في بلد بِكر
في ليلةٍ ما بدأ تافرنيك يضحك. فقد نمَت له لحيةٌ بُنية طويلة وكان شعره يُغطي أذَنيه. وكان يرتدي قميصًا رماديًّا من الصوف الناعم، ومنديلًا مربوطًا حول رقبته، وبنطالًا باليًا للركوب مربوطًا بحزام. كان قد خلع حذاءه في نهاية يوم طويل، وكان مستلقيًا في ضوء القمر أمام نار قد أشعلها من جذوع شجر الصنوبر، وتصاعد دخانُها مباشرةً إلى السماء المرصَّعة بالنجوم. لم ينطق بأي كلمة خلال الساعة الماضية. وجاءت نوبةُ السعادة التي أصابت تافرنيك دون سبب واضح، باستثناء نسائم الريح التي تهبُّ من آنٍ إلى آخَر من جانب الجبل فتُحدِث موسيقى خافتة في الغابات البِكر.
تقلَّب بريتشارد على جانبه ونظر إليه. كان السيجارُ أسابيعَ عديدة شيئًا غيرَ موجود، وكان يُدخِّن غليونًا مصنوعًا من كيزان الذرة مليئًا بالتبغ الخشن.
وسأله: «هل صادفتَ نكتة في مكانٍ ما؟»
فأجابَ تافرنيك: «أخشى ألا يفهمَها أحدٌ سواي. كنتُ أفكِّر في تلك الأيام في لندن؛ كنت أفكِّر في ذُعر بياتريس عندما اكتشفَت أنني كنتُ أرتدي ملابسَ جاهزة، واندهاش إليزابيث عندما عرَفَت أنني لا أملك بذلةً رسمية. من الغريب كيف تضيق الحياة وتتعقَّد هناك.»
أومأ بريتشارد برأسه، وضغط التبغ بإصبعه في وعاء غليونه.
وقال موافقًا: «أنت على حق يا تافرنيك. يفقد المرءُ إحساسه بالتناسب. الرجال في المدن متشابهون. إنهم يعيشون دائمًا متنكرين.»
قال تافرنيك على نحوٍ غير مترابط: «أودُّ أن يحضر السيد داولينج إلى هنا.»
فقال بريتشارد مستفسِرًا: «أهو زميلٌ مُسلٍّ؟»
هزَّ تافرنيك رأسه مبتسمًا.
وقال: «على الإطلاق، لكنه كان رجلًا ضئيلًا للغاية. ومن الصعب أن تبقى ضئيلًا هنا. ألا تشعرُ بذلك يا بريتشارد؟ هذه الجبال تجعل تِلالنا في الوطن تبدو كأنها أكوامٌ من التراب. والسماء هنا تبدو أعلى. وانظر لأسفل في ذلك الوادي. إنه عملاق، هائل.»
تثاءب بريتشارد.
وبدأ يتحدَّث: «هناك مكانٌ صغير في طريق باوري …»
فقاطعَه تافرنيك: «أوه، لا أريد أن أعرف المزيد عن نيويورك. ارقد على ظهرك وأغمِض عينَيك، وشَمَّ أشجار القرفة، واستمِعْ إلى ذلك الطائر الليليِّ وهو يصيح بين الحين والآخر عبر الوادي. ثَمة ظلام، ثَمة عُمق. إنه مِثلُ عباءةٍ من المخمل تنظر خلالها. لكنك لا تستطيع أن ترى ما وراءها … لا، ليس في وضَح النهار. أنصِت!»
جلسَ بريتشارد. لحظاتٍ قليلةً لم يتكلم أيٌّ منهما. وعلى بُعد اثتنَي عشْرة ياردة أو نحوها، كانت مجموعةٌ متناثرة — بقية المجموعة — تلعب الورق حول النار. تناهى إلى مَسامعهما صوتُ طقطقةِ الخشب الأخضر، وتمتمة الأصوات العابرة، وصوتُ ضحكةٍ هنا أو شهقةٍ هناك، ولكن فيما عدا ذلك، كان ثَمة صمت، صمتٌ رهيب ورائع، صمتٌ بدا أنه يُخيِّم على ذلك العالم الغريب المجهول شبهِ المختفي! أنصتَ تافرنيك بوقار.
وقال متعجبًا: «أليس هذا رائعًا! لم نرَ إنسانًا باستثناء مجموعتنا منذ ثلاثة أيام. ربما لا يوجد أحدٌ على مَسمعٍ منا الآن. ومن المُحتمل جدًّا أن أحدًا لم يطَأْ بقدمَيه في هذه البُقعة بالتحديد.»
اعترفَ بريتشارد: «أوه، هذا عظيم، عظيمٌ ومريح، لكنه غير مُرضٍ. إنه مُرْضٍ بالنسبة إليك بعضَ الوقت؛ لأنك بدأتَ حياتك بشكل خطأٍ وكنتَ بحاجة إلى ردِّ فعل. أما بالنسبة إليَّ …» وأضافَ: «أوه، حسنًا، أنا أسمعُ النداءَ مباشرةً عبر آلاف الأميال من الغابات والوديان والمستنقعات. أسمعُ أصواتَ السيارات الكهربائية وقطارات السكة الحديد، وأرى الأضواءَ المتوهِّجة في برودواي وأسمع لغَط الألسُن. وسأعودُ إلى كل ذلك يا تافرنيك. هناك الكثير لأمضِيَ فيه. لقد فعلنا أكثرَ من مجرد تنفيذ برنامجنا.»
غمغم تافرنيك بخيبةِ أمل: «العودة إلى نيويورك!»
فسأله بريتشارد: «إذن، فأنت لستَ مستعدًّا بعد؟»
ردَّ تافرنيك: «يا إلهي، نعم بالطبع! ومَنْ يمكن أن يكون؟ ما الذي يوجد في نيويورك لتعويض هذا؟»
ظلَّ بريتشارد صامتًا لحظةً.
ثم قال: «حسنًا، لا بد أن يعود أحدُنا بالقرب من الحضارة. فالنقابة تتوقَّع أن تسمع أنباءنا. الى جانب ذلك، لدينا تقاريرُ كافية بالفعل. حان الوقت لاتخاذ قرارٍ ما بشأن ذلك البلد النفطي. لقد قمنا بعمل عظيم هنا يا تافرنيك.»
أومأ تافرنيك برأسه. كان مستلقيًا على جنبه وعيناه مثبَّتتان بحزنٍ نحو الجنوب، على الوادي المتلألئ المضاء بنور القمر، على المساحة الشاسعة من غابات الصنوبر البِكر التي تمتدُّ من الجبال على الجانب الآخر، عبر الشق في التلال إلى السهول الممتدَّة وراءه، ثَمة عالَمٌ فوضويٌّ غير مرئي.
اقترحَ بريتشارد ببطءٍ: «إذا كنت ترغبُ في الاستمرار قليلًا، فلا يوجد سببٌ يمنعك من اصطحاب ماكلاود وريتشاردسون معك، وبِيت ونصف الخيول، وتتَّجه نحو بلد القصدير على الجانب الآخر من جبال يوليت. ما دُمنا هنا، فإن الأمر يستحقُّ ذلك تمامًا، إذا كنتَ تستطيع الاستمرار.»
أخذَ تافرنيك نفَسًا طويلًا.
واعترفَ ببساطة: «أودُّ أن أذهب. أعلم أن ماكلاود حريصٌ على التنقيب في الجنوب. وكما ترى، معظم اكتشافاتنا حتى الآن كانت بين حقول النفط.»
قال بريتشارد: «اتفقنا. غدًا نفترق إذن. أنا سأتَّجه إلى الوادي، وأعتقدُ أنني سأصلُ إلى قطار السكة الحديد المتَّجه إلى شيكاغو في غضون أسبوع. مرحى! نيويورك ستبدو رائعة!»
سألَ تافرنيك: «هل تعتقد أن النقابة ستكون راضيةً عمَّا فعلناه حتى الآن؟»
فابتسم رفيقه.
«إذا لم يكونوا كذلك، فسيكونون حمقى. أعتقدُ أن هناك مِن حقول النفط هنا ما يكفي سبع شركات. كما سيكون هناك القليلُ لنا أيضًا، على ما أعتقد. ألا تريد العودة إلى نيويورك وإنفاقها؟»
ضحكَ تافرنيك مرةً أخرى، لكن هذه المرة لم تكن ضحكته طبيعية.
وكرَّر: «إنفاقُها! وعلامَ أنفقُها؟ ملابسَ غير مريحة، أم مسرحياتٍ كاذبة، أم مشروباتٍ ضارَّة لصحتك، أم طعامًا نصف مسموم، أم جوًّا خانقًا. يا إلهي يا بريتشارد، هل هناك أيُّ شيءٍ في العالم مثل هذا! مُدَّ ذراعَيك يا رجل. استلقِ على ظهرك، وانظر إلى النجوم، واترك الريحَ تهبُّ على وجهك. أنصِت.»
أنصَتا، ومرةً أخرى لم يسمعا أيَّ شيءٍ، ومع ذلك بدا أن هذا الصمتَ له سمةٌ خاصة تشي باتساع الفضاء.
نهضَ بريتشارد واقفًا على قدمَيه.
وقال: «نيويورك وأطباق اللحم أفضلُ بالنسبة إليَّ. ابقَ على اتصال، وحظًّا موفَّقًا أيها الرجل العجوز!»
في فجرِ اليوم التالي افترَقوا، وتوجَّه تافرنيك مع رفاقه الثلاثة نحوَ أرضٍ لم تطَأْها قدمٌ تقريبًا. وكان تقدُّمهم بطيئًا؛ لأنهم كانوا طوال الوقت في بلدٍ غني بالإمكانيات. استمروا في التسلق والتسلق أسابيعَ حتى وصلوا إلى الثلوج ولسَعَت الرياحُ وجوههم وارتجَفوا في فرُشِهم في الليل. إلى أن وصلوا إلى أرض قليلة النباتات، وبها حيوانات أقلُّ وأشرس، حيث كانوا يسمعون عواء الذئاب في الليل، ويرَون عيون حيواناتٍ غريبة تلمع في الغابة بينما تندلع ألسنةُ نار المساء وتتصاعدُ نحو السماء. ثم بدأ الانحدار الطويل، الانحدار الطويل إلى السهل العظيم. والآن أضحَت الشمسُ الأكثرُ سخونةً وقوةً تلفح وجوهَهم وتمنحها لونًا برونزيًّا مميَّزًا. ولم يعد الثلج يتساقط على وجناتهم. كانوا ينزلون ببطءٍ إلى أرضٍ بدَت لتافرنيك مثلَ أرض كَنْعان التي ذُكِرَت في الكتاب المقدَّس. اضطُروا ثلاثَ مراتٍ في عشَرة أيام إلى التوقُّف وإقامة معسكر، بينما يُعِدُّ تافرنيك مسحًا جغرافيًّا للأرض التي من المُحتمَل أن تكون مفيدة.
جاء ماكلاود إلى تافرنيك يومًا وبيده كتلةٌ باهتة المظهر، تلمع في بعض الأجزاء.
وقال باقتضاب: «إنه نُحاس. هذا ما كنتُ أبحثُ عنه طوال الوقت. يوجد كمٌّ هائل لا نهاية له. يوجد ما هو أكبرُ من النفط هنا.»
وأمضَوا شهرًا في المنطقة، وكان ماكلاود يزداد حماسًا كلَّ يوم. وبعد ذلك كان من الصعب منعُه من التوجُّه إلى الوطن في الحال.
أوضحَ لتافرنيك: «أقول لك يا سيدي، يوجد ملايينُ هناك، ملايين بين تلك الأوتاد الأربعة التي وضَعتُها. فما فائدة المزيد من التنقيب؟ هناك ما يكفي في مساحة فدَّان مربع لدفع نفقاتِ بعثتنا ألفَ مرة. ولذا دَعْنا نَعُد ونُقدِّم التقارير. بإمكاننا الوصولُ إلى خط السكة الحديد في غضون عشرة أيام من هنا … وربما قبل ذلك.»
قال تافرنيك: «اذهب أنت. واترك لي بِيت واثنَين من الخيول.»
حدَّقَ الرجل في وجهه بدهشة.
وسأله: «وما فائدة الاستمرار بمفردك؟ أنت لستَ خبيرَ تعدينٍ أو نفط. لا يمكنك التنقيبُ بمفردك.»
أجاب تافرنيك: «لا أملك إلا أن أفعل ذلك. إنه شيءٌ يسري في دمي على ما أعتقد. سأواصل. فكِّر قليلًا! ستصل إلى خط السكة الحديد هذا، وفي غضون شهرٍ ستعود إلى نيويورك. ألَا تتخيَّل، عندما تكون هناك، وتسمع أصواتَ الضجيج والصخب، وترى الحشود الشاحبة وهم يتجادلون معًا حول اختطاف الدولارات من جيوب بعضهم البعض … ألا تظن أنك ستشتاق إلى هذه العُزلة، والأماكن الرحبة الخالية، والاحتمالات العظيمة، والصمت؟ فكِّر في الأمر يا رجل. أتساءل ماذا يوجد خلف تلك الجبال؟»
تنهَّد ماكلاود.
وقال: «أنت على حَقٍّ. قد لا يصل المرءُ إلى مثلِ هذا المكان البعيد مرةً أخرى. ستظلُّ مَصائرنا واحدة، على ما أعتقد، ولكن على أيِّ حال يجب علينا التوجُّه إلى مكتب تلغراف في غضون أسبوعَين. فلنمضِ على الفور إذن.»
في غضون عشَرة أيام انحدَروا عشَرة آلافِ قدَم. ووصلوا إلى منطقةٍ كانت حناجرهم فيها جافةً طوال الوقت، حيث بدَت الأشجار والشجيرات وكأنها أدواتٌ على خشبةِ مسرح، حيث كانوا يغمسون رءوسهم في أي بِركة ماءٍ يُصادفونها ليغسلوا أنوفهم وأفواههم من الغبار الأحمر الذي بدا كأنه يخنقهم. ووجَدوا قصديرًا ونفطًا والمزيدَ من النحاس. ثم تقدَّموا ببطءٍ نحو أرض منبسطة مترامية الأطراف، يُغطيها العُشب الأزرق؛ أميالٌ وأميالٌ من العُشب الأزرق، وفجأةً في يوم ما وصَلوا إلى مكتب التلغراف، وأشجار الصنوبر الخشنة التي نُزِعَ لِحاؤها، ويتدلَّى منها القليلُ من الأسلاك غير المشدودة. ونظر تافرنيك إليها مثلما نظرَ روبنسون كروزو إلى آثار أقدام فرايداي. كانت هذه أولَ علامة على الحياة البشرية رأوها منذ شهور.
وتنهَّد قائلًا: «إنه عالمٌ حقيقي هذا الذي نحن فيه، رغم كل شيء! لقد ظننتُ، بطريقةٍ أو بأخرى، أننا قد هربنا.»