بياتريس ترفض
بعد أسبوع كان تافرنيك في لندن. لقد أثبتَت زيارتُه إلى صديقه السيد مارتن بسهولةٍ ما قاله بريتشارد، ووجد نفسه يمتلك مبلغًا من المال يبلغ على الأقل ضِعفَ ما كان يتوقَّعه. فمكثَ في فندقٍ رخيص في شارع ستراند وقام بعمليات شراء تحت إشراف بريتشارد. في الأيام القليلة الأولى كان مشغولًا للغاية بحيث لم يكن لديه وقتٌ للتفكير. ثم تركه بريتشارد بينما هُرِعَ إلى باريس، وفجأة أدركَ تافرنيك أنه في المدينة التي ظنَّ أنه لن يعودَ إليها أبدًا. مرَّ على الجزء الخلفي من المسرح حيث كان ينتظر بياتريس، وتفقَّد مدخل ميلان كورت؛ وتناولَ الغداءَ بمفرده في المطعم الصغير الذي تناولَ فيه العشاء مع بياتريس، وهناك شعرَ بمزيجٍ غريب من المشاعر. لقد انقضى ذلك الجزءُ من حياته وانتهى. ومع ذلك، وبصدقه الطبيعي، لم يُحاول قطُّ أن يُخفي عن نفسه الألمَ الذي اعتصر قلبَه. وجدَ نفسه ثلاثَ مراتٍ في يوم واحد، بحجةٍ أو بأخرى، في مطعم إيمانو. وفي مرةٍ، في منتصف الشارع، انفجر في نوبةٍ من الضحك. كان ذلك عندما كان بريتشارد في لندن، وطرحَ عليه سؤالًا.
قال: «بريتشارد، أنت رجلٌ ذو خبرة واسعةٍ وتجرِبة. هل سبقَ أن أحبَّ رجلٌ امرأتَين في آنٍ واحد؟»
أخرجَ بريتشارد سيجاره من بين أسنانه وحدَّقَ في رفيقه.
ثم أجابَ: «عجبًا يا صديقي الشاب، أنا نفسي لم أجد أيَّ مشكلة في أن أكونَ مغرَمًا بدُزينة من النساء.»
ابتسمَ تافرنيك ولم يَزِدْ كلمة. كان بريتشارد أحدَ الرجال الصالحين في هذا العالم، لكن كان ثمةَ أشياءُ خفيةٌ عنه. إلا أن تافرنيك، الذي اعتادَ خلال عُزلته، أن يُحلِّل أحاسيسه، كان متحيِّرًا من شيءٍ وحيد، وهي أنه عندما يفكِّر في إليزابيث، على الرغم من أن قلبه لم يتوقَّف قطُّ عن الخفقان بسرعةٍ أكبر، فإنه كان يُخالجه شعورٌ بالخزي بشكل عام؛ وعندما كان يفكِّر في بياتريس، كان يشعر بإحساسٍ غريبٍ بالوحدة، وحدة يُخالطها ألم، بدا فجأةً أن هذا الإحساس يجعل الساعات تمر بصعوبةٍ ويُذهِب الطعمَ عن كل ملذات الحياة. ظلَّ حائرًا مدةَ يومين. وبعد ذلك ساعدته عادتُه في المشي مسافاتٍ طويلةً في الوصول إلى حلٍّ. في قاعة موسيقى صغيرةٍ نائية في الطرف الشرقي من لندن، رأى الإعلانَ نفسَه الذي كان قد لاحظه في صحيفة «نورفوك» … «البروفيسور فرانكلين» بالحروف الكبيرة، و«الآنسة بياتريس فرانكلين» بحروف أصغر.
في تلك الليلة حضر إلى قاعة الموسيقى. كان المشهد عمَليًّا تَكرارًا للمشهد في نوريتش، رغم وجود بعض الإضافات. لم يلقَ أداءُ البروفيسور المتحذلق بالكاد أيَّ تصفيق. وقاطعَ إكمالَه، فعليًّا، صفيرٌ وصيحاتُ استهجانٍ من الجمهور. أما أغاني بياتريس، من ناحيةٍ أخرى، فنالت استحسانًا صاخبًا أكثرَ من أي وقتٍ مضى. وبذلَت جهدًا كبيرًا لتجنُّب أداء أغنية ثالثة.
في نهاية العرض، شقَّ تافرنيك طريقَه إلى باب المسرح وانتظر. كان الحيُّ بغيضًا، وبدا المبنى نفسُه محشورًا وسَط صفٍّ من المحلات ذات المستوى الأسوأ، وأكشاك الأسماك، ومتجر قبيح لمشروب الجين. قبل وقتٍ طويل من خروج بياتريس، كان بإمكان تافرنيك سماعُ صوت البروفيسور صادرًا من الممر المغطَّى، ويبدو أن صوت البروفيسور قد ارتفعَ غضبًا.
«هذا سلوكٌ غير لائق، هذا ما أُسميه … غير لائق!»
اندفعا إلى الشارع، البروفيسور بنفس شكله المعتاد إلى حَدٍّ كبير؛ أما بياتريس فكانت أكثرَ شحوبًا، ويبدو على ملامحها الحزن. وتقدَّم تافرنيك نحوها بنفاد صبر.
وصاح: «بياتريس!» وهو يمدُّ إليها يده.
تراجعَ البروفيسور للخلف. أما بياتريس فوقفَت ثابتة … وللحظة بدا أنها على وشك الإغماء. فأمسكَ تافرنيك بيديها.
وقال بإحراج: «أنا آسفٌ جدًّا! ما كان يجب أن أفاجئكما بهذا الشكل.»
ابتسمَت ابتسامةً واهنة صغيرة.
وردَّت: «أنا بخير، كلُّ ما هنالك أن الحرارة بالداخل كانت مرهِقة، وحتى في الخارج الجوُّ ليس منعشًا للغاية، أليس كذلك؟ كيف اكتشفتَ مكاننا؟»
أجابَ تافرنيك: «بالمصادفة مرةً أخرى. لديَّ أخبار. هل لي أن أمشيَ معكِ بضع خطوات؟»
نظرَت بخجل نحو والدها. كان البروفيسور قد وقفَ بعيدًا في صمت مهيب.
فقال تافرنيك بسرعة: «ربما تتناولين العشاءَ معي؟ سأسافر خارج البلاد، وأودُّ أن أودِّعكِ على النحو اللائق. زجاجة شمبانيا وعشاء مناسب. ما رأيك يا بروفيسور؟»
كافح البروفيسور لتبدوَ ملامحُه أكثرَ استرخاءً.
وقال: «فكرةٌ رائعة للغاية. أين يمكن أن نذهب؟»
قال تافرنيك مقترحًا: «هل فات الأوانُ للوصول إلى إيمانو؟»
تردَّد البروفيسور.
ثم قال: «سيارة أجرة ستفي بالغرض، إذا …»
وتوقَّف عن الكلام، فابتسمَ تافرنيك.
وقال مقررًا: «إذن، فهي سيارة أجرة. لديَّ ما يكفي من المال في الوقت الحالي. تعاليا، وسأخبركما بكل شيء.»
جعلها تتأبَّط ذراعه، على الرغم من أن أصابعها لم تلامس أكثرَ من كم معطفه.
وتابعَ: «جاء بريتشارد وأنقذني من هناك. وسوف أسافر للخارج معه. إنه نوعٌ من التنقيب في بلدٍ جديد في الجزء الخلفي من كولومبيا البريطانية. سنرى ما يمكننا العثورُ عليه ثم نذهب إلى مموِّل وننشئ شركات؛ شركات تعدين وحقول نفط — أي شيء. سأسافر في غضون أسبوع.»
أغمضَت بياتريس عينَيها جزئيًّا. كانوا قد أشاروا إلى سيارة أجرة عابرة وغاصت بين الوسائد متنفِّسةً الصُّعَداء.
تمتمَت قائلة: «عزيزي ليونارد، أنا سعيدة جدًّا، سعيدة جدًّا من أجلك. هذا هو الشيء الذي كنت آمُل أن يحدث.»
تابعَ: «والآن أخبروني عن حالكم.»
سادَ صمتٌ مفاجئ. وكان تافرنيك يدرك أن ملابسَ بياتريس كانت رثَّةً بشكل واضح، وأن قبَّعة البروفيسور كانت بالية. فتحشرَج البروفيسور.
وقال: «لا أرغب في عرض أمورنا الخاصة على شخص، على الرغم من أنني لن أصفَه بالغريب، فهو بالتأكيد ليس أحدَ أصدقائنا القدامى. في الوقت نفسه، أعترفُ بحدوث مشكلةٍ صغيرة بيني وبين بياتريس، وكنا نناقشها لحظةَ وصولك. وسأناشدك المساعدةَ الآن. كفردٍ غير متحيِّز من أفراد الجمهور الليلة، يا سيد تافرنيك، هل ستعطيني رأيك الصادق؟»
وعدَ تافرنيك وهو يتوجَّس خِيفةً مما هو قادم: «بالتأكيد.»
بدأ البروفيسور متحدِّثًا ببطءٍ مؤثِّر وواضح: «ما أشكو منه هو أن عَرضي يُستعجَل للغاية وأغانيَ بياتريس تَشغل وقتًا طويلًا جدًّا.» ثم استأنفَ قائلًا: «تُعلِّق الإدارة على التصفيق الذي تُكافَأ به جهودُها من حينٍ لآخَر، ولكن، كما أودُّ أن أوضح لك، يا سيدي، إن عرضًا مثل عرضي يترك انطباعًا عميقًا للغاية على الجمهور مما يجعلهم لا يُظهِرون تقديرَهم له من خلال هذا الأساليب المُبتذَلة مثل التصفيق والصفير. لعلك تُتابع ما أقول يا سيد تافرنيك؟»
اعترفَ تافرنيك: «أوه، بالطبع.»
صرَّح البروفيسور قائلًا: «إنني أهتمُّ بعملي اهتمامًا جادًّا ومخلصًا، وأشعرُ أنه عندما يتم استعجاله لكي تُغني ابنتي أغنيةً شعبية بسيطة، فإن النتيجة، على أقل تقدير، مُهينة. لسببٍ أو لآخر، لم أتمكَّن من إقناع الإدارة بوجهةِ نظري تمامًا، لكن رأيي أن تُغني بياتريس أغنيةً واحدة فقط، وأن أَشغل أنا الدقائق العشَرة الإضافية إما بعرضٍ آخَر لقُواي الخارقة في التنويم المغناطيسي، أو بخطابٍ قصير للجمهور عن العلوم الخفية. والآن أناشدك الرأي، يا سيد تافرنيك، بوصفك شابًّا يتمتع بالمنطق السليم. فما رأيُك؟»
أوشكَ تافرنيك، الذي كان صريحًا للغاية بحيث لم يكن قادرًا بشكلٍ عام على النفاق، أن يُعطيه رأيه، لكنه انتبهَ إلى نظرة بياتريس المتوسِّلة. كانت شفتاها تختلجان. فتردَّد.
ثم بدأ حديثه ببطءٍ قائلًا: «بالطبع، عليك أن تحاول أن تضَع نفسك في محل الأغلبية العظمى من الجمهور، الذين هم أشخاصٌ غير متعلِّمين إلى حدٍّ كبير. من الصعب جدًّا إبداءُ رأي يا بروفيسور. لكن عليَّ أن أقول إن الجمهور استمع إلى عرضك هذا المساء باهتمام كبير.»
استدار البروفيسور بجديةٍ نحو ابنته.
وقال بحِدَّة: «أتسمعين هذا يا بياتريس؟ أتسمعين ما يقوله السيد تافرنيك؟ «باهتمام كبير!»»
استدركَ تافرنيك: «في الوقت نفسِه، كانت أغاني الآنسة بياتريس، دون شك، محبوبةً للغاية. من سوء الحظ أن الإدارة لا تستطيع أن تمنحَكما وقتًا إضافيًّا.»
صرَّح البروفيسور قائلًا: «وإذا تعذر ذلك، سيدي، فإنني أرى —كما أوضحت سابقًا، أن بياتريس عليها الاستغناء عن إحدى أغانيها. وما قلته هذا المساء يؤكد وجهة نظري أكثر من أي وقتٍ مضى.»
ابتسمَت بياتريس إلى تافرنيك ابتسامةً شاكرة.
وقالت مقترِحة: «حسنًا، على أي حال، دعونا نغضَّ الطرْفَ عن هذا الموضوع الآن. على الرغم من أني أظن، في بعض الأحيان، أنك تُخيفهم يا أبي ببعض أعمالك، ولا بد أن تتذكَّر أنهم قد جاءوا ليستمتعوا.»
اعترفَ البروفيسور قائلًا: «تلك هي أكثرُ ملحوظة منطقية نطَقتِ بها يا بياتريس. هناك بالفعل شيءٌ مثير للخوف في بعض تجلياتي، بل إنه يُثير خوفي أنا أحيانًا، رغم فهمي الكامل لهذا الفرع من العلوم. ومع ذلك، كما تقولين، سنتغاضى عن هذا الموضوع الآن. إن فكرة حفل العشاء فكرةٌ مبهجة. هل تتذكَّر، يا سيد تافرنيك، الليلة التي التقينا فيها أنا وأنت في شرفة إيمانو؟»
ردَّ تافرنيك: «أتذكَّرها تمامًا.»
واصلَ البروفيسور بابتسامة العارِف: «الآن سأختبرُ ذاكرتك. هل تتذكَّر يا سيدي العلامة التجارية للشمبانيا التي كنتُ أحتسيها في ذلك اليوم، حين صرَّحتُ، إذا كنتَ تتذكَّر، أنها العلامة التجارية التي تتوافق معي، والعلامة الوحيدة التي تستحق الشرب؟»
اعترفَ تافرنيك قائلًا: «أخشى أنني لا أتذكَّر ذلك. فحياة المطاعم شيءٌ لا أعرفُ عنه سوى القليل، وأنا لم أشرب الشمبانيا سوى مرة أو مرتَين في حياتي.»
صاحَ البروفيسور متعجِّبًا: «يا إلهي! أنت حقًّا تُدهِشُني يا سيدي. حسنًا، هذه العلامة التجارية هي فوف كليكو، ويمكنك أن تأخذ رأيي عن ثقة، يا سيد تافرنيك، وقد تجد هذه المعلومةَ مفيدة لك عندما تصنع ثروةً في أمريكا وتصبح رجلًا مرفَّهًا؛ ليس ثَمة نبيذٌ يُكافئها. فوف كليكو، يا سيدي، وإذا أمكن إنتاج عام ١٨٩٩، رغم أن إنتاج عام ١٩٠٠ ليس سيئًا على الإطلاق.»
كرَّر تافرنيك قوله: «فوف كليكو. سأتذكَّر الاسم لنحتسيَه الليلة.»
أشرقَ وجه البروفيسور.
وقال لبياتريس: «يا عزيزتي، السيد تافرنيك سيظن أنني كان لديَّ هدفٌ في اختبار ذاكرته.»
ابتسمَت بياتريس.
وقالت بتساؤل: «أوَلَم يكن لديك هدفٌ يا أبي؟»
فضحكوا جميعًا معًا.
واعترفَ البروفيسور: «حسنًا، إنه لَمِن المبهج حقًّا، أن يتم التعامل مع نقاط ضعف المرء» ثم أضافَ بتنهيدةٍ متأمِّلة: «لا سيَّما عندما يمضي المرء قُدمًا في الحياة. لا عليك، لن نفكِّر إلا في الموضوعات المبهجة هذا المساء. سيكون من الممتع للغاية، يا سيد تافرنيك، سماعُك تطلب العشاء.»
أجابَ تافرنيك: «أنا لن أحاول ذلك. سوف أعطيك أنت هذه المهمة.»
قال البروفيسور: «هذا يذكِّرني بالأيام الخوالي. وأنا متأكِّد من أن هذه ستكون أمسيةً ممتعة للغاية. وسوف نتذكَّرها كثيرًا يا سيد تافرنيك، عندما تستلقي نائمًا تحت النجوم. عَجبًا، يا لها من شيء رائع سيارات الأجرة هذه! كما ترى، لقد وصلنا.»
حجَزوا طاولةً صغيرة في زاوية في إيمانو، ووجدَ تافرنيك نفسه متأثرًا بشدةٍ عندما شاهدَ بياتريس تخلع قفازاتها البالية التي تم إصلاحها كثيرًا وتنظر حولها بقلقٍ متطلعةً إلى الزبائن الآخرين. كانت ملابسها رثَّةً حقًّا، وكانت وجنتاها غائرتَين.
شعر مرةً أخرى بذلك الألم، وهو ألمٌ لم يستطع تفسيره. وفجأةً بدَت أمريكا بعيدة جدًّا، وأصبحت الوحدةُ في تلك القارة الضخمة أمرًا حقيقيًّا وملموسًا. كان البروفيسور مشغولًا للغاية بطلب العشاء. فانحنى تافرنيك عبر الطاولة.
وسأل: «هل تتذكَّرين عشاءنا الأول هنا يا بياتريس؟»
أومأت برأسها محاوِلةً أن تنير وجهَها بابتسامة، ولكنها كانت محاولةً مثيرة للشفقة بعض الشيء.
وأجابت: «نعم، أتذكَّر ذلك جيدًا. والآن أرجو منك يا ليونارد ألَّا تتحدَّث معي مرةً أخرى إلى أن أشرب كأسًا من النبيذ. أنا متعبة ومنهكة، هذا كلُّ شيء.»
أدرك تافرنيك أنها كانت تقاوم الدموع التي اغرورقَت بها عيناها بالفعل. فملأ كأسها بنفسه. أما البروفيسور فاحتسى كأسه ووضعها فارغةً بابتسامة راضية لمتذوق.
وقال: «أعتقدُ أنكِ ستتَّفقين معي بخصوص هذا النبيذ المعتَّق. هذا ما سيُعيد تورُّدَ وجنتَيكِ يا بياتريس.» وتابعَ متوجِّهًا بحديثه نحو تافرنيك قائلًا: «سوف تحتاج ابنتي الصغيرة قريبًا إلى عُطلة. آمُل في الوقت الحالي أن أتمكَّن من ترتيب جولة قصيرة لي وحدي، وإذا حدث، فسوف أرسلها إلى شاطئ البحر. والآن أريدك أن تُجرِّب طبق سلطة السمك … الطبق الثاني هنا. بياتريس، دعيني أساعدك.»
سرعان ما بدأت الأوركسترا بالعزف. وأعادَ دفءُ المكان، بالإضافة إلى النبيذ والطعام — كانت لدى تافرنيك فكرةٌ مروِّعة وقتها أنها لم تأكل شيئًا في ذلك اليوم — التورُّدَ إلى وجنتَي بياتريس، وبعضَ البريق إلى عينَيها. فبدأت تتحدَّث بطريقتها القديمة نفسها. ورغم ذلك، فقد تجنَّبَت أيَّ ذكرٍ للعشاء الآخر الذي تناوَلاه معًا. بمرور الوقت، أصبح البروفيسور، الذي شربَ الجزء الأكبر من زجاجتَين من النبيذ وكان يتحدَّث الآن إلى صديق، شبهَ غائب عن الجلسة. فمالَ تافرنيك عبر الطاولة.
وقال هامسًا: «بياتريس، أنتِ لا تَبْدين بخير. أخشى أن الحياة تزداد صعوبة عليكِ.»
هزَّت رأسها.
وردَّت: «أنا أفعل ما يجب أن أفعله. من فضلك لا تتعاطف معي. أعتقدُ أنني شديدة الحساسية والتأثر الليلة. وسوف أتجاوز ذلك.»
فقال بخجل: «ولكن ألا أستطيع أن أفعل أيَّ شيء من أجلكِ يا بياتريس؟ أنا لا أحبُّ هذه العروض، وبيني وبينك، نحن نعرف أنهم لن يحتملوا عرضَ أبيكِ مدةً أطول. وسرعان ما سوف ينتهي. فلماذا لا تُحاولين استعادة مكانكِ في المسرح؟ عندئذٍ ستستطيعين كسبَ ما يكفي لرعايته.»
أجابت بحزن: «لقد حاولتُ بالفعل. لقد شُغِلَ مكاني.» ثم أضافت بضحكةٍ مقهورة: «كما ترى، لقد فقدتُ بعضَ جمالي يا ليونارد. وأصبحتُ أيضًا أكثرَ نحافة. بالطبع، سأكون على ما يُرام عمَّا قريب، ولكن هذا ضدي في هذه الأماكن الواقعة على الطرف الغربي.»
مرةً أخرى شعر بهذا الألم يعتصرُ قلبه. كان متأكِّدًا الآن أنه بدأ يفهم!
فهمسَ لها: «بياتريس، اتركي كلَّ هذا وتزوجيني وسوف أعتني به.»
خبا لونُ وجنتَيها الوردي. وانتابتها رعشةٌ بسيطة ونظرت إليه بشفقة.
ثم قالت بتوسُّل: «ليونارد، أرجو منك ألَّا تفعل ذلك. أنا حقًّا لستُ قوية جدًّا الآن. لقد انتهينا من كل ذلك … إنه يؤلِمني.»
فقال راجيًا إياها: «لكنني أعني ذلك. بطريقةٍ ما، لقد شعرتُ بكل شيءٍ منذ أن جئنا إلى هنا. أفكِّر في تلك الليلة، وأعتقدُ … أعتقدُ أن ما اعتراني من قبل كان جنونًا. لم يكن الشيء نفسَه.»
كانت ترتجف الآن.
وتوسلَت إليه: «ليونارد، إذا كنتَ تهتم بأمري من الأساس، فاصمت. والدي سيلتفتُ الآن، ولا أستطيع تحمُّل ذلك. سأكون صديقتَك المخلصة جدًّا؛ وسأفكِّر فيك طَوال الأيام القادمة إلى أن نلتقيَ مرةً أخرى، لكن لا تفعل ذلك … لا تُفسد هذه الأمسية الأخيرة.»
التفت البروفيسور، وقد احمرَّ وجهه، ولمعت عيناه وبدا على صوته الحبورُ الشديد.
وصرَّح قائلًا: «حسنًا، عليَّ أن أقول، إن هذه أمسية سعيدة للغاية. أشعرُ بتحسن كبير، وآمُل أنكِ أنتِ أيضًا تشعرين بتحسن يا بياتريس؟»
فأومأت برأسها مبتسمة.
تابعَ البروفيسور: «أنا على ثقةٍ من أنه عندما يعود السيد تافرنيك، فسوف يمنحُنا فرصةَ دعوته على العشاء بالطريقة نفسِها. فهذا سيُسعدني للغاية، وكذلك سيسعد بياتريس.» واستدرك قائلًا: «وإذا ذكرت اسمي في نادي جوتس أو موسكيتو أثناء إقامتك في نيويورك يا سيدي، فأظن أنك ستُستقبَل استقبالًا يدهشك.»
شكره تافرنيك ودفعَ الفاتورة. ومشَوا ببطءٍ عبر المطعم، وكان تافرنيك كارهًا بشكل غريب لأن يحرِّر اليد الصغيرة التي عانقَت يدَه.
قالت بياتريس بصوتٍ منخفض: «لقد احتفظتُ بهذا للنهاية. إليزابيث موجودة في لندن.»
لم يتأثَّر البتة بما قالته، وهو ما كان أمرًا غريبًا.
وتمتَم قائلًا: «ثم؟»
فتابعَت: «أريدك … أعتقدُ أن من المستحسن بالنسبة إليك أن تذهب لرؤيتها. كما تعلم يا ليونارد، كنتَ شخصًا غريبًا للغاية في تلك الأيام. ربما تتخيَّل أشياءَ. وربما لا تُدرك أين أنت. أعتقدُ أن عليك أن تذهب لرؤيتها الآن، الآن وقد مرَرت ببعض المعاناة، الآن وقد فهمت كلَّ شيء على نحو أفضل. هل ستذهب؟»
وعدَها تافرنيك: «نعم، سأذهب.»
نظرَت بياتريس نظرةً سريعة نحو المكان الذي كان والدها واقفًا فيه.
وقالت بهمس: «لا أريده أن يعرف. لا أريد أن يتعرَّض لإغراء أن يأخذ أيَّ أموال منها، وكذلك أنا. إنها تعيش في فندق كلاريدج. فاذهب إلى هناك والْتقِ بها قبل أن ترحل إلى حياتك الجديدة.»
وقفَ عند الباب وراقبهما وهما يمشيان في شارع ستراند، وكان البروفيسور متوهِّجًا ويسير منتصِبًا بينما يتطاير ذيلُ معطفه، وسيجاره الضخم بين أسنانه؛ بينما كانت بياتريس تبدو شاحبةً في ثيابها السوداء، وتتعلَّق بذراعه. راقبهما تافرنيك حتى اختفَيا، مستشعرًا إثارةً لافتة للنظر وألمًا غريبًا، وإحساسًا بالإلهام. وعندما غابا في النهاية عن ناظرَيه وعاد مرةً أخرى لإحضار معطفه وقبعته، تسمَّرَت قدَماه فجأة. كانت الفرقة تعزف آخِر مقطوعة … كانت الأغنية نفسها التي غنَّتها بياتريس في تلك الليلة في قاعة الموسيقى الشرقية. وباندفاع وحماس مفاجئ عادَ أدراجَه وركضَ عبر شارع ستراند في الاتجاه الذي اختفيا فيه. لكن الأوان كان قد فات. ولم يكن لهما أيُّ أثر.