلا تتبدل ولا تتغير، بحسبان كلام الله ثابتًا ثبات ذاته. وهي ذات الرؤية التي استندت إليها قراءة السالفين من علماء المسلمين في الكتاب الكريم، دون أن يلتفتوا إلى أن ذلك يمكن — بالفعل — أن يدمر مفهوم النص ذاته، بحسب ما نبَّه إليه د. نصر أبو زيد. هذا بينما، كانت سيولة القرآن الكريم، وتدفقه على مراحل حسب المناسبة والظروف، مطابقة مستمرة ودائمة بالمتغير الموضوعي، بحيث لم يُترك النبي وبين يديه نص أولى أزلي واحد، يواجه به الواقع الذي لا يتوقف عن التغاير، ومن هنا استكملت الآيات إيضاحها في قولها: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتَيلًا (الفرقان: ٣٢).

لقد تحولت النبوة عن نهج الإبهار بالإعجاز الساحر، فلم تأخذ بعصا سحرية تفعل الأعاجيب، ولا بتمتمات تحيي الموتى، وإنما أصحبت فرزًا صادقًا يتطابق مع واقعها الزمكاني، وهو ما جعل الوحي بالنسبة للنبي محمد يختلف عن الوحي الإيهامي والإلهامي. لقد تحول باليقين إلى الواقع ليتفاعل معه، يقرأ الواقع، ويجيب على أسئلته، ويساهم في حل إشكالياته، يرتبط بالأرض ومصالح ناسها ومطالبهم، بحسبان الناس وليس السماء هم هدفه الرئيسي؛ بحيث أصبح الناس المتغيرون بتغير أحداث الواقع عنصرًا أساسيًّا في مجيء الوحي مفرَّقًا وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا (الإسراء: ١٠٦).

وإعمالًا لما سبق، ولأن عمل د. نصر — بحساباتنا — عمل رائد لإعادة فتح البحث حول هذا الأمر، فقد رأينا دفع الموقف حول اللوحة الثلاثية، ليس تسليمًا بها ولا بمنهج الدكتور نصر في تعامله معها واعترافه بها، إنما لبيان الأسباب التي أدت إلى كل حالة من حالات تلك القسمة الثلاثية، أو بالأحرى، اختراعها اختراعًا.

١  الطبري (ابن جرير): تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة ط٢، ١٩٦٠م، ج٢، ص٣٣٧–٣٤٠.
٢  النحاس: الناسخ … سبق ذكره، ص١٢.
٣  نفسه، ص٢٢٥.
٤  الطبري: الموضع السابق ذكره.
٥  د. شعبان محمد إسماعيل: سبق ذكره، ص١١.
٦  النحاس: الناسخ … سبق ذكره، ص٢٢٥.
٧  د. شعبان محمد إسماعيل: سبق ذكره، ص١٣.
٨  النحاس: الناسخ … سبق ذكره، ص٢٢٥.
٩  المرجع السابق، ص٢٢٦.
١٠  علي حسن العريض: فتح المنان في تفسير القرآن، مطبعة الخانجي، القاهرة، د.ت، ص٨٥، ٨٦، انظر أيضًا: القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، دار الكتب المصرية، القاهرة، د.ت، ج٢، ص٦١.
١١  ابن الجوزي (جمال الدين): نواسخ القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت، ١٩٨٥م، ص١٣، ١٤.
١٢  د. نصر أبو زيد: المصدر السابق، ص١٣١، ١٤٨، ١٥٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤