مكالمة تليفونية

في اليوم التالي كانت أجهزة الشرطة كلها تبحث عن «أشرف». وكان الأصدقاء الأربعة يطوفون بالمعادي للمرة الرابعة … لم يتركوا مكانًا إلا ذهبوا إليه، بل كانوا أحيانًا يُنادون بأعلى أصواتهم: «أشرف» … «أشرف» … وهم يأملون أن يكون في مكان ما … محبوسًا فيرد عليهم … ولكن جهودهم كلها ذهبت سدًى.

أمَّا «تختخ» فكانت إصاباته تمنعه من الخروج خوفًا عليها من الشمس؛ لهذا اكتفى بالاتصال بالمفتش «سامي» … وإبلاغه بما حدث، وأخذ ينتظر الأصدقاء الذين كانوا يمرون عليه كلما داروا دورةً في المعادي وعادوا …

ومضى اليوم كله دون أن يظهر للمختفي أثر … ثم مضى اليوم الثالث دون أن تصل الشرطة إلى شيء … لقد اختفى «أشرف» كأنه دُخَان تلاشى في الهواء … وكان رجال الشرطة قد تابعوا خطواته منذ خرج من منزله حتى اختفى … وقد استطاعوا أن يجدوا بعض من شاهده عندما خرج … وقد انتهت جهودهم عند «الكورنيش» حيث اختفى … وعندما علمتْ والدته بهذا بكت وقالت إن «أشرف» لن يعود لأنه غرق … فقد كان يهوى السباحة، بل كان بطلًا فيها … وربما راودته نفسه أن ينزل في النيل في هذا اليوم الحار … وغرق … لا بد أنه غرق … واستحوذت هذه الفكرة على الأم المسكينة.

وأخذت تذهب إلى الشاطئ وتسير لعلها تعثر عليه حيًّا أو ميتًا … وقال المفتش «سامي» ﻟ «تختخ» في نهاية اليوم الثالث وهو يُحدِّثه تليفونيًّا: لقد فعلنا كل ما بوسعنا ونشرنا له صورًا في الجرائد كلها، ولكن لم نتلقَّ أي بلاغات أو مكالمات عن العثور عليه؛ فقد يكون تائهًا أو أُصيب في حادث وفقد الذاكرة ولم يعُد يتذكَّر اسمه أو عنوانه، وربما يكون قد غرق كما تقول والدته.

تختخ: وهل ستوقفون البحث؟

المفتش: لا طبعًا! إننا لا نوقف البحث عن المختفين مطلقًا، ولكن من الواضح أن طرق البحث العادية قد استُنفدت … والأمل أن يظهر من تلقاء نفسه وهذا يحدث أحيانًا.

وأخذ «تختخ» يُفكِّر في هذا اللغز العجيب ولكن بلا نتيجة … فلم تكن هناك معلومات من أي نوع يمكن أن تُؤدِّي إلى كشف الغموض الشديد الذي يكتنف اختفاء «أشرف».

ولكن في اليوم الرابع زال الغموض فجأة … ففي صباح ذلك اليوم تلقَّت والدة «أشرف» مكالمةً تليفونيةً من مجهول تُفيد بأن عصابةً اختطفته وتطلب فديةً قدرها عشرة آلاف جنيه! … وبذلك اتضح سر اختفاء «أشرف».

وأسرع الأصدقاء الأربعة إلى «الفيلا» لمقابلة الأم، وبسؤالها عن المكالمة التليفونية … قالت الأم في صوت حزين: خرج والد «أشرف» كالمعتاد يوميًّا إلى قسم الشرطة ليسأل عن أخبار «أشرف» … وبقيتُ وحيدةً في المنزل كالمشلولة مع أفكاري وقلقي على ابني الوحيد … ودقَّ جرس التليفون وأزال رنينه الجو الموحش المخيِّم على البيت، وحدَّثني قلبي أن هناك أخبارًا سينقلها إليَّ زوجي … ولكني سمعت صوتًا خشنًا يقول لي إنه خاطف «أشرف»، وإنه وعصابته يطلبون عشرة آلاف جنيه لإعادة «أشرف»، وقد حذَّرونا من إبلاغ الشرطة، وإلا قتلوا ابني!

وأخذت السيدة المسكينة تبكي قائلة: الحمد لله، إنه حي … ولكن من أين لنا بهذا المبلغ الكبير؟! … إننا لا نملك سوى مُرتَّب زوجي … ولو بِعنا كل ما نملك فلن نجمع أكثر من ألفَي جنيه أو أكثر قليلًا.

محب: ألم يقُل كيف سيتسلَّمون المبلغ؟

الأم: لقد أخبرني أنه سيتصل مرةً أخرى … ولكنه لم يُحدِّد الموعد.

وأسرع الأصدقاء بإبلاغ «تختخ» … الذي كانت إصابته قد تحسَّنت، وأصبح في إمكانه الخروج.

قال «تختخ»: شيء مدهش للغاية! إنهم عصابة من الأغبياء؛ كيف يخطفون ابن موظف ويطلبون منه عشرة آلاف جنيه؟ … إنه مبلغ كبير جدًّا … فكيف تتصوَّر العصابة أن في إمكان رجل مثل والد «أشرف» أن يجمع هذا المبلغ الكبير؟!

لوزة: لعل الأستاذ «عبد القادر» يملك أرضًا أو منزلًا … أو رصيدًا في البنك وأنت لا تعلم يا «تختخ» … والعصابة تعلم …

تختخ: أؤكد لكِ أنه لا يملك شيئًا يُساوي عشرة آلاف جنيه مطلقًا … لا أرض ولا منازل … ولا رصيد في البنك، ومع ذلك فلْنسأل والدتي.

ذهب الأصدقاء إلى والدة «تختخ»، فلمَّا سمعت ما قالوه ردَّت كما قال «تختخ»: إن الأستاذ «عبد القادر» لا يملك شيئًا، إنه قريبي وأنا أعرفه جيدًا …

نوسة: هناك إذن سر لا نعرفه …

تختخ: سأذهب لمقابلة الأستاذ «عبد القادر» لأتحدَّث معه، وسوف أنصحه بإبلاغ الشرطة. وأخذ «تختخ» من والدته نقودًا، واتجه مع بقية الأصدقاء إلى «العجلاتي» حيث كانت درَّاجته قد تمَّ إصلاحها، فركبها إلى «فيلا» الأستاذ «عبد القادر»، وطلب من الأصدقاء أن ينتظروه في حديقة «عاطف» كالمعتاد.

وصل «تختخ» إلى «فيلا» الأستاذ «عبد القادر»، فوجد البوَّاب يروي الحديقة الواسعة الكثيفة … فسأله عن الأستاذ، فقال له إنه بالداخل … فأسرع «تختخ» يدق الجرس ففتحت له السيدة ورحَّبت به … كانت سعيدةً لأن ابنها ما زال حيًّا … برغم أن الفدية المطلوبة كانت فوق طاقتهم … ووجد «تختخ» الأستاذ «عبد القادر» يجلس وقد وضع أمامه ورقةً وقلمًا، وانضمَّت إليهما السيدة بعد أن أحضرت ﻟ «تختخ» زجاجة ليمون باردة شربها مُرحِّبًا في الحر الشديد.

قال «تختخ»: متى نبلغ الشرطة؟

وبدا على وجه الأستاذ «عبد القادر» انزعاج مفاجئ، وقالت زوجته بجزع: شرطة! إننا لن نبلغ الشرطة!

تختخ: لن تبلغا الشرطة! ماذا تفعلان إذن؟

الأم: سنُحاول جمع المبلغ … سنبيع كل ما نملك، وسنستدين من أقاربنا في البلد … ومن والدك أيضًا … سنجمع أكبر قدر ممكن من المال، وقد تقبل العصابة أن تتنازل عن بضعة آلاف …

تختخ: شيء غير معقول! … كيف تسمحان لعصابةٍ من المجرمين أن تستولي على نقودكما بهذا الشكل؟! بل إنها تخرب بيتكما بما تفعل!

الأم: وهل نترك ولدنا الوحيد يُقتل من أجل النقود؟!

تختخ: إذا تدخَّل رجال الشرطة فسوف يُعيدون لكما «أشرف» سليمًا.

الأب: ليس هناك ضمان!

تختخ: وهل ستُقدِّم لكما العصابة ضمانًا بأنها ستُعيد «أشرف» حيًّا بعد أن تستولي على المبلغ؟

الأب: لقد وعدوا بذلك.

تختخ: وكيف تثق في وعد عصابة من المجرمين؟!

الأب: وماذا نملك غير هذا يا ولدي؟

تختخ: ليس هناك حل إلا إبلاغ الشرطة.

الأم بجزع: لا لن نُبلغ الشرطة أبدًا، إني متأكِّدة أننا إذا بلَّغنا الشرطة فسوف يقتلون «أشرف».

ثم انخرطتْ في البكاء … ولم يجِد «تختخ» شيئًا يفعله فغادر المنزل وقد استغرقته الأفكار … هل يُبلغ هو المفتش «سامي»؟ وإذا أبلغه وتدخَّل رجال الشرطة وعلمت العصابة وقتلت «أشرف» فماذا يكون موقفه؟!

ظلَّ «تختخ» سائرًا حتى وصل إلى حديقة منزل «عاطف» حيث تجمَّع الأصدقاء في انتظاره … فروى لهم ما حدث … وجلسوا يُناقشون الأمر … هل يُبلغون المفتش «سامي» أو لا يُبلغون؟! أخيرًا قال «تختخ»: لا بد أن أُبلغ المفتش «سامي»؛ فمن غير المعقول أن نترك العصابة تستولي على هذا المبلغ الكبير الذي سيُحطِّم حياة هذه الأسرة … إن واجبنا هو إبلاغ المفتش … ومن المؤكَّد أنه سيتخذ الإجراءات اللازمة للمحافظة على حياة «أشرف» …

واتجه الجميع إلى محطة المعادي حيث استقلَّ «تختخ» القطار متجهًا إلى القاهرة، على حين جرَّ «محب» البارع في ركوب الدرَّاجات دراجة «تختخ» بيده اليمنى، وركب دراجته وقادها بيد واحدة إلى منزل «تختخ»، وانصرف الأصدقاء بعد ذلك.

استقبل المفتشُ «تختخ» بترحاب … واستمع منه إلى طلب العصابة، ثم قال: سنتدخَّل طبعًا في الأمر … ولكن بحذرٍ شديد … فإن العصابة لن تتردَّد في قتل «أشرف» فعلًا لو علمتْ بتدخُّلنا؛ ولهذا لا أريد أن يعلم أحد أنك أبلغتني …

تختخ: وماذا تفعلون بالضبط؟

المفتش: سنُراقب تليفون الأستاذ «عبد القادر» بعد الحصول على إذنٍ من النيابة، وسوف نعرف من أين يتكلَّم رجال العصابة، وسيكون من السهل معرفة العنوان والهجوم على مقرِّها.

تختخ: لقد قرأتُ أن الشرطة في هذه الحالة تُقدِّم المبلغ المطلوب كفدية بعد وضع علامات على النقود … فإذا لم تقبِض على العصابة عند استلام الفدية، أمكنها متابعة النقود لحين الوصول إلى العصابة.

ابتسم المفتش وهو يقول: تمامًا … ولكن دعنا أولًا نُجرِّب الحل الأول … إن الأستاذ «عبد القادر» كما تقول لا يملك كل المبلغ … ولن يستطيع جمعه … وسوف تتصل به العصابة مرةً أخرى، وعندما يقول لها إنه لا يملك المبلغ كله، فغالبًا لن يتسرَّب الشك إلى رجال العصابة وسيتأكَّدون أنه لم يُبلغ الشرطة … فإذا قبلت العصابة المبلغ الموجود … فسوف نستطيع متابعتها في الوقت الذي تقبض فيه النقود … وإذا رفضت المبلغ تدخَّلنا وأعطينا الأستاذ «عبد القادر» المبلغ كاملًا …

تختخ: هذا معقول جدًّا …

المفتش: مؤقَّتًا لا تقُل للأستاذ «عبد القادر» إنك أبلغتني؛ فقد تُحس العصابة من تحرُّكاته أنه أبلغنا … دَعه يتصرَّف بطريقةٍ عادية، وعليك متابعة أخباره لأنني طبعًا لن أدخل منزله؛ فإن العصابة في الغالب تُراقب المنزل.

غادر «تختخ» المفتشَ بعد أن أعطاه رقم تليفون الأستاذ «عبد القادر» … وعاد إلى المنزل مسرعًا، فاتصل بالأصدقاء تليفونيًّا، وطلب منهم ألَّا يقولوا لأي مخلوق إنه أبلغ المفتش «سامي»، ولم يكَد يضع سمَّاعة التليفون حتى رنَّ جرس الباب، فأدرك أن ضيفًا قد قدم إلى منزلهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤