الفصل السابع

السيد بريتشارد من نيويورك

في وقتٍ لاحق مساءً، ذهبت بياتريس وتافرنيك معًا في حافلةٍ من مسكنِهما في تشيلسي إلى شارع نورثمبرلاند. كان تافرنيك قد اعتاد تمامًا على البرنامج الآن. جلسا في غرفة انتظار ذاتِ إضاءة خافتةٍ حتى تحين فِقرة غناءِ بياتريس. بين الحين والآخر يدخل شخصٌ ضئيل متحمس هو سكرتيرٌ لمؤسسةٍ ما أو أخرى ليُقدم لهما المرطبات، ويخبرهما بالترتيب الذي سيظهران فيه. واليوم، لم يكن ثمة تغييرٌ للسير الروتيني للأحداث، باستثناء أنه كان هناك المزيدُ من الجلبة إلى حدٍّ ما. كان العشاء أكبرَ من المعتاد. جاء دور بياتريس بعد وقت قصير جدًّا من وصولهما، وخطا تافرنيك بصعوبةٍ خطواتٍ قليلةً في غرفة الطعام، ووقف مع النُّدُل بجوار الحائط. ونظر بعينَين فضوليتَين إلى مشهد لم يكن لديه أي تعاطف معه.

مائة رجل أو نحو ذلك تناولوا العشاء معًا في سبيل عمل خيري ما. كانت رائحةُ العشاء مختلطةً مع رائحة دخان التبغ النفَّاذة التي كانت تتصاعد بالفعل في سُحب زرقاء صغيرة من الطاولات المختلفة، تعلق فوق الغرفة الشديدة الحرارة، مما يبدو حقًّا، أجواءً مناسبةً لصفوف طويلة من الضيوف. كان أغلبيتهم في حالةٍ من ارتفاع المعنويات وأريحية الحديث. كانت وجوههم أكثرَ احمرارًا مما كانت عليه عندما جلَسوا؛ وقد زالت أماراتُ الصرامة والجمود عن مقدمات قمصانهم وعن تصرفاتهم، كانت وجوههم متوهجةً وعيونهم لامعة. كانت هناك استثناءات قليلة … رجال أكثرُ شحوبًا يجلسون هناك ويبدو أنهم يحاولون الانسجام مع تلك البيئة التي لم يكن لديهم أيُّ اهتمام حقيقي بها. استمعَ اثنان من هؤلاء باهتمام إلى أول مقطع في أغنية بياتريس. كان أحدُهما جالسًا على بُعد مقاعدَ قليلة من الرئيس، وكان بعيدًا لدرجة تجعل من الصعب أن يُلاحظ تافرنيك أو بياتريس جفولَه البسيط. أما الشخص الأقرب، فقد تصادفَ أن تافرنيك كان يراقبه، ورأى التغيير الباديَ في تعبيراته. كان الرجل، بشكلٍ ما، قبيحًا. لم يكن وجهه بالتأكيد مُحبَّبًا، على الرغم من أنه لم يُشارك الجالسين إلى جواره عيوبهم الظاهرة. كان يُنصت باهتمام إلى كلِّ نغمةٍ من نغمات الأغنية. وعندما انتهت، نهض وتقدَّم نحو تافرنيك.

قال: «أستميحك عذرًا، لكن ألم أرَك تأتي بصحبة السيدة الشابة التي كانت تغني للتو؟»

أجابَ تافرنيك: «ربما تكون قد فعلت. فقد أتيتُ بصحبتها بالتأكيد.»

«هل لي أن أسأل إذا كنتَ من أقربائها؟»

كان تافرنيك قد تغلَّبَ على تردُّده في الرد على مثل هذه الأسئلة في ذلك الحين. فأجابه على الفور.

قال: «أنا أخوها.»

قدَّم له الرجل بطاقة.

ورجَاه بإيجاز: «أرجو أن تُقدِّمني إليها.»

سألَ تافرنيك: «ولماذا أفعل ذلك؟ ليس لديَّ ما يجعلُني أفترضُ أنها ترغب في مقابلتك.»

حدَّقَ فيه الرجل برهةً ثم ضحك.

قال: «حسنًا، كان من الأفضل أن تُري بطاقتي لأختك. أفترض أنها محترفة، بما أنها تُغني هنا. ورغبتي في التعرف إليها لها دوافعُ تجارية بحتة.»

تحرَّك تافرنيك ناحيةَ غرفة الانتظار.

وكان الرجل، الذي كان يُدعَى وفقًا لبطاقته السيد سيدني جرير، سيتبعه، لولا أن تافرنيك أوقفه.

وقال: «هَلا تنتظرين هنا، لأرى ما إذا كانت أختي ترغب في مقابلتك.»

مرة أخرى، بدا السيد سيدني جرير مندهشًا، ولكن بعد نظرة ثانية إلى تافرنيك وافق على اقتراحه وظلَّ بالخارج. وأخذ تافرنيك البطاقة إلى بياتريس.

قال: «بياتريس، هناك رجل في الخارج سمعكِ تغنين ويريد أن يتعرف إليك.»

أخذت البطاقة ومن ثم فتحَت عينَيها على اتساعهما.

فسألَ تافرنيك: «هل تعرفين مَنْ يكون؟»

أجابت: «بالطبع. إنه منتجٌ كبير لمسرحيات كوميدية غنائية. دعني أفكِّر.»

وقفت والبطاقةُ في يدها. كان هناك امرأةٌ أخرى تُغني الآن … أغنية حديثة عادية عن الحب والورود والنشوة واليأس. وسمعوا صوتَ المرأة بين ارتفاع وانخفاض؛ كانت قعقعةُ العشاء قد توقفَت. وقفت بياتريس ساكنةً تُفكر، وأصابعها تقبض على بطاقة السيد سيدني جرير.

وأخيرًا قالت لتافرنيك: «عليك إدخاله.»

خرجَ تافرنيك.

وقال للرجل بنبرة مَنْ أتى بأخبار جيدة: «أختي ستقابلك.»

أصدر السيد سيدني جرير صوتًا من أنفه ينمُّ عن الاستياء. لم يكن معتادًا على الانتظار حتى ولو ثانية. أدخله تافرنيك إلى غرفة الانتظار، وحدَّق فيه الموسيقيَّان الآخران اللذان كانا هناك، وكأنما يحدِّقان في إله.

قال تافرنيك: «هذا هو السيد الذي أحضرتُ لكِ بطاقتَه يا بياتريس. السيد سيدني جرير … الآنسة تافرنيك!»

ابتسمَ الرجل.

وقال: «يبدو أن أخاكِ متشكِّك فيَّ. لقد وجدتُ صعوبةً شديدة في إقناعه بأنكِ قد تجدين من المثير للاهتمام أن تتحدَّثي معي بضعَ دقائق.»

أجابت بياتريس: «إنه لا يفهمُ تمامًا. ليس لديه الكثيرُ من الخبرة في الشئون الموسيقية أو المسرحية ولم يكن اسمُك ليُثير اهتمامه.»

خرجَ تافرنيك واستمعَ بغير اهتمام إلى الأغنية التي كانت تُغنَّى. كانت ضربًا من الموسيقى التي فضَّلها سرًّا على النغمات الأغرب والأكثر إثارة للخوف من أغاني بياتريس. وفيما يبدو كان الجمهور متفقًا معه في الرأي، فقد تلقَّوُا الأغنية بتهليلٍ وطالبوها بالمزيد، الأمر الذي استجابت له الشابة بسخاء فغنَّت أغنيةً عن «سيدة فرنسية من الجهة الأخرى من الماء.» قرب نهاية التصفيق الذي أعلن عن ختام هذا الجهد، شعر تافرنيك بلمسة خفيفة على ذراعه. فاستدار. وكان بجانبه الضيفُ الآخر الذي أبدى بعض الاهتمام ببياتريس. كان رجلًا يبلغ من العمر نحو أربعين عامًا، طويلَ القامة عريض المنكبَين، ذا شاربٍ أسود، وعينَين سوداوين ثاقبتَين. على عكس معظم الضيوف، كان يرتدي معطف عشاء قصيرًا وربطة عنق سوداء، استنتج منهما تافرنيك ومن لكنته الخفيفة، أنه أمريكيٌّ في الغالب.

قال وهو يلمس ذراع تافرنيك: «سيدي، سامحني على حديثي معك. اسمي بريتشارد. رأيتُك تأتي مع السيدة الشابة التي كانت تُغني قبل بضع دقائق، وإذا لم تعتبره تطاولًا مني، فسأكون سعيدًا جدًّا إذا أجبتني عن سؤال واحد.»

تيَّبسَت أوصالُ تافرنيك حتى بدا فاقد الحِسَّ.

وأجابَ بعد وهلة: «الأمر يتوقَّف على السؤال.»

اعترفَ السيد بريتشارد قائلًا: «حسنًا، الأمر يتعلق بالسيدة الشابة، وهذه حقيقة. أرى أن اسمها في البَرنامج مذكورٌ على أنه الآنسة تافرنيك. كنت جالسًا في الطرف الآخر من القاعة لكنها بدَت لي شبيهةً بسيدة من الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي، وهي سيدة أنا متشوقٌ جدًّا لمقابلتها.»

قال تافرنيك: «ربما يمكن أن تطرح سؤالك بكلمات واضحة.»

أعلن السيد بريتشارد: «حسنًا، هذا بسيط. هل الآنسة تافرنيك هو اسمها بالفعل، أم أنه اسمٌ مستعار؟» وأضاف وهو يرى تافرنيك يُقطب ما بين حاجبَيه: «أتوقع أن الوضع هنا كما في بلدي … كثيرًا ما تغني المطربة تحت اسم آخرَ غير اسمها، كما تعرف.»

قال تافرنيك معلنًا: «الشابة المَعنيَّة هي أختي، وأنا لا أهتم بالحديث عنها مع الغرباء.»

أومأ السيد بريتشارد بسرور.

وعلَّق قائلًا: «حسنًا، بالطبع، هذا يُنهي الموضوع. آسف على إزعاجك، على أي حال.»

عاد إلى مقعده وعاد تافرنيك مفكرًا إلى غرفة الملابس. فوجد بياتريس وحدها في انتظاره.

استفسر: «هل تخلصتِ من هذا الشخص، إذن؟»

أومأت بياتريس برأسها إيجابًا.

أجابت: «نعم؛ لم يبقَ طويلًا.»

سأل تافرنيك بفضول: «مَنْ كان هذا؟»

قالت: «من وجهة نظر المسرح الكوميديِّ الغنائي، كان هذا هو الشخصَ الأكثر أهميةً في لندن. إنه إمبراطور المسارح. يمكنه أن يحقق الثراءَ لأي فتاة في لندن، معقولة المظهر ويمكنها الغناء والرقص قليلًا جدًّا.»

سأل تافرنيك بشيء من الرِّيبة: «وماذا يريد منكِ؟»

«سألني عما إذا كنت أرغب في اعتلاء خشبة المسرح. ما رأيك في هذا الموضوع يا ليونارد؟»

كان تافرنيك، لسبب أو لآخر، مستاءً.

سألها: «هل ستكسبين مالًا أكثر بكثير عمَّا يُحققه لكِ الغناءُ في هذه الحفلات؟»

فأكَّدت له: «أكثر من ذلك بكثير.»

«وستحبين تلك الحياة؟»

ضحكت بنعومة.

«ولِمَ لا؟ إنها ليست بهذا السوء. كنتُ على خشبة المسرح في نيويورك بعض الوقت وبشروطٍ أسوأ بكثير.»

بقي صامتًا بضع دقائق. كانا قد شقَّا طريقهما إلى الشارع الآن وكانا ينتظران الحافلة.

سألها فجأة: «بماذا أجبتِه؟»

كانت تنظر على طول الطريق نحو شارع إمبانكمنت، وقد امتلأت عيناها مرة أخرى بالأشياء التي لا يستطيع فهمها.

تمتمَت: «لم أُجبه بعد.»

«هل تودِّين أن تقبلي؟»

أومأت برأسها.

أجابت: «لست متأكِّدة. فقط لو … لو تجرَّأت!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤