العودة إلى الحضارة
حدَّق بريتشارد، المهندَم الأنيق، الذي بدا من سكان نيويورك بربطةِ عنقه المربوطة بعنايةٍ وطرَفِ حذائه اللامع المستدَقِّ، بدهشةٍ في الرجل الذي جاء لمقابلته في محطة جراند سنترال. بدا تافرنيك في الواقع كأنه رجلُ غاباتٍ رائعٌ قضى حياتَه في مملكة الرياح والشمس والمطر. كان صدره قد اتسعَ بضع بوصاتٍ، ووقفَ معتدًّا بنفسه باستقلالية جديدة. كان وجهه برونزيًّا حتى العُنق. وكانت لحيتُه مكتملةَ النمو، وملابسُه رثَّة وبها آثارُ بُقع جرَّاء السفر. كان يبدو مثل نسمةٍ من الحياة الحقيقية في محطة نيويورك العظيمة، محاطًا بفيضٍ من الرجال الشاحبين ذوي المعاطف السوداء.
ضحكَ بريتشارد بهدوءٍ بينما يتأبَّط ذراعَ صديقه.
وقال: «تعالَ، أيها الصديق البريطاني، أيها البدائي، لقد حجزتُ غرفةً لك في فندقٍ قريب من هنا. ستأخذ حمَّامًا ثم تتناولُ شرابَ النَّعناع المنعش، وبعد ذلك سآخذك إلى خيَّاط. ما رأيُك في هذا البلد الضخم؟ أهو أفضلُ من المستنقعات المِلحيَّة، أم ماذا؟ أهو أفضلُ من قرية الصيد الصغيرة التي ترعرعتَ فيها؟ أهو أفضل من صناعة القوارب؟»
أجابَ تافرنيك: «أنت تعرف ذلك. أشعرُ كما لو كنتُ أمضي في الحياة شهرًا بعد شهر. هل سأُضطر إلى ارتداءِ حذاءٍ مثل حذائك … لامع؟»
فقال بريتشارد مقرِّرًا: «يجب أن تفعل ذلك.»
ردَّ تافرنيك متذمِّرًا: «والقبَّعة … أوه يا إلهي! لن أصبح متحضِّرًا مرةً أخرى أبدًا.»
ضحكَ بريتشارد وهو يقول: «سنرى ذلك. حقًّا يا تافرنيك، كانت رحلتُنا رائعة. وكلُّ شيءٍ يسير على نحوٍ مذهل. فالنفط والنحاس هائلان يا رجل … أقول لك هائلان. أعتقدُ أن الخمسة آلاف دولار الخاصةَ بك في طريقها لأن تُصبح نصف مليون دولار. وأنا نفسي اقتربتُ من هذا المبلغ أيضًا.»
لم يُدرك تافرنيك إلا بعد مُدةٍ، عندما أصبح وحده، مدى ضآلةِ الاهتمام الذي استمع به إلى حديثِ رفيقه عن نجاحهما. مرَّ وقتٌ قصير جدًّا منذ أن كانت كلُّ أعصاب جسمه تُركِّز على هدفٍ واحد فحسب؛ هو تحقيق الثروة. الغريبُ في الأمر الآن أنه بدا كأنه يأخذ الموضوعَ كشيءٍ مُسلَّم به.
قال بريتشارد: «بعد إعادة التفكير، سوف أرسل الخيَّاط إلى الفندق. لديَّ غرفةٌ مجاورة لك في الفندق. ويمكننا أن نذهب معًا بعد ذلك لشراء حذاءٍ، وما إلى ذلك من مستلزمات.»
بحلول المساء، كانت خِزانة ملابس تافرنيك مكتملة. حتى بريتشارد نظرَ إليه بدهشة. لقد بدا كأنه، بطريقةٍ ما، قد اكتسبَ مكانة جديدة.
صاحَ بريتشارد: «يا إلهي، إنك تبدو رائعًا! لن يُصدقوا في اجتماع الغد أنك الرجلُ الذي عبَرَ جبال يوليت وسبحَ في نهر بيرانيك. ذلك بلدٌ رائع الذي كنتَ فيه يا تافرنيك، بعد أن تركتَ خط السكة الحديد.»
بينما كانا في برودواي، وكان هديرُ المدينة يدقُّ آذانَهما، وبدا فجأةً أن تافرنيك، الذي رفع وجهَه نحو النجوم، يشعر بالسكون مرةً أخرى، يشعر بعبير غابات الصنوبر ورائحة الطبيعة نفسها، التي خلَت عبر كلِّ هذه الأجيال من وجود الإنسان.
قال بهدوء: «لن أبتعد عنها أبدًا. يجب أن أعود.»
ابتسمَ بريتشارد.
وقال: «عندما يكون تقريرك مُعَدًّا ودولاراتك جاهزةً لتستلمَها، فسيُرسلونك في أسرع وقتٍ ممكن … هذا إذا كنتَ لا تزال ترغب في ذلك. دعني أقُلْ لك يا ليونارد تافرنيك، الرجال هنا في المدينة يسعَون وراء الدولارات. أما في ناحيتك، فعندما يجمع الرجلُ مليونًا أو نحوه، فإنه يكتفي بذلك. يبدو أن تحقيق ثروةٍ واحدة هنا لا يسَعُه إلا أن يُثير شهيةَ سكان نيويورك.» ثم أضافَ بعد أن تردَّد لحظةً: «بالمناسبة، هل يُهمك أن تعرف أن صديقًا قديمًا لك هنا في نيويورك؟»
أدار تافرنيك رأسه بسرعة.
وقال: «مَنْ هو؟»
«السَّيدة وينهام جاردنر.»
صرَّ تافرنيك على أسنانه.
وقال ببُطءٍ: «لا، أعتقدُ أن هذا لا يُهمني.»
استطرد بريتشارد: «هذا يُسعدُني. يمكنني أن أخبرك أنني لا أعتقدُ أن الأمور سارت على ما يُرام مع السيدة. لقد أنفقَت معظم ما حصلَت عليه من عائلة جاردنر، ولا يبدو أنها حالفها الحظُّ فيه أيضًا. لقد التقيتُها مصادفةً. إنها تُقيم في فندق رخيص، لكنه في الجزء الفقير من البلد … فندقٌ من الدرجة الثانية، أؤكِّد لك أنه من الدرجة الثانية.»
فقال تافرنيك: «أتساءل إن كنا سنُقابلها يومًا ما.»
فسأله بريتشارد: «هل تريد أن تقابلها؟ في الغالب ستكون موجودةً في مارتن وقتَ الغداء، وستذهب إلى بلازا لتناول الشاي، وإلى ريكتور لتناول العشاء. فهي ليست من نوعية النساء التي تبقى مختفية، كما تعلم.»
قال تافرنيك: «إذن فسوف نتجنَّبُ تلك الأماكن، إذا كنتَ ستأخذني في جولة في المنطقة.»
فسأل بريتشارد مستفسِرًا: «لقد شُفِيتَ، أليس كذلك؟»
فأجابَ تافرنيك: «بلى شُفيتُ، شُفيتُ من هذا ومن أشياءَ كثيرةٍ أخرى، بفضلك أنت. لقد وجدتَ لي التِّرياق الصحيح.»
كرَّر بريتشارد قوله بتأمُّل: «ترياق. هذا يُذكِّرني بشيء. فلنذهب من هذا الطريق لنتناولَ أفضل كوكتيل في نيويورك.»
ومع ذلك، لم يكن من الممكن أن تمضيَ الليلةُ دون إثارةٍ لتافرنيك. تناول الرجلان العشاء معًا في ديلمونيكو ثم ذهبا بعد ذلك إلى حديقةٍ على السطح، وهو شكل جديد من أشكال الترفيه بالنسبة إلى تافرنيك، وقد أثار اهتمامَه بشكل كبير. حجزا إحدى الطاولات الخارجية بالقرب من سور الشُّرفة، وكانت نيويورك ممتدَّةً أسفَلهما، خيالاتٌ متوهِّجة من الأضواء والمباني الفجَّة. وهناك عبر الطرق الواسعة تمشي السيارات مضيئةً أنوارها طوال الوقت، وكأنها ألعاب، ويتدفَّق الناس مثل الحشرات متَّجهين إلى نهر هدسون، حيث كانت العبَّارات الكبيرة، المشتعلة بالأضواء، تسير صارخةً عبر المياه المظلمة. انحنى تافرنيك على سور الشُّرفة ونسي. كان يوجد الكثير من الأشياء المدهشة في هذه المدينة الرائعة لرجلٍ بدأ للتو في أن يجد نفسه.
بدأت الأوركسترا، المتمركِزة على بُعدِ بِضع يارداتٍ منه، في عزف مقطوعة موسيقية شهيرة، وبدأ بريتشارد في الحديث. وحوَّل تافرنيك عينَيه المنبهرتَين عن المشهد بالأسفل.
قال بريتشارد: «صديقي الشاب، سوف تُواجه موقفًا خطيرًا الليلة. خُذْ كأسًا من نبيذك وجهِّز نفسك.»
فعلَ تافرنيك ما قِيلَ له.
ثم سألَ: «عن أي خطر تتحدَّث؟ ماذا هناك على أي حال؟»
لم يكن بريتشارد بحاجةٍ إلى الإجابة. عندما وضعَ تافرنيك كأسه على الطاولة، وقعَت عيناه على المجموعة الصغيرة التي احتلَّت لتوها الطاولةَ المجاورة لهما تقريبًا. كان من بينهم والتر كريس، ميجور بوست، ورجلان لم يسبق له رؤيتُهما من قبل في حياته … كلاهما ممتلئُ الوجه، شاحبُ العينَين، لكنهما يرتديان ملابسَ شديدة التقيُّد بالأزياء السائدة في المدينة؛ باختصار مَعاطف العَشاء وربطات العنق السوداء. وكانت إليزابيث وسطهم. أمسكَ تافرنيك بجانبَي مقعده ونظرَ. نعم، لقد تغيَّرَت. كانت حواجبها مرسومةً بطريقة خفيفة، وشعرها مصبوغًا بلون لم يتعرَّف عليه، ووجنتاها ملوَّنتَين بلونٍ بدا مصطنَعًا. ومع ذلك، احتفظَت بجسدها وحضورها الرائع كما هما، كما تمتَّعَت بذلك الفنِّ في ارتداء ملابسها كما لم تستطع أيُّ امرأة أخرى. كانت تستطيع بسهولةٍ أن تكون الأكثرَ جذبًا للانتباه من بين بناتِ جنسها بين كل الناس الموجودين في المكان. سمع تافرنيك رنَّة صوتها، ومرةً أخرى شعر بالإثارة، ولكنها سرعان ما خَبَت. كانت إليزابيث كما هي. أما هو، فقد حمدَ الله، على أنه لم يَعُد كما هو!
سأل بريتشارد: «هل ترغب في الذهاب؟»
فهزَّ تافرنيك رأسه.
وأجابَ: «ليس أنا! هذا المكان رائعٌ للغاية. ألا يمكننا الحصولُ على المزيد من النبيذ؟ هذا هو علاجي. ولكن لماذا تنظر إليَّ هكذا يا بريتشارد؟ أنت لا تفترض لحظةً أنني يمكن أن أجعل من نفسي أضحوكةً مرة أخرى؟»
ابتسمَ بريتشارد بارتياح.
وقال: «صديقي الشاب، لقد عِشتُ في الدنيا زمانًا طويلًا ورأيتُ الكثيرَ من الأشياء الغريبة، لا سيَّما بين الرجال والنساء، لدرجة أنني لم أعُدْ أُفاجأ قطُّ بأي شيء. اعتقدتُ أنك ستُخفي حماقتَك ما دُمتَ قد أحكمتَ قبضتكَ على الحياة بهذا الشكل، لكن المرء لا يتأكَّد أبدًا.»
تنهَّد تافرنيك.
وردَّ: «أوه، لقد أخفيتُ أسوأ حماقاتي! لكنني أتمنى لو …»
لم يُنهِ جملته قطُّ. فقد رأته إليزابيث فجأة. وللحظةٍ مالت للأمام وكأنها تتأكَّد أنها ليست مخطئة. ثم نهضَت واثبةً على قدمَيها وجلسَت مرةً أخرى. انفرَجَت شَفتاها … كان جمالها محيِّرًا وأخَّاذًا مرة أخرى.
صاحت: «سيد تافرنيك، تعالَ وتحدَّث معي على الفور.»
نهضَ تافرنيك بلا تردُّد، وسارَ بحزمٍ عبر الياردات القليلة التي تفصلُهما. ومدَّت هي كِلتا يدَيها.
وصاحت قائلة: «هذا رائع! أنت في نيويورك! لقد كنتُ أتساءل كثيرًا عما حلَّ بك.»
ابتسمَ تافرنيك.
وقال: «إنها ليلتي الأولى هنا. لقد كنتُ في رحلةِ تنقيبٍ في أقصى الغرب مدةَ عامَين.»
فقالت: «ثم رأيتُ اسمَك في الصحف. كان ذلك من أجل نقابة مانهاتن، أليس كذلك؟»
أومأ تافرنيك برأسه، ومالَ أحدُ الرجال المرافقين لها إلى الأمام باهتمام.
قالت مؤكِّدةً له: «سوف تكسب ملايينَ وملايين. كنتَ دائمًا تعرف أنك ستفعل، أليس كذلك؟»
فأجابَ: «أخشى أنني كنتُ واثقًا من ذلك أكثرَ من اللازم. ولكن الحظ حالفنا للغاية بالتأكيد.»
تدخَّل أحدُ رفاق إليزابيث … وكان هو الرجل الذي انتبه عند ذِكر نقابة مانهاتن.
وقال: «إليزابيث، أودُّ أن أتعرَّف إلى صديقك.»
قدَّمته إليزابيث متجهِّمة.
«السيد أنتوني كروكسول … السيد تافرنيك!»
مَدَّ السيد كروكسول يدًا بيضاءَ سمينة، تبرق بخاتم ضخم من الماس في إصبع الخنصر.
وقال متسائلًا: «عجبًا، هل أنت السيد تافرنيك الذي كان مسئولَ المسح في مجموعة التنقيب التي أرسلَتها نقابة مانهاتن؟»
أقرَّ تافرنيك بإيجاز: «نعم، كنتُ أنا. وما زلت، كما أتمنى.»
فقال السيد كروكسول بصراحة: «إذن فأنت الشخص الذي كنتُ أتمنى مقابلته، ألن تجلسَ معنا؟ أودُّ لو تحدَّثنا قليلًا عن تلك الرحلة. فأنا مهتمٌّ بأمر النقابة.»
هزَّ تافرنيك رأسه.
وقال: «لقد اكتفيتُ من العمل مدةً طويلة. بالإضافة إلى أنني لا أستطيع أن أتحدَّث عنها إلا بعد أن أُسلِّم تقريري في الاجتماع غدًا.»
أصرَّ السيد كروكسول: «سنتحدَّث قليلًا فحسب. هَلا نحتسي زجاجةً من الشمبانيا؟»
أجابَ تافرنيك: «أنا واثقٌ أنك سوف تعذرني عندما أخبرك أنه لن يكونَ من الصواب من جانبي مناقشةُ رحلتي إلا بعد تسليم تقريري إلى الشركة. وأنا سعيدٌ جدًّا لرؤيتكِ مرة أخرى يا سيدة جاردنر.»
صاحت بإحباط: «لكنك لن تذهب!»
فأجابَ تافرنيك: «لقد تركتُ السيد بريتشارد بمفرده.»
فابتسمَت إليزابيث، ولوَّحَت بيدها إلى الشخص الذي كان يجلس وحيدًا.
وقالت: «صديقُنا السيد بريتشارد مرةً أخرى. حسنًا، إنه اجتماعٌ غريب حقًّا، أليس كذلك؟» ثم رفعَت رأسها قليلًا في محاذاة رأسه وأومأت بعينَيها لكي يُقرِّب منها أكثرَ وأضافت: «تُرى هل نَسيتَ كلَّ شيء؟»
أومأ إلى فوق أسطح المنازل. وكان ظهره نحو النهر وأشار ناحية الغرب.
ثم أجابَ: «لقد كنتُ في بلدٍ ينسى فيه المرءُ كلَّ شيء. وأعتقدُ أنني قد رميتُ حقيبة حماقاتي بعيدًا. ولعلها مدفونةٌ الآن. هناك بعضُ الأشياء التي لا أنساها، لكن نادرًا ما أتحدَّث عنها.»
قالت: «أنت شابٌّ غريب. هل كنتُ مخطئة، أم أنك كنت يومًا تحبني؟»
فاعترفَ تافرنيك: «كنت أحبكِ بشكلٍ رهيب.»
وغمغمَت: «ومع ذلك، مزَّقتَ الشيك الذي كتبتُه لك وابتعدتَ عني قدرَ استطاعتك عندما اكتشفتَ أن معاييري الأخلاقيةَ لم تكن كما توقَّعتَ تمامًا. ألم تتجاوز تلك المثالية قليلًا يا ليونارد؟»
تنهَّدَ تنهيدة عميقة.
ثم أعلن بجدية: «أنا مُمتنٌّ لأن أقول إنني لم أتجاوزها، وإنني، إذا كنتُ قد تغيَّرت، فقد ازددتُ تعصُّبًا أكثرَ من أي وقت مضى.»
جلسَت ساكنةً لحظة، وأصبح وجهُها جامدًا وخاليًا من التعبيرات. وكانت تنظر إلى ما وراءه، متجاوزةً خط الأنوار، نحو الظلام الدامس.
وقالت بهدوء: «بطريقةٍ ما، كنتُ أدعو الله دائمًا أن تتذكَّر. فقد كنتَ أنت الشيء الحقيقيَّ الوحيد الذي قابلتُه في حياتي، كنتَ مخلصًا بحق. إذن فقد انتهى كلُّ شيء؟»
أجابَ تافرنيك بشجاعة: «لقد انتهى.»
تهادى إلى مَسامعهم صوتُ موسيقى الفالس المَجَرية. فأغمضَت عينَيها جزئيًّا. وحرَّكَت رأسها ببطءٍ مع اللحن. فأشاحَ تافرنيك بنظره بعيدًا.
وفجأةً سألته: «هل ستأتي لتراني مرةً أخرى فحسب؟ أنا أقيم في دلفيدير، في شارع ٤٢.»
أجابَ تافرنيك: «شكرًا جزيلًا لكِ. لكني لا أعرفُ كم من الوقت سأبقى في نيويورك. فإذا كنتُ سأبقى بضعةَ أيام، فسوف أغتنم الفرصة لزيارتكِ في منزلكِ.»
ثم انحنى وعاد إلى بريتشارد، الذي استقبله بابتسامةٍ هادئة.
وقال بلُطف: «أنت حكيمٌ يا تافرنيك. لم أسمع ما قيل، لكنني أعلم أنك كنتَ حكيمًا.» ثم أضافَ بصوتٍ منخفض: «بيني وبينك، إنها تتدهورُ حالًا. إنها هنا مع الرفقة الخطأ. ويبدو أنها لا تستطيع الابتعادَ عنهم. إنهم غيرُ ملتزمين بالقيم الأخلاقية والاجتماعية، وهم أقربُ إلى الوقوع تحت طائلة القانون منهم إلى الانتماء إلى المجتمع المحترم. أما عن الرجل الذي رأيتُكَ تتعرَّف إليه فهو مليونير في يوم من الأيام ولصٌّ في اليوم التالي. ليس منهم رجلٌ صالح. هل لاحظتَ أيضًا أنها ترتدي مجوهرات زائفة؟ هذا يبدو شيئًا سيئًا على الدوام.»
أجابَ تافرنيك: «لا، لم ألحظ.»
كان صامتًا لحظة. ثم انحنى قليلًا إلى الأمام.
وسأل: «تُرى، هل تعرف أيَّ شيءٍ عن أختها؟»
أنهى بريتشارد نبيذه وأسقط الرماد من سيجاره.
وأجابَ: «لا أعرف الكثير. أعتقدُ أنها مرَّت بوقتٍ عصيب للغاية. لقد تولَّت مسئولية أبيها، كما تعلم، البروفيسور العجوز، وبذلَت قُصارى جهدها لإبقائه على الصراط المستقيم. وتُوفِّي منذ عامٍ تقريبًا وحاولَت الآنسة بياتريس العودةَ إلى المسرح، لكنَّ فرصتها في ذلك كانت قد ضاعت. وكانت الأعمال المسرحية رديئةً في لندن. وسمعتُ أنها جاءت إلى هنا.» ثم قال مُومئًا برأسه نحو أصدقاء إليزابيث: «أيًّا كان المكان الذي تعيش فيه، فهي تحاول البقاءَ بعيدًا عن مثل هذه الزمرة.»
قال تافرنيك وقلبُه يكاد يقفز من بين ضلوعه: «أتساءل عمَّا إذا كانت في نيويورك.»
ولم يُحِر بريتشارد جوابًا. كانت عيناه مُثبَّتتَين على المجموعة الصغيرة الجالسة إلى الطاولة المجاورة. كانت إليزابيث قد رجعَت بظهرها في مقعدها. ويبدو أنها انسحبَت من المحادثة الدائرة. وكانت عيناها مُثبَّتتَين طوال الوقت على عينَيْ تافرنيك. فنهضَ بريتشارد واقفًا على قدمَيه فجأة.
وقال: «لقد حان الوقت لأن نخلد إلى النوم. وتذكَّر اجتماع الغد.»
نهضَ تافرنيك على قدمَيه. وبينما كانا يمرَّان على الطاولة المجاورة، مالت إليزابيث نحوه. ورجَتْه عيناها بلوعة.
وهمسَت: «عزيزي ليونارد، لا بد … لا بد أن تأتيَ لتراني. سأبقى في المنزل ما بين الساعة الرابعة والسادسة كلَّ مساءٍ هذا الأسبوع. تذكَّر: دلفيدير.»
أجابَ تافرنيك: «شكرًا جزيلًا لكِ. لن أنسى.»