المدخل

بيّنت بيانًا شافيًا فلسفة إقبال في كتابي «محمد إقبال، سيرته وفلسفته وشعره» وأجملت آراءه كما بيَّنها في ديوان «الأسرار والرموز» فليرجع إلى الكتاب من يرغب في الاستزادة.

وفي هذا المدخل نبين — في إيجاز — فلسفة إقبال وآراءه التي يستخلصها قارئ «أسرار إثبات الذات ورموز نفي الذات».

أذكر طرفًا مما ثار حول الديوان من جدال، ثم أعرض على القارئ خلاصة المقدمة التي كتبها إقبال باللغة الأردية لكتاب «الأسرار والرموز» ثم حذفها بعد الطبعة الأولى، وأعرض عليه كذلك خلاصة ما كتبه إقبال تبيانًا لمذهبه حينما سأله هذا الأستاذ المستشرق الإنكليزي نكلسون مترجم الأسرار إلى اللغة الإنكليزية.

١

نشر الشاعر الفيلسوف محمد إقبال أول دواوينه الفلسفية «أسرار خودي» سنة ١٩١٥م، وهو منظومة طويلة في بحر واحد، وعلى القافية المزدوجة، مقسمة إلى فصول يوضِّح فيها الشاعر فلسفته في الذاتية فكرة بعد فكرة، ويصورها في صور شعرية رائعة.

ثم نشر ديوانه الثاني المتصل بهذا الديوان «رموز بي خودي» وهي كلمة فارسية تدل على الأثرة والإعجاب بالنفس، ولكن إقبالًا نقلها إلى معنى آخر جعله قاعدة فلسفته، هو تعرف الإنسان نفسه، وتقويتها، وإخراج ما أودع فيها من مواهب.

رأى الصوفيةُ في الذاتية أمرًا نكرًا؛ إذ كان التصوف — بزعمهم — يقصد إلى إذلال النفس وإماتتها حتى تؤهَّل للفناء في الله.

وزاد الصوفيةَ ثورة على شاعر الحياة والقوة أنه عمد إلى إمام من أئمتهم وشاعر من أعاظم شعرائهم «لسان الغيب حافظ الشيرازي» فحطَّ من شأنه وغضَّ من طريقته، ونهى الناس عنها، وحذرهم منها، وكذلك خالف محيي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر، وغلَّطه، وقال: إن آراءه غير إسلامية.

وقد أجاب إقبال المعترضين أجوبة منها قوله في رسالة إلى الشيخ حسن نظامي:

… إني بفطرتي وتربيتي أنزع إلى التصوف، وقد زادتني فلسفة أوروبا نزوعًا إليه، فإن هذه الفلسفة في جملتها تنزع إلى وحدة الوجود؛ ولكن تَدَبُّر القرآن المجيد، ومطالعة تاريخ الإسلام بإمعان عرفاني غلطي، وبالقرآن عدلت عن أفكاري الأولى، وجاهدت ميلي الفطري، وحِدْتُ عن طريق آبائي.

إن الرهبانية ظهرت في كل أمة وعملت لإبطال الشريعة والقانون؛ والإسلام في حقيقته هو دعوة إلى مخالفة الرهبانية.

والتصوف الذي شاع بين المسلمين — أعني التصوف العجمي — أخذ من رهبانية كل أمة، وجهد أن يجذب إليه كل نِحلة، حتى القرمطية التي قصدت إلى التحلل من الأحكام الشرعية.

إن حالة السكر — في اصطلاح الصوفية — تنافر الإسلام وقوانين الحياة، وحالة الصحو — وهي الإسلام — توافق قوانين الحياة، وإنما قصد الرسول إنشاء أمة صاحية، ولهذا نجد في صحابة الرسول الصديق والفاروق، ولا نجد حافظًا الشيرازي …

ولا أنكر عظمة الشيخ ابن عربي وفضله، بل أعده من كبار فلاسفة المسلمين، ولا أرتاب في إسلامه؛ فإنه يحتج لعقائده، كقوم الأرواح ووحدة الوجود، بالقرآن مخلصًا، فآراؤه على صوابها وغلطها قائمة على تأويل القرآن.

وأرى أن تأويله غير صحيح، فأنا أعده مسلمًا مخلصًا، ولا أتبعه في مذاهبه.

ويقول في رسالة أخرى إلى أحد المعترضين:

الحق أن التماس معانٍ باطنة في قانون أمة، هو مَسْخٌ لهذا القانون، كما يعلم من سيرة القرامطة، ولا يختار هذه الطريقة إلا أمةٌ في فطرتها الخنوع والذلة.

وفي شعراء العجم جماعة في طباعهم الميل إلى الإباحة … وقد افتنَّ هؤلاء الشعراء في إبطال شعائر الإسلام بأساليبَ عجيبة خداعة.

وفي رسالة أخرى إلى هذا المعترض نفسه يقول إقبال:

كل شعر التصوف ظهر في زمان ضعف المسلمين السياسي، وكل أمة يصيبها ضعف كالذي أصاب المسلمين بعد غارات التتار، تتبدَّل أنظارها وتجمُل الاستكانة في أعينها، وتركن إلى ترك الدنيا، وفي هذا الترك تخفي ضعفها وهزيمتها في تنازع البقاء …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤