ماذا نحتاج؟

إن الذي يطالع تقرير الأنسيكلوبيديا في الصهيونية يستطيع أن يستخرج منه دروسًا مفيدة.

منها أن المشاريع أول ما تبتدئ صغيرة، ويقوم بها فرد أو أفراد يلاقون معاكسات وممانعات شديدة، فإذا ثبتوا وكانوا أمناء على مبادئهم لا تلبث أن تمتد وتنتشر وتعم، فإن هرتسل لما بدأ بمشروعه في تأسيس الصهيونية كان منفردًا، حتى إن أحد أصحابه اتهمه بالجنون، وعارضه رجال الدين، ولكن طريقته الصحيحة التي أدخل عليها بعض التعديلات لتلائم جميع اليهود على اختلاف أذواقهم ومبادئهم، ما لبثت أن عمت واجتذبت قلوب اليهود من جميع أطراف العالم إليها.

أما نحن فيريد الواحد منا بمجرد كلمة يقولها، أو فكر يبديه أن يصغى له العالم بأجمعه، ويُؤمِّن على أقواله ويناصره، وإلا حسب نفسه منفردًا في وطنيته وإخلاصه، ويئس من النجاح وتقاعد عن العمل، وشكى من ضعف الوطنية وتفرق الكلمة، حالة كون الشعب اليهودي مشهورًا بحب المنفعة الخصوصية، وقد قضت عليه النوائب بالتشتيت حتى تفرقت كلمته، واختلفت أذواقه، وصار من أصعب الأمور جمع كلمته، ولكن حسن قياد هرتسل وثباته في توحيد كلمة قومه أفضى بنجاحه نجاحًا باهرًا.

نحن غير الشعب اليهودي؛ لنا جامعة عثمانية تجمعنا راية تخفق فوق رءوسنا، فضلًا عن أن الفريق الأكبر منا له خلافة دينية توجب عليه الارتباط بها، علاوة عن الشئون الاجتماعية والسياسية، وتوجب على بقية العثمانيين احترامها رعاية له. وهذه الخلافة تضم إلينا شعائر ٢٥٠ مليونًا من المسلمين غير العثمانيين، فكلمتنا إذن قوية، ووسائل الارتباط موجودة. وهي مكينة، وإنما تفتقر إلى إدراك معنى الوطنية الصحيحة، وإلى القيادة الحسنة وعدم التردد الذي يرافق طبائعنا.

نحتاج إلى الاعتماد على النفس، وعدم انتظار كل شيء من الحكومة؛ فاليهود شعب مشتت في الأرض، متفرق الكلمة، وليس له حكومة تجمع كلمته، وتدفع عنه الطوارئ والأخطار، ومع ذلك فقد تمكن رجل واحد من جمع كلمته، وجعله يتخذ خطة الهجوم، فلماذا لا نقوى نحن على الدفاع عن أنفسنا بأنفسنا، وننتظر من الحكومة أن تدرأ عنا كل مصيبة؟ هذا إقرار منا بالعجز والضعف، وهذا ممَّا لا أريده لمواطنيَّ. فلو فرضنا أن بعض عمال الحكومة أرادوا بيعنا بمنافع خصوصية، هل نقبل بالعبودية وبالشقاء صاغرين؟ حكومتنا اليوم دستورية، والحكومات الدستورية للشعب، فإذا لم يستطع الشعب استخدام الحكومة لمصالحه الاجتماعية ومنافعه العمومية؛ فالشعب خامل وخليق بالانقراض.

نتعلم أيضًا أن الصهيونية ورفيقاتها أصبحن جمعيات قوية غنية، فلمقاومة مقاصدهن يُقتضَى أن يكون كل صدر من صدور العثمانيين غنيًّا بالوطنية، ومن أجل ذلك فالبلاد تحتاج إلى قادة مخلصين كهرتسل ينكرون ذواتهم في سبيل المصلحة العمومية. عندنا كثيرون كهرتسل ولكن يعوزهم معرفة قدر نفوسهم، وشجاعة أدبية ليخطوا الخطوة الأولى؛ فليظهر هؤلاء ولا يبالوا، والظروف تخدمهم؛ لأن الأفكار تنبهت وصار عندها استعداد.

ليقم رجالنا ويبدءوا بتشكيل جمعيات تنادي بالعثمانية للعثمانيين، وتعلم الاقتصاد، وتزرع مبدأ عدم ترك أموال العثمانيين تتسرب في جيوب المستعمرين الذين ينازعوننا البقاء، ولا يعيدونها إلينا، بتأليف شركات تجمع الأموال بالغروش؛ ليشترك فيها الفقير والغني، فتشتري الأراضي، وتقوم بالمشاريع الزراعية والصناعية والتجارية، الصغائر تنتج الكبائر، فليبتدئ النشيط العاقل، وكل من سار على الدرب وصل.

نحن إذا كنا قضينا أجيالًا نعاني البؤس والشقاء، لماذا لا نصير رجالًا ونتمشى في طريق الحرية، ونعيش لوطننا ولأنفسنا، فلا نستمطر لعنات أجدادنا وأبنائنا علينا بإضاعة بلاد اشتراها الأجداد بدمائهم؟

وفي الختام: لا بد لنا من الاعتراف بفضل الأنصار الذين شدوا أزرنا في خدمة هذا الموضوع، ونادوا معنا بخطره، ونبهوا إلى ضرره، كما أننا لا نشكو ممن قاومونا، ووشوا بنا، وحاولوا إحباط مساعينا، ورشقونا بتهم دنيئة،١ لا سيما من المسلمين أصحاب الحصة الكبرى في هذا الوطن العزيز؛ لأن مثل هذا كثيرًا ما يكون نصيب أصحاب المبادئ وخدمة الأوطان.
١  لا نعني المأجورين؛ لأن هؤلاء خونة أدنياء لا يُلتفت إلى أقوالهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤