الفصل الثاني

(١) يَوْمُ الْهَوْلِ

لمْ يَدْرِ «بَطَلُ أَتِينا» أَنَّ الزَّمانَ غادِرٌ قُلَّبٌ (لا يَبْقَى عَلَى حالٍ وَاحِدَةٍ)، وَأَنَّ السَّعادَةَ لا تَدُومُ، وَأَنَّ الْكَدَرَ يَعْقُبُ الصَّفْوَ، كما يَعْقُبُ الظَّلامُ الضِّياءَ، وأَنَّ كُلَّ مَلْمُومٍ إِلى شَتاتٍ (كُلَّ جَمْعٍ إلى تَفرُّقِ).

وَذا صَباحٍ استَيْقَظَ «بَطَلُ أتِينا» مِنْ نَوْمِه — وهُوَ غافِلٌ عَنْ أَحْداثِ الزَّمَنِ، ومَصَائِبِهِ الْمَخْبُوءَةِ لَهُ خَلْفَ أَسْتارِ الْغَيْبِ — فَرَأَى الْمَدِينَةَ فِي هَرْجٍ ومَرْجٍ، وَسَمِعَ عَوِيلَ الشَّاِكينَ، ونُواحَ الْباِكينَ، وَوَلْوَلَة اَلْمُفَزَّعِينَ، وأَنَّاتِ الْمَنْكُوبِينَ؛ فاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْعَجَبُ، وَتَعَاظَمَهُ الدَّهَشُ، وكادَ لا يُصَدِّقُ عَيْنَيْهِ فِيما تَرَيَانِ، وَأُذُنَيْهِ فِيما تَسْمَعانِ.

فَذَهَبَ مُسْرِعًا إِلَى أَبِيهِ الْمَلِكَ، يَسْتَفْسِرُهُ جَلِيّةَ الْخَبَرِ؛ فَأَجابَهُ أَبُوهُ مَحْزُونًا واجِمًا: «لَقَدْ حَلَّ بِنا الْيَوْمُ الْمَشْئُومُ الَّذِي تَرْتَدِي فِيهِ مَدِينَتُنا ثِيابَ الْحِدادِ.»

فَقالَ لَهُ «بَطَلُ أتِينا»: «وَأَيُّ يَوْمٍ هذا يا أَبَتاهُ؟ وَلِماذا خَصَصْتُمُوهُ بالسَّوادِ؟»

فَقالَ «مَلِكُ أتِينا»: «هذا هُوَ الْيَوْمُ الْأَسْوَدُ: يَوْمُ الْهَوْلِ الَّذِي نَجْمَعُ فِيهِ الضَّحايا — مِنْ خِيرَةِ شُبَّاننا — لِنُقَدِّمَهُمْ إلى «عِجْل مِينُو» زُلْفَى لَهُ وَقُرْبانًا.»

(٢) «عِجْلُ مِينُو»

فَصاحَ «بَطَلُ أَتِينا» مَدْهُوشًا: «وَما «عِجْلُ مِينُو» هذا الَّذِي تَذْكُرُهُ، يا أَبَتَاهُ؟ ولِماذا تُقَدِّمُونَ لهُ الضَّحايا والْقَرَابين؟ وأَيُّ نَوْع مِنَ الْغِيلانِ ذلِكَ الْوَحْشُ الَّذِي يَلْتَهِمُ النُّفُوسَ الطَّاهِرَةَ الْبَرِيئَةَ؟ وَما بالُنا نَسْتَسْلِمُ لِشَرَاسَتِهِ، ونَخْضَعُ لِجَبَرُوتهِ؟ إنَّ الحَياةَ لَتَهُونُ — يا أَبَتاهُ — فِي سَبِيلِ الْقَضاءِ عَلى أَمْثالِ هذه الْغيلانِ الْفَتَّاكَةِ، وتَخْلِيصِ بَنِي الْإِنْسانِ مِنْ شَرِّها وَأذاها!»

فَهَزَّ «مَلِكُ أَتِينا» رَأْسَهُ يائِسًا، وَقالَ لِوَلَدِهِ مُتَحَيِّرًا واجِمًا: «إنَّ «عِجْل مِينُو» — فِيما أعْلمُ — غُولُ هذا العَصْرِ، ومَصْدَرُ إِزْعاجِنا، وَمَثارُ آلامِنا وَأَحْزَانِنا. وَهُوَ يَعِيشُ في جَزِيرَةِ «كِرِيتَ»، ويَبْدُو — لِناظِرِهِ — كأَنَّهُ إنْسانٌ وثَوْرٌ في وَقْتٍ مَعًا، فَإنَّ هذهِ الْغُولَ الشَّرِسَةَ، نِصْفُها الْأسفَلُ نِصْفُ إنْسانٍ، وَنِصْفُها الْأَعْلَى نِصْفُ ثَوْرٍ، وَقَدْ بَنَى مَلِكُ تِلْكَ الْجَزِيرَةِ — أعْني جَزِيرَةَ «كِرِيتَ» — لِهذهِ الْغُولِ قَصْرًا فاخِرًا، وَلَمْ يَأْلُ جُهْدَا في إِعْزازِهَا، وَتَوْفيرِ أسْبابِ راحَتِها وَرَفاهِيَّتِها، وَتَقْدِيمِ لَذائِذِ الْأَطْعِمَةِ لَها.»

(٣) ضَحَايَا «عِجْلِ مِينُو»

فقالَ «بَطَلُ أَتِينا» لِأبيهِ مُتَعَجِّبًا: «وَما ذَنْبُ هذِهِ الضَّحِيَّاتِ الَّتي يُقَدِّمُونَها لِهذا الْوَحْشِ السَّفَّاحِ؟»

فَأَجابهُ «مَلِكُ أَتِينا» مَحْزونًا: «لَقَد نَشِبَتِ الْحَرْبُ — مُنْذُ سَنَواتٍ ثَلاثٍ — بَيْنَ «أتِينا» وجَزِيرَةِ «كِرِيتَ»؛ فَانْتَصَرَ عَلَيْنا أعْداؤُنا وَهَزَمُونا شَرَّ هَزِيمَةٍ؛ فَلَمْ نَرَ بُدًّا مِنْ مُصالَحَتِهِمْ، والإِذْعانِ لِما أمْلَوْهُ عَلَيْنا مِنَ الشَّرَائِطِ الْجائِرَةِ.

وَكانَ أشْنَعَ ما فَرَضُوهُ عَلَيْنا — حِينَئِذٍ — أنْ نُقَدِّمَ لـ «عِجْلِ مِينُو» — كُلَّ عامٍ — سَبْعَةَ فِتْيانٍ وسَبْعَ فَتَياتٍ، في مُقْتَبَلِ الشَّبابِ ونَضارَةِ الْعُمُرِ، لَيَأْكُلَهُمْ هَانِئًا مَسْرُورًا!»

فَقالَ لهُ «بَطَلُ أتِينا»: «وَأَيْنَ يَعِيشُ هذا الْوَحْشُ يا أبَتاهُ؟»

فَأَجابَهُ «مَلِكُ أتِينا»: «إنَّهُ يَعِيشُ في قَصرٍ فاخِرٍ، لا مَثيلَ لهُ في الرَّوْعَةِ والْفَخامَةِ، وَقَدْ أَعَدَّهُ مَلِكُ «كِريتَ» لِهذِهِ الْغُولِ، تَوْفِيرًا لِهَناءَتِها، وتَقَرُّبًا إلَيْها. وقَدْ حَلَّ — فِي هذا الْيَوْمِ — مَوْسِمُ «عِجْلِ مِينُو»: فَجَمَعْنا لَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَرِيَسَةً مِنْ خِيرَةِ شُبَّانِنا وشَوابِّنا؛ فَانْزَعَجَ الْأهْلُونَ، وَلَبِسُوا — مِنْ أَجْلِهِمْ — ثِيابَ الْحِدادِ.»

(٤) حِوارُ الوالِدِ وَوَلَدِهِ

فَصاحَ «بَطَلُ أتِينا» هائِجًا مُتَحَمِّسًا: «ما أَحْلَى التَّضْحِيَةَ! وما أَجْدَرَنِي بِها فِي هذا الْمُقامِ يا أَبَتاهُ! فَخَبِّرْ أَهْلَ «أتِينا» — عَلَى بَكْرَةِ أبيهِمْ — أنَّكَ لَنْ تَخْتارَ مِنْ شَبابِهِمْ إِلَّا سِتَّةَ فتْيانٍ؛ لِأَنَّني اعْتَزَمْتُ أنْ أكُونَ سابِعَ الضَّحايا الَّذِينَ تُقَدِّمُونَهُمْ مِنْ شُبَّانِ أتِينا.»

فجَزِعَ «مَلِكُ أتِينا» مِمَّا سَمِعَ، وذَرَفَ دَمْعَهُ (أَسالَهُ) حُزْنًا عَلَى وَلَدِهِ الْحَبِيبِ إلَى نَفْسِهِ. وَحاوَلَ — جَهْدَ حُبِّه لهُ وخَشْيَتِهِ عَلَيْهِ — أَنْ يُثْنِيَهُ عَنْ عَزْمِهِ فَلَمْ يُفْلِحْ.

وَقالَ لَهُ فِيما قال: «لَقَدْ كَبِرَتْ سِنِّي، وكادَتْ شَيْخُوخَتِي تُسْلِمُنِي إلى الْقَبْرِ، ولَمْ يَعُدْ ليِ سَلْوَةٌ في هذِهِ الْحَياة سِواكَ.»

ولكِنَّ «بَطَلَ أَتِينا» أصَمَّ أُذُنَيْهِ، وأنْصَتَ (اسْتَمَعَ) إِلى نِداءِ ضَمِيرِهِ، وجَعَلَ واجِبَهُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، وحَفْلَ أُذُنَيْهِ، وآلَى عَلَى نَفْسِهِ لَيَنْتَقِمَنَّ، وَلَينْتَصِفَنَّ لِأَبْنَاءِ وطَنِهِ مِنْ «عِجْلِ مِينُو»، أوْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلْبَوارِ والتَّلَفِ. وما زالَ بِأَبِيهِ يَسْتَعْطِفُهُ وَيَتَرْضَّاهُ ويَضْرَعُ لهُ، حَتَّى أَذِنَ لَهُ في السَّفَرِ، وَدَعَا لَهُ بِالنَّجاحِ في سَعْيِهِ الشَّاقِّ الْخَطِيرِ.

(٥) ساعَةُ الْوَداعِ

ولَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ رَكِبَ «بَطَلُ أتِينا» — ورِفاقُهُ مِنَ الضَّحِيَّاتِ — مَرْكَبًا حَرْبِيًّا كَبِيرًا، بَيْنَ وَلْوَلَةِ الْباكِينَ، ونُواحِ الْيائِسِينَ، وَعوِيل الْمَحْزُونينَ. وانْحَنَى «مَلِكُ أَتِينا» — الشَّيْخُ الْفانِي — عَلَى ولَدِهِ يُعانِقُهُ وَيُقَبِّلُهُ، وعَيْنَاهُ غاصَّتَانِ بِالدُّمُوعِ، ثُمَّ قالَ لَهُ وهُوَ يُوَدِّعُهُ: «لقَدْ جَعَلْنا أشْرِعَةَ السَّفِينَةِ سُودًا — كما تَرى — لِأَنَّكَ ذاهِبٌ إِلى غايَةٍ مَخُوفَةٍ. فإذا قَدَّرَ لَكَ الْحَظُّ السَّعِيدُ، أنْ تَفُوزَ عَلَى خَصْمِكَ الْعَنِيدِ؛ فأَبْدِلْ هذِهِ الْأَشْرِعَةَ السُّودَ بِأُخْرَى بِيضٍ، وانْشُرْها عَلَى جَنَبَاتِ السَّفينَةِ؛ لِنَعْلَمَ — مَتَى رأَيْناها — أنَّك عائِدٌ إلَيْنا عَوْدَةَ الظَّافِرِ الْمُنْتَصِرِ، ونَحْتَفِيَ بِكَ احْتِفاءً لَمْ تَسْمَعْ «أتِينا» بِمِثْلِهِ في كلِّ عُصُورِها.»

فَوَعَدَ أباهُ بِتَحْقِيقِ رَغْبَتهِ، وودَّعَهُ مُتَأَلِّمًا.

ثُمَّ أقلَعُوا سَفينَتَهمْ ناشِرَةً فِي الْفَضاءِ أشْرِعَتَها السُّودَ.

(٦) الْعِمْلاقُ النُّحاسِيُّ

وسارَتْ بِهِمُ السَّفِينَةُ في رِيحٍ طَيِّبَةٍ لَيِّنَةٍ، حَتَّى قارَبُوا جَزِيرَةِ «كِريتَ»؛ فَرَأى «بَطَلُ أَتِينا» شَبَحَ آَدَمِيٍّ هائِلِ الجِسْمِ، في مِثْلِ طُولِ النَّخْلَةِ السَّامِقَةِ (الْعَالِيَةِ)، وهُوَ يَسِيرُ بِخُطُوَاتٍ واسِعَةٍ سَرِيعَةٍ، عَلَى شاطئِ الْجَزِيرَةِ، ويَجْتازُ ما بَيْنَ كلِّ هَضْبَتَيْنِ أوْ رَأْسَيْنِ بِخُطْوَةٍ واحِدَةٍ، وتتكَسَّرُ الْأَمْواجُ الثَّائِرَةُ الْهائِجَةُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ. وقَدْ لَمَعَتْ مَلامِحُهُ — حِينَ انْعَكَسَتْ عَلى جِسْمِهِ أَشِعَّةُ الشَّمْسِ — ولاحَ جِسْمُهُ لِرائِيهِ كأنَّهُ قِطْعَةٌ مِنَ النُّحَاسِ اللّامِعِ الْمُتأَلِّقِ، وقدْ حَمَلَ عَلَى كَتِفَيْهِ هِراوَةً (عَصًا ضَخمَةً) نُحاسِيَّةَ الَّلوْنِ.

•••

فَدَهِشَ «بَطَلُ أتِينا» مِنْ رُؤْيَةِ هذا الشَّبَحِ الرَّاعِبِ (الْمُخيفِ)، وسأَلَ رُبَّانَ السَّفِينَةِ عَنْ ذلِكَ الْعِملاقِ. فأَجابَهُ الرُّبّانُ: «هذا هُوَ الْعِملاقُ النُّحَاسِيُّ الْهائِلُ، الَّذِي يَطُوفُ بالْجَزِيرَةِ ثَلاثَ مَرَّاتٍ — كلَّ يَوْمٍ — ثُمَّ يَقِفُ على هذا الْمَضِيقِ، حْيثُ تَمُرُّ كلُّ باخِرَةٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.»

وبَعْدَ قَلِيلٍ مَرَّتِ السَّفِينَةُ تَحْتَ قَدَمَيِ الْعِمْلاقِ النُّحاسِيِّ، وهُوَ مُمْسِكٌ هِراوَتَهُ بِيَديْهِ، يُلَوِّحُ بها في الْفَضاءِ، فَيُخَيَّلُ لِرَاكِبِيهَا أَنَّهُ سَيُحَطِّمُها بها — في لَحْظَةٍ واحِدَةٍ — وَيسْحَقُ مَنْ فِيها سَحْقًا.

وَقَدْ صاحَ الْعِمْلاقِ — حِينَ دانَتْهُ (اقْترَبَتْ مِنْهُ) السفينةُ — مُتَوَعِّدًا بِصَوْتٍ مِثْلِ جَلْجَلَةِ الرُّعُودِ الْقاصِفَةِ: «مِنْ أيِّ الْبِلادِ قَدِمْتُمْ أَيُّها الْغُرَباءُ؟» فَأَجابَهُ الرُّبَّانُ مُتَوَدِّدًا: «مِنْ «أتِينا» قَدِمْنا».

فَصاحَ الْعِمْلاقُ مُدَوِّيًا بِصَوْتٍ كالرَّعْدِ، وهُوَ يُلَوِّحُ بِعَصاهُ (يَرْفعُها ويَهُزُّها)، لِغَيْظِهِ عَلَى أَهْلِ «أتِينا» أَعداءِ جزِيرَةِ «كِريتَ»: «وَلِأَيِّ غَرَضٍ جِئْتُمْ أَرْضَنا؟»

فَأَجَابَهُ الرُّبَّانُ: «لَقَدْ أَحْضَرْنا الضَّحِيَّاتِ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْنا لِـ«عِجْلِ مِينُو»!»

فقالَ الْعِمْلاقُ: «ادْخُلُوا الْمِيناءَ — إِذَنْ — وسِيرُوا فِي طَرِيقِكُمْ آمِنينَ.»

(٧) فِي حَضْرَةِ الْمَلِكِ

ولَمَّا اسْتَقَرَّتِ السَّفينةُ عَلَى شاطِئِ الْجَزِيرَةِ أَقْبلَ الْجُنْدُ عَليْها، وأَحاطُوا بِالْأَسْرَى، وسارُوا بِهِمْ حَتَّى مَثَلُوا بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، فَوَقَفُوا — أمامَهُ — يرْتَجِفُون فَزَعًا ورُعْبًا، وقَدِ اصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، وَانْتَظَمَتْهُمُ الرِّعْدَةُ، ما عَدا «بَطَلَ أتِينا»؛ فَقَدْ بَقِيَ رابِطَ الْجَأْشِ (ثابِتَ الْقَلْبِ)، عالِيَ الرَّأْسِ، ونَظَرَ إلَى مَلِكِ الْجَزِيرةِ مُسْتَهِينًا بكلِّ ما هُوَ مُقْبِلٌ علَيْهِ مِنْ أخْطارٍ ومَهَالِكَ.

فَدَهِشَ الْمِلكُ منْ جُرْأَةِ الْفَتَى، وسَأَلَهُ بِصَوْتٍ أَجَشَّ: «كَيْفَ لا تَبْدُو علَيْك أَماراتُ الْجَزَعِ أيُّها الْفَتَى؟»

ألا تَعْلَمُ أَيُّ خَطَرٍ يَنْتَظِرُكَ غَدًا؟

أَلَمْ تَسْمَعْ ﺑ«عِجْلِ مِينُو» قَبْلَ هذا الْيَوْمِ؟ فقالَ «بَطَلُ أتِينا»: «لَقَدْ وَهَبْتُ حَياتي فِداءً لِأنْبَلِ غايَةٍ، وهِيَ الِانْتِصَافُ (الِانتصارُ) لِلْمَظْلُومِينَ. وما أسْعَدَني بِهذِهِ التَّفْدِيَةِ (التَّضْحِيَةِ) فِي سَبِيلِ الْواجبِ.

أَمَّا أنْتَ فَقَدْ وَقَفْتَ حَياتَكَ الْأثِيمَةَ عَلَى الْأذَى والْجَوْرِ (الظُّلْمِ)، وكُنْتَ — بِفَظاظَتِكَ وقَسْوَتِكَ — أشَدَّ إِجْرامًا مِنْ عِجْلِ مِينُو!»

فاهْتاجَ الْمَلِكُ مِنْ جُرْأةِ الْفَتَى، وصاحَ بِحُرَّاسِهِ مُتَوَعِّدًا «بَطَلَ أتِينا»: «لَتُقَدِّمُنَّ هذا الْوَقِحَ إِلَى «عِجْلِ مينُو» غَدًا قَبْلَ رِفاقِهِ، ولَيَكُونَنَّ أوَّلَ ضَحِيَّةٍ يَفْتَرِسُها بِلا رَحْمَةٍ!»

(٨) «حَسْناءُ الْجَزِيرَةِ»

وكانَتْ «حَسْناءُ الْجَزِيرةِ» — وهيَ ابْنَةُ مَلِكِ «كريتَ» — حاضِرَةً هذا الْحِوارَ؛ فامْتَلَأَتْ نَفْسُها إِعْجابًا بِذلِكَ الْفَارِسَ الْجَرِيء. وكانَتْ رَحِيمَةَ الْقَلْبِ، تَحْنُو عَلَى الْمَظْلُومِينَ، وَتعْطِفُ عَلَى الْمَنْكُوبينَ؛ فارتَمَتْ على قَدَمَيْ أبيها مُتَشَفِّعَةً بِهِ أَلَّا يُهْلِكَ هؤُلاء المَساكِينَ؛ فَلَمْ يُلْقِ إِلَى تَضَرُّعِها أُذُنًا واعِيَةً، بَلِ انْتَهَرَها، وَسَفَّهَ رَأْيَها، وَأَبى إلَّا التَّمادِيَ فِي قَسْوَتِهِ وعِنادِهِ.

وصَبَرَتْ «حَسْناءُ الْجَزِيرَةِ» إلَى مُنْتَصَفِ الَّليْلِ، فَذَهَبَتْ إلَى سِجْنِ الْأسْرَى، وَفَتَحَتْ بابَهُ خِلْسَةً؛ فَرأتْ «بَطَلَ أتِينا» ساهِرًا يَقْظانَ، فَقالَتْ لَهُ: «لَقَدْ جِئْتُ لِأُنْقِذَكَ مِنَ الْهَلاكِ؛ فانْجُ بِنَفْسِكَ، وعُدْ سالِمًا إِلَى وطَنِكَ.»

فَقالَ لَها مُتَحَمِّسًا: «لَقَدْ آلَيْتُ على نَفْسِي أنْ أقْتُلَ «عِجْلِ مينُو»، وأُنْقِذَ رِفاقِي مِنْ فَتْكِهِ، أوْ أَمُوتَ دُونَ هذِهِ الْغايَةِ.»

فَقَالَتْ لَهُ مُعْجَبَةً بِشَجاعَتِهِ: «ما دُمْتَ مُصِرًّا على مُناجَزَةِ هذا الْعَدُوَّ الرَّاعِبَ، فَخُذْ حُسامَكَ الَّذِي انْتَزَعَهُ مِنْكَ حُرَّاسُكَ، وهَلُمَّ لِأُرْشِدَكَ إلَى قَصْرِ ذلِكَ الْوَحْشِ، داعِيَةً لَكَ بِالنَّصْرِ والتَّوْفيقِ.»

(٩) «قَصْرُ التِّيـهِ»

وما زَالَتْ سائِرَةً مَعهُ حَتَّى بَلَغا «قَصْرَ التِّيهِ»، فَفَتَحتْ لَهُ الْبابَ، وقالت لَهُ: «إنَّ هذا القَصْرَ الْعَجِيبَ هُوَ «قَصْرُ التِّيهِ»: الَّذِي عُرِفَتْ أَنْباؤُهُ، وذاعَ صِيتُهُ في الآفاقِ. وإنَّما أُطْلِقَ علَيْهِ ذلِكَ الاِسْمُ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَهُ لا يَسيرُ فِيهِ بِضْعَ خُطُواتٍ حَتَّى يَتِيهَ فيِ أَرْجائِهِ الْحَلَزُونِيَّةِ، ويَضِلَّ فِي أَثْناءِ شِعابِهِ الْكَثِيرَةِ الْمُشْتَبِهَةِ، ولا يَزالُ ضالًّا تائِهًا مَدَى حَياتِهِ. والرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ تُمْسِكَ بِطَرَفِ هذا الْخَيْطِ الحَرِيرِيِّ، حَتَّى تَأْمَنَ الضَّلالَ — إذا عُدْتَ مُنْتَصِرًا عَلى عَدُوِّكَ الْوَحْشِ السِّفَّاحِ — فإِنَّ فِي يَدِي طَرَفَ الْخَيْطِ الآخَرِ.»

figure

فَشَكَرَ لها «بَطَلُ أتِينا» مُعاوَنَتَها إِيَّاهُ، وَدَخَلَ «قَصْرَ التِّيهِ» وفي يُمْناهُ حُسامُهُ، وفي يُسْراهُ الْخَيْطُ الْحَرِيرِيُّ. وما سارَ بِضْعَ خُطُواتٍ، حَتَّى اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ طُرُقاتُ الْقَصْرِ؛ فَلَمْ يَعْرِفْ أَيَّ طَرِيقٍ يَسْلُكُ. وإنَّهُ لَفِي ضَلالِهِ وحَيْرَتِهِ، إذْ سَمِعَ خُوارًا عاليًا يُدَوِّي مُجَلْجِلًا كالرَّعْدِ الْقاصِفِ؛ فَأَدْرَكَ أَنَّ «عِجْلَ مينُو» عَلَى كَثَبٍ (قَرِيبٌ) مِنْهُ. فسارَ في مُنْعَطَفاتِ «قَصْرِ التِّيهِ»، صَوْبَ الصَّوْتِ، وهُوَ يَتَوَقَّعُ — بَيْنَ لَحْظَةٍ وأُخْرَى — أَنْ يراهُ.

(١٠) الْمَعْرَكَةُ الْحاسِمَةُ

وَسارَ «بَطَلُ أتِينا» — في طَرِيقِهِ الْمُتَعَرِّجِ — زَاحِفًا مَرَّةً تَحْتَ جِسْرٍ مُنْخَفِضٍ، وهابِطًا بِضْعَ دَرَكاتٍ مِنْ سُلَّمٍ فِي مَمَرٍّ مُلْتَوٍ مُنْعَطِفٍ، وَصَاعِدًا دَرَجاتٍ أُخْرَى، ومارًّا خِلالَ فَتْحَةِ بابٍ ضَيِّقٍ، وَسامِعًا فَرْقَعَةً وَجَلَبَةً عالِيَتَيْنِ؛ حَتَّى خُيِّلَ إِلَيْهِ أنَّ الْجُدْرَانَ تَدُوْرُ بِهِ، وكادَ الدُّوارُ يَعْتَرِيهِ مِنْ فَرْطِ الْحَيْرَةِ والدَّهَشِ.

وَكاَنَ يَتَوَقَّعُ — بَيْنَ لَحْظَةٍ وأخْرَىَ — أَنَّ يُفاجِئَهُ «عِجْلُ مِينُو» في إحْدَى الْمُنْعَطِفاتِ. وَقد صَدَقَ ظَنُّهُ، وَلَمْ يَكْذِبْهُ حُسْبانُهُ؛ فَقَدْ باغَتَهُ «عِجْلُ مينُو» بَعْدَ لَحَظاتٍ يَسِيرَةٍ. وما إنْ رآهُ الْعِجْلُ، حتّى هاجَ أشَدَّ هِياجٍ، وصَوَّبَ قَرْنَيْهِ لِيَنْطَحَ خَصْمَهُ — وَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ مَا يُشْبِهُ الْجُنُونَ — وَنَشِبَتْ بَيْنَهُما معْركَةٌ حاسِمَةٌ. وَلوْ أَنَّ قَرْنَ الْعِجْلِ أصابَ جِسْمَ «بَطَلِ أتِينا» لَمَزَّقه أشْلاءً (قِطَعًا). ولكِنَّ «بَطَلَ أتِينا» كانَ يَقِظًا، لا يَعْرِفُ الْجُبْنُ إِلى قَلْبهِ سَبِيلًا؛ فَانْحَرَفَ عنْ طَرِيقِ الْعِجْلِ — بِرَشاقَةٍ نادِرَةٍ — فاصْطَدَمَ قَرْنُهُ بِالْجِدَارِ، فَانْكَسَرَ الْقَرْنُ.

وَاشْتَدَّتْ ثَوْرَةُ الْعِجْلِ وَحَنَقُهُ (غَيْظُهُ) عَلَى خَصْمِه؛ فَتَرَاجَعَ خُطُواتٍ، مُتَحَفِّزًا (مُتَهَيِّئًا) لِلفَتْكِ بِهِ. وَوَقَفَ الْخِصْمانِ الْباسِلانِ مُتَقَابِلَيْنِ، وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَسَيْفًا لِقَرْنٍ. ثُمَّ قَفَزَ «عجْلُ مِينُو» قفْزَةَ جَبَّارٍ، لِيَطْعَنَ خَصْمَهُ بِقَرْنِه الْأَيْسَرِ، وفَتَحَ فاهُ لِيَبْلَعَهُ؛ فَكانَتْ فَتْحَةُ فِيهِ بِمقْدارِ ما بَيْنَ أُذُنَيْهِ. وَلكِنَّ «بَطَلَ أتِينا» خَيَّبَ ظُنُونَ الْعِجْلِ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ إدْرَاكِ بُغْيَتِهِ، فَقَفَزَ فِي الْهَوَاءِ قَفْزَةً هائِلَةً ثُمَّ أَهْوَى بِسَيْفِه عَلَى عُنُقِ خَصْمهِ؛ فانْفَصَلَ الرَّأسُ عن الْجَسَدِ، وَهَوَى «عِجْلُ مِينُو» صَرِيعًا إلَى الْأرْضِ، يَتَشَحَّطُ بِدَمِهِ.

•••

وهكَذا خَلَّص النَّاسَ مِنْ شُرُورِ ذلكَ الْوَحْشِ وَآثامِهِ، وَأَراحَهُمْ مِنْ قَسْوَتَهِ وَوَحْشِيَّتِه، وَأدَّى واجِبَهُ لِوَطَنهِ ولِلإِنسانِيَّةِ كُلِّها، بِما أسْداهُ (صَنَعَهُ) مِن عَمَلٍ جَلِيلٍ، وَصَنِيعٍ (مَعْروفٍ) نَبيلٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤