مقدمة

١

أقدم إلى قراء اللغة العربية ديوانين من دواوين الشاعر الكبير والفيلسوف العظيم محمد إقبال — رحمه الله — هما: أسرار إثبات الذات ورموز نفي الذات.

وقد قدَّمتُ إليهم من قبل ديوانَيْ رسالة المشرق وضرب الكليم، وكتابًا جامعًا فيه سيرة إقبال وفلسفته وشعره.

وبيَّنت في مقدمات هذه الكتب الثلاثة كيف اقترح عليَّ أصدقاء إقبال في باكستان أن أُخرِجها في لغة القرآن، وكيف أخرجتها وطبعتها في باكستان ومصر.

واليوم أحدث القراء عن الأسرار والرموز.

أعود إلى ذكر أحبَّاء محمد إقبال الذين كانوا يجتمعون في المجالس المباركة الخالدة، في دار السفارة المصرية من مدينة كراچي، على قراءة كتب إقبال والتحدث في مذهبه وسيرته، وقد تحدثت عن هؤلاء الإخوان الكرام فيما نشرت من الكتب الإقبالية.

قال الإخوان — بعد أن نشرت رسالة المشرق وضرب الكليم: اليوم يجدر بك أن تترجم المنظومتين اللتين بيَّن فيهما إقبال مذهبه، وشرح فلسفته؛ فإنَّ ما ترجمتَ من قبل شعرٌ تظهر فيه آراء إقبال في العالم والحياة والناس، فكَرًا متفرقة أو دررًا منثورة، وفي الأسرار والرموز فصول مرتبة يبيِّن فيها الشاعر مذهبَه في إثبات الذات ونفيها، وهما عماد فلسفته، وقطب شعره.

وانفضَّ المجلس على أن أترجم الأسرار والرموز إلى العربية، وشرعنا نقرأ المنظومتين في مجالس متتابعة.

وأجدُ الآن في نسختي — التي قرأت فيها مع الإخوان — هذه الكلمات في أول الكتاب:

بدأنا القراءة في أول آذار (مارس) سنة ١٩٥٢.

وفي آخر الديوان الأول:

فرغنا من القراءة والساعة ست ونصف — قبيل المغرب — يوم الأربعاء ٢٦ شعبان سنة ١٣٧١ﻫ/٢١ نيسان (أبريل) سنة ١٩٥٢، ويلي هذا توقيع الإخوان.

وفي آخر الديوان الثاني:

تمت القراءة والساعة ثمانٍ من مساء يوم الأربعاء الثامن من صفر سنة ١٣٧٢ﻫ/٢٩ أكتوبر سنة ١٩٥٢م والحمد لله رب العالمين، ثم توقيع الإخوان كذلك.

فقد استمرت القراءة ثمانية أشهر، وكان مجلسنا يجتمع كل أسبوع مرة، ولا ريب أن أسفارًا وأشغالًا عرضت فحالت دون موالاة والاجتماع، وإلَّا لم تستغرق القراءة هذه الشهور الثمانية.

٢

وبدأت الترجمة في شوال من السنة نفسها «تموز (يوليو) سنة ١٩٥٢»، وكنت أحسب أن ترجمة هذا الديوان «الأسرار والرموز» أيسر من ترجمة الديوانين: «رسالة المشرق» و«ضرب الكليم»؛ لأنه منظوم في بحر واحد هو الرَّمَل، على القافية المزدوجة التي تتغير فيها التقفية في كل بيت — وهي التي تسمى المثنوي في اصطلاح الأدب الفارسي — ولكن الترجمة طالت أكثر مما قدَّرت؛ إذ كان الديوان نظمًا متصلًا، لا ينشط المترجم فيه نشاطَه حين يترجم قصيدة من ديوان، فيرى أنه أتم عملًا فيستأنف ترجمة قصيدة أخرى، فيتمها، وهلم جرا.

واليت الترجمة على العلات، وكثرة الفَترات، وكنت أؤرخ، بين حين وحين، ما بلغت من الترجمة، وأذكر المكان الذي أترجم فيه، بين السفر والحضر والبر والبحر، حتى تمت ترجمة المنظومة الأولى «أسرار خودي»، فكتبت في كراسة الترجمة:

تمت ترجمة «أسرار خودي» والساعة ثلاث ونصف بالتوقيت العربي ليلة الأحد رابع أيام التشريق سنة ١٣٧٢ﻫ — ٢٢ آب (أغسطس) سنة ١٩٥٣ — في مدينة كراچي.

فقد ماطلتني الترجمة سنة، وكنت ترجمت «رسالة المشرق» في نحو أربعة أشهر، وكذلك ترجمت «ضرب الكليم».

ومضيت في ترجمة المنظومة الثانية حتى كتبت هذه العبارات:

يسر الله الفراغ من الترجمة على بعد الشُّقَّة، وطول المدى، واعتراض الشواغل، وكثرة الحوائل، يوم الأحد سابع عشر صفر سنة ١٣٧٤ﻫ — ١٤ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩٥٤م — والساعة أربع وربع بعد الظهر، في دار السفارة المصرية من مدينة كراچي.

فقد شغلتني ترجمة «الأسرار والرموز» أكثر من سنتين.

٣

وتركت باكستان بعد شهر من انتهاء الترجمة، وكان مجمع إقبال «إقبال أكاديمي» قد أخذ عليَّ العهد أن أعطيه الكتاب ليتولى نشره، بعد أن غلبه على «ديوان رسالة المشرق» مجلسُ إقبال في باكستان، وعلى «ضرب الكليم» جماعةُ النشر بالأزهر، وبلغ من حرص الصديق الدكتور اشتياق حسين قريشي — وزير المعارف ورئيس مجمع إقبال — أن ألزمني الوعدَ بإيثار مجمع إقبال بنشر الكتاب، أمام السيدة الجليلة فاطمة جناح أخت القائد الأعظم محمد علي جناح.

وكان مجمع إقبال، فاوض دار المعارف في القاهرة لنشر الكتاب، وسافرت من باكستان، فلم أفرغ للكتاب فتأخر نشره.

وراجعت الترجمة في الحضر والسفر، ويجدُ المطَّلع في كراستي عبارات تدل على أن المراجعة والتحرير كانا في الحجاز واليمن ومصر وعلى السفن في البحار.

ثم يسر الله أن أقدم بعض الكتاب لدار المعارف في شهر شباط (فبراير) الماضي فشرعتْ في طبعه، وواليت تقديم صفحات الكتاب حتى قدمت آخره حين تم التبييض والمراجعة وقت الأصيل يوم السبت حادي عشر هذا الشهر «شهر شعبان» سنة ١٣٧٥ﻫ — ٢٤ آذار (مارس) ١٩٥٦م — في مدينة جدة.

فقد أمضيت ثلاث سنوات ونصف وأنا في شغل بترجمة هذا الكتاب وتحريره، ولولا صحة العزم، وعظم الرغبة ما تيسرت ترجمة هذا الديوان القيم، ولحال اليأس أو العجز دون إتمامه.

٤

لا أعرض لطريقة الترجمة، ولا أتحدث عن صعوبتها، ولا سيما ترجمة النظم بالنظم على اختلاف اللغتين في المجازات والأساليب، وعلى غرابة الموضوع، فقد أبنت عن هذه وهذه في مقدمة الديوانين: «رسالة المشرق» و«ضرب الكليم».

على أن في الترجمة جانبًا من اليسر؛ لأن معظم الاصطلاحات عربي، وأن الموضوع إسلامي على ما فيه من فلسفة.

وبعد، فإلى قراء العربية أقدم الديوانين الثالث والرابع من دواوين إقبال التي تجشمت ما تجشمت في نقلها إلى العربية حرصًا على إشاعة ما فيها من دعوة إلى الحياة والأمل والعمل، والسمو بالإنسان إلى أعلى ما قُدِر للإنسان من ارتقاء ورغبة في إمداد أدبنا بهذا الضرب من الأدب الإسلامي الإنساني الرفيع.

والله ولي التوفيق.

عبد الوهاب عزام
١١ شعبان ١٣٧٥ﻫ/٢٤ آذار ١٩٥٥م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤