الفصل التاسع

على الدوام

مرةً أخرى بدا لبياتريس أن التاريخ يُعيد نفسَه. كانت غرفة الطعام مستطيلةً وقذرة، وانتشرَت فيها مصائدُ البعوض التي نسجَها العنكبوت، وكان مفرش المائدة متَّسخًا والمقاعد من الخيرزان الصُّلب، حتى إنها تخيَّلتْ نفسها في غرفة المعيشة بنُزُل بلينهايم هاوس. لم يكن ثَمة فرصةٌ كبيرة للاختيار بين مُلَّاك الفنادق. كانت السيدة ريثبي لورانس، بصرف النظر عن لسانها اللاذع وطبيعتها النزَّاعة إلى الشك، على الأقل تتظاهرُ باللطف. أما المرأة التي تُواجهها الآن — بملامحها الجامدة، وعينَيها الضيقتَين الميَّالتَين إلى الشك وشعرها الأحمر المبهرج — فكانت بالتأكيد امرأةً فظة قاسية.

سألتْ بسُخرية: «ما فائدةُ استمرار قولكِ إنكِ تأمُلين في الحصول على عملٍ في الأسبوع المقبل؟ مَن الذي يمكن أن يمنحَكِ أيَّ عمل؟ عجبًا، لقد ازددتِ شحوبًا وفقَدتِ جَمالكِ وخسرتِ وزنكِ منذ أن أتيتِ للبقاء هنا. وهم لا يريدون مثلكِ في الكُورَس. وبالإضافة إلى ذلك، أنتِ مغرورةٌ ومتغطرسة للغاية، وهذا هو رأيي فيكِ. فلتأخُذي ما يمكنكِ الحصولُ عليه، بأي طريقة، وكوني شاكرة … هذا هو شعاري. يومًا بعد يوم، تتجوَّلين في الشوارع برأسٍ مرفوع وخُيلاء، وترفضين هذا وترفضين ذاك، وفي الوقت نفسِه ترتفع قيمة فاتورتي أكثرَ وأكثر. والآن أريدُ أن أعرفَ أين كنتِ حتى هذا الصباح؟»

حاولَت بياتريس، التي كانت مُتعَبة ومُرهَقة للغاية، وكانت أطرافُها كلُّها ترتجف، أن تمرَّ خارجةً من الغرفة، ولكن المرأة التي كانت تستجوبها أغلقَت عليها الطريق.

فردَّت بعصبية: «لقد كنت في المدينة.»

«هل هناك أيُّ أخبار؟»

هزَّت بياتريس رأسها.

«ليس بعد. أرجو منكِ أن تسمحي لي بأن أصعَد إلى الطابق العلوي وأستلقي. فأنا متعبة وأحتاج إلى الراحة.»

فقالت السيدة سلينا واتكينز، دون أن تتحرك من مكانها: «وأنا أريدُ نقودي. وليس هناك فائدةٌ من الصعود إلى غرفتكِ لأن الباب مُوصَد.»

تلعثمَت بياتريس وهي تقول: «ماذا تقصدين بذلك؟»

قالت صاحبة الفندق الصغير: «أعني أنني قد انتهيتُ من أمركِ. غرفتكِ مُوصَدة والمفتاح في جيبي، وكلما أسرعتِ في الخروج من هنا، كان ذلك أفضلَ بالنسبة إليَّ.»

صاحت بياتريس: «ولكن ماذا عن صندوقي … ملابسي.»

أجابت المرأة: «سأحتفظُ بها أسبوعًا من أجلكِ. أحضري لي المالَ قبل انتهاء تلك المهلة، وستحصلين عليها. أما إذا لم أسمع أيَّ شيءٍ عنكِ، فسأعرضُها في مزاد.»

استعادت الفتاة شيئًا من روحها القديمة. كانت غاضبة، ونسيَت أن ركبتَيها كانتا ترتعشان من التعب، وأنها كانت ضعيفةً وتتضوَّر جوعًا.

صاحت: «كيف تجرُئين على التحدُّث إليَّ هكذا! ستحصلين على نقودكِ قريبًا، لكن يجب أن آخذَ ملابسي. لا يمكنني الذَّهاب إلى أي مكان بدونها.»

ضحكت المرأة بقسوة.

وقالت: «انظري أيتها الشابة، سوف ترَين صندوقكِ مرةً أخرى عندما أرى لون نقودك، وليس قبل ذلك. والآن اخرجي، من فضلكِ … اخرجي! وإذا كنتِ ستُثيرين أي مشكلة، فسوف تصحبكِ سولي إلى أسفل.»

كانت المرأة قد فتحَت الباب، وجاءت خادمةٌ ملوَّنة، نصفُ عارية، وفي يدها مِكْنَسة، تسير بترهُّل على طول الممر. استدارت بياتريس وهربَت من الجو اللزج الصاخب، نازلةً على الدرَج الخشبي غير المستوي، حتى وصلَت إلى الشارع القبيح. استدارت نحو أقربِ محطة قطار، كما لو كانت جُبِلت على ذلك، ولكنها عندما وصلت إلى أسفل السلَّم توقَّفت قليلًا متأوهةً بصوتٍ خفيض. كانت تعلم جيدًا أنها لا تملك أيَّ بنس لدفع الأجرة. كانت جيوبها خاوية. ولم تأكل شيئًا طَوال اليوم، ودفعَت آخِر عملة معدنية لديها أجرةً للسيارة التي أعادتها من برودواي. وها هي في الجانب الآخر من نيويورك، في منطقةِ مساكن الطبقة الدُّنيا، يفصل بينها وبين برودواي شارعُ بواري. لم تكن لديها القوةُ ولا الشجاعة للسير. وبتنهيدةٍ شبه مختنقة، خلعت الحِلية الوحيدة المتبقية لها، وهي بروش رخيص مطليٌّ بالمينا، ودخلت متجر رهن بالقرب من المكان الذي كانت تقفُ فيه.

سألت بيأس: «هل ستُعطيني شيئًا مقابلَ هذا، من فضلك؟»

توقَّف رجلٌ بدا كأنه يفرز كومةً من المعاطف الجاهزة، لحظةً عما يفعله، وأخذ الحِلْية في يده، وألقى بها بازدراءٍ على المنضدة.

وردَّ: «لا تساوي شيئًا.»

احتجَّت بياتريس قائلةً: «لكن لا بد أنها تستحقُّ شيئًا. لا أريدُ سوى مبلغٍ ضئيل جدًّا.»

استرعى شيءٌ في صوتها انتباهَ الرجل. فنظر إلى وجهها الشاحب.

وسأل: «ما المشكلة؟»

قالت: «يجب أن أصل إلى فيفث أفنيو بطريقةٍ ما. ولا أستطيع السير وليس لديَّ أيُّ نقود.»

دفع البروش إليها وألقى قطعةَ نقد على المنضدة.

وقال: «حسنًا، أنتِ لا تبدين قادرةً على السير، وهذه حقيقة، ولكن البروش لا يستحقُّ الرهن. هاكِ عشرة سنتات من أجلكِ. والآن، اخرُجي من فضلكِ، فأنا مشغول.»

أمسكَت بياتريس بالعُملة، وكادت تنسى أن تشكره، ثم توجَّهَت إلى السلَّم الحديدي لمحطة القطار. وسرعان ما جلسَت في القطار، الذي راحَ يُقعقع ويهتزُّ في طريقه عبر الأحياء الفقيرة إلى قلب المدينة الرائعة. لم يتبقَّ لها سوى شيءٍ واحد لتجرِبته، وهو الشيء الذي كان يدور في ذهنها منذ عدة أيام. ومع ذلك، وجدَت نفسها تفكِّر فيما ينتظرها برعبٍ قاتم، حتى بعد أن أصبحَت مضطرةً إلى أن تفعل هذا الشيء. لقد كان هذا آخِرَ موردٍ لها بالفعل. على الرغم من أنها كانت قوية، فقد عرَفَت من خلال أماراتٍ عديدة بسيطة أن قوتها كانت على وشك أن تخور. أيامٌ وأسابيعُ من خيبة الأمل، والتسكُّع الطويل غير المُجدي من مكتبٍ إلى آخَر، والإحباط الناجم عن الرفض المستمر، وسوء التغذية، والصيام الطويل، كلُّ هذا تركَ آثارَه عليها. ومع ذلك، فقد كانت لا تزال جذَّابةً بما فيه الكفاية. يبدو أن شحوبها قد منحَها رقةً وجمالًا. كانت شفتاها الجميلتان واللمعة الخفيفة في عينَيها الرماديتَين لا تزال كما كانت دائمًا. على الرغم من ذلك، عندما كانت تفكِّر كيف كانت تفتقر إلى المظهر الجميل، كانت وجنتاها تتورَّدان.

شقَّت طريقها في برودواي إلى مجموعةٍ رائعة للغاية من المباني المتصلة، ودخلَت ثم استقلَّت المصعد إلى الطابق السابع. وهناك خرَجَت من المصعد وطرقَت بتردُّد على أحد الأبواب الزجاجية، نُقِشَ عليه اسم السيد أنتوني كروكسول. أذنَ لها شابٌّ غايةٌ في الرقيِّ بالدخول واستفسر عما تريد.

فقالت: «أودُّ أن أقابل السيد كروكسول لحظة، مقابلةً شخصية. لن أؤخِّره أكثرَ من دقيقة. اسمي فرانكلين … الآنسة بياتريس فرانكلين.»

بدا أن شِفاهَ الشاب كانت على وشك أن تُصدر صفيرًا، لكنَّ شيئًا في وجه الفتاة جعله يغيِّر رأيه.

وقال: «أظنُّ أن الرئيس هنا. لقد أتى لتوه من اجتماعٍ مهم، ولكنني لستُ على يقين إن كان سيُقابل أيَّ شخص اليوم. ومع ذلك، فسوف أخبره بوجودكِ هنا.»

اختفى داخل غرفة داخلية. ثم خرجَ في الحال وتركَ الباب مفتوحًا.

ودَعاها قائلًا: «هلا تدخلين الآن مباشرةً يا آنسة فرانكلين؟»

دلفَت بياتريس إلى الغرفة بشجاعةٍ كافية، ولكنَّ ركبتَيها بدَأتا في الارتجاف عندما وجدَت نفسها في معيَّة رجلٍ أتت لمقابلته. لم يكن السيد أنتوني كروكسول شخصًا وسيمًا. كانت وجنتاه مُمتلئتَين ومنتفختَين، وكان يرتدي خاتمًا من الماس في إصبع يدِه شديدة البياض ودبوسًا من الماس في ربطة عنقه المبهرجة. كان يُدخن سيجارًا أسودَ اللون، تجاهلَ أن ينزعه من بين أسنانه وهو يُرحِّب بزائرته.

قال بابتسامةٍ قبيحة للغاية: «إذن فقد أتيتِ لمقابلتي أخيرًا يا آنسة بياتريس! تعالي لتجلسي بجانبي. هذا صحيحٌ، أليس كذلك؟ والآن ماذا أستطيع أن أفعل من أجلك؟»

كان جسدُ بياتريس يرتجف من قمة رأسها إلى أخمص قدمَيها. كانت عينا الرجل بغيضتَين، وابتسامتُه مخيفة.

قالت متلعثمة: «لا أملك بِنسًا واحدًا يا سيد كروكسول، ولا أستطيع الحصول على عمل، وطُردتُ من غرفتي، وأنا جائعة. كان والدي دائمًا ما يخبرني أنك ستكون صديقًا إذا حدث واحتجتُ إلى مساعدتك في يومٍ من الأيام. أنا آسفة جدًّا لحضوري وتوسُّلي، ولكن هذا ما أفعله. هَلا تقرضني أو تعطيني عشرة أو عشرين دولارًا، لكي أتمكَّن من المضيِّ قُدمًا وقتًا أطول؟ أو هل يمكنك أن تساعدني في أن أحصل على وظيفةٍ في أحد المسارح؟»

نفخَ السيد كروكسول دخان سيجاره بانتظام لدقيقة، ثم رجعَ بظهره في مقعده ودفعَ بيده في جيب بنطاله.

وقال: «هل الوضع بهذا السوء؟ أهو حقًّا بهذا السوء؟»

فأجابت وهي تنظر إليه بهدوءٍ: «إنه سيئٌ للغاية حقًّا، وإلا فما كنت سآتي إليك، كما تعرف.»

ابتسمَ السيد كروكسول.

وقال: «أتذكَّرُ آخِر مرةٍ تحدَّثنا فيها معًا، لم يكن ثمة وِفاقٌ بيننا. كنتِ شديدةَ الغطرسة والقوة في تلك الأيام، أليس كذلك يا آنسة بياتريس؟ لم تكوني لتَمُنِّي على شخص سيئ مثل أنتوني كروكسول بكلمة. والآن أنتِ مضطرةٌ إلى أن تأتي، أليس كذلك؟»

بدأتْ ترتجف مرة أخرى، لكنها منعَت نفسها.

تمتمَت: «يجب أن أعيش. أعطني القليل من المال ودَعْني أذهب.»

فضحكَ.

وردَّ قائلًا: «أوه، سأفعل ما هو أفضلُ من ذلك من أجلكِ» ووضعَ يده في جيب صدرته وسحبَ رزمةً من الدولارات. ثم استأنفَ: «فلننظر إليكِ. مرحى! نعم، أنتِ رثَّة الثياب، أليس كذلك؟ خُذي هذا.» ورمى بعضَ الأوراق المالية أمامها. وقال: «اذهبي واشتري لنفسك فستانًا جديدًا وقبعةً ملائمة، وقابليني في حديقة سطح ماديسون سكوير في الساعة الثامنة. سنتناول العشاءَ وأعتقدُ أنه يمكننا إصلاحُ الأمور.»

ثم ابتسم لها مرةً أخرى، وشعرت بياتريس، التي كانت يدُها بالفعل فوق الأوراق المالية، فجأةً بركبتَيها ترتعشان. سيطر عليها رعبٌ قاتم هائل. فاستدارت وهربت إلى خارج الغرفة، متجاوزة الموظفَ المذهول، إلى المصعد، وكانت في الطابق السفلي قبل حتى أن تتذكَّر أين كانت وماذا فعلت. أما الموظف، فبعد أن حدَّق فيها وهي تهرب، هرعَ داخلًا إلى المكتب الداخلي.

وسأل: «هذه الشابة لم تهرب بأي شيءٍ، أليس كذلك؟»

ابتسمَ السيد كروكسول ابتسامةً شريرة.

وأجابَ: «بالطبع لا، أعتقدُ أنها ستعود!»

غادر تافرنيك الاجتماعَ بعد ظهيرة اليوم نفسِه بمستقبلٍ مضمون عمَليًّا مدى الحياة. لقد عُيِّن مسَّاحًا للشركة براتب عشَرة آلاف دولار سنويًّا، ومن المرجَّح أن يُدِرَّ المنجم الذي استثمر فيه مدَّخراته مبلغًا يساوي مائةَ ضِعف رأسماله الصغير. ولقد قيلت عنه أشياءُ طيبة جدًّا أمامه.

كان بريتشارد قد غادر المكان معه. وعندما وصلا إلى الشارع، توقَّفا لحظة.

قال بريتشارد: «سأُجري مكالمةً بالقرب من هنا. لا تنسَ أننا سنتناول الطعام معًا، ما لم تجد شيئًا أفضلَ لتفعله، وفي هذه الأثناء …» أخذَ بطاقةً من جيبه وسلَّمها إلى تافرنيك وواصلَ كلامه: «لا أعرفُ ما إذا كنتُ أحمقَ أو لا لأعطيَك هذا. ومع ذلك، فهَا هي. افعل ما تريد حيالَ ذلك.»

وسار مبتعدًا فجأة. ألقى تافرنيك نظرةً سريعة على العنوان المكتوب في البطاقة: ١١٣٤، شارع إيست ٣. كان في حيرةٍ لحظة. ثم أضاءَ عقلُه فجأة. وقفز قلبُه من بين ضلوعه. ذهبَ إلى المكان ليسأل عن بعض الاتجاهات وتوقَّف مرةً أخرى على حين غِرة. ظهر خيالٌ أسودُ لامرأة نحيلة تجري مرتاعةً وكأنها تهرب من مصير بشع، بوجهٍ شاحب ونظرةِ رعب. بسطَ تافرنيك يديه فجاءت إليه وهي تشهق شهقةَ تعجبٍ شديد.

صاحت: «ليونارد! ليونارد!»

فأجاب بسرعة: «إنه أنا بلا شك. هل أنا كائنٌ مرعب إلى هذه الدرجة؟»

وقفَت بلا حَراك وقاومَت بشدة. وبعد لحظة، راحَ الدُّوار الذي كانت تشعر به.

غمغمَت: «ليونارد، أنا مريضة.»

ثم بدأت تبتسم.

وتلعثمَت قائلة: «إنه أمرٌ سخيف للغاية، لكن عليك أن تفعل الشيء نفسَه مرة أخرى.»

سألَ: «ماذا تقصدين؟»

فقالت متوسِّلة: «أَحضِر لي شيئًا آكله في الحال. أنا أتضوَّرُ جوعًا. لنذهب إلى مكانٍ أنيق. ليونارد، كم هذا رائع! لم أكن أعرفُ حتى أنك في نيويورك.»

طلب عربة وأخذها إلى حديقةٍ على السطح. وهناك، لأنَّ الوقت كان مبكرًا، حصلا على مقعدٍ قرب حاجز الشُّرفة. تحدَّث تافرنيك بشكلٍ أخرقَ عن نفسه معظم الوقت. كان يشعر بجفافٍ في حَلْقه. كان يشعر طوال الوقت أن ثمة مأساةً قريبة جدًّا. ومع ذلك، بالتدريج، عندما تناولَت الطعام والشراب، عادَ اللون الورديُّ إلى خَدَّيها، وبدا أن الخوف من الانهيار قد زالَ. بل إنها صارت مبتهجة.

قالت: «نحن حقًّا أكثرُ الناس إثارةً للدهشة يا ليونارد. لقد دخلتَ إلى حياتي مرةً من قبل عندما كنتُ على وشك أن أُطرَد من غرفتي. واليوم جئتَ إليها مرةً أخرى ووجدتَني بلا مأوى مرةً أخرى. لا تنفق الكثيرَ من المال على العشاء، لأنني أحذِّرك من أنني سأقترض منك.»

فضحكَ.

وقال: «هذه أخبارٌ جيدة، لكنني لستُ متأكِّدًا من أنني سأُقرضكِ أيَّ شيء.»

مالَ عبر الطاولة. استغرق تحضيرُ عَشائهما وقتًا طويلًا وكان الظلام قد بدأ يُسدِل سِتاره على الدنيا. وكانت النجوم تتلألأ فوقهما، وفرقة الموسيقى تعزف ألحانًا هادئة، وصخبُ الشوارع يتباعد في الأسفل. لقد كانا تقريبًا في عالَم صغير وحدهما.

قال لها: «عزيزتي بياتريس، لقد طلبتُ منك ثلاثَ مراتٍ أن تُوافقي على الزواج مني ولم تقبلي، وقد كنتُ أطلبُ ذلك لأنني كنتُ أحمقَ أنانيًّا، ولأنني كنتُ أعرف أن هذا لصالحي وأنه سيحميني من أشياءَ كنتُ أخافُ منها. أما الآن، فأنا أطلبُ منكِ الشيءَ نفسَه مرةً أخرى، ولكنَّ لديَّ سببًا أهم، يا بياتريس. لقد كنتُ وحدي معظم العامين الماضيَين، وقد عشتُ الحياة التي تجعل الرجلَ يُواجه الحقيقة وجهًا لوجه، وتساعده على معرفة نفسه والآخَرين، وقد اكتشفتُ شيئًا.»

قالت متلعثِمة: «ما هو؟ أَخبِرني يا ليونارد.»

تابعَ: «اكتشفتُ أنكِ أنتِ مَنْ كنتُ أحبُّ دائمًا، ولهذا السبب أطلبُ منكِ الزواج الآن يا بياتريس، ولكن هذه المرةَ أطلبُه لأنني أحبكِ، ولأنه ما من أحدٍ في الدنيا يمكن أن يحلَّ محلك أو يُمثِّل شيئًا بالنسبة إليَّ على الإطلاق.»

تمتمَت قائلة: «ليونارد!»

قال راجيًا: «أنتِ لا تأسفين على أنني قلتُ هذا؟ أليس كذلك؟»

فتحَت عينَيها مرة أخرى.

وأجابت: «كنتُ دائمًا أدعو الله أن أسمعَها منك، ولكن يبدو … يبدو هذا جائرًا جدًّا! فها أنا ذا أتضوَّر جوعًا، بلا أي مال، وأنت … أنت على ما أعتقد قطعتَ شوطًا طويلًا في طريق النجاح الذي كنت تحرص عليه.»

قال بجِدية: «لقد قطعتُ شوطًا طويلًا في طريقِ شيءٍ أعظمَ يا بياتريس. قطعتُ شوطًا طويلًا في طريقِ فهم معنى النجاح الحقيقي، وماهية الأشياء التي لها قيمةٌ وتلك التي لا قيمةَ لها.» ثم واصلَ هامسًا: «لقد اكتشفتُ حتى الشيء الأكثرَ أهميةً وقيمة بالنسبة إليَّ من أي شيءٍ آخر في العالم، والآن بما أني قد اكتشفتُه، فلن أسمح بأن يَضيع مني مرة أخرى.»

ضغطَ على يدها، فنظرَت إليه عبر الطاولة نظرةً حالمة. فابتعدَ النادل، الذي كان يقتربُ من الطاولة، بدبلوماسية. وبدأت الفرقةُ تعزف لحنًا مُبهِجًا. وتصاعدَت أصواتُ صخب السيارات من أسفل. كان ثَمة جَلَبةٌ كَوْنية غريبة من الأصوات المختلطة، ولكن سادَ بين هذين الاثنَين صمتٌ رائع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤