تقديم السيدة وينهام جاردنر
كان ثمة عميلٌ مميز للغاية يجذب انتباه السيد داولينج الأب، صاحب شركة ميسرز داولينج، سبينس آند كمباني التي يقع مقرُّها في ووترلو بليس، بال مول. كان السيد داولينج رجلًا ضئيلًا صعب المِراس، يتراوح عمره بين خمسين وستين عامًا، ويقضي معظمَ وقته في لعب الجولف، وقد فقد اتصاله بتفاصيل العمل منذ مدةٍ طويلة، رغم محاولته الجاهدة لتجاهل هذه الحقيقة. ومن ثمَّ، في غياب السيد داولينج الابن، الذي تزايد ولعه بشكل ملحوظ بحانة معينة في المنطقة، استُدعي تافرنيك على عجل لإنقاذ الموقف من جزء آخر من المبنى، حيث أُرسِل في طلبه صبيٌّ صغير يلهث بشدة.
قال الأخير بصوت هامس: «لم أرَ الرئيس في مثل هذه الورطة من قبل؛ فهي تطرح أسئلة لا نهاية لها وهو لا يعرف أيَّ شيء على الإطلاق.»
سأل تافرنيك وهو في طريقه إلى الطابق السفلي: «مَنْ هي السيدة؟»
أجابَ الصبيُّ: «لم أسمع اسمها. ومع ذلك أستطيع أن أقول إنها على حقٍّ … جمالها أخَّاذ. ويا لها من سيارة أيضًا! زهورٌ وطاولات وكلُّ ما تتخيَّلُه بداخلها. يا إلهي، سيستشيطُ الرئيسُ غضبًا إذا غادرت قبل أن تصل إلى هناك!»
أسرع تافرنيك الخُطى وطرقَ باب المكتب الخاص ودلفَ في غضون لحظاتٍ قليلة.
رحَّبَ به رئيسُه في بادرةِ ارتياح. نظرت عميلة الشركة المميَّزة، التي كان يحاول لفْتَ انتباهِها، نحو الوافد الجديد، في أول ظهور له، بنوع من اللامبالاة الضجرة. إلا أن عينَيها لم تنزلا عن وجهه على الفور. بل على العكس من ذلك، فمن لحظة دخوله كانت تُراقبه بثبات. اقتربَ تافرنيك بشجاعة ورباطة جأش، وفي ذلك الوقت بدون فهم، من المكتب.
أعلنَ السيد داولينج بخنوع: «هذا … إممم … السيد تافرنيك، المدير هنا. في غياب ابني، هو المسئول عن قسم الإيجارات. ليس لديَّ شكٌّ في أنه سيتمكَّن من اقتراح شيءٍ مناسب.» وتابع: «تافرنيك، هذه السيدة …» ونظر إلى بطاقةٍ أمامه ثم استطرد: «السيدة وينهام جاردنر من نيويورك تبحث عن بيتٍ كبير في المدينة، وقد تكرَّمَت وتعطفَت بأن تخصَّنا نحن بالاستفسار.»
لم يُصدر تافرنيك أيَّ ردٍّ فوري. كان السيد داولينج شخصًا قاصرَ النظر، وعلى أي حال، لم يكن ليخطرَ بباله قطُّ أن يربط العصبية، أو أي شكل من أشكال الانفعال، بمديره المسئول. اتَّكأَت السيدة الجميلة على كرسيها. وندَّت من شفتَيها ابتسامةٌ طفيفة لكنها فضوليةٌ للغاية، وأسندَت خدَّها إلى أصابعها، وانقبض جَفْناها وهي تتفرَّسُ في وجهه. شعر تافرنيك بأنَّ كليهما تعرَّف على الآخر. ومرةً أخرى رجع بذهنه إلى الأجواء المأساوية في تلك الصيدلية، عندما كانت بياتريس شبهَ فاقدةٍ للوعي بين ذراعَيه، والسيدة الجميلة قد تحوَّلت إلى تمثال. كانت لوحةً غريبة انطبعَت بوضوح في ذاكرته لدرجة أنها كانت ماثلة أمامه في هذه اللحظة بعينها. كان ثمة غموضٌ في عينيْ هذه المرأة، غموض وشيء آخر.
واصلَ السيد داولينج حديثه حاملًا رِزمةً صغيرة من الورق من على المكتب: «لا يبدو أنني قد صادفتُ أيَّ شيء هنا يجذب السيدة وينهام جاردنر بشكل خاص. اعتقدتُ أن منزل ميدان بريانستون سكوير ربما يكون مناسبًا، لكن يبدو أنه صغير جدًّا، صغير جدًّا جدًّا. السيدة جاردنر معتادةٌ على الاستضافة، وقد وضَّحَت لي أنَّ لديها أصدقاء كثيرين دائمًا ما يأتون ويذهبون من الجانب الآخَر من المحيط. إنها تريد، على ما يبدو، اثنتَي عشرة غرفةَ نوم، إلى جانب مكان لإقامة الخدم.»
ذكَّرَه تافرنيك قائلًا: «إن قائمتك ليست محدَّثةً بالكامل يا سيدي. إذا كان الإيجار ليس لغرض معين، فهناك جرانثام هاوس.»
أضاءَ وجه السيد داولينج فجأة.
وصاحَ: «جرانثام هاوس! بالضبط! الآن أصرح بأنه غاب عن ذاكرتي تمامًا في الوقت الحالي — فقط في الوقت الحالي — أننا وضعنا للتو في دفاترنا واحدًا من أجمل القصور في الطرَفِ الغربي من لندن. وصاحبُه عميلٌ من أهم عملائنا، أيضًا، وأحد العملاء الذين نحرص تمامًا على خدمتهم. يا إلهي! من حسن الحظ جدًّا … من حسن الحظ جدًّا أنني فكرتُ فيه، خاصة أنه، فيما يبدو، لم يكن لدى أي شخص حُسن التقدير لوضعه في قائمتي. تافرنيك، أحضر المخططات في الحال واعرضها على … إمممم … السيدة جاردنر.»
عبَر تافرنيك الغرفة في صمت، وفتح درجًا، وعاد بلفافة أوراق، بسَطها بحرصٍ أمام هذه العميلة غير المتوقَّعة. ثم تحدَّثت لأول مرة منذ دخل الغرفة. كان صوتُها منخفضًا وحلوًا بشكل رائع. لم تكن تشوبه اللهجةُ الأمريكية إلا قليلًا، ولكنَّ شيئًا ما في نغمتها، خاصةً في نهاية الجمل، كان أجنبيًّا قليلًا.
استفسرَت: «أين يوجد منزل جرانثام هذا؟»
أجاب تافرنيك بسرعة: «على مرمى حجَر من ميدان جروسفينور. إنها حقًّا واحدة من أكثر المناطق مركزيةً في الطرف الغربي. إذا سمحتِ لي!»
في الدقائق القليلة التالية كان شديدَ اللباقة بالفعل. وبقلم رصاص في يده، شرحَ المخططات، وناقشَ مزايا الموقع، ومن خلال مدحِه للمنزل خلقَ انطباعًا بأن المنزل الذي كان يصفُه هو أروعَ وأفضل منزل على الإطلاق في كل أنحاء لندن.
سألتْ عندما انتهى: «هل يمكنني معاينة المكان؟»
أعلن السيد داولينج: «بكل سرور، بكل سرور. كنتُ على وشك اقتراح ذلك. سيكون هذا الإجراء الأكثرَ إرضاءً إلى حدٍّ بعيد. لن تُخذَلي يا سيدتي العزيزة، يمكنني أن أؤكِّد لكِ.»
قالت: «أودُّ أن أفعل ذلك، إذا أمكن، دون تأخير.»
أجابَ السيد داولينج: «لا توجد فرصةٌ أفضل من هذه. إذا سمحتِ لي، فسيُسعدني جدًّا أن أرافقكِ إلى هناك شخصيًّا. ارتباطاتي بقيةَ اليوم تصادفَ أن تكون غيرَ مهمة. تافرنيك، أعطِني مفاتيح الغرف المغلقة. الحارس هناك بالطبع.»
نهضَت الزائرة الجميلة على قدمَيها، وحتى تلك الحركة البسيطة قامت بها برقةٍ لم يرَ تافرنيك مثيلًا لها من قبل.
واحتجَّت على ذلك قائلة: «لا أتصوَّر إزعاجك أكثرَ من ذلك يا سيد داولينج. ليس هناك داعٍ إطلاقًا أن تأتيَ بنفسك. لعل مديرك يستطيع أن يمنحني بضعَ دقائق من وقته.» ثم أضافَت مبرِّرة، عندما لاحظَتْ سحابةً من الحزن تُخيِّم على وجه السيد داولينج: «يبدو أنه على علمٍ تامٍّ بكل التفاصيل.»
قال: «كما تُحبين، بالطبع. السيد تافرنيك يستطيع الذَّهاب بكل سرور. عندما فكَّرتُ الآن في الأمر، سيكون من غير المناسب بالنسبة إليَّ بالتأكيد أن أبتعدَ عن المكتب أكثرَ من بضع دقائق. والسيد تافرنيك لديه كل التفاصيل طوعَ بَنانِه، وكلُّ ما أتمناه يا سيدة جاردنر أن يتمكَّن من إقناعكِ بأخذ المنزل.» ثم أضاف بانحناءة: «عميلنا، سيكون سعيدًا، بالتأكيد، عندما يعرف أننا ضمِنَّا له مستأجِرًا مميزًا مثل سيادتكِ.»
ابتسمَت له ابتسامة هي مزيجٌ من اللطف والرقة والتواضع.
وأجابت: «أنت لطيفٌ جدًّا. المنزل يبدو كبيرًا جدًّا بالنسبة إليَّ لكن الأمر يعتمد إلى حدٍّ كبير على الظروف. إذا كنتَ مستعدًّا، يا سيد …»
قال لها: «تافرنيك.»
واصلَت حديثها: «سيد تافرنيك، سيارتي تنتظر في الخارج ويمكننا الذهاب في الحال.»
انحنى وفتَح لها الباب، وهي مهمةٌ أدَّاها بإحراج قليلًا. ورافقها السيد داولينج بنفسه إلى الخارج حتى الرصيف. توقَّف تافرنيك لإحضار قبعته، ثم خرج بعد لحظة، وكان سيجلسُ في المقعد الأمامي بجوار السائق لولا أنها أبقَتْ باب السيارة الخلفي مفتوحًا وأومأت إليه.
أصرَّت قائلةً: «هَلا تدخلين من فضلك؟ هناك سؤال أو اثنان قد أطرحهما عليك بينما نحن في الطريق. من فضلك أعطِ توجيهاتك للسائق.»
أطاعَ بغير كلمة؛ وانطلقَت السيارة. بينما كانوا ينعطفون عند الزاوية الأولى، مالت نحو الأمام من بين وسائد مقعدها الوثير ونظرت إليه. عندئذٍ أدركَ تافرنيك أشياءَ جديدة. كما لو كان قد علم في لحظةِ إلهام أن زيارتها لمكتب ميسرز داولينج، سبينس آند كمباني لم تكن بمحضِ المصادفة.
كانت تتذكَّره، وتتذكَّره كرفيق بياتريس أثناء ذلك اللقاء الغريب والمختصر. لقد كان عالَمًا غيرَ مفهوم، هذا الذي هامَ فيه. زالَ عن وجه المرأة ذلك التعبيرُ الرقيق الضعيف. وخيَّم عليه تعبيرٌ جديد أقربُ إلى المأساة. نزلت أصابعُها على ذراعه في لمسة ليست بالخفيفة. بل كانت تُمسك به مسكةً تكاد تكون قوية.
وقالت: «سيد تافرنيك، لديَّ ذاكرةٌ للوجوه نادرًا ما تخونني. لقد رأيتُك من قبل في الآونة الأخيرة. أنت تتذكَّر أين، بالطبع. قل لي الحقيقةَ بسرعةٍ من فضلك.»
بدَت الكلمات وكأنها تندفع من شفتَيها. ورغم كونها جميلةً وشابة دون أدنى شك، فإن جِدِّيتها الشديدة قد منحَت وجهها فجأةً عمرًا أكبر من عمرها الحقيقي. أصابت الحيرة تافرنيك. كان هو أيضًا يشعر باضطراب عاطفي غريب.
سألها: «الحقيقة؟ أيَّ حقيقةٍ تقصدين؟»
«أنت الذي رأيتُه مع بياتريس!»
اعترفَ ببطءٍ: «لقد رأيتِني ليلةً ما منذ نحوِ ثلاثة أسابيع. كنتُ في صيدلية في شارع ستراند. وكنتِ تُوقِّعين في دفتر الصيدلي للحصول على دواء منوِّم، على ما أعتقد.»
أصابتها رعشةٌ في جسدها بالكامل.
وصاحت: «نعم، نعم! بالطبع، أتذكَّر كلَّ شيء. الآنسة التي كانت معك … ماذا كانت تفعل هناك؟ وأين هي الآن؟»
أجابَ تافرنيك بحسم: «الآنسة كانت أختي.»
بدَت السيدة وينهام جاردنر، لحظة، وكأنها ستضربه.
قالت: «لست بحاجةٍ إلى أن تكذب عليَّ! الأمر لا يستحق ذلك. أخبرني أين قابلتَها، ولِمَ كنتَ معها في الأساس في هذا الوضع المتآلف، وأين هي الآن!»
أدركَ تافرنيك على الفور أنه فيما يتعلق بهذه المرأة، فإن القصة التي اخترعها لعلاقته ببياتريس لن تُجدي. فهي تعرف!
أجابَ: «سيدتي، تعرَّفتُ إلى الشابة التي كانت معي في ذلك المساء، في النُّزُل الذي كان يعيش فيه كِلانا.»
سألت: «ماذا كنتما تفعلان في الصيدلية؟»
تابعَ برَويَّة وهو يتساءلُ بينه وبين نفسه عن مقدار ما يخبرها به: «كانت الشابة مَغشيًّا عليها. لقد أصيبت بإغماءٍ بالفعل. وكانت تستعيد وعيها بصعوبةٍ عندما دخلتِ.»
سألت المرأةُ بلهفة: «وأين هي الآن؟ ألا تزال في ذلك النُّزُل الذي تحدَّثتَ عنه؟»
أجابَ: «نعم.»
أمسكتْ أصابعُها بذراعِه مرة أخرى.
«لماذا ترد عليَّ دائمًا بهذه الردود المقتضبة؟ ألا تدرك أن عليك أن تخبرني بكل ما تعرفه عنها. يجب أن تخبرني أين يمكنني أن أجدها في الحال.»
ظلَّ تافرنيك صامتًا. كان صوت المرأة لا يزال يتمتع بتلك النغمة الناعمة الرائعة، لكنها فقدَت كليةً اللامبالاةَ التامة الأرستقراطية. لقد كانت شخصًا مختلفًا تمامًا الآن عن تلك العميلة المميزة التي استعانت بخدماته في بادئ الأمر. ولسببٍ أو لآخَر، كان يعرف أنها تُعاني من قلق رهيب.
قال أخيرًا: «لستُ متأكدًا مما إذا كان بإمكاني أن أفعل ما تطلبينه.»
صاحت بحدة: «ماذا تقصد؟»
وتابعَ: «بدا أن الشابة، في المرة التي أشرتُ إليها، كانت حريصةً تحديدًا على تجنُّب أن يتعرفَ عليها أحد. لقد خرَجَت مسرعةً من المكان دون أن تتحدَّث معكِ، وتجنَّبَت الموضوع منذ ذلك الحين. لا أعرف ماذا قد تكون دوافعها، لكني أعتقد أنني أودُّ أن أسألها أولًا قبل أن أخبركِ أين يمكنكِ العثور عليها.»
مالت السيدة وينهام جاردنر نحوه. كانت بالتأكيد المرةَ الأولى التي تنظر امرأةٌ في مستواها الظاهر إلى تافرنيك بمثلِ هذه الطريقة. كانت جبهتها مجعَّدةً قليلًا، وشفتاها منفرجتَين، وعيناها بليغتَين على نحوٍ مبهج يُثير التعاطف.
قالت راجية: «يا سيد تافرنيك، يجب ألَّا تتجاهلني. لو أنك فقط تعرف أهمية الموضوع، لما كنتَ ستتردَّد لحظة. هذا ليس فضولًا بلا داعٍ من جانبي. لديَّ أسباب، وهي أسبابٌ خطيرة جدًّا حقًّا، لرغبتي في اكتشاف مكانِ وجود الفتاة المسكينة على الفور. هناك خطرٌ محتمل يجب تحذيرُها منه. لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك باستثنائي.»
سألَ تافرنيك: «هل أنتِ صديقتها أم عدوتها؟»
فسألته: «لماذا تسأل مثل هذا السؤال؟»
واصلَ تافرنيك بإصرار: «أنا فقط أتذكَّر تعبيراتِ وجهها عندما رأتكِ تدخلين إلى الصيدلية.»
صاحت المرأة: «هذا قولٌ فظ. أتمنى أن أكون صديقتها، وأنا صديقتها. لو أنني كنت أستطيع فقط إخبارَك بكل شيء، لفهمت في الحال مثل هذا الموقف الفظيع، يا له من مأزقٍ شنيع هذا الذي وقعتُ فيه.»
مرةً أخرى، توقَّف تافرنيك مؤقتًا بضع لحظات. لم يكن تفكيره سريعًا قط وكان الموقف بالتأكيد محرجًا له.
أجابَ بإسهاب: «سيدتي، أرجو ألا تُخبريني بأي شيء. الشابة التي تحدثتِ عنها تسمح لي بأن أطلق على نفسي صديقها، وما لم تُخبرني به هي نفسها لا أرغب في معرفته من الآخرين. سأخبرها عن لقائي بكِ، وإذا كانت هذه رغبتها، فسوف أعطيكِ عُنوانها بنفسي في غضون بضع ساعات. لا أستطيع أن أفعل أكثرَ من ذلك.»
أصبحَ وجهُها فجأة باردًا وقاسيًا.
وصاحت بغضب: «أتقصد أنك لن تفعل! أنت عنيد. لا أعرف كيف تجرؤ على رفضِ ما أطلبه.»
توقَّفت السيارة. ونزلَ إلى الرصيف.
أعلنَ: «هذا جرانثام هاوس، يا سيدتي. هلا تنزلين؟»
سمعها تنفث نفسًا سريعًا بين أسنانها ولمحَ في عينيها لمعانًا جعله يشعر بعدم ارتياح غامض. كانت غاضبة جدًّا حقًّا.
قالت ببرود: «لا أعتقد أنه من الضروري بالنسبة إليَّ أن أفعل. أنا لا أحبُّ شكل هذا المنزل على الإطلاق. لا أعتقدُ أنه يناسبني.»
احتجَّ قائلًا: «على الأقل، الآن بما أنكِ هنا، من فضلك، تعالَي لتُعايِنيه. أودُّ أن ترَي قاعة الرقص. من المفترض أن تكون الزخارف استثنائية للغاية.»
تردَّدَت لحظةً وبعد ذلك، هزَّت كتفيها هزَّة خفيفة، واستجابت له. كانت ثمةَ نغمةٌ في صوته ليست بالضبط مُلِحَّة، لكنها مُهيمنة، نغمة أطاعتها رغم أنها تعجَّبت سرًّا من نفسها لأنها فعلَت ذلك. دلَفا إلى المنزل، وتتبَّعَته من غرفةٍ إلى أخرى، تاركةً له كلَّ الكلام. بدت غير مهتمة ولكن بين الحين والآخر كانت تسأل سؤالًا متثاقلًا.
وقرَّرت أخيرًا: «لا أعتقدُ أنه يناسبني بأي حال من الأحوال. كلُّ شيءٍ رائعٌ للغاية، بالطبع، لكني أعتقد أن الإيجار مبالَغ فيه.»
نظرَ إليها تافرنيك متفكِّرًا.
قال: «أعتقدُ أن عميلنا قد يكون على استعدادٍ للنظر في تخفيض قيمةِ الإيجار بعضَ الشيء، في حالة استعدادكِ الجادِّ لتأجير البيت. إذا أردتِ، فسأناقشُ معه هذا الموضوع. أشعرُ بأنه يمكن تخفيضُ المبلغ الذي ذكرتُه، إذا كانت الشروط الأخرى مُرضية.»
ووافقَت على ذلك قائلة: «لا مانعَ من قيامك بذلك. متى يمكن أن تأتي إليَّ وتخبرني بما فعلت؟»
أجابَ: «قد أتمكن من الاتصال بكِ هذا المساء؛ وبالتأكيد غدًا صباحًا.»
هزَّت رأسها.
وقالت: «لن أتحدَّث عبر الهاتف. أنا لا أسمح باستخدام الهاتف في منزلي إلا بحدود. يجب أن تأتي وتخبرني بما يقولُه عميلك. متى يمكنك رؤيته؟»
أجابَ: «من المشكوك فيه أن أتمكَّن من العثور عليه هذا المساء. من المرجَّح أن أراه صباح الغد.»
اقترحت: «يمكنك أن تذهب وتحاول على الفور.»
اندهشَ قليلًا.
واستفسرَ: «هل أنتِ مهتمةٌ حقًّا بالمسألة، إذن؟»
قالت له: «نعم، نعم، بالطبع أنا مهتمة. أريدك أن تأتيَ لرؤيتي مباشرةً بمجرد أن تسمع منه شيئًا. هذا أمر مهم. لنفترض أنك تستطيع العثور على عميلك الليلة، فهل سترى الشابة قبل ذلك؟»
أجابَ: «أخشى أنني لن أفعل.»
رجَتْه وهي تضعُ أصابعها على كتفه قائلة: «يجب أن تُحاول. أرجو منك أن تحاول يا سيد تافرنيك. لا يمكنك أن تُدرك ما يَعنيه كلُّ هذا القلق بالنسبة إليَّ. أنا لستُ على ما يُرام على الإطلاق وأنا قلقةٌ للغاية بشأن … بشأن هذه الشابة. أقول لك إنني يجب أن أُجريَ مقابلةً معها. ليس هذا من أجلي بقدر ما هو من أجلها هي. لا بد من تحذيرها.»
كرَّر تافرنيك قولها: «تحذيرها؟ أنا حقًّا لا أفهم.»
صاحت بنفاد صبر: «بالطبع لا تفهم! لماذا عليك أن تفهم؟» وتابعت على عجل: «أنا لا أريد أن أسيء إليك، يا سيد تافرنيك. أود أن أعاملك بصراحة تامة. أنت حقًّا لستَ في موضع يجعلك تضع مثل هذه العراقيل. ما الصلة التي تربطك بهذه الشابة لكي تعتبر نفسك وليَّها؟»
اعترفَ تافرنيك قائلًا: «إنها ليست سوى أحد المعارف من النُّزُل.»
سألت السيدة جاردنر: «إذن لماذا أخبرتَني، منذ لحظةٍ فقط، أنها أختك؟»
فتحَ تافرنيك الباب الذي كانا يقفان أمامه.
قال: «هذه قاعة الرقص الشهيرة. اللورد كلمبر على استعداد تام لأن تظلَّ الصور هنا، ويمكنني أن أخبركِ أنها مؤمَّنٌ عليها بما يَزيد عن ستين ألف جنيه. لا توجد قاعة رقص أفضل من هذه في لندن بأسرها.»
جالت عيناها في المكان بلا مبالاة.
واعترفت ببرود: «ليس لديَّ شكٌّ في أنها جميلة جدًّا. أنا أفضِّل مواصلة مناقشتنا.»
تابعَ حديثه: «غرفة الطعام كبيرة بالقدرِ نفسِه تقريبًا. أخبَرنا اللورد كلمبر بأنه كثيرًا ما كان يستقبل ثمانين ضيفًا على العشاء. ونظام التهوية في هذه الغرفة، كما ترين، حديث تمامًا.»
أخذَته من ذراعه وقادته إلى مقعد في الطرف الأبعد من الغرفة.
قالت، وهي تحاول بوضوح السيطرة على مِزاجها: «سيد تافرنيك، أنت تبدو شابًّا عاقلًا جدًّا، إذا سمحتَ لي أن أقول ذلك، وأنا أريد إقناعك بأن من واجبك الردَّ على أسئلتي. في المقام الأول … لا تستَأْ مما سأقوله … ولكني لا أستطيع أن أرى ما يمكن أن يثير اهتمامَ أحدِكما أنت وهذه الشابة في الآخَر. أنت تنتمي، بصراحةٍ، إلى طبقة اجتماعية مختلفة تمامًا، وليس من السهل تخيلُ ما يمكن أن يكون مشتركًا بينكما.»
توقفَت برهةً، لكن لم يكن لدى تافرنيك ما يقوله. كانت موهبة الصمت لديه تصلُ في بعض الأحيان إلى حد العبقرية. كانت تميل مقتربةً منه للغاية بينما تنتظر رده عبثًا، لدرجةِ أن الفِراء حول عنقها لمس وجنته. ساعدَ عطرُ ثيابها وشعرها، والرجاءُ الذي يُطلُّ من عينيها الزرقاوين البنفسجيتَين، في إبقائه صامتًا تمامًا. لم يسبق أنْ حدث له مثلُ هذا الشيء من قبل. لم يفهم على الإطلاق ماذا يمكن أن يعنيَ ذلك.
واصلَت بجِدية: «أنا أتحدَّث إليك الآن، يا سيد تافرنيك، لمصلحتك. عندما تُخبر هذه الشابة، كما وعدتَ هذا المساء، بأنك قد رأيتَني، وأنني حريصةٌ جدًّا على أن أكتشف مكانها، فمن المحتمل جدًّا أن تنزل على ركبتَيها وتتوسَّل إليك ألا تعطيني أيَّ معلومات مهما كانت عنها. ستبذل قصارى جهدها لتجعلك تَعِدُها بألا تسمح بلقائنا. ومع ذلك كل هذا لأنها لا تفهم. صدِّقْني من الأفضل أن تخبرني الحقيقة. لا يمكنك أن تعرفَها جيدًا يا سيد تافرنيك، لكنها ليست حكيمةً جدًّا، تلك الشابة. إنها عنيدة جدًّا ولديها بعضُ الأفكار الغريبة. وليس من مصلحتها أن تُترَك في هذا العالَم وحدها. يجب أن ترى ذلك بنفسك، يا سيد تافرنيك.»
قال بهدوء: «إنها تبدو شابةً عاقلة للغاية. أعتقدُ أنها كبيرة بما يكفي لأن تعرف بنفسها ما تُريده وما هو الأفضل لها.»
أشاحت المرأة التي كانت بجانبه بيديها تعبيرًا عن اليأس.
وصاحت بصوت متهدج بالعواطف مرةً أخرى: «أوه، لماذا لا أستطيع أن أُفهِمَك! كيف يمكنني … كيف يمكنني أن أجعلك تُصدقني؟ اسمع. حدث شيء لم تعرفه هي … شيء فظيع. من الضروري للغاية، لصالحها ولصالحي، أن أراها، وهذا هو الموضوع باختصارٍ شديد.»
أجابَ تافرنيك دون أن يبدوَ عليه أيُّ تأثر: «سأخبرها بما تقولينه بالضبط. ربما يكون من الأفضل الآن أن نواصل مشاهدةَ غرف النوم.»
صاحت بسرعةٍ: «لا تهتمَّ بشأن غرف النوم! عليك أن تفعل ما هو أكثر من إخبارها. لا يمكنك تصديقُ أنني أريد إلحاقَ الضرر بأي شخص. هل أبدو هكذا؟ هل أبدو بمظهرِ شخص شرير؟ يمكنك أن تكون أفضل صديق لتلك السيدة الشابة، يا سيد تافرنيك، إذا فعلتَ ما أطلبه منك. خذني إليها الآن، هذه اللحظة. صدِّقني، إذا فعلت ذلك، فلن تندم على ذلك طوال حياتك.»
تفحَّص تافرنيك نمط أرضية الباركيه عدةَ لحظات. كانت تلك مشكلةً صعبة. عندما وضع مشاعره غيرَ العادية في الخلفية، كان في مواجهة شيء لم يفهمه، وساءه الموقفُ بشدة. ورغم كل شيء، بدا أن التأجيل هو الأحوط.
احتجَّ قائلًا: «سيدتي، بضع ساعات أكثر أو أقل لن تُحدِثَ فرقًا كبيرًا.»
صاحت قائلةً: «هذا يخضعُ لحُكمي! أنت تقول ذلك لأنك لا تفهم. بضع ساعات قد تُحدث فرقًا هائلًا.»
هزَّ رأسه.
وقال برَوية: «سأخبركِ بالضبط ما يدور في ذهني. لقد كانت الشابة مرعوبة عندما رأتكِ في تلك الليلة مصادفةً في الصيدلية. وكادت أن تجرَّني بعيدًا، وعلى الرغم من أنها كادت أن يُغمى عليها عندما وصلنا إلى السيارة الأجرة، كان قلقها الأكبر والأهمُّ هو أننا يجب أن نبتعد قبل أن تتمكَّني من تتبعنا. لا أستطيع أن أنسى هذا. وحتى أحصل على إذنها، للكشف عن مكان وجودها، سوف نتحدَّث، إذا سمحتِ، عن شيء آخر.»
نهضَ واقفًا على قدمَيه وعندما ألقى نظرة خاطفة تمكَّن في الوقت المناسب من أن يرى التغيُّر الذي حدث في وجهِ رفيقته. تلاشت تلك الابتسامةُ المتوسلة اللبقة من شفتَيها، وصرَّت على أسنانها. بدَت كأنها امرأةٌ تُكافح بشدة للسيطرة على عاطفة ساحقة. بدون الابتسامة بدَت شفتاها صارمتَين، بل ربما قاسيتَين. وكان بريق الشرِّ يلمع من عينيها. وشعر تافرنيك برجفة، بل إنه كاد يشعر بالخوف.
صرَّحَت ببرود: «سنرى باقيَ المنزل.»
انتقلا من غرفة إلى أخرى. واستعاد تافرنيك نفسه بسرعة، وأبدى لباقة وعمَليَّةً أثناء قيامه بمهمته التي يبرع فيها. واستمعت المرأة، مبديةً ملاحظةً مقتضبة من حينٍ لآخر. ووقفا مرةً أخرى في الصالة.
سألَ: «هل هناك أيُّ شيء آخر تودين رؤيته؟»
فأجابت: «لا شيء، لكنَّ هناك شيئًا آخر أود أن أقوله.»
انتظر في صمت بارد.
وواصلَت حديثها وهي تتفرَّس في وجهه: «منذ أسبوع فقط، قلتُ لرجل ممَّنْ يُطلق عليهم، على ما أعتقد، المحقِّقين، إنني سأمنحه مائة جنيه إذا استطاع أن يعثر لي على تلك الشابة في غضون أربع وعشرين ساعة.»
جفلَ تافرنيك، وعادت الابتسامةُ إلى شِفاه السيدة وينهام جاردنر. فرغم كل شيء، ربما تكون قد وجدت الطريقة!
قال بتمعُّن: «مائةُ جنيه مبلغٌ كبير.»
هزَّت كتفَيها.
أجابت: «ليس كبيرًا للغاية. إنه إيجار أسبوعَين تقريبًا لهذا المنزل يا سيد تافرنيك.»
سأل: «هل ما زال العرض قائمًا؟»
نظرَت في عينيه، وحملَ وجهُها مرة أخرى البراءةَ الجميلة لطفلة.
قالت: «يا سيد تافرنيك، العرض لا يزال قائمًا. اركب السيارة معي ولْنعُد إلى مسكني في ميلان كورت، وسوف أعطيك شيكًا بمائة جنيه في الحال. سيكون من السهل جدًّا حصولُك عليه، ويمكنك ببساطةٍ أن تأخذه، لأنني أعرف الآن مكان عملك، وبإمكاني أن أؤجِّر مَنْ يُراقبك يومًا بعد يوم حتى أكتشف بنفسي ما تخفيه بحماقة. كن عاقلًا يا سيد تافرنيك.»
وقفَ تافرنيك ثابتًا تمامًا. وكانت ذراعاه مطويتَين، وكان ينظر للخارج عبر نافذة الصالة على منظر الأسطح والمداخن الذي يُغطيه الدخان. من قمةِ شعره غير المصفَّف جيدًا إلى قعر حذائه الجاهز، كان شابًّا عاديًّا تمامًا. كانت مائة الجنيه بالنسبة إليه مبلغًا ضخمًا. كانت تمثل مدَّخرات عامٍ من العمل المضني، وربما أكثر. تخيَّلت المرأةُ التي وقفَت تُراقبه أنه كان مترددًا. ومع ذلك، لم يكن لدى تافرنيك مثلُ هذه الفكرة في عقله. وقف هناك بدلًا من ذلك متسائلًا ما الشيء الغريب الذي أصابه لدرجة أنَّ ذِكْرَ مائة جنيه، رغم عِظَمِ المبلغ، لم يُغْرِه ولو لثانية واحدة. ما قالته هذه المرأة قد يكون صحيحًا. ربما يمكنها اكتشاف العنوان بسهولة كافية دون مساعدته. ومع ذلك، لا يبدو أن مثل هذه الفكرة أحدثَت أقلَّ فرق. من أيام طفولته الأولى، من الوقت الذي دفع فيه نفسه إلى الكفاح، كان المال دائمًا يعني الكثيرَ بالنسبة إليه، المال ليس من أجل المال في حدِّ ذاته وإنما كمفتاح لكل تلك الأشياء التي يشتهيها في الحياة. لكن في تلك اللحظة بدا أن شيئًا أقوى قد كشف النقاب عن نفسه.
همسَت وهي تتأبَّط ذراعه: «أستأتي؟ سنصل إلى هناك في أقلَّ من خمس دقائق، وسأكتب لك الشيك قبل أن تخبرني بأي شيء.»
تحرَّكَ نحو الباب بالفعل، لكنه ابتعدَ عنها قليلًا.
وقال: «سيدتي، أنا آسفٌ لأنني أبدو عنيدًا للغاية، لكنني ظننتُ أنني شرحتُ لكِ الأمر منذ قليل. لا أشعرُ بأن لي حريةَ إخباركِ بأي شيءٍ دون إذن تلك الشابة.»
صاحت غيرَ مصدِّقة: «هل ترفض؟ هل ترفض مائة جنيه؟»
فتحَ باب السيارة. وبدا أنه لا يكاد يسمعُها.
قال: «في نحو الساعة الحاديةَ عشرة صباحَ الغد، سيكون من دواعي سروري أن أزورَكِ. أنا على ثقةٍ من أنكِ ستكونين قد قرَّرتِ أخذ المنزل.»